فاروق محمد وهبه الجبالى
فاروق وضوء الروح
- ولد الفنان فاروق وهبه العام 1942 بمدينة المنصورة، العام 1968 تخرج فى كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، 1977 حصل على درجة الماجستير فى الفنون عن ظاهرة الاغتراب فى التصوير المعاصر، 1988 حصل على دكتوراه الفلسفة فى الفنون عن دور الخامة فى فن التصوير، 1997 عين مستشاراً ثقافياً لسفارة مصر بالنمسا،1997اختير عضو المنظمات الدولية بالأمم المتحدة ، 2000 عين رئيساً للأكاديمية المصرية للفنون بروما، أستاذ بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، له أنشطة واسعة منذ العام 1975 وحتى الآن على المستويين القومى والدولى، كما حصل على جوائز عدة نذكر منها الميدالية الذهبية - المجلس الوطنى الكويت عام 80 ، 1981، الجائزة الأولى فى التصوير بالمعرض القومى العام 1984، العام 1994 جائزة النيل الكبرى بينالى القاهرة الدولى الخامس، 1997 الجائزة الأولى لبينالى دوبرفتيك الدولى يوغوسلافيا، 1997 حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى العمل الفنى المركب، 1999 حصل على قلادة فيينا بالنمسا من حاكم مدينة فيينا ، 2001 حصل على وسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى من رئيس جمهورية النمسا .
-افتتح الثلاثاء الماضى معرض الفنان فاروق وهبة بقاعة أفق واحد التابعة لمتحف محمد محمود خليل وحرمه بالجيزة ويعتبر معرضاً استعادياً منذ بداياته وحتى الآن، وسألقى الضوء هنا فقط على العمل الفنى المجهز فى الفراغ ويعتبر من أحدث أعماله الفنية والذى استخدم فيه أشكال المومياوات شبه الشفافة كما استخدم الأسطح العاكسة خلفها إضافة إلى توظيف الضوء الصناعى الآتى من الداخل .. وفق منظومة مركبة لمجموعة المومياوات فى وضع مائل على جدار القاعة مما أدى إلى استدعاء البيئة المحيطة فى داخل العمل الفنى والتكرار الانعكاسى للمومياوات من خلال الأسطح العاكسة المائلة ومشطوفة الوضع لتمكين المشاهد من رؤية جمال البناء التكرارى والوهمى فى واقع مرئى بديع، وتخليص المومياوات من كينونتها المادية وإحلال الضوء الغامض ليتخلل الأسطح الشفافة ومن خلال فتحات مستطيلة فى وسط المومياوات وتردد الضوء وتتابعه وفق الانعكاسات المتوالية والمترامية داخل قياسات رياضية محكمة ، بينما على الجانب الآخر تتعمق الحالة الشعورية عند الفنان لترقى رقى شفافية الروح مما أكد ذلك من خلال الحلم والأسطورة والسحر الذى تمثل فى هالات الضوء النابضة من داخل كيانات تستدعى تاريخ الإنسان المصرى عبر موجات من رقائق إنسانية مليئة بعبقرية الزمان والمكان، عمل فنى كبير لنجم ساطع فى سماء الفن .
أ.د. احمد نوار
جريدة الحياة - 2005
- إن إستيحاء الفنان فاروق وهبة لكتاب الموتى الخالد فى أعمال تشكيلية حية مغامرة فنية مثيرة تستحق المشاهدة وتثرى بتذكر ما جاء فى الكتاب ، ونحن نرجو لعمله حسن القبول الجدير به .
نجيب محفوظ
يناير 1990
- تنطلق تجربة الفنان فاروق وهبة من منهج التجريب التشكيلى كقالب فكرى معاصر لمنظور الحضارة المصرية القديمة بدءً من تناوله كمصور ` الريليف ` لتجسيد مسطح الصورة ، حتى يصل فيه إلى أبعاد مجسمة وإنشائية كتجهيزات فنية تتسع استخداماتها لعمل فني متكامل ، فيتشكل العمل عنده من صورة ملونة ، مجسمة و معلقة أو ملقاة ، بأحجام كبيرة يتصل بها مجسمات على هيئة مومياوات لها أوجه تليفزيونية ، مستخدماً فيها ` مونيتور ` الأجهزة التليفزيونية و يضيف الفنان على عمله الإضاءة الكهربائية المتحركة ` الترا ` والمؤثرات الصوتية و الموسيقية ، لتحقيق الجو الإيحائى والحركة ، رغبة منه فى تحقيق وحدة الفنون وينطوي فكر الفنان على تصورات متقدمة ممكن تصل إلى أبعاد جيدة إذا تحققت له الإمكانيات المطلوبة فهو ` ماتيرياليست ` يستخدم الخامات المختلفة كلغة لتحقيق فكره الخاص ، ولا يستخدم الخامة لذاتها وتطوع الاشارات و الإيحاءات الهيروغليفية فى عمله بشكل مبسط لتحديد عناصر فكره الفنى ، رغبة فى تحقيق فن مصرى معاصر ، وتجربة الفنــان هنا هى محاولة مؤكــدة للوصول إلى مفردات للغة يمكن استيعابها فـى كــل مكان .
تونى تونياتو - أستاذ تاريخ الفن أكاديمية فينيسيا - إيطاليا
راديو القاهرة - أغسطس 1990
- يدور مجمل الفكر المتمثل في أعمال الفنان فاروق وهبة المعروضة بالجناح المصري في بينالي فينيسيا 1990 في نطاق حوارات كتاب الموتى الفرعوني المعروف ، تحت موضوعات الفناء ، الجناز ، الحياة بعد الموت ، الخلود ، التجسد ، و هو بأعماله المعروضة يعد واحداً من سلسلة فنانين مصريين شاركوا في بينالي فينيسيا بدءاً من عام 1938 بالجناح المصري في حدائق جرديني ، وهم انعكاس حقيقي للحالة التاريخية والسياسية ، لما يحدث في وطنهم وفي عصرهم ولذلك نرى هذا الإهتمام الكبير من الفنانين للمشاركة في الأنشطة الدولية .
وتحت إعتبارات كثيرة في المعرفة والدوافع النفسية يقدم الفنان محاولات كبيرة تتسم بالجدارة والأصالة الفنية ، ذلك الذي عكسه أيضاً أصحاب الخبرة والمعرفة والنقد .
