شاكر بهى الدين المعداوى
رحيل شاكر المعداوى ( 1944م - 2011م ) جنيناً فى رحم المكان : بين سحر الطبيعة وغواية الجسد
-عندما نتطرق إلى آليات الخلق الكونية، لا يستطيع أحد من الفلاسفة أو المناطقة أوعلماء الجمال أن يغض الطرف عن الإنسان كتاج على رأس الحياة، حيث خلقه الله من صلصال، ثم نفخ فيه من روحه، ليكرمه بخلق الأشياء كلها من أجله، وتسخير كل مقومات العيش لاستمرار حياته، قبل أن يكلفه بتدوير رحى البقاء كأمانة لم يقبل سواه بحملها، لذا فعند تناولنا للمشهد البصرى والروحى يكون من غير البديهى الغوص فى أعماقه دون الاهتداء بتلك الطاقة البشرية على المستويين النفسى والجسدى، حتى وإن غادر الكيان الآدمى الصورة، لأننا نجده فى كل الأحوال ماثلاً ببصمته الغائرة على المفردات المرئية.. وهذا البناء المتعاشق بين الإنسان وعناصر الطبيعة هو ما يشكل عمود الارتكاز الذى تتمحور حوله فلسفة الوجود وعجلة الصيرورة بقطرها الواصل بين نقطتى الميلاد والموت.. ولا يخرج المبدعون عن هذا المحيط النابض عند أكثر لحظات الإلهام توهجاً، محكومين بمثلث من الزمان والمكان والعقيدة كسياج يمر منه طائر الخيال فى فضاء المشهد ليصطاد منه ما تيسر من الصور، وأعتقد أن هذا التوازن الفكرى هو ما يغزل بخصوصية وتفرد شديدين سجادة الهوية بنسيجها المتين ووبرها الكثيف.. وهناك نماذج من المبدعين تستسلم بوعى لتلك المعطيات الحتمية التى تثرى أوصال الصورة عبر القناة الواصلة بين الذاتيين الفردية والجمعية، مثل الفنان الكبير شاكر المعداوى ( 1944م - 2011م ) الذى رحل عن عالمنا مؤخراً بعد أن ترك لنا تراثاً تصويرياً ثرياً بين مائى وزيتى وإفريسكى، أنجزه بتركيز واقتدار منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1967م، وحتى وفاته مع مطالع هذا الشهر، مروراً بعمله فى هيئة قصور الثقافة، ثم التحاقه بالتدريس فى كلية التربية النوعية بكفر الشيخ كأستاذ لمادة التصوير، وخلال هذه الفترة التى تتجاوز الأربعة عقود، ألقى شاكر بنفسه بين ذراعى بلدته الصغيرة `معدية مهدى ` إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، فصارت بالنسبة له معيناً غنياً بكل عناصرها البصرية والروحية الحاملة للكثير من التراكمات الزمنية الكامنة بين فضائها وتربتها.. فإذا دققنا فى أعمال الفنان سنجد أنه قد تفاعل مع يوميات المكان على الصعيدين الظاهر والباطن، حيث يتمثل الأول فى المتعينات المحسوسة وتركيبتها الخاضعة لقانون الطبيعة المرئية أما الثانى فتتجلى فيه قدراته على إعادة صياغة مفردات المشهد اليومى بآلية تأويلية تزيد حرية التلقى، وعلى هذين المحورين يوظف شاكر ألوانه الزيتية والمائية فى وشم تكويناته على ألواحه النسجية والورقية،علاوة على تصويره الإفريسكية التى درسها فى إيطاليا.. وسنحاول هنا التركيز على مائياته التى ميزته بين أقرانه، بعد أن استثمر طبيعتها السيالة المتدفقة على السطح بحرفية بالغة جعلته واحداً من ألمع فرسانها فى تاريخ الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة، حيث استطاع عبر هذا الوسيط الشفاف أن يغازل فتنة المكان من الطبقة الخارجية، ثم يمرق من تلك القشرة لسبر أغوار النفس من خلال تكوينات وبناءات منصهرة مع سياقها البيئى، وهنا سنلحظ أن المعداوى يقترب فى بعض تعاملاته مع المكان المرئى من أسطوات الألوان المائية حبيب جورجى وشفيق رزق وبخيت فراج ومحمد طراوى، بينما يشترك مع عدلى رزق الله فى تجاوز مرئيات المكان، باعتبارهما فى رأيى من أحدثا ثورة فى تطويع تلك الخامة صعبة المراس لصالح مشهد مغاير للمنظر الطبيعى السائد فى تناولاتها منذ أجيالها الأولى .. وفى هذا