الفنانة شلبية إبراهيم .. والجنة والعذراء
- هم فنانون هواة.. يبدعون فى أوقات الفراغ بعيداً عن الأضواء.. يفرزون أحاسيسهم بحب وصدق فى ظل وخطوط منغمة وألوان صادقة.. وبلا ضجيج وفى صمت شديد يناسب فنهم أصيلاً.. نابعا من أعماق نقية شفافة.. لم تفسد مذاقها رواسب المدينة الزائفة ولا تقاليد المدن الصناعية المزدحمة.
- هم بدائيو العصر الحديث، على حد تعبير الشاعر الكبير ` أبو لينيير` أصحاب مدرسة ` الفن الفطرى` ، وهى مدرسة جديدة الفن.. قديمة قدم الإنسان.. قوامها الفطرة التى تنبت مثل الزهور البرية.. اعتمدوا فى فنهم على دوافع فنية أصيلة بعيداً عن تعاليم معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة.. وبعيدا عن أى ملامسة للمدارس الفنية المعاصرة. ومن هنا تتميز أعمالهم بالطلاقة والبراءة حيث يهفون إلى الفردوس المفقود.
-ويعد الفنان هنرى روسو وموظف الجمرك واحداً من أعظم رواد الفن الحديث، وهو رائد هذا الفن.. وقد تألقت عبقريته من مناظره الغريبة والتى تمثل تخيلات الغابة العذراء.. وقد أقام له بيكاسو حفل تكريم كبيراً عام 1908 اعتزازاً بفنه الخام الذى يتميز بالقوة والأصالة والجمال.
- ومن الجدير بالذكر ظهرت فى مصر أسماء كثيرة من الفنانين الفطريين امتدت أعمالهم بين النحت والتصوير بدءاً من محمود البان بائع اللبن.. ومحمد على ضابط الإيقاع ومبروك إسماعيل صانع الفخار إلى رمضان سويلم الفلاح وحسن الشرق البقال ولويس توفيق الترزى.
يضاف إليهم زهرة وحيدة فريدة في هذا الفن.. الفنانة شلبية إبراهيم والتى تمثل أعمالها امتداد لتخيلات الغابة العذراء التى أبدعها روسو.. مع خصوصيتها الشديدة وطلاقتها التعبيرية.. ليس هذا فقط، بل تعد صورة للجنة العذراء التى نهفو إليها فى ظل عالمنا المعاصر والذى غلب علية التصارع والتطاحن وظلم الإنسان للإنسان.
أحلام الطفولة:
- وشلبية إبراهيم سمراء.. واضحة الملامح كمشمس مصر.. تذكرنا قسماتها ببنات بحرى كما رسمهن الرائد محمود سعيد.. ريفية من قرية جزى.. قرية صغيرة لا توجد على الخريطة من قرى ريف المنوفية.
- كانت وهى طفلة تداعبها الأحلام فتخطها بأناملها على لوح الكتابة عندما كانت تتعلم فى كتاب القرية أو على حوائط منزل الأسرة، وفى أحيان كثيرة تنساب أحلامها فى خطوط ناعمة على الطريق الترابى وهى فى طريقها إلى الحقل.
- وبمحض الصدفة تعرف عليها الفنان السورى ` نذير نبعه` حين جاء يدرس بكلية الفنون الجميلة وارتاح إليها وجاءت شخصيتها على هواه وتزوجا.. وكانت بدايتها الفنية والتي تفجرت عن إمكانيات ضخمة كفنانة تلقائية تمارس الفن بحرية شديدة بعيداً عن الدراسة الأكاديمية.
- وقد استضاف مركز الجزيرة للفنون بالزمالك أعمال شلبية إبراهيم والتى تنوعت بين الرسوم بالحبر الشينى والألوان المائية والباتيك ` الرسم على القماش` فى عالم فطرى يتسم بالصدق والبراءة.. عالم بكر لم تلوثه عوادم السيارات أو المدن المزدحمة.. تشدنا خلاله من حلبة الصراع المادى إلى جنة عذراء فتجرد نساءها من الثـــياب عاريات بلا دلالات جنسية.. مستحمات في نور من اللون مع عناصرها الأليفة المتميزة من الجياد المرحة بلا أسرجة والقمر كما عاشته في طفولتها مع فرح الطبيعة الذى يكتمل ببقية كائناتها الأسطورية من الطيور والزهور والفراشات والثمار.