- والجدير بالذكر أن أعمال الفنان تصيبك فجأة بالملاحظة و الإنتباه ، فقد توجه لها التغاضي ، و تضعها في موضع الجدارة ، و لكننا نلحظ إهتمام الفنان بشكل كبير بالخامات الحديثة في التجربة الفنية ، و لغة التصوير المعاصر ، ولم يسقط من حساباته موروثه الثقافي في الفن المصري القديم ببردياته وهندسته ومنحوتاته دون قصد المرور في فلكها ، ولكنها تعد مصادر هامة قوية في تجربته وقد كانت قوة التجربة تحتوي على الأصول الجمالية التي أراد الفنان تحقيقها .
- ` الابداع الحقيقي هو الطريق الذي يحاول الفنان من خلاله حفظ استمرار تلاقيه مع الماضي بتجسيد استمرارية الروح ` د . نعمات أحمد فؤاد .
- كان أول لقائي مع الفنان فاروق وهبة عام 1966 بعد المعرض الأول لجماعة التجريبيين ، الذين عرضوا أعمالهم لأول مرة ضد الفكر المحافظ بالأسكندرية ، وقد ترك الفنان مصر في نهاية السبعينيات لمدة قصيرة قضاها في سلك التدريس بدولة الكويت ليحضر في بداية الثمانينيات كشخصية فعالة في الحياة الثقافية ، و يعد فاروق وهبة أحد فناني مرحلة الستينيات الذين عبروا إلى السبعينيات دون أن يعلق به تأثير فناني الجيل الأول والمعروفين في الحركة المصرية المعاصرة . ولقد كان لي فرصة حضور المعرض الذي أقيم بمتحف الفنون الجميلة عام 1989 لفرسانه الثلاثة فاروق وهبة وطارق زبادي وعبد السلام عيد ، حيث ترك هذا المعرض علامة في تاريخ تحول الحركة المصرية المعاصرة ، وكان أول عمل للتفاؤل ، وفيه لاحظت بشكل واضح فترة تحول تجربة الفنان فاروق وهبة ، كفترة هامة في حياته الفنية ، والتي يمكن أن ندعوها فترة الرعامسة . وحضرت أيضاَ مع الفنان فاروق وهبة تلك المقابلة الهامة في بهو فندق مينا هاوس بالقاهرة مع الفنان الألماني المعروف جراوبنر ، الذي حضر خصيصاً لاختيار أعمال الفنان فاروق وهبة ، حيث قضى بعد ذلك معه بألمانيا قرابة أربع سنوات بمدينة ديسلدورف بأكاديمية الدولة للفنون لدراسة الدكتوراه ، وقد أتقن الفنان فاروق وهبة من هذه الفترة أهمية التقنية الفنية .
- يحاول النقاد في بعض الأحيان اقفال باب الوثب بين فنون الشرق والغرب ، وقد قال هربرت ريد في كتابه معنى الفن ( 1936 ) ، لايجب أن ينظر الغرب إلى الشرق من باب عصر النهضة ، و أنا أعتقد أن الفنان فاروق وهبة قد نجح جديداً في تحقيق هذا المفهوم وهو ما زال يزاول اجتهاداته في هذا المجال .
د . محمود عبد الله
يناير 1990
معرض فاروق وهبة .. حوار الحضارة المصرية وما بعد الحداثة
فى أحدث قاعات الفن التشكيلى على نيل الزمالك
فاروق وهبة فنان سكندرى .. أستاذ أكاديمى وأحد دعاة ما بعد الحداثة الكبار فى مصر .. يعكس هذا فى أعماله التى تتواصل فيها الحضارة المصرية .. والتى تشدو بلغة جديدة فى الإبداع تمتد من أعمق أعماق المصرى القديم إلى آفاق جديدة لا تحدها حدود أو قيود .. بما تحمل من فلسفة شكلتها ثورة الاتصالات تلك الثورة التى كان بزوغها فى الثلث الاخير من القرن العشرين وتالقت وأصبحت فى اوجها ونحن فى منتصف العقد الثانى من الالفية الثالثة .. وتغيرت فيها مفاهيم الفن واستبدل مصطلح المجتمع الصناعى بمجتمع ما بعد الحداثة أو ما بعد الصناعة كمفهوم يمثل المعنى الحقيقى لعصر الصورة الإلكترونية التى تعد اداة امتزج فيها العلم بالفن .
لذا بدأت رحلته فى الإبداع رحلة من التجاوز للصيغ والاشكال التقليدية مع الالتحام الصوفى بالكون بما يحمل من ظواهر وشفرات مبهمة .. والخروج من الفيزيقى أو الطبيعى إلى الميتافيزيقى من أسرار ومكنونات التراث المصرى خاصة وعالمة مسكون بجينات الحضارة المصرية .. كل هذا من خلال اللوحة ذات البعدين وفن التجهيزات أو التشكيل فى الفراغ .
كان فاروق وهبة فى الخامسة وكانت الأسرة تسكن فى مواجهة شريط القطار وبالصدفة توقف قطار من القطارات القديمة السوداء ` قطار الفحم ` .. وإذا به ينكب على الرسم بلهفة وبعد ان انتهى منه فجأة حضر اخوه الأكبر ونهره بشدة بعد ان تطلع ؟إلى الرسم كان ذلك خوفا علية من ان ينشغل عن الدراسة .. وبعد هذه الحادثة كان يجلس وحده فى حجرة مغلقة من اجل المذاكرة .. كانت كراسة الرسم تحت كراسة الحساب على سبيل المثال .. ويظل يرسم وعندما يمر احد تخرج كراسة الحساب فوق كراسة الرسم إلى ان ينصرف فتعود كراسة الرسم .
فى الشهادة الإعدادية حصل على الدرجة النهائية فى مادة الرسم ونال جائزة قيمتها خمسة جنيهات كما نال أستاذه فى المادة جائزة بنفس القيمة .