المقام ترتكز الصورة عند شاكر على محورين ، هما الطبيعة بمعمارها الإلهى والإنسانى ، إضافة للجسد البشرى وعلاقته بالكائنات الأخرى، وهما ما يخوض بهما الفنان مغامراته على السطح الورقى لتشييد تكويناته بشفافية وطراوة كبيرتين.. ولا يستطيع أحد أن يغفل الدور الحيوى للمكان فى إثراء الصياغة النهائية للمشهد التصويرى، حيث يبدو المعداوى شديد التأثر بمعطيات موطنه الريفى فى `معدية مهدى ` كمنهل بصرى وروحى زراعى الطابع يغترف منه ليسقى تكويناته الخصبة.. فعلى المحور المرئى تظهر علاقة الفنان بعمارة البلدة من بيوت وقباب ومآذن ومقابر، علاوة على الشرايين المائية من ترع وجداول وشعيرات نيلية، إضافة إلى الحلى الخضراء من أشجار ونخيل وأبسطه حقلية ، وهو ما يشكل تلك العباءة المدثرة للفنان، كى يظل دائماً عند درجة حرارة فنية مناسبة لنسج خيوط الشرنقة التى يمارس بداخلها عمليات التحول الإبداعى عبر الأطوار المختلفة.. فعلى صعيد الصلة الظاهرة بين شاكر وبيئته، نجده يفترش تلك المساحة بين عينه ومرئياته الصامتة داخل القرية، فى ظل غياب كلى للجسد البشرى والكائنات الحية الأخرى، مستسلماً لتراكيب المشهد الفيزيقى الجاهز، حيث نراه يستخدم العمارة كدعامة أساسية للتكوين الذى يتألف من البيوت والقباب وأحياناً المقابر، بما يشير فى مجمله إلى ميراث فكرى مصرى متواتر .. والفنان هنا يعتمد على تأثيرية الأداء واللمسة المباغتة، فى ابتعاد نسبى عن النزعة التنميقية التى تسلب المشهد بعض بكارته، معتمداً على ركيزة معمارية يشرع غالباً فى كسائها بالثوب الأخضر من أشجار ونخيل يسود تلك المنطقة، وذلك بلمسات تصويرية تفجيرية تستقى روح المرئى دون الوقوع فى فخ التفاصيل الدقيقة التى تدفع الصورة إلى حالة من التيبس، حيث يعتبر المعداوى علامة بارزة فى فن المنظر المائى، عبر حرصه على حيوية المسطح التصويرى بين الإنطلاق المحسوب والجموح المرغوب.. ولاشك أن هذه الحكمة فى توظيف سيولة الخامة قد وصلت به إلى منطقة سخية من الإختزال والتكثيف فى اقتناص ملامح المنظر، سيما العنصر الأخضر كالشجرة والنخلة اللتين يجسدهما بأقل مسحات للفرشاة على جسم الورق، وفى هذا الإطار نجده يرتحل تبعاً لخصوصية الخامة من الفواتح إلى الغوامق ، علاوة على الأبيض الرافد من لحم الورق الخام قبل احتضانه للون، بما يؤكد البعد الثالث للمنظر .. ولا يتكىء شاكر على الطبقية اللونية فقط لإبراز عمق الصورة، بل يعتمد أيضاً على تنوع ثخانات الكتل والخطوط المتمثلة فى البنايات وما فوقها من أسلاك وأجهزة استقبال فضائى إكتسحت الريف مؤخراً، علاوة على الأشجار بفروعها مختلفة الأحجام والأطوال، بين مكتسيات بالأوراق وعاريات، والنخيل بارتفاعاته المتباينة وزعفه المترامى المجدول كشعور الأفريقيات، حيث يوظف الفنان كل هذا الثراء البصرى داخل التكوين عبر تعاشقات أفقية ورأسية متماسكة، تتدرج معها العين من أسفل إلى أعلى والعكس.. ورغم بساطة مفردات منظر المعداوى، إلا أنه استطاع أن ينسج منها بناءاً متيناً مغلفاً بلمسات سيالة خاطفة تشى بالسمت الفريد للخامة التى ينشىء من خلالها تكويناً شفافاً متوحداً مع الفنان نفسه.. ففى بعض المناظر نجده ينسج السماء الصافية من خام الورق غير الممسوس باللون، وهو ما يحدث أيضاً فى بعض مواضع تكويناته التى يترك بداخلها تلك الخيوط البيضاء البكر كنوع من الإيقاع الخطى داخل ثنايا المشهد الذى يكشف عن ملكات شاكر المعداوى فى المواءمة بين الصنعة والإبداع .. بين الحرفة والدهشة، ليظل كامناً فى رحم المكان، ملتحماً مع مفرداته، شارباً من خصوبته البصرية المغلفة بروافد وجدانية مقبلة من بطن الماضى نحو صدر الواقع.
