شغلت السلطة الزمنية محمد حسن .. عن مزاوله الفن
- إن طليعة الرعيل الأول من الفنانين المصريين .. قد حفرت بخطوطها الغاثرة فى الصخر .. تاريخ الحركة المصرية المعاصرة.. وشقت طريقها الفنى .. وسط عوائق الاحتلال والحكم الأجنبى لمصر .. وكان من بينهم الفنان القدير .. محمد حسن ( 1892- 1961 ) الذى تفوق على نفسه أثناء دراسته الأولى فى مدرسة الفنون الجميلة.. التى فتحت أبوابها عام 1908 بدرب الجماميز..وظهر نبوغه المبكر الذى لفت انظار جميع الأساتذة الإيطاليين والفرنسيين
- وقد كتب عنه ناظر مدرسة الفنون الجميلة عام 1910 وهو فى السنة الثالثة .. مشيدا بمواهبه قائلا : أنه أبدى منذ الشهور الأولى امتيازا ظاهرا فى الرسم .. وهو يتقدم بخطى ثابتة.. لقد رسم صورا لزملائه .. ورسومات من الطبيعة الحية .. لا تقتصر على مجرد النقل .. وتشير بعض لوحاته إلى مستقبله كمصور.. وتبدى ما توفر له من الاحساس باللون وأصول التكوين .
- حتى اختاره المسئولين فى العام نفسه من بين الطلبه.. قبل انتهاء مدة دراسته بسنة كاملة .. ليكون مدرسا للرسم .. فى أول معهد تقيمه الدولة لدراسة المواد الزخرفية .. وكان هذا المعهد قسما خاصا للزخارف .. بمدرسة الفنون والصنائع .. وفى عام 1919 انفصل هذا القسم ليستقل فى مدرسة خاصة تحت اسم .. `مدرسة الفنون والزخارف المصرية ` .. وصار مقرها سراى فاضل باشا .. بحى الحمزاوى بالقاهرة .
- وأمضى محمد حسن .. سبع سنوات فى تدريس الرسم بقسم الزخرفة بمدرسة الفنون والصنائع .. التى كان مقرها بولاق على خير وجه إلى أن منحته الحكومة المصرية بعثه إلى بريطانيا .. لدراسة الرسم والتصميم .. واشغال الصيانة .. والمعادن .. وسباكة التحف الفنية .. التى استمرت عامين متواصلين .. ليعود إلى مصر عام 1919 بعد أن حصل على شهادة مدرسة الفنون والحرف بلندن London Central School Arts and Crafts .. ليعهد إليه التدريس .. فى مدرسة الفنون والزخارف المصرية فى مقرها بالحمزاوى - القاهرة .
- وما لبث محمد حسن أن يرتقى سلم الوظائف .. فيعين وكيلا لهذه المدرسة عام 1921 .. وهنا انتقلت حياته الفنية إلى مرحلة جديدة كان مداها سنوات ستة فى ممارسته للفن التطبيقى .. ولعل المقادير التى تصنع حياتنا هى التى ساقته إلى هذا الطريق .. ليشق فيها خطا آخر يربط مصيره .. ويمضى به ليكون القنطرة التى ربطت بين الفنون الجميلة .. والفنون التطبيقية .. فى بدء حياتنا الفنية .. وان انطوى ذلك على التضحية بجانب كبير من طاقته التصويرية .
- وقد ظهرت مواهبه واكتملت شخصيته فى هذه المدرسة.. فكان المصرى الأول الذى اعتمدت عليه الدولة فى العديد من الأمور الفنية .. وتوالى نبوغه .. فأوصت اللجنة الاستشارية للفنون الجميلة .. بإيفاد محمد حسن فى بعثه ثانية إلى إيطاليا عام 1925 مع زميلاه فى دراسة الفنون الجميلة .. يوسف كامل .. وراغب عياد .. ليحصل على شهادة اكاديميه الفنون الجميلة فى روما عام 1926.
- وداوم دراسته فى إيطاليا بعد ذلك متنقلا بين الفن هناك .. متخذا لنفسه مرسما خاصا فى روما ..إلى أن عاد إلى مصر عام 1929 .. وفى خلال هذه السنوات الأربع .. التى قضاها فى البعثة انتج عددا وفيرا من اللوحات .. صور فيها بعض الشخصيات المصرية المرموقة ..من أعضاء السلك الدبلوماسي .. وشخصيات أجنبية أخرى .. إلى جانب ما قام به من دراسات بالنسخ من المتاحف المختلفة .. سجل فيها نماذج مختارة من الفن العالمي .. أبان عصر النهضة.. من بينها صورة ..` الحب الطاهر والحب المدنس .. Sacred and Profane Love ` للفنان الإيطالى العظيم تيتيان Titian عام ( 1485 ـ 1576 ) والموجودة نسختها حاليا فى متحف الفن المصرى الحديث .. كى يتعرف الطلبه .. على الجدية .. والإخلاص فى العمل والإتقان والموهبة الخلاقة للفنان محمد حسن .