الفنون الجميلة
الاسكندرية مدينة كوزموبوليتانية ` عالمية ` تجد فى شوارعها محال لبيع المناظر الطبيعية والاعمال الفنية عموما وهى اعمال كانت تتمتع بمستوى رفيع حيث يعكف عليها فنانون من الارمن والطلاينة واليونانيين كان فاروق وهبه يمتلئ بجنة الألوان والانغام من تلك الأعمال .. ايضا كان بينالى الاسكندرية محفلا يفيض بالتجارب الفنية الحديثة وباعمال كبار الفنانين امثال جورج موراندى وديكيركو وكارلوكارا وكثير من الجرافيكيين من فنانين دول البحر المتوسط ومعهم الفنان الفرنسى سولاج .. وقد تعلم فناننا الفن من خلاله قبل دخوله الفنون الجميلة بسنوات . كما تقدم فيه وقبلت اعماله فى دورة من الدورات قبل التحاقة بالفنون الجميلة وكان القسم المصرى من الممكن التقدم فيه بدون ترشيحات وبعد حصوله على التوجيهية ` الثانوية العامة ` التحق بكلية الفنون الجميلة بتوجيه من سيف وانلى بعد ان راى رسومة بالقلم الرصاص بالصدفة وكان مع طلبة كلية الفنون الجميلة فى حديقة النزهة لرسم المناظر.
تخرج عام 1968 ` الدفعة الخامسة ` فى قسم التصوير بتقدير امتياز وكان من اساتذته سيف وانلى وحامد عويس وكان رئيس القسم كامل مصطفى وكلهم اساتذة كبار .
بعد تخرجة مباشرة فوجئ بان الفرشاة تنسحب من يده ويستبدل بدلا منها سلاحا من اجل رفعة الوطن ومكث اكثر من سبع سنوات عاش فيها كل وقائع حرب الاستنزاف والدفرسوار وحرب 73 .
وعندما خرج من الجيش اقام اول معرض له باتيله القاهرة وكان تعليق بيكار عليه : ان هذا الفنان تحدث من داخلة ولسان حاله يقول اغمض عينيك ترى افضل !.
وبعد ان قطع شوطا فى الاتجاه الميتافيزيقى ثم التجريد .. كان هذا من اجل اثبات الذات وتاكيد شخصيته الفنية والبحث عن جذوره .
يقول وهبة : فى اثناء البعثة بالمانيا بمدينة دسلدورف كنت انظر إلى وجهى واقارنه باوجه الناس حولى فاجد اننى مختلف ولا يخفى على احد ان لون البشرة هو لون العمق واكتشفت اننى لست اوروبيا ولا امريكيا وظل البحث حتى وصلت الى اصولى الاولى .. وصلت الى الفنون المصرية وجذورى الفرعونية .. وتصادف فى ذلك الوقت اننى ذهبت مع دفعتى فى الدراسات العليا بصحبة د. زكى اسكندر استاذ التكنولوجيا ومدير متحف الانتكخانة وبصفته المدير فتح لنا غرفة الموميات وهنا وجدت نفسى مشدودها امام راس رمسيس الثانى الذى خاطبنى وخاطبته .. وظل هذا المشهد ماثلا بداخلى وظللت ارسم وجهه من هذا التاريخ .. ووضعت يدى على هذا المعنى ` فن مصرى معاصر` .. اضافة الى فن الاجداد . واذا كان فاروق قد انتقل من لوحة التصوير إلى العمل الفنى المركب او التجهيز فى الفراغ فقد اراد ان يكون التناول اكثر ملحمية واكثر ايقاظا للتراث من هذا التنوع فى التشكيل من خلال ابعاده الثلاثية .
وتمثل اعمال فاروق وهبه علامة من علامات الانستاليشن المصرى بتلك العروس الاسطورية التى يستمد قوامها من روح المومياوات . ليس هذا فقط بل انتقل بعروسة من وشائج التراث إلى عصرنا الحالى واصبح راسها ينتهى بعناصر من تكنولوجيا الفضاء ودوائر الترانزستر واسطوانات الليزر .. فبدت اشبه بكبسولة فضائية على وشك الانطلاق مع هذا الغموض والسكون الشاعرى والحس الميتافيزيقى
لحن منفرد
وفاروق وهبه فى معرضة الحالى بقاعة ` تعد احدث قاعة فى الفن التشكيلى بالقاهرة على نيل الزمالك ` اطلق علية ` تنويعات على لحن منفرد ` يؤكد عمق تجربته الفنية والانسانية .. فيها تتنوع الرؤى وتنساب من ابسط الصور فى التبسيط والاختزال والذى ينتمى الى المنيمال ارت أو ` الحد الادنى ` كما فى تشكيله بالاحمر الخالص والذى يجمع بين نقاء المسطح وبروز المجسم فى ثلاثة اشكال بارزة غير منتظمة تبرز منها مجموعة من الخطوط .. كل هذا فى نقاء تشكيلى .. والى اعماله شديدة التكثيف والتركيب والتى تجمع بين البارز والغائر وبين تنوع الخامات وتنوع السطوح.. ن الهندسية المائلة والصريحة اللامعة الى المنطفئة ومن الذهبى الى الفضى مع ايقونته المصرية التى تمتزج فيها اللمسة من عمق الحضارة الفرعونية والى الفن الرومانى وحضور الفن الحديث .
وفى أحد أعماله نطالع مع التشكيل المجسم ورقة مطوية فى رول ملفوفة بشريط من الوردى الهادئ وكأنها بمثابة رسالة الينا من ماضى الانسان المصرى..بمثابة واحدة من اللفائف التى تعكس معنى التواصل الحضارى ومعنى الفن .
ومن بين اعمال الفنان ثلاثية لثلاث عرائس من التشكيل النحتى .. كل تشكيل داخل زاوية تشكلت من التقاء سطحين وبين النصف العلوى والسفلى تطل دوائر كهربائية واشارات بما يعنى لقاء التراثى والمعاصر .. القديم والذى يمثل الحداثة وعمق التطور التكنولوجى..وهو فى تشكيل اخر يجسد العين الفرعونية فى تكرارية تعلوها رموز من المصرى القديم وهنهدسيات اشارة الى حوار الهندسى والعضوى ومعنى ان ننظر الى التراث فى يقظة وتطلع وتأمل .
ومن بين اعمال الفنان المجسمة هذا التشكيل المضاء بحبل من الاضواء الحمراء المتقطعة يبدو بين العناصر المجسمة .. لقد اراد الفنان وهبه ان يدخل بنا إلى عمق الحداثة التى تبدو فى تنايا عمق التراث .. انها رحلة تجيب عن معنى الثابت والمتحول واكتشاف الذات الكامنة فى التاريخ بلغة العصر وتتكرر التنويعات على هذا اللحن المنفرد والفريد فى اعمال الفنان ما بين اللون الواحد وتنوع وثراء التعددية اللونية وبين اختزال الرموز وكثافتها فى حالات درامية .. كل حالة ايقاع وكل ايقاع نسق وتشكيل جاء فى اطار سيمفونية بصرية رصينة .