وإذا كان الإشتباك مع معطيات المكان الظاهر يحتاج إلى حالة من التأمل والخشوع الروحى ، فضلاً عن السيطرة على الحراك الذهنى ، فإن استكناه القدر الأكبر من ملامحه يستوجب رغبة جامحة فى الإنصهار مع جل ثوابته ومتغيراته ، عندما يتحول المكان كما أشرت سالفاً إلى حضانة بصرية وروحية ووجدانية تأوى الفنان كجنين داخل الرحم ، وهو ما يساهم بشكل كبير فى صياغة الصورة النهائية للمشهد التصويرى .. وقد تطرقنا بإسهاب إلى الجانب المكانى الظاهر لدى شاكر ، بمفرداته الماثلة داخل الحيز الفيزيقى ، ليقف التكوين عند حدود المنظر المطرز بقوانين الطبيعة ، أما العامل المكانى الباطن عنده فيشكل ذلك الجزء الأهم فى تجربته مع الألوان المائية ، حيث يمرق عبر جلد المكان إلى دهاليز الجسد برغباته المكبوتة وصراعاته النفسية الملتهبة ، علاوة على نزوعه إلى الانسحاب أحياناً ، وحتمية التمرد فى أحيان أخرى ، الأمر الذى يؤدى إلى الرحيل فى بيداء العطش البدنى عدواً نحو بئر الارتواء ، فى ترددية لحظية بين ميراث الكتمان والتوق إلى البوح .. بين نزق الجسد وطهر الروح .. بين نيران الإشتهاء ونور النفس ، لذا نجد المعداوى غالباً ما يجنح إلى غزل شرنقته الإبداعية من خيوط المكان المجدولة من حرير الذاتين الفردية والجمعية ، وهو ما يرسخ لذلك الذوبان بين روحه وفضائه البيئى المحيط .. وهنا يتحول الصمت إلى أوركسترا صوتية تجمع بين الهمس والصراخ .. بين الحفيف والصياح ، حيث يبرز على سطح المشهد مفردات جديدة ، مثل البقرة والثور والديك والكتكوت والسمكة والحصان والقط والعصفور ، فضلاً عن الأنثى البشرية كمحور ارتكاز دائم فى أعمال الفنان ، والتى تتأرجح بين كاسية وعارية .. بين خجولة وشبقه ، ثم نجده يدفع ببعض المدخلات الجمادية الملائمة لحالة الفوران الذاتى ، مثل الناى والعود والرق والزير والشيشة وقفص الدجاج وموقد الكيروسين ووابور الجاز والبلاص والقلة ، بما يسمح له بتباديل وتوافيق رمزية تستنطق صوت اللاشعور داخل العمل .. ورغم سيلان خامة الألوان المائية على السطح الورقى ، بما يعرقل السيطرة الكلية عليها ، إلا أن شاكر يستطيع دائماً بحرفية وتمكن تقنى مكتسب أن يدمج كل تلك المفردات الحية والجامدة فى تكوينات تعاشقية تتسم بمتانة البناء وشفافية الملمس ونفاذية الرؤية معاً ، فى قفز واضح فوق أسوار المتعينات المرئية التى سيطرت عليه عند تناوله للمنظر الطبيعى ، وهو ما ساعده على الجمع كما أسلفنا بين المتنافرات المادية من الشفافية والمتانة .. الرقرقة والرصانة .. الانسكاب والتماسك ، بقدرة واضحة على استكناه بواطن المشهد .
والمعداوى يحاول دائماً بناء تكوين أرابيسكى النسيج يسيطر على العين بشكل تصاعدى ، محركاً إياها من الكلى إلى الجزئى والعكس ، حتى أن الصورة عنده تبدو فى بعض الأحيان كقطعة من الزجاج المعشق يربض هو خلفها ليستشف ذلك الضياء الذاتى المنبعث من شخوصه وكائناته الذائبة فى جسد المكان .. وفى هذا السياق ينزع شاكر إلى تقمص ملامح مفرداته الحية أحياناً ، والانسلاخ منها أحياناً أخرى وقتما يلعب دوره التصويرى على الصعيدين الحسى والحدسى ، حيث يمكن لنا أن نتلمسه مختبئاً وراء أحد عناصره ، فى حين يحرك بقيتها داخل الصورة ، فالمدقق المتأمل قد يتحسس الفحولة الذاتية للفنان فى حضور الديك والثور والحصان وهم مقترنون بجسد الأنثى الناطق بأنين الرغبة والفواح برائحة الغواية ، ثم تشعر بنفس الذات كامنة داخل الزير الرشح الممتلئ بالماء وقد أقبلت نحوه امرأة مطوقة بمسامير الظمأ الجسدى ، فى منطقة رمزية فاصلة بين ظهر الواقع وباطنه .. وفى تكوينات أخرى تتوهج بها الرغبة الذاتية ، نجد الفنان هو نفسه الديك والحصان اللذين تمتطى ظهرهما الأنثى المندفعة صوب اللهب ، والتى ترقد أيضاً فوق قفص من الديوك فى انتظار الديك الصائح بدافعية ذكورية .. وأعتقد هنا أن المعداوى يتحرك على المسطح الورقى تحت سيطرة داخلية من ينابيع اللذة الجسدية التى تخصب أرض الصورة ؛ فيحدث ذلك التنامى الفطرى فى جسم التكوين .. وعند هذا المنعطف الأدائى نجد السلوك الإبداعى للفنان فى حالة امتزاج كلى بين النوازع الوجدانية والفسيولوجية والمؤثرات الخارجية ، وهو ما يتجسد فى الحراك البندولى بين المتعة الحسية ومعطيات الواقع داخل حيز الشخصية أثناء عملية الخلق .. وهذا البحث عن التوافقية التعبيرية الذاتية هو ما يدفع شاكر إلى فعل التفريغ والبوح الجسدى عبر مفرداته البيئية الكائنة داخل سياج بصرى يساعده على الأداء بسهولة ويسر ، علاوة على طبيعة الخامة السيالة التى تتفق منهجياً مع أسلوبه فى التدفق النفسى على الورق ؛ فيحدث ذلك الإلتحام بين الجانبين الذاتى والتقنى على المسرح التعبيرى الناطق بهوية الفنان النابعة من خصوصية المكان .
