محمود عبد الله .. رحلة عطاء ملهمة
- الكتابة عن أعمال الفن التجريد تعد من أصعب أنواع الكتابة النقدية ؛ فعلى عكس ماتحفل به الأعمال التشخيصية بالسرديات والمعانى والمفاهيم المباشرة أو غير المباشرة القابلة للحكى والتأويل, فإن الأعمال التجريدية أقرب إلى الموسيقى البحتة ,تتركز قيمتها فى مبناها لافى معناها ... فى الحركة والخط والشكل واللون والمساحة , أو فى السرعة والإيقاع والهارمونى والتضاد والتصاعد أو التباطؤ النغمى ... وما قد يحدثه ذلك كله من تأثيرات حسية وجمالية, ومن حالات مزاجية أو تأملات وأحلام واستبطان لما يكتنف أعماق الفنان من مشاعر وإيحاءات .
- لكن هذا الجانب الأخير( الذى تحتشد به نفسية الفنان التجريدى) هو مايصعد بقيمة العمل الفنى ويحلق به من مرتبة تتجاوز لغة الشكل البحت , ويحدد علاقة التواصل واستمراريتها بينه وبين المتلقى؛ فالشكل وحده لايكفى - مهما بلغت جدته وجماليته - لإشباع روح وحواس المتلقى وتحريك وجدانه ؛ فثمة هذا السحر الذى يضفيه الفنان من طاقته الوجدانية أو الانفعالية أو الروحانية - سمها ماشئت -على عمله ويعكسها على متلقى فنه , مهما اختلفت الاتجاهات والأساليب بين الفنانين ..
- إلى هذا النوع المتحشد بالطاقة الوجدانية والتعبيرية ينتمى الفنان الكبير محمود عبد الله ( 1936 - 2002 ) وإلى هذا النوع من الكتابة النقدية عن الفن التجريدى تنتمى الناقدة والفنانة د.أمل نصر مؤلفة هذا الكتاب المهم والصعب عن محمود عبد الله ,وأهميته وصعوبته تعودان إلى سببين رئيسيين : الأول هو القيمة الفنية الرفيعة لهذا الفنان , حيث يتميز بشخصية فريدة ورائدة فى الفن المصرى ,وبسبقه المبكرفى هذا السياق منذ الستينيات من القرن الماضى , والثانى هو افتقار حركة النقد فى مصر إلى أية دراسات أو مقالات عن تجربته وأعماله تتيح للناقد الاستعان بها فى بحثها هذا , فكان عليها أن تصبح هى المؤسس لهذه المرجعية النقدية عن الفنان , فضلاً عن أنها - فى الأساس - رسامة مصورة لم تمارس فن الحفر ( الطبعة الفنية الواحدة )الذى تخصص فيه عبد الله فى الجانب الأكبر من أعماله ,ماجعلها تضاعف الجهد للتعرف على أسرار هذا الفن , حتى يكون تفكيرها أثناء الكتابة متماهياً مع طريقة تفكير الفنان بواسطة الخام والتقنية , وقد وفقت أمل نصر بفضل موهبتها وحساسيتها النقدية والإبداعية , وربما تمتاز به من قدرة على تطويع اللغة العربية لحمل هذه الشحنة الصعبة من الأفكار غير النمطية, حتى أصبحت كلماتها سهلة التواصل فى بساطة ورشاقة مع القارىء حتى غير المتخصص, وأظن أن موهبتها الأساسية تكمن فيما تملكه من قرون استشعار بالغة الحساسية - ذهاباً وإياباً - بينها وبين الفنان والقارىء على السواء .
- أما عن الفنان ..فلو تجسد سوء الحظ فى إنسان لكان هو محمود عبد الله ! .. فبرغم ماأعطى- وما أكثره ! .. فإنه لم يأخذ من الحياة شيئاً يذكر .. مادياً أو معنوياً .. أهو سوء حظ قدرى .. أم سوء إدارة لمجريات حياته .. أم هما معاً ؟.. - لقد تهيأت له الظروف لاستثمار موهبته .. بتفوقه الدراسى, وتعيينه معيداً بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فور تخرجه مع أول دفعة تخرجت فيها عام 1962 , وحصوله على بعثة دراسية بإيطاليا, وتلامُسه مع النظام السياسى فى مصر فى الستينيات من خلال تنظيم الاتحاد الاشتراكى العربى ( الحزب الحاكم ). وبملكاته القيادية الخاصة التى أهلته للمشاركة فى تأسيس(( جماعة التجريبيين )) مع زميليه الفنان سعيد العدوى ومصطفى عبد المعطى ولهم لايزالون طلب بالكلية , ولعله كان أكثرهم عطاءً وقدرة على القيادة والتنظير والتنظيم ... ومع ذلك كله فقد ظل وهم بقَدَم فى الكلى وأخرى خارجها كما ظل بقَدَم فى المؤسسة الرسمية وأخرى بعيدة عنها , وبقدم فى الفكر التنظيرى والثانية تغازله على استحياء ... ذلك أن مشروعه الأكبر من كل ذلك ظل هو بناء نفسه كفنان ,وتحققه .. إن فى الوطن أو فى أوروبا .. لكن الغربة والمرأة جعلاه يحيا معلقاً وهائماً بلا أرض ولا زوج ولا أولاد ( برغم وجودهم جميعاً ) .. ومن ثم : بلا استقرار ولامشروع يؤتى ثماره!