هو وشباب الفن .
ووهبة مع كتبه العديدة فى الفن التشكيلى صاحب كتاب من أهم الكتب المصرية على قلتها فى فنون ما بعد الحداثة .. كتاب ` فنون الوسائط المرئية الحديثة ودوافع تطور الفكر فى الفن التشكيلى `
وهو يرى أن الراحل جوزيف بويز كان من الفنانين الذين اثروا وغيروا فى مفهوم الحداثة فى الحركة العالمية المعاصرة خاصة فى تجربة البيرفورمانس التى تدعى ` فوكس` او الثعلب والتى انتقد بها النظام الامريكى .. وفى شبابة كان وهبة مولعا بفرانسيس بيكون فى تجاربه لتحليل الانسان وفى ارائة السياسية خاصة راية فى الفنان الامريكى جاكسون بولوك عند زيارته للولايات المتحدة والذى يشبه اعمالة بالخرق البالية .
ويعد فناننا صاحب تجربة كبيرة مع شباب الفن بالاسكندرية وحتى الطلائع والاطفال حيث قام باحياء المرسم الذى انشأه الرائد محمد ناجى باتيلية الاسكندرية والذى كان له فضل تاسيسة عام 1934 ليجمع كل المواهب فى بيت وبوتقة واحدة وكان نشاط المرسم قد توقف عام 1956 .
فى عام 1988 اشرف الفنان فاروق وهبه على المرسم من جديد وكان هؤلاء الشباب لبنة ودعامة قوية لفكرة صالون الشباب ونبوءة لوجود فنانين ذوى تالق خاص يجددون فكر الحركة التشكيلية ، وظهرت أسماء مثل : منى المرزوقى وعلياء الجريدلى وخالد البرقى وياسر ندا وجيهان سليمان وريم حسن وسامح الحلوانى وهويدا السباعى ووائل شوقى ومعتز الصفتى وامينة منصور ورحاب الصادق ومحمد ادريس .
تحية إلى الفنان فاروق وهبة بعمق المسطح والمجسم فى اعماله ودوره الرائد فى الابداع المصرى المعاصر .
صلاح بيصار
جريدة القاهرة 17- 2- 2015
أغمض عينيك 00 لترى أفضل !
- الفنان المثقف يمشى فى طريقه متفتح القلب والعقل معا .. ففى الوقت الذى يعطى إبداعه الفنى كل نبض قلبه، يكون عقله فى موقع المراقبة ، يراجع تصرفاته دون تحكم ديكتاتورى مجحف .. وكذلك فى الوقت الذى يتناول فيه العقل عصا القيادة ، يكون القلب فى رفقته يمده بفيض من عصاراته زيتا يزكى به لهيب الشوق .. فتكون النتيجة مزيجا إنسانيا نبيلا يمثل حالة ( الصحو) بمعناها العميق .. وهى حالة تزول فيها أنانية العقل وفردية القلب ، فيمتزجان فى كل واحد ، أو فى (سبيكة واحدة ) ويتولد عن امتزاجهما أو احتكاكهما ما يشبه الشرارة الخلاقة ، هى الإلهام بعينه الذى يصل إلى مرتبة الوحى أحيانا ..
- ومن طبيعة القلب أنه ذو شطحات هوجاء ، وأن له أجنحة طائشة تنطلق بلا ضوابط نحو المجهول .. وقد تبدو هذه الشطحات ضربا من الهوس أو الهلوسة أو الجنون أحيانا .. إذا لم يتدخل العقل ليؤدى دوره الذى لاينبغى أن يتجاوز حده ، ليمسك
` ببوصلة ` التوجيه حتى لا ينحرف القلب عن سراط التوازن .
- ويسعدنا أن نرى بين شبابنا المثقف من يقدم للفكر المتجدد نموذجا مشرفا لوجهنا الحضارى وصورة مشرقة تعيد الثقة إلى فننا المتعثر ..
- ومن الأمثلة الرائعة التى نحتفى بها هذا الأسبوع الفنان السكندرى الشاب ` فاروق وهبه ` الذى اضصرته ظروف اشتراكه فى حرب الاستنزاف وعمليات الدفرسوار منذ تخرجه من كلية فنون الإسكندرية سنة 1968 حتى الآن إلى الاحتجاب عن الانظار فترة ، وإن لم تفارقه فرشاته طوال سنوات الجهاد .. ويعود الينا منتصرا وعلى خده دمعة ، فقد ترك وراءه زميل سلاحه وفنه الفنان ` أحمد الكفراوى ` وكانا قد اتفقا على أن ينقلا تجربتهما فى الميدان الملتهب إلى جمهورهما فى معرض يقيمانه معا .. ولكن شاء القدر أن يقوم ` فاروق` بهذه المهمة وحده وأن يترك مكانا شاغرا بمعرضه ضمنه كلمة وفاء للشهيد الغائب مشبعة بأنبل وأرق المعانى .
- وليس هناك من هو أصدق واقدر من الفنان المثقف عندما يأخذ بيد جمهوره برفق ويحاول فى لهجة مهذبة أن يشرح لهم وجهة نظره . وأن يطلب إليهم أن يفتحوا قلوبهم للفيض النابع من القلب ، وألا يحاسبوه بمقاييس ` السنتى والمتر` . فيظلموا تجربة الاحتراق التى عاشها فى لحظات الصراع الرهيب بين الحياة والموت ، أو يظلموا لحظة الضياع الباهتة ، لحظة الاغتراب النفسى التى تنطمس فيها معالم الأشياء ، فلا يتبقى منها غير شعور متجسد ` كن أو لا تكن ` .. وهى حالة تنبع من أعماق اللاشعور . ولانظير لها فى دنيا الواقع .. أو فى حالة اليقظة الواعية ... إنها مزيج من المشاعر وليده الصراع بين الأبيض والأسود .. بين الوضوح الكامل للرؤية ، ذوبان الأشياء فى الظلمة الحالكة .. إنها الصورة الرمادية الباهتة التى يراها بنصف عين، أو نصف يقظة أو نصف غيبوبة .. ولنستمع إلى الفنان وهو يقدم نفسه :
- ` فى مجالنا هذا ، لاتولى الكلمة بإيضاح الغاية المرجوة .. ومهما كان الاجتهاد بها ، فهى عقيمة ناضبة بالقياس إلى لغة التشكيل وعالم الفنان .. ولكننا مجابهون دائما بتساؤل صعب ، فقدت فيه لغة التخاطب ، خاصة بعد أن اتسعت الهوة بين رخاوة التصور ، وضحالة الفكر من جهة ، وطموح الفنان من جهة أخرى ..