وغالباً لا يتحقق انسجام المنتج البصرى دون شخصية حيوية البنية تنتقل من الهى ( id ) إلى الأنا ( ego ) إلى الأنا العليا ( super ego ) ، وهو الانتقال التدريجى من اللذة الطفولية الغرائزية إلى الاشتباك مع الواقع الخارجى على جسر الوعى ، حيث تضطلع الأنا بالدفاع عن الشخصية وتوفيقها مع البيئة لخفض توتراتها وإبراز ملكاتها ، وذلك بدفعها إلى التعبير وجدولة الدوافع تبعاً لمستوى الطموح ، وفى هذا الصدد قد تتصارع الأنا العليا مع الأنا ، وقد تتحالف معها لمنازلة الغرائز .. فإذا تأملنا أعمال شاكر المعداوى عبر هذا المفهوم ، سنجده يدخل العمل من نافذة غريزية يرتمى بعدها فى أحضان الورق ، ثم يبدأ فى الحوار البصرى مع مفردات الواقع المرئى ، لإدراك التوازن النفسى والإبداعى من خلال ترشيد الإلحاح الجسدى ، وأظن أن ما يساعده على الوصول لتك التعادلية هو قدرته على التكور الجنينى داخل الذات ، علاوة على الكمون لفترة طويلة داخل رحم المكان بمفرداته المألوفة التى يجيد الدخول فيها والتوحد معها ، ثم مغادرتها إلى نقطة المروق ثانية ، وقد يفسر هذا إجادة شاكر لرسوم الأطفال المضفرة مع موهبته فى الحكى والإسترسال الخيالى الشفاف بإزاحة متدرجة من من الهى إلى الأنا المدعومة بالأنا العليا ، لذا فهو قادر أيضاً على الإمساك بحلم اليقظة عند منتصف المسافة بين الوعى الكامل والإغراق فى الغيبوبة ، بما يؤهله لصناعة صورته على الصراط الفاصل بين الحقيقة والخيال .. بين صدر المرئى وباطنه .. ولاشك هنا أن السيولة الفياضة للخامة وقدرتها على التشرب السريع تساهم بدور محورى فى الإلتقاط العفوى للمشهد من صندوق اللاوعى ، ودفعه مباشرة إلى السطح الورقى دون السقوط فى فخ التفاصيل ، حيث انعدام فرصة محو اللمسة الأولى ، وتبعاً لهذا نجد الفنان يوظف خام الورق الأبيض أحياناً لشد خيمة منيرة بيضاء حول الأشكال التى يطرز حوافها فى أغلب الأعمال بنفس البياض الذى يتخذ هيئة خطية منيرة تكسب العمل نغماً موسيقياً بصرياً ، فتارة نجد فلاحاته مكسيات بلباسهن الريفى التقليدى وهن يحملن الجرار فى سير إيقاعى متواتر ، ثم فجأة يظهرن عرايا وهن يعزفن على الناى والعود ، وينقرن الدف فى حضرة صياح الديك ومواء القط وصهيل الحصان ، وعلى جانب آخر نجدهن يرافقن مجموعة من الأسماك بين حمل واحتضان وتعاشق زخرفى ، وعند أقصى حدود الاشتعال الجسدى ترى أنثى المعداوى تتلوى بين فعلى الشروع والمقاربة الجنسية مع ضروب من الفحولة تتبادل الحضور داخل المشهد عبر ارتحال بين صور الديك والحصان والثور ، فى وجود الزير والزلعة كأوعية مشتركة ترمز إلى الإستعار الشبقى المستتر .. وهنا يشارك الوسيط المائى فى صياغة الصورة الحالمة الهلامية التى يسيطر عليها الفنان من برج الوعى ، ناسجاً منها تكويناً متماسكاً رصيناً مثل قارورة شفافة مملوءة بماء رائق تسبح فيه مفردات الحلم الملون .. وفى عودة إلى ساحة الواقع يطوع الفنان عناصر أخرى مألوفة داخل آلية اليومى ، لصالح رمزية غريزية ترتحل بين الهى والأنا ، مثل الشيشة ووابور الجاز ، حيث اقترن وهج الأولى بلهيب الفحولة المتمثل فى الثور الذى ينفث دخانها ، بينما لازم وقود الثانى صهد الأنثى ، حيث يوجد تارة تحت السرير الذى اضطجعت عليه ، وتارة أخرى بين ذراعيها وجسمها الممطوط ، وفى بعض الأحيان يبدو موقد الكيروسين وقد أشع نوراً وناراً بتوازن بين حاجات الروح والجسد .. ورغم أن مفردات المعداوى شديدة الألفة مع العين ، إلا أنه استطاع ببراعة إعادة هيكلتها لخلق معمار متجدد مع كل تكوين ، جامعاً بخبرته بين الحى والجامد .. بين الساكن والمتحرك ، لبث النبض الإنسانى فى أوصال المشهد .