- ويلاحظ أن المرأة عند شلبية تمثل عنصراً أساسياً فى تكويناتها وتتشكل فى صور كثيرة جعلت منها حلمها الدائم.. فتتشكل فى صورة كبيرة.. عرائس تطير أو تتوحد مع فرس بهيئة البراق وربما طائر أو أوزة.. تتحول فى أعمالها إلى عالم أسطورى تسقط عنه أقنعة الواقع إلى نبع أثيري أو واحة خيالية فى صحراء هذا الزمان.. تتحاور فيه الشمس مع القمر ويداعب الفرس مهرته على مرأى من الأحبة فى عالم تستمده الفنانة بفطرتها ونقائها من أخيلة الماضى.. لم تفسده ثقافة الكتب أو الحسابات الواعية فيأخذ إيقاع اللوحة هيئته وبهاءه ببساطة دون هندسية أو افتعال فى رؤى بديعة تتدفق بعذوبة نهر هادئ.
- والعجيب والمدهش أن شلبية وهى زوجة أستاذ للفنون الجميلة وصاحب تجربة كبيرة فى الإبداع، إلا أنها لم تتأثر فى أعمالها بعالمه التشكيلى.. ففى أعمالها خصوصية وتفرد.. فيها تبدو المسافة بين الحلم والواقع بعيدة كل البعد عن آلية العصر عن فطرة الطبيعة.. وتتكرر فى أعمالها فكرة الحلم بالطيران.. حيث تصور نفسها فى تكوينات عديدة على أهبة الطيران.. وربما تجوب الفضاء على ظهر طائر.
- والألوان فى مجموعة لوحاتها المائية تبدو طفيفة هامة أحيانا وفى أحيان أخرى تتوهج بالأحمر مع الأزرق المدخن المشوب بالبنفسجى كما يصبح للخط هيمنة فى بعض الأعمال حيث يحدد العناصر ويؤكد ملامحها.. لكن يتلاشى فى أعمال أخرى تاركا للون نصاعته وإشراقه بلا وسيط، فترى الأحمر يشع بحرارة الحياة ودفئها.. والأخضر العشبى يملأ عناصرها بالنضارة. أما عن أعمالها فى الباتيك، فاللون جرئ مشحون يتوهج بالنور وقوة التعبير حيث تستخدم البنفسجى والأخضر الداكن مع الأزرق كخلفيات تبدو خلالها العناصر بيضاء فى نقاء.. موشاة بالزخارف الملونة مما يذكرنا بالمنمنمات الشرقية وأجواء التصوير الإسلامى لكن فى تركيبات عصرية جديدة.
- وما يلفت الانتباه فى رسوم شلبية تنساب فيها الخطوط فى طلاقة بلا قيود أو حدود.. مسكونة بالحركة والحيوية.. ويبدو بعضها أشبه بنقوش الوشم من حيث التداعيات الزخرفية ومنطق الأداء.
- والفنانة شلبية إبراهيم مواليد 1944، وبدأت الرسم عام 1961 ولفتت الانتباه إلى أسلوبها الفطرى وموضوعاتها المستمدة من الحياة الريفية والشعبية والتى شكلت منها عالما أسطوريا، ومن هنا أقامت العديد من المعارض بدءاً من عام 1970 وحتى الآن بجاليرى أمون ببرلين الغربية والمركز الثقافى العربى بدمشق وأتيليه القاهرة وجاليرى بلدنا بعمان، كما شاركت فى العديد من المعارض الجماعية فى لندن وباريس وتونس وبيروت ومدريد والقاهرة.
- تحية إلى لمسة البراءة والفطرة النقية فى أعمال فنانة مصرية.
بقلم: صلاح بيصار
من كتاب : ( أحوال مصرية ) 2005