- من هنا نمارس الفن فى صعوبة تشابه إلى حد كبير صعوبة حياة المغترب فى وطنه . والفاقد لرحابة أهله .. ولست بمستطيع تحديد حجم المشقة أو الطواعية التى تلازم عملية الخلق الفنى ، فى هذه الظروف غير المواتية ، ولكنى أستطيع تشبيهها بعملية اتحاد لحجم التعقل مع الهوس فى سبيكة واحدة .
- ولست بهذا باعثا للتشاؤم ، بل محاولا إصابة القول . لأنه فى المقابل الآخر يتركز جهد الفنان فى اختراق الواقع ، ودرء المجهول ، محاولا إشراق المستقبل ..
- لهذا فإن تلك الصعوبة تؤكد ضرورة أن يجتهد الفنان فى أن تظل الفرشاة مرفوعة دائما، وألا تمحى من بين جنباته مسئولية تسجيل الحضارة بأمانة دون المثول إلى السلبيات .. وفى هذا المعرض .. أقدم تجربة فنية عمرها عشرة أعوام محاطة بظروف نادرة ، كانت فيها الفرشاة ضمن أسلحة النضال . ولكنى آثرت أن تظل لغة التشكيل هى لغتى دائما وأن تظل ظروف المعركة منظارا لتعميق الرؤية وتلمس الواقع ، وإثراء للشحنة الفنية ` .
- .. فى هذا المناخ الغريب ، يصاب المشاهد بما يشبه الدروشة أو النشوة المجهولة المصدر ، فيصدر عنه لا إراديا كلام داخلى غير مفهوم عقليا .. ولكنه مفهوم جدا جدا وجدانيا .. ووجدتنى أقف أمام كل لوحة أردد هذا الكلام اللا معقول عندما استسلمت تماما لإيحاءات الأشكال ..
- الملك : الملك القابع خلف البرواز .. الملك القادم من دنيا الألغاز .. لا حرس ولا تاج ولا قفاز .. مومياه شخيرها يؤرقنى . وكذلك الزمن الرابض فوق الأجفان .. وبسمة تلمع فوق بقايا أسنان .. جاء الملك الراقد تحت الأكفان .. عبثا جاء ليقنعنى أنه حاكم أجدادى فى قديم زمان .
- التطلع إلى الضوء : ماذا تبغى المومياء من الشمس ؟؟ ماذا تبغى بعد فناء النفس ؟؟ ماذا تقصد من تحطيم جدار الهمس ؟؟ الشمس تطل على الاحياء .. تحيى اليوم .. تدير الظهر إلى الماضى والأمس .. وتبقى المومياء سجينة جدران الرمس .. والمومياء بتابوت البلور ثمنا لنقود السياح .. واللون الأخضر مات فوق سطوح الألواح .. واللوحة واد قفر تسكنه أشباح ..
- الشهيد: وخطاب مفتوح لرفيق سلاح .. شهيد الليل وتاج صباح .. أردته رصاصة مسعور .. نزفت لوحاتى كل الألوان نزفت لون الأفراح وظل الأحزان .. الواحى شاحبة كالموت .. أشعار رثاء للغائب الذى ملأ الدنيا ألوان ..
- المسرح : يدعونى سجين أبدى .. قابع فى الداخل يدعونى .. للحفل الساهر يدعونى .. نجلس فوق المقعد أجسادا خرساء برءوس جوفاء محشوة بخواء .. المسرح ضج بشتى الأحداث .. ليت لى عينا لترى العبث الدائر فى دنيا الاحداث ..
- تجربة الطفل : الحفل الساهر مازالت فيه بقية أحداث .. أطواق تلتف حول الأعناق . والكون أمامى أشلاء تتعانق فى غير عناق .. وسماء فى الطمى قرغت بتراب .. والضوء الشاحب مضمح بضباب .. وبيوت الأحياء قبور من تحت قباب .. مكعبات معلبات لا نوافذ لا أبواب .. ودروب فقدت خطوات الإنسان .. يفوح منها الصمت دويا دويا ملء الآذان .. وقلب فيه بقية بركان ، يلفظ حمما ، ينفث ألما ، ينفث.
- أيها الراقد ملء الأجفان .. أخرج ما فيك من بقية بركان .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
المعاصرة مضمون
- التكوين المسرحى` الدرامى` واللاواقعية` الميتافيزيقية `والكناية والمجاز والاستعارة والتشبيه تلك هى الركائز التى يقوم عليها إبداع الرسام المصور فاروق وهبة باتزان محكم بين الشكل والمضمون فى قالب فنى فريد بين فنانينا التشكيليين يتسم بالخطوط المعبرة والملامس المقصودة والألوان المقتصدة التى لاتطغى على الموضوع بل تخدمه وتبرز المضمون. لوحاته تهمس لنا بشىء نستشعره فى سريرتنا دفينا فى أعماقنا وتواجهنا بعلامات استفهام كانت ولاتزال تقلق البشرية منذ استنار عقلها بالعلم والمعرفة وارتفعت عن مستوى الحيوان لماذا أو كيف ومتى أو إلى أين تهز المسلمات والمعتقدات التقليدية فى حياتنا الاجتماعية وتدعونا بعنف إلى مراجعة المسيرة وتوقظنا من خدر الروتين اليومى الذى يجرفنا فى تياره الرتيب لنتأمل أنفسنا فى شخصياته الحائرة الباحثة عن مخرج وملاذ لوحاته تنتشل المتلقى من وحدة الملل لتضعه أمام مرآة يتأمل فيها نفسه ويلقى نظرة شاملة على باقى الطريق أنها تخرجه من ملهاة الحياة اليومية الرخيصة لتلقى به فى مأساة الواقع .
-.. من هنا .. كانت `المعاصرة ` فى لوحات فاروق وهبة لأن المعاصرة مضمون فلوحاته تلمس مشكلة العصر : وهى الإانغماس الآلى فى تفاصيل الحياة .. وضيق الأفق .. وتفاهة الأهداف وتكرارها الممل حتى تنتهى أيام العمر . إنها` دعوة خاصة` للمتلقى لكى يعيد النظر فى حياته ويوسع أفق تفكيره ليشمل المجتمع البشرى بأسره .