فإذا اجتررنا فكرياً تصاوير شاكر المعداوى الزيتية والإفريسكية والمائية ، بتركيز على الأخيرة كما أسهبنا فى التحليل ، سنجد أنها جميعاً تعتمد على المرئيات المتعينة المحسوسة التى تشكل جسراً بين الفنان وسياقه الجمعى ، حيث يوظفها كخيوط نسيجية يغزل بها نوعين من الصورة ، الأولى ترتكن إلى معطيات المنظر الجاهز بوعى حرفى يراوغ مصيدة التفاصيل ، أما النوع الثانى فهو الذى يحتاج للقدر الأعظم من الطاقتين الروحية والذهنية لمقابلة البناء النفسى الباطنى المركب ، وهو ما يؤدى إلى ذلك النص البصرى التعبيرى المعقد ظاهرياً رغم صعوبة ترويض الخامة المائية السيالة .. واللافت هنا هو أن شاكر يتميز بالأداء السهل والقدرة على البوح الفياض ، لذا فإننى أعتقد أن هذه الحركة الترددية بين الظاهر والباطن فى جسد الطبيعة يمكن إرجاعها إلى معمار شخصية المعداوى نفسه التى ترتكز على حراك ثلاثى متتابع ، حيث الصعود من الطفولة إلى الصبا ، ثم الاستواء المتسم بالخبرة والنضج ، ثم الانحدار المتجسد فى انقباض العاطفة، مع الحفاظ على الرباط الإجتماعى المحيط بالفنان الذى يصيغ المنظر عبر رصيد حرفى مكتسب ونشاط ذهنى فاعل ، بما يوقفه عند مشارف القشرة البصرية،عكس اللقطات التعبيرية التى تتمايل جيئة وذهاباً بين وتدى الاستواء والانحدار، حيث الانكماش العاطفى الذى يسمح للنفس بالاجترار الطفولى والإنكباب الجنسى على السطح التصويرى من خلال وصال إجتماعى شديد الخصوصية، بما يعظم من دور المكان كحضانة بصرية وروحية جعلت الفنان يجول بين سحر الطبيعة ومفرداتها الآسرة، وبين غواية الجسد ورغباته النزقة، على مسطحات نسيجية وإفريسكية يوشم عليها ختم الزمن بالعجائن اللونية، وأخرى ورقية يمرح فوقها الماء كوسيط رقراق يفضح جموح البدن وتوهجات الروح .. ولم يكن الفنان الكبير شاكر المعداوى إلا سباحاً فى بحيرة خاماته المتنوعة المفعمة بطاقة الإبداع الذاتى، مشاركاً إياها بكمونه الجنينى فى رحم المكان الذى اختار أن يدفن فيه أيضاً عقب رحيله الجسدى، بعد أن ظل طوال مشواره الفنى يقتات عبر حبل سرى على روافده الملهمه التى كان يأتنس بها فى لحظات الوعى ، ويغوص معها إلى أبيار اللاوعى، كى يسبر أغوار النفس ويشيد فيها عالمه المسحور من طين ونار ونور .
محمد كمال
دراستى بجريدة نهضة مصر - صفحة فنون جميلة - الخميس 15-9-2011
رحل شاكر ابن معدية مهدى فى هدوء
- رحل شاكر المعداوى الفنان الذى تمسك بجذوره وأصوله، وأبى أن يترك معدية المهدى - إحدى قرى كفر الشيخ مسقط رأسه وقريته التى نشأ بها رغم تجواله خارج مصر دارسا وعارضا لإبداعاته، حتى فى مصر لم تبهره أضواء المدينة القاهرة كمركز إشعاع ثقافى وفنى أو الإسكندرية التى درس بها فى كلية الفنون الجميلة بعد أن انتقلت الأسرة إليها من أجله لينهى بها المرحلة الثانوية الزخرفية بتفوق أهله للالتحاق بكلية الفنون الجميلة ليتخرج فيها عام 1967 وينال خلالها إعجاب أساتذته : كامل مصطفى وحامد عويس وسعيد العدوى ومصطفى عبد المعطى وفاطمة العرارجى، ترك الإسكندرية أيضا وهى المدينة التى تنافس القاهرة كمركز إشعاع فى الفن والثقافة، تركها من أجل عشقه للقرية وتمسكه بالأرض كريفى وفلاح أصيل اتخذ من بلدته وموطنه منهلا عاشه وعايشه بأحلام الطفولة وعشق الصبا وذكريات مجترة على مسطحات أعماله التى أثراها من هذا العشق الذى قلما ينتهجه أحد فقد أصر أن تكون قريته المقر والسكن، يعيد صياغة مفرداتها المحيطة به بل والمغموسة فى وجدانه بعاداتها وتقاليدها وحكاياتها وأساطيرها وكذلك بعمارتها وبيوتها المتميزة وناسها الطيبين البسطاء، يعيد صياغتها فى مشاهد بصرية ذات صياغة روحية حيوية، ينطلق بحسابات تكويناته المحكمة البناء.
- تعامل المعداوى بتلقائية وعفوية مع مفرداته، كما تعامل أيضا مع أدواته وخاماته الزيتية والمائية حيث وظفها بوعى وتمكن ليترجم من خلالها أفكاره ورؤاه.
- يمتلك ناصية الحلم والواقع فى خليط متجانس حمل حنكة الصنعة وملكة الإبداع ليخلق عالما خاصا بل شديد الخصوصية يشار إليه، لا تخطئه العين، عالم من الفنتازيا الشكلية واللونية ليختار مفرداته وعناصره من أساطير القرية ومشاهدها الطبيعية والتى صاغ من خلالها تشكيلاته المتداخلة المترابطة لتخرج أعماله غنائيات بصرية حلق بها فى آفاق تعبيرية جديدة محملة بمسحة من السريالية .
- عالم المعداوى له مذاق خاص وسحر ممتد، تتداخل عناصره وتنساب فى سباق شفافية ألوانه المائية التى أجاد التعبير بها بأسلوب غير مسبوق وهى الألوان البسيطة فى تركيبها العصبية فى استخدامها، برع فيها فناننا الراحل بأداء متمكن يضعه فى مصاف من اقترنت أسماؤهم بها .