- هذا بالإضافة إلى اللوحات الأخرى ذات الموضوعات .. التى خص بها دراسته الشخصية .. ومنها لوحات المراكبيه المصريين فى حركاتهم المختلفة وهم يسحبون مركبهم النيلية بالحبال من على الشاطئ .. التى أجاد فيها التعبير عن الحركة .. والقوة ..والملامح .. ومعالم البيئة .. ولوحة أخرى عبر فيها عن محنه كليوباترة .. فى التخلص من حياتها بلدغه الأفعى .. وكذلك اللوحات الكاريكاتورية التى رسمها داخل مرسمه.. ومنها لوحاته التهكمية على زملائه .. معبرا عن كل واحد بما كان يلتزمه من صفات ونزعات والملاحظ على أعمال الفنان فى تلك الفترة عنايته الفائقة بدراسة وسائل التقنية .. وبلوغ الغاية فى شفافية الألوان الزيتية ونصاعتها .. والبراعة التى لا يدانيه فيها أحد .. برسوخ اللمسات .. وجمال الخطوط .. والتوفيق الفذ فى التكوين .. والتلوين وهو ما تميزت به أعماله بعد ذلك طول حياته الفنية .
- ويعود محمد حسن من روما .. إلى الخط الذى بدأه آلا هو خط الوظائف فى مجال الفنون الجميلة والتطبيقية .. فعين وكيلا لمدرسة الفنون التطبيقية .. وكان لهذا الخط علامة مميزة تحكمت فى توجيهه .. فهو من جيل قدر له أن يرتاد مجالات كانت وقفا على الأجانب .
- وفى عام 1937 اصبح محمد حسن ناظرا لمدرسة الفنون التطبيقية يسانده مجموعة من الشباب المصرى الذين عملوا معه فى مراحل التعليم المختلفة التى مر بها .. وذلك من أجل تطوير الفنون النفعية وبث روح الإتقان..
ومقدرات التنفيذ فى الفنان التطبيقى .
- وهكذا أتاح له ذكاؤه ومقدراته .. أن يصل إلى الصفوف الأولى التى كانت وقفا على الأجانب .. فكان أول مدير مصرى للفنون التطبيقية .. كما سيكون أول مدير مصرى للإدارة العامة للفنون الجميلة( قطاع الفنون التشكيلية حاليا ) ..
- ويظل خط الوظيفة فى السمات المميزة لحياة محمد حسن فهو بعد سن التقاعد يعين مديرا للأكاديمية المصرية للفنون فى روما .. ثم يعود ليتولى إدارة متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ..ويظل محتفظا بهذا المنصب حتى تختتم حياته فى ديسمبر 1961 .
- وراء هذا الخط من الكفاح الوظيفى فى المناصب الفنية تلوح شخصية محمد حسن الفنان ودوره فى حركة النهضة المصرية ..غير أن الحكم على جهوده كأحد رواد نهضتنا .. يقتضينا أن نتمثله فى عصره ..وان ندخل فى اعتبارنا المؤثرات التى تفاعل بها..والعوامل التى قادت اتجاهه قد نستطيع تقييم أثر فنى منعزلا عن عصره نقبله .. أو نرفضه .. على قدر مضمونه الجمالى ..لكنه حين يكون الأمر متعلقا بالفنان .. وبجهده وأثره ومكانته .. فانه لابد أن نتمثل تجربته فى زمنها حتى نصدر حكما منصفا على أعماله.
- لذى محمد حسن يلمس الفراغ فى مجال الفنون التطبيقية فى مصر والحاجة إلى أحيائها .. باعتبارها من مقومات عصر النهضة ..ألم تكن الصناعات الفنية فى مصر قوة شعبية طمسها الطغاة فى عصور الظلام ..