- يكمن `مضمون` إبداع فناننا فى معالجة مشكلة ` الإنسان والوجود فى العصر الحديث ` .. نستشعر ماينجم عنها من تساؤلات ونحن نتأمل كائنا بشريا فى إحدى اللوحات يشتبك فى طوق يكبله كالفخ .. يحاول الإنفلات منه فيصطدم بسياج يسد عليه الطريق .
- تكوين مأساوى حالم .. وألوان خفيفة لاتعوق وضوح المعنى المعبر عن حيرة إنسان العصر. هنا - فى تصورى - تكمن عالمية المضمون الذى يودعه فاروق إبداعه فالعالمية .. لاتعنى محاكمة المعالجات الفنية الأوروبية والأمريكية، من حيث الموضوعات المستغربة والخامات المستخدمة والأشكال المبهرة، كما هو راسخ فى مفهوم السذج من فنانى العالم الثالث. إنما ` العالمية` مضمون محلى وإنسانى فى نفس الوقت .. فى` قالب ` مستحدث .. يساعد على نقل` الرسالة `.. ويلقى ضوءاً جديدا على حياة العصر . هكذا يصبح إبداع فاروق مقابلا مناسبا للشعر والأدب .. والمسرح والموسيقى والرقص فى المستوى الفنى الرفيع .. البعيد عن ` العبثية ` ...
-.. بدأ فاروق مشواره مبكرا منذ نعومة أظفاره استمر شغوفا بالرسم والتلوين بدوافع ذاتية محضة . كان يشعر أن لديه مايقوله .. وأن وسيطه للتعبير عن نفسه وأفكاره والحياة .. هو الرسم والتلوين .وخلال تجواله على شط المحمودية وفى حدائق انطونيادس بالإسكندرية .. تعلم لغة الطبيعة .. وحديث الأشكال والخطوط والألوان.. والظلال والأضواء. ومن كبار الفنانين فى معرض الإسكندرية الدولى` البينالى` تعلم كيف يختلف أسلوب التعبير من فنان لآخر .. وكيف يخلق` عالما موازيا` للواقع . ومن خلال الممارسة اليومية، تعلم كيف يعيش حياة خاصة هو خالقها وكيف يقول بالخطوط والأشكال مالايقوله بالكلمات . كان ذلك طوال سنوات التعليم العام، قبل أن يلتحق بكلية الفنون بالإسكندرية ` 1963` ويلتهم الوجبة الثقافية الدسمة التى استمتع بها شباب الستينات: المكتبة الثقافية.. والألف كتاب. وطوفان المسرحيات والمقالات الجادة .. وعروض الباليه والكونسرفتوار والموسيقى العربية والفنون الشعبية .. وكل ماأسفر عنه العصر الذهبى لوزارة الثقافة .
- يبدع فاروق لوحاته من عناصر مفهومة واضحة لكنه يلقى بالمنطق جانبا على طريقة السيرياليين. يصور عناصره فى تكوينات رمزية غريبة تعكس على مشاعرنا أحساسا مثيرا ربما أحسسنا بمثله فى أحلامنا وكوابيسنا. يتحدث إلينا بلغة` اللاواقع` من حيث الشكل .. و`الواقع` من حيث المضمون فى لوحاته .. المرسومة بالقلم الرصاص يبتعد بتشكيلاته عن مظاهر الطبيعة حتى لنتصور أنه اتجه إلى التجريد الخالص . إلا أنه فى جميع لوحاته يعبر عن أزمة الإنسان المطحون فى العصر الحديث . ليس فى عالمنا الثالث المتدهور فحسب وإنما فى العالم الكبير . هكذا يبدو إبداعه ذا مسحة عالمية. ويلفت الأنظار فى المعارض الجماعية لأنه يحقق التوازن بين الشكل والمضمون، بينما يزيد الشكل قيمة ونقلا فى لوحات معظم فنانينا المعاصرين.
-..إذا كان الفن كما يقولون` تنفيسا عن رغبات وطاقات مكبوتة ..لدى كل من الفنان والمتلقى` ، فلوحات فاروق بإبهامها وغموضها وغرابتها وأسلوبها المثير، قد تكون تنفيسا عن أحاسيس` الفأر فى المصيدة` التى يحسها إنسان العصر الحديث فى عالمنا المتخلف. تبدو شخصياته المرسومة فى مأزق لافرار منه . مقيدة بلا قيود. متطلعة بلا أمل. يعلق فوق رءوسها شىء لانراه لكنها تخشاه ملامحها ممسوحة مبهمة. تعيش فى عالم فاروق وهبة الذى عاشه مغتربا بين أهله وعلى أرضه، منذ كان طفلا فى العاشرة فى منطقة` الدخيلة` على أطراف الإسكندرية .. يستيقظ فزعا فى بطن الليل ..كلما هدرت أمواج البحر فى ليالى الشتاء الكئيبة ..التى تجلدها العواصف بسياط الريح ويشق البرق سماءها بسيوفه النارية لم يدر الصبى حينذاك كيف يفلت من تلك البقعة التى كتب عليه أن يشب بين نخيلها على شاطىء المتوسط ..
- الألوان لاتلعب دورا مبالغا فيه عند فاروق وهبه .. أنه يتجه مباشرة إلى البناء الفنى والتكوين الدرامى والمضمون الإنسانى الشامل . فى مجموعة لوحات` الإنسان والطوق` تتضح الرمزية للتعبير عن الحيرة والضياع اللذين يتردى فيهما الفرد المعاصر، حيث المصير مرسوم يعرفه المسيطرون عليه كأنهم أنبياء معظمهم ألوانه ضاربة إلى مشتقات الأصفر، تكاد تندغم فى بعضها شأن الملامح الباهتة الممسوحة حيث لايعتمد التعبير على إظهار خلجات النفس الفردية بل على مجمل اللوحة وعموميتها الأمر الذى نفتقده بين معظم فنانينا . كما يذكرنا بالرسام الإنجليزى : فرانسيس بيكون ` المولود 1909` الذى كان يرسم أشخاصه بمعجون الألوان، ثم يطمسها ويمسحها إمعانا فى مسرحة الإبداع وأشباع روح المأساة التى أحس بها حتى النخاع بالنسبة لإنسان العصر الحديث .