- أعماله حواديت مصرية تميل إلى الجانب الزخرفى الذى درسه فى المدرسة الثانوية الزخرفية عمد فيه إلى استخدام أسلوب السلويت الملون البعيد عن التجسيم المباشر، عوالمه خليط بين الواقع والأسطورة صاغها فى بساطة وعمق: المرأة والديك والحصان والقطة والسمكة والنخلة وكذلك المفردات الشعبية المحيطة، الأسرة الريفية التى احتفى بها فى العديد من أعماله محاطة بها كل عناصر البيت الريفى البسيط والتى ربط فيها بين عناصر الطبيعة الحية والطبيعة الساكنة تتداخل عناصره فى مشاهد سردية احتفالية تموج بالحركة والحيوية المتدفقة داخل تقسيماته المتوالية أفقيا ورأسيا أو داخل طبقات.ألوانه المتعددة المتراكبة أحيانا والمسطحة أحيانا أخرى فى مساحات بعضها تشبع باللون وأخرى هجرها اللون لتظل على لون المسطح الأبيض وبينهما تعدد الأداء. أعماله تمثل معدية مهدى بنيلها ونخليها وأساطيرها وعاداتها وتقاليدها تختلط فيها لمسات فرشاته المنسابة بين البرودة والسخونة تكتظ بدينامية عناصره التى تجتذب وجدان المتلقى باحثا فى أغوارها محاولا اكتشافها وكشف أسرارها.
- ولد شاكر المعداوى عام 1944 وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1967 ودرس فى إيطاليا على نفقته الخاصة على يد الفنان العالمى `فرانكو` وحصل على الدبلوم العالى لأكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1978 وعين عام 1998 مدرسا للتصوير والرسم بكلية التربية النوعية بكفر الشيخ وأقام أكثر من 20 معرضا خاصا فى مصر وإيطاليا ولبنان وشارك فى أكثر من 40 من المعارض الجماعية فى مصر ولبنان والنمسا ورومانيا وإسبانيا وإيطاليا والهند، له اهتمامت خاصة بالتأليف ورسوم الأطفال وقد نشرت له مجموعة من الكتب فى دار المعارف والأهرام والهيئة العامة للكتاب وشارك فى عدد من معارض رسوم كتب الأطفال الدولية فى بولونيا بإيطاليا وبراتسلافيا بتشيكوسلوفاكيا وحصل على جائزة أحسن غلاف كتاب من المركز القومى لثقافة الطفل وله اهتمامات خاصة بالنسجيات المرسمة.
د. محمد الناصر
نصف الدنيا - 7 /10 /2011
أتيلييه جدة يحتفى بالتشكيلى الراحل شاكر المعداوى
- يحتفى أتيليه جدة للفنون بأعمال التشكيلى المصرى الراحل شاكر المعداوى فى معرض بعنوان `المكان` الذى يستهل به نشاطه الفنى فى الموسم الجديد يوم الاثنين 3 أكتوبرالمقبل، بعرض عدد من لوحات المعداوى الموجودة فى الأتيلية ضمن المعرض الذى يرتكز على الحيز المكانى فى لوحات الفنانين طه الصبان وعبد الله حماس وفهد الحجيلان.
- وقال هشام قنديل مدير أتيليه جدة: `المعرض سيكون أول حدث يحتفى بأعمال الراحل شاكر المعداوى بعد رحليه منذ شهر تقريباً؛ حرصاً منا على مكانته التى يستحقها كرائد من رواد الرسم المائى فى عالمنا العربى`.
- وأضاف قنديل أن اللوحات التى ستعرض فى المعرض للفنان المصرى هى من مقتنيات الأتيلية خلال السنوات الماضية.
- وأضاف قنديل أن المعرض سيصدر دراسة عن وضع المكان فى لوحات الفنانين ورؤية للناقد المصرى محمد كمال فى لوحات شاكر المعداوى.
- وتعتبر مشاركة لوحات المعداوى فى السعودية هى الظهور الأول لأعماله بعد رحيله، ولم تقم أى مؤسسة مصرية بتكريم المعداوى وتفكر نقابة التشكيليين فى تنظيم حفل تأبين له، وقال الدكتور محمد الصبان مقرر اللجنة الثقافية بالنقابة، إن اللجنة تحضر لحفل تأبين للفنان ولكن موعده لم يتحدد بعد، وسيكون خلال بداية الموسم الثقافى للنقابة الذى يبدأ فى أكتوبر المقبل.
محمد عوض
اليوم السابع - 27/ 12/ 2011
شاكر المعداوى فى حواره مع روزاليوسف قبل وفاته بأيام
- الفنان الراحل شاكر المعداوي «67 عامًا» هو صاحب البصمة المائية الخاصة والمميزة في الوطن العربي ضمن مجموعة من فناني مصر القديرين عبر عن الحياة المصرية بأشكالها المختلفة في مئات اللوحات، فلم يترك أي شيء في البيئة المصرية إلا وتناوله.
- قبل وفاته بأيام التقته «روزاليوسف» في مرسمه الكبير في «معدية المهدي» بمحافظة كفر الشيخ، حيث كان يصارع المرض، وكان لنا معه هذا الحوار:
* كيف تري أعمالك بعد كل هذه السنوات؟
- كأني لم أفعل شيئًا، فأنا أتعامل مع حياتي وبيئتي وظروفها طوال مشواري الفني بتلقائية.
* حدثنا عن بداياتك في مشوارك الفني؟
- كنت أدرس في روما علي يد الفنان العالمي فرانكو الذي أعطاني الدرجة النهائية مع مرتبة الشرف، وقال لي إنني الوحيد الذي حصل علي هذه الدرجة لطموحي، وأكد أنني أعيش كمصري وأنتج «حب»، وهذا كان له تأثير كبير علي. كما أنني درست الجسد الإنساني بإمكانيات لم تتوافر لأي فنان شرقي أو لم يستغلها جيدًا، فمن يجد رسم الجسد الإنساني يستغله باستمرار في عمله التشكيلي؛ ولذلك فأنا لم يعجبني أيا من خريجي التربية النوعية التي أدرس بها لأنهم لم يدرسوا جسد الإنسان، أو عملية التكوين، وهناك من يهتمون بالجسد الإنساني لكن بشكل تكنيكي محدود.