آلم تطلعنا صفحات ..` ابن أياس `..على جموع الفنيين والمهرة تحشدهم مراكب السلطان سليم الأول من مصر الى القسطنطينية ..كما كانت آلاف الجمال المحملة بآيات الجمال للحرف المصرية الى هناك .. فكان هذا الرحيل .. إيذانا بأفول الصناعات الفنية . ولهذا كان اتجاه محمد حسن نحو هذه الفنون والصناعات الزخرفية صادرا عن ضرورات تاريخية إلى جانب الضرورات الواقعية . وهنا ترك فى حقل الفنون أثرا من براعته .. واحتضن جيلا من الفنانين التطبيقيين التقت عندهم قدرة الابتكار مع قدرة الإنجاز وموهبة الإبداع مع خبرة الأداء . وكان هو على رأسهم يصمم وينفذ ويخرج نماذج من روائع الفن التطبيقى .. ولكن اضطلاعه بنهضة الفن التطبيقى لم يشغله عن الإنتاج بقدر أو بآخر فى الفنون الأخرى .. ومن أجل هذا فهو إلى جانب براعته فى الفنون التطبيقية يرسل بين حين وآخر روائعه فى فن التصوير .. فمنذ أول عهد دراسته بمدرسة الفنون الجميلة .. معروفا بين زملائه الطلبه بأنه مصور الشخصيات ` البورترية ` .. ولم تكن هذه التسمية لفترة من الفترات .. ولكنها لحقت بشخصه إلى آخر لحظه فى حياته. فقد عشق تصوير الأشخاص ..إلى حد جعله يمعن فى دراسة خصائص الطابع والسحنة والملامح ..والمميزات الشخصية .. ونفسية الأفراد وتباين ملامحهم .. ونزعاتهم .. حتى جعله ذلك ملما بكل ما يميز الناس بعضهم عن بعض .. وما يعبر عن دخائلهم وروحياتهم .. فتكاد تكون الصورة من إنتاجه تنطق بمزاج صاحبها .. وطبيعته .. وخفايا نفسه . وقد سايرت براعته فى ذلك براعته فى تسجيل المشاهد والمناظر الطبيعية .. فهو فيها كفء كفاءته فى تصوير الشخصيات وله فى المناظر الطبيعية أعمال ناجحة رائعة.. ولكنه لم يكن بالمكثر منها إذ كان يفضل دائما ما يحن إليه من الميل إلى تصوير الأشخاص .كما جمع إلى حبه فى تصوير الأشخاص..وتفرغه وأجادته لهذا النوع حبه الشديد إلى رسم الصور أيا كانت بشعور نفسى يملك عليه مهنته وهوايته .
- وأنت قد تدرك ذلك لأول وهله حين تنظر إلى أيه صورة من إنتاج هذا الفنان لأية شخصية من الشخصيات .. مصرية كانت أو أجنبية رجلا كان أم سيدة ..شابا كان أو طفلا ..فإنك لا شك ستلمح بين كل ذلك شيئا جديدا .. تعجب به إعجابك بما أخرجه هذا الفنان من صور أخرى خلفها لنا فى مدى حياته.
- وحين تنظر إلى أى عمل من أعمال الفنان محمد حسن .. وبالأخص إلى أيه شخصية من الشخصيات التى سجل صورها .. نجد فى كل عمل من إنتاجه رسوخا وشموخا .. لانه عمل فنى صادق .. لا يبلغه الإنسان فى فترة قصيرة من الدراسة .. ولكن فى مدى طويل من التجارب والممارسة والوعى .. وهو ما وصل إليه هذا الفنان فى حياته الفنية وبالرغم من وجود صلة وثيقة بين فن التصوير وفن النحت..إلا أننا ما زلنا نجد فريقا من الناس لا يشعرون بما بين الفنين من صلة .. وذلك لاختلاف المادة أو الخامة والوسيلة فيهما وقد نجح على مدى التاريخ كثير من الفنانين المصورين فى الجمع بين المهارتين فى النحت والتصوير كما نجح فنانون مثالون كذلك فى الجمع بين المهارتين فى التصوير والنحت . فإذا علمنا بأن فن التصوير ما هو إلا تشكيل للمرئيات بالظلال والأضواء على سطح من السطوح .. حتى تبدو النتيجة من العمل معبرة عن الأبعاد الثلاثة .. فإن فن النحت قائم أصلا على أبعاد ثلاثة هى الارتفاع والعرض والعمق .. فى كتلة من المادة تشكل فى محيطها من جميع الجهات.. والفنان محمد حسن كان يحس بذلك .. وكان يعلم متيقنا والفنى والتصوير والنحت من صلة وثيقة .. لذلك نراه يرسم ويشكل .. فنراه فى الوقت الذى كان يعبر فيه عن أحاسيسه بالألوان .. يداوم الاهتمام بالنحت وهو لم يتخذ من النحت هواية يكتفى فيها بإشباع رغبته.. ولكنه كان يعمد إلى الاضطلاع بالنحت كعمل متمم لشخصيته متجاوبا مع فلسفته واحترامه ولذلك ظهر مثالا .. إلى جانب كونه مصورا .. حيث مارسه فى الجبس والفخار.. والحجر.. والعاج والخشب والمعدن .. وفى هذه الخامة الأخيرة امتد نشاطه فأخرج من معدنى الذهب والفضة تحفا مشكله إلى جانب زخرفة من السباكة فى البرونز .. وما تملكه الدولة فى متاحفها وهيئاتها من أعماله فى ذلك على قلتها .. يشهد له بالتفوق والجدارة .
لقد امتلك الفنان محمد حسن مواهب متعددة غير أن ` السلطة الزمنية قبر ذهبى للموهبة` التى شغلته كثيرا..وهيأت له أن يحقق إنجازات عدة ولكن ذلك كله جاء على حساب فنه.. ولم يتح له أن ينمى قدراته الفذة .
الناقد / محمد حمزة