- بينالى الإسكندرية كان المدرسة التى تفتحت فيها قدرات فاروق قبل أن يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة . لذلك كان طالباً غير عادى حين انتظم فى الدراسة ولفت أنظار أساتذته فى جميع التخصصات : الجرافيك .. التصوير .. النحت .. الزخرفة .. انصلقت مواهبه بالتدريبات والتوجيهات اليومية طوال خمس سنوات. أدرك معنى` الصنعة` فى الإبداع الفنى.. وأنها `مطية الفلسفة والمضمون` شاهد كيف تختلف` الصنعة ` عند الفنانين مع توفر صدقهم .. وتمكنهم .. وبروزهم . رآها تتنوع فى لوحات : حامد عويس وماهر رائف وكامل مصطفى وسيف وانلى باختلافات جذرية فى كل من الأداء .. والمعنى والمغزى .. والموضوع وكيف تسرى ` المقاييس الاستطيقية` الأكاديمية على كل منهم بطريقة مختلفة هنا .. بدأ يتلمس معالم أسلوبه الفردى الشخصى الذى يعرف به الآن من حيث الشكل والمضمون . استطاع أن يعثر على الشكل المناسب لإبراز المعنى الغامض الذى يتلاعب أمام عيون المتلقى ... ويداعب خياله ومشاعره كلما تأمل أعمال فاروق. لم يكن ذلك المعنى الغامض` أو المضمون ` سوى ` قضايا الإنسان` .. أى ` مقلقات إنسان العصر الحديث `.. التى غاص فيها فناننا بفرشاته وألوانه الزيتية وأقلامه قبل أن يتخرج فى الكلية سنة 1968 . هذه ` القضايا ` .. كانت موضوع اللوحة الكبرى التى نال بها درجة البكالوريوس ومايصاحبها من لوحات تفصيلية تتناول فى مضمونها ` مآسى إنسان العصر` .. من بينها تكوين عن حرب فيتنام التى دارت رحاها حينذاك وأفزعت ضمير العالم وآخر عن` اغتيال جيفارا ` .
- أتاحت الكلية لفاروق تهذيب ملكاته واستعداداته ومواهبه وتذوق الفنون التشكيلية والتمييز بين الغث والسمين ووضع العناصر المرسومة داخل المساحة بما يتفق مع قوانين الجمال . واستقدام الفراجين وخلط الألوان الزيتية والمائية كخامات ` تقول` حين يبدع بها موضوعاته .
- يتصور غير العارفين أن هذه الخبرات والمدركات لاتستلزم مثل تلك الدراسة الطويلة إلا أن الخامات الإبداعية على علاقة وثيقة بالعمل الفنى . وهذا هو السبب فى فشل الفنانين الذين حاولوا توظيف خامات غير تصويرية إبداع لوحات تصويرية .
- يقول ج : برتيليمى فى مؤلفه ` بحث فى علم الجمال `.
- تدهورت فنون الفسيفساء وأبسطة الحائط المزركشة مابين القرنين الـ 14 , 18، لأنها نسيت أن شكلا معينا لا يمكن إبداعه إلا بخامة معينة ظنت تلك الفنون أنها تستطيع منافسة فن الرسم التصويرى، فاتضح أنه إذا حاول فن أن يخضع خامته الخاصة لشكل يتعلق بفن آخر .. تدهور وفسد ..` هكذا كان القرن إلى 18 نكبة كبرى على فن السجاد الحائطى المزخرف . بل إنه مات تماما حين أراد أن ينقل فن الرسم التصويرى على البساط الحائطى ` وبالقياس .. يمكننا أن نعلل الفشل الذريع الذى يتردى فيه ` فن الباتيك`، لأنه يحاول بدوره أن يكرر مأساة السجاد الحائطى، بفن ينافس الرسم التصويرى ويلوى ذراع خامات ` الباتيك` التى لاتصلح إلا لزخرفة القماش كما كان الحال عند اكتشافها فى القرن السادس عشر فى` جزيرة بالى` باندونيسيا حين أمر الملك شيخ فنانى القصر أن يصنع لعروسه قماشا جميلا لم تلبس مثله فتاة من قبل .. فكانت طريقة الباتيك فى زخرفة المنسوجات .. عرف فاروق وهبة مناسبة مادة الألوان الزيتية للرسم التصويرى. استطاع أن يبدع بها لوحات يصل بعضها إلى درجة الروائع لم يستخدم ألوان البلاستيك .. والرمال الناعمة والجص .. والمسامير .. أو الأدوات المستحدثة كالسكاكين المنوعة وأسطوانات المطاط ورشاشات الألوان` سبراى`. قصاراه أن يبدع بعض لوحاته على نسيج سميك الخيوط - كالخيش - ليمنحه نوعا من الملامس يحتاج إليها التعبير . يتبع فى إبداعه أسلوب` الأسقاط الفورى`على طريقة كبار الفنانين التعبيريين من الأدباء والشعراء والموسيقيين لاتكاد الأفكار تتلاعب فى مخيلته ..حتى يسرع إلى قماشه وألوانه وفراجينه العريضة دون سابق تصميم وتخطيط يفكر بالألوان والفراجين.. كما يفكر الموسيقى بالآلات والألحان ..والشاعر بالكلمات والأوزان .. والنحات بالخشب أو الرخام نعود مرة أخرى إلى برتيليمى .لنقتبس قوله : يرجع جفاف وبرود الأعمال الفنية الرديئة إلى أنها نفذت بتصميم مسبق كما يحدث عند تركيب إنسان آلى . أما الحرارة والحركة والحيوية التى نحسها فى أعمال الفنانين الحقيقيين. فمرجعها إلى أن تلك الأعمال ولدت من نقطة حية . . أخذت تمتص المادة تدريجيا .. وتبنى جسدها .. وهذا هو السر فى الحيوية التى نستشعرها فى لوحات فاروق وهبة بالرغم مما يلفها من صمت وسكون يخلعان عليها جوا من الرهبة .. ويمنحان تشكيلاته وشخصياته قوة وعزما وتصميما .
- .. بعد أن يشكل فناننا موضوعه ` عفو الخاطر` بفرشاته العريضة، يشرع يشرع فى وضع التفاصيل مستخدما فرشاة أكثر دقة لكنها لاتشغل المتذوق عن تلقى التعبير العام للصورة .. والإنصات إلى حديثها .. الذى يقترب من الهمهمة والدمامة، لكنه فى غموض عناصره واندغام ألوانه وتداخلها، يضفى علينا إحساسا دراميا يعكس المأساة اللامعقولة التى تعيشها شعوب العالم الثالث .