* لماذا تمسكت بالمصرية في أعمالك علي الرغم من أنك سافرت فترة طويلة إلي إيطاليا إلا أنك لم تعبر عنها؟
- أنا أقدم عملي بتلقائية لأنني في الأصل ريفي وفلاح، وعندما رجعت من روما عدت إلي قريتي وعملت فيما يخص بلدي.
* ما أكثر الأشياء التي أثرت علي إبداعك؟
- أساتذتي في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، كامل مصطفي، حامد عويس، فاطمة العرارجي، وسعيد العدوي رحمه الله. فذات مرة طلب منا العدوي أن نرسم العيد، ثم تنقل بلوحتي في الكلية بأكملها ليشاهدها الجميع وقال لهم «شفتوا المعداوي عمل إيه»، ومنذ ذلك اليوم تمسكت بالإبداع. وفي السنة الأولي من التخصص كنت أرسم ولدًا بالقلم الرصاص، فقال د. مصطفي عبدالمعطي «شوفوا إزاي رسم الحذاء بتعبيرية عالية جدًا». كما كنا نرسم وقتها الموديل العاري، فكان الجميع يرسمونه من الأمام لكنني رسمته من الخلف لأنه الأصعب، فطوال فترة دراستي وإعجاب أساتذتي بأعمالي أثر علي.
* وماذا عن رحلتك إلي إيطاليا؟
- سافرت إلي إيطاليا علي نفقتي الخاصة، وكان بحوزتي مائة جنيه استرليني فقط، صرفتها في أسبوع واحد علي الخامات، وكنت مقيما في الأكاديمية المصرية بروما، وكنت أعمل وقتها في وزارة الثقافة، وامتحنت هناك وقال لي أستاذي فرانكو «يا مصري أنت ستدرس عامين فقط للدبلومة»، فقلت له «أريد أن أدرس ثلاث سنوات كي تعادل الدكتوراه»، بعدها أرسلوا لي في الأكاديمية المصرية لطلب أجانب دارسين للفنون في روما، واشتروا مني بعض الأعمال، وكنت باستمرار أحصل علي الجوائز في المعارض التي أشارك فيها هناك.
* لماذا تفكر في إقامة متحف علي الرغم من أن مرسمك كبير ويصلح لذلك؟
- عندي مبني قديم مهجور بجانب المرسم وهو ما أنوي إقامته متحفًا ضخمًا، ليحدث نهضة سياحية في بلدي «معدية المهدي»؛ حيث سيخدم أهل البلد من الناحية الاقتصادية.
* لماذا لم تقم معرضا كبيرا لأعمالك في قاعة كبيرة من قاعات الدولة كقصر الفنون؟
- كنت سأقيم معرضا كبيرا في جميع قاعات مجمع الفنون بالزمالك، لكن الناقد الراحل أحمد فؤاد سليم كان يقول لي وقتها «د. نوار سيعرض في الدور الثاني»، ثم فنان آخر وغيره، وهذا ما صرفني عن العرض وقتها. وفي قصر الفنون عرض علي الفنان محمد طلعت مدير القصر السابق أن أعرض أعمالي فيه، لكنني لا أريد أن أعرض في مكان لا يوجد فيه شخص مسئول عن التسويق، فأنا لا أعرض «منظرة»، عكس ما كنت صغيرًا، حيث كنت أعرض كثيرا مع زملائي، وكنا نسخر من أنفسنا ونقول «نعرض 30 لوحة، ونرجع بـ31»، لكن هذا لا يجوز حاليا.
*هل كان لوزارة الثقافة دور في علاجك بعد مرضك؟
- توجه أحد زملائي للفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق ليطلب منه شراء أعمال مني عندما مرضت، فطلب من محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق اختيار لوحتين من أعمالي لاقتنائهما، ثم كسل شعلان عن الحضور لمرسمي وقال لي «أرسل لنا لوحتين»، وأرسلتهما له واقتنوهما بـ40 ألف جنيه وأشكرهما علي ذلك، لكن الجامعة هي من تصرف علي علاجي سواء الأدوية أو دفع تكلفة المستشفي.
* ما نصيحتك للفنانين الشباب؟
- الفنان لابد أن يفهم ماضيه جيدا، ويحلم بمستقبله وبالتالي الماضي والحاضر سيوجدان المستقبل، لكن أن تعيش في ثقافة المرحلة هذا خطأ كبير.
ريهام محمود
روزاليوسف - الاحد 11/ 12/ 2011
شاكر المعداوى .. شاعر الأساطير اللونية .. ومائيات النيل والنخيل
-عن عمر يناهز 67 عاما رحل الفنان شاكر المعداوى.. شاعر الاساطير اللونية وعرائس الخيال التى تألقت فى دنيا شفافة صاغها فى مائيات من نيل مصر العظيم.. شكل من خلالها عالما من الفنتازيا تحولت فيه مشاهد الريف المصرى فى الشروق والغروب إلى دنيا جديدة تميزت بالرهافة والأناقة الشاعرية واللمسة الارستقراطية.. ويرجع هذا إلى ارتباطه الشديد بقريته الصغيرة الخضراء الوارفة معدية مهدى والتى ظل مقيما بها منذ مولده وحتى رحيلة.. ولم يخرج منها الا لداعى السفر والبحث والدراسة.
- واذا كانت القرية المصرية قد ظلت مسرحا لأعمال أدبية عديدة لكبار كتابنا من يوسف ادريس وعبد الرحمن الشرقاوى وعبد الحليم عبد الله وعبد الحكيم قاسم وغيرهم.. كما ترجم مشاهدها رواد جماعة الألوان المائية التى ظهرت أواخر العشرينات من القرن الماضى.. الا أن المعداوى ترك اغنيات بصرية تنتمى لعمق الريف المصرى وتخرج عليه بتلك المشاهد الدرامية ذات الطابع السيريالى والذى تتحاور فيه كائنات الريف مع الاسماك والصبايا فى ايقاع جديد يذكرنا بروح الجداريات الفرعونية بلمسة الحداثة.
معدية مهدى
- ولد شاكر المعداوى فى يوليو من عام 1944 بقرية `معدية مهدى` بمحافظة كفرالشيخ والتى ينتسب اليها وتنتسب اليه بالاسم والمكان والزمان.. وهى محل ميلاد عمه الناقد الكبير انور المعداوى ` 1920 - 1965` .
- ولاشك أن عالمه التشكيلى يمثل مع خصوصيته الشديدة ترجمة بصرية لتلك الحكايات والاساطير التى كان يسمعها تتردد فى طفولته من `النداهة ` ومطايا الجان التى تتحول فيها العفاريت الى دواب.. ودهاء الثعلب مع العنزات الثلاث..وما كان يراه ويتأمله من مشاهد الريف والتى تحولت بفعل خياله مع الظلمة الدامسة والليالى القمرية إلى رؤى واخيلة صاغ فيها تشكيلات السحاب إلى عرائس وجياد نافرة وعصافير وقطط وديكة وطيور.
- وعند عودته من المدرسة الاولية يمشى بحذاء النهر وقت الظهيرة..كان يتابع بإحساسه اسراب الاسماك السابحة والطافية برءوسها والتى أصبحت فيما بعد ايقونته الأثيرة وقد خرجت على الماء فى الفضاء التصويرى متوحدة فى حوار مع بنات النيل المتوجات بالحسن والجمال يتألقن كعرائس البحر بالنور والشفافية.. يحلقن بآلات موسيقية بين الامواج والهواء.. وسط اشجار النخيل ذات التيجان المروحية.. تفيض بالرشاقة والأنوثة.
- وعندما وصل المعداوى إلى المرحلة الاعدادية التحق بمدرسة رشيد ثم انتقلت الاسرة من اجله إلى الاسكدرية وهناك درس بالمدرسة الثانوية الزخرفية وتفوق بها وانتقل بعدها إلى كلية الفنون الجميلة واختار قسم التصوير وتخرج عام 1967 وبعد فترة سافر إلى ايطاليا وحصل على الدبلوم العالى من اكاديمية الفنون بروما عام 1978.. وبعد عودته اختار قريته معدية مهدى لتكون المرفا والسكن والملهم الحقيقى لابداعاته المائية.
ماء النيل
- تعد خامة الأوان المائية خامة صعبة تحتاج إلى تمرس شديد ذلك لانها تنتمى إلى التعبير اللحظى السريع ومن الصعوبة تغيير المساحة المائية او تغيير اللون بعد وضعه على الورق.. ورغم انها خامة سيالة هاربة..لكنها تعطى امكانيات تعبيرية كبيرة مع شاعريتها العالية.. لما تحمل من شفافية ونقاء وحيوية لا تتوقف.. مع الانسجام والتدرج اللونى والخفة والرشاقة والتأثير النضر الخلاب.. وهى خامة شرقية تمتد لأكثر من ثمانية قرون.. استخدمها العرب فى رسم المخطوطات والصور الجدارية من خلال صبغات تذوب فى الماء ومنها مما يسمى بالافريسكو والتمبرا وقد استخدمها الفنانون القدامى فى أوروبا مثل دورو وتيرنر ووليم بليك.. كما كانت أداة حيوية فى أعمال كبار فنانينا فى الفن المصرى الحديث بدءا من هدايت التركى المصرى الاقامة.. وجماعة الالوان المائية التى كان رائدها حبيب جورجى وتلاميذه: محمد عبد الهادى ومحمد الغرابلى وشفيق رزق ويوسف العفيفى وحامد سعيد ووهيب صديق `وقد تعاملوا مع الالوان المائية بطريقة مباشرة وتلقائية وكانت مادتهم الطبيعة المصرية ودراستها واستلهام مشاهدها`.. وإلى فنانة الحقول وزهور البرسيم فاطمة رفعت وفنان اسيوط بخيت فراج وعدلى رزق الله وسمير فؤاد وجلال الحسينى ومحمد الطراوى..وقد اخذ كل منهم اتجاها معينا فى فى طريقة الاداء والتعبير .
- وتعد اعمال المعداوى حالة خاصة تضاف إلى عالم الالوان المائية.. واذا كان قد شكل عالمه من مشاهد قريته معدية مهدى وحواديت الناس هناك الا انه خرج على طابع المنظر الطبيعى واتجه إلى افاق تعبيرية جديدة..افاق من الفنتازيا نشعر فيها مع روح الريف بتلك الروح الانسانية والتى تمثل تعبيرية ذات مذاق خاص فى الايقاع والتكوين وتداخل العناصر مع بعضها البعض وامتزاجها ببعضها البعض أيضا.. جعلها تسرى فى افاق سيريالية مادتها كائنات الريف وعناصره التى تمتلك قدرا كبيرا من البكارة والعذرية البصرية.. صحيح كان لفناننا بعض الاعمال ذات الطابع البيئى الريفى مثلما نرى فى