- كان هو الأب الروحى للجماعة رغم تقارب السن وزمالة أعضاء نفس الدفعة كان هو المتأهب دائماً للمساعدة وتقديم العون .. كان يتمتع بالامتلاء المعرفى والموهبة والخبرة , مع روح العطاء والتواضع وإنكار الذات, بدون انتظار للحصول على المقابل ..
- أما فى فنه فقد كان جماع العديد من التناقضات والثنائيات : الشغف بمستجدات لحداثة الأوروبية , مع الحنين الدائم للتراث والجذور والرموز الحضارية .. الوطنية مع العقلانية .. جذوة الخيال مع الحساب الرياضى .. التجريب التقن مع التدفق الانفعالى .. تبسيط الشكل مع التركيب ثلاثى الأبعاد .. الاحتشاد بزحام الزخارف العربية مع البحث عن الفضاء الفسيح .. الدوال الرمزية مع الشكل المجرد ...
- اهتمت المؤلف بتقييم سبيكة الفنان / الإنسان / المجرب / الباحث / الكاشف عن لآلىء الشكل ومناطق الصمت , قبل أن تنتقل إلى تحليل أعماله فى الحفر
( الطبعة الفني الواحدة ) بحسَ الباحثة التى تخاطب قارئاً غير متخصص ,فتُعرَف بهذا الفن وتاريخه حتى تصل إلى الإضافة التى حققها محمود عبد الله ... ومن ذلك إلى أعماله فى فن التصوير .. لتستخرج مها لُبَها وجوهرها .. إنها تتواصل معه بعيداً عن الزمان والمكان , فتراه يتحرك فى المحيط الكونى المطلق , مصطحباً معه رموزاً أسطورية من الحضارات القديمة وكتابات عربية بإيقاعات موسيقية ... ونراه فى منطقة مخاتلة بين الحلم والذاكرة ( تسميها المؤلفة المنطقة الظلية ) لما يكتنفها من غموض , بعيداً عن الوصف التفصيلى , حتى لو احتشدت بتفاصيل غائمة تسقط فى بئر من التفسيرات على حد قولها .. وتضيف أن الفنان جعل من هذه المناطق الظلية وشائج خاصة للاتصال بالوطن ومحبته , فيسردها مغلَفةَ بغموض مندمج (...) فكأنما هو يستقوى بجذوره وينشد قصائد بصرية محبة للوطن الذى غاب عنه .
- لقد جعلت المؤلفة من حياته الإنسانية الخاص لحناً درامياً ينساب من تحت مسيرته الإبداعية , وقد تدفع كروب الحياة مسيرة الإبداع إلى الصراع أو الضياع .. إنه المنهج السياقى فى النقد الذى لايصل بين النص وحياة مبدعه وظروفه الإنسانية .. بدون أن نشعر بأى قدر من الإقحام أو التعسف , بل لعل ذلك يمثل إضافة كاشفة لعالم الفنان , ومن شأن هذا المنهج أن يجعل القارىء شريكاً متفاعلاً ومتعاطفاً مع الفنان ومن ثم مع النص البصرى أو المكتوب .
- لوشئنا تلخيص الرحلة الإبداعية لمحمود عبد الله فسوف نجدها فى كلمة ` البحث عن الهوية`.. وهى فى جميع الأحوال أعمق من مجرد انتمائها إلى التجريبية أو التجريد البحت, فهى فى جوهرها بحث لايتوقف عما لايتجسد , وصولاً إل الجوهر الصاف للكائنات, ومن ثم إلى الجوهر المطلق للوجود وربما كانت رحلته تلك بحثاً يائساً عن محمود عبد الله ذاته ! ... ذلك الذى أخذته نداهة الحياة وطوحت به وأضاعته فى سنين الغربة وافتقاد الأمان وربما لم يمتلك الثقة الكافية التى تمده بهذا اليقين السهل لمن هم أقل من موهبته ,نظراً لأن هذه الثقة تقاس بقدر الطموح الذى يتطلع الإنسان للوصول إليه, وكان سقف طموح عبد الله أعلى بكثير من معطيات واقعة الضنين .
بقلم : عز الدين نجيب