- لاينبغى لأحد أن يبحث عن الوشائج التى تربط إبداع فناننا بتراثنا الفنى الكلاسيكى من حيث الشكل ، كدليل على الأصالة فنحن نعلم أن بعض فنانينا يتعمدون إظهار تلك الروابط الشكلية من أجل` التسويق السياحى`. وفناننا يرى - ونرى معه - أن كل الأساليب العالمية والتاريخية، إنما هى تراث الفنان المعاصر يستمد منها أبجديات إبداعه، والنكهة المحلية ليست فى شكل العمل الفنى، بل فى ` المضمون` وفى ` اللغة ` التى يخاطب بها المتلقى الفرنسى: ماتيس ( 1869 / 1954 ) حين استعار التسطيح والزخرفة من الفن الإسلامى لم يصبح عربيا فى أشكاله وموضوعاته. كذلك السويسرى : بول كلى ` 1879 - 1940 ` حين استلهم الحروف العربية والرموز السحرية. والمجرى فيكتور فازارلى` المولود 1908 ` الذى طور الحسابات الرياضية للزخارف الإسلامية وظل أوروبيا لحما ودما .
- بعد أن يتحلى الإنسان الفرد بـ ` الموهبة الفنية ` .. ينبغى أن تتوفر له عوامل خاصة حتى يتحول إلى فنان فالممارسة الإبداعية المتصلة المتنوعة .. هى التى تشكل أسلوبه . أما تجارب الحياة الشخصية .. بما فيها التعلم والقراءات والمعارف والرحلات والأعمال التى يقوم بها، فتكسبه وجهة النظر الفلسفية وتشحن إبداعه بالـ `مضمون ` الذى قد يرقى إلى مستوى الإسهام الثقافى فى حركة التاريخ . هكذا كان الموسيقار سيد درويش` 1891 / 1923 ` .. والأديب الفرنسى فولتير ` 1694 - 1778 ` .. والرسام الألمانى : ماكس بيكمان ` 1884 - 1950 ` الذى لعب إبداعه دورا فى زعزعة عرش النازية .
- .. السنوات الست التى قضاها فاروق وهبة مجندا ومحاربا فى القوات المسلحة ` 1968 - 1974 ` كانت أعظم تجارب حياته كان مدافعا فى الدفرسوار أيام الثغرة وشاهد بعينى رأسه كيف ترخص الحياة حتى لاتساوى قلامة ظفر فى سبيل الأهداف العظمى . مهما سمعنا من قصص الحرب قرأنا الروايات والأخبار وشاهدنا أفلام السينما والمسلسلات التليفزيونية كل هذا لا يدانى فى تأثيره.. مايخص به المقاتل فى أرض المعركة .. حين تمطر السماء بمئات القنابل ليفتح عينيه على دمار وخراب .. وأشلاء وفزع وأنين وجحيم .. وقنبلة من جهنم وقودها الناس والحجارة .. ومباهج الحياة .. وأحلام الرفاق الذين راحوا فى غمضة عين . تبلورت فلسفة فاروق فى تلك الأيام .تبلورت ` قضايا الإنسان` وخلعت إبداعه جوا من الجدية .. والزهد .. والرغبة الصادقة فى أن يقول للناس شيئا هاما .. يعبر به عن نفسه كفرد فى الجماعة الإنسانية فى زمان ومكان معينين .من هنا كانت ` الأصالة ` تعبيرا جديدا يعكس صورة العصر . موقفا من الحياة . وجهة نظر فى ` إطار معاصر` . فالمعاصرة ليست ` آخر موضة `. تشكيلية أوروبية أو أمريكية بل تعبير عن ` العصر` .. و` شهادة للتاريخ ` هكذا كان الأسبانى : بيكاسو فى رائعته ` جيرنيكا ` .
- الدراسات الذاتية التى يلزم بها فناننا نفسه هى التى ساعدته على تعميق المضامين الإنسانية التى يودعها إبداعه، فقد ضرب بسهم فى ميادين الفلسفة والتاريخ وعلم النفس وعلم الجمال مما أسفر عن رسالة الماجستير التى ناقشها سنة 1976 بعنوان ظاهرة الإغتراب فى فن التصوير المعاصر .. وهو نموذج نادر بين ركام الرسائل التى تحفل بها مكتبات كلياتنا الفنية الثلاث .
-الشكل الإنسانى فى لوحات فاروق ليس صورة بشرية إنه ممسوح المعالم بسيط التركيب كأنه درجة بين الروح والجسد . هذا التناول التعبيرى نابع من نظرة الفنان لإنسان العصر على أنه مجرد رقم .. أو وحدة آلية فى جهاز ضخم اسمه الجنس البشرى . لاسمات شخصية للفرد بعد أن ابتلعت الآلة معالمه . هذه هى المأساة التى يدور حولها إبداع الفنان . كل عناصره التشكيلية تتضافر من أجل ` تجسيد ` هذا المعنى . من هنا كانت واقعيته فى
` المضمون` أكثر منها فى ` الشكل` .. فهو لم يكن قد تحول إلى` التجريد` مع أنه فى لوحاته. يزداد اهتمامه بالتشكيل الجمالى، وتبتعد أشكاله الإنسانية أكثر فأكثر عن الصورة البشرية وتبدو كأنها صفائح معدنية ،مزيج غريب بين الواقع واللاوقع لكن .. مهما أوغل فاروق فى معميات التجريد والانفصال عن ` التشبيهية ` فى إبداعه نستطيع دائما أن نتبين الدرس الذى تعلمه من تجربة الحرب المريرة وهو أنه - حتى فى السلم - مهما عظمت حياة الفرد .. قد تزول فى لحظة .. ثم تمضى الأيام كأن شيئا لم يكن .
-.. هذا القلق .. والتوجس .. والارتياب .. والحزن الدفين .. والكآبة ورثاء الذات قبل الأوان .. والبحث اليائس عن مخرج دون جدوى تلك هى المعانى التى نستشعرها بعد قليل من التأمل .. والمعايشة للوحات الفنان بألوانها وملامسها وخطوطها . . وأشكال عناصرها الإنسانية التى تتضافر فى علاقات منسجمة متكاملة لترسى فى نفس المتلقى احساسا بأنه يحيا مرة واحدة ينبغى له أن يحياها دون انتظار لغد أفضل .. وأن عليه أن يجعل منها نقطة مضيئة على طريق هذا الغد المنتظر.
بقلم : د./ مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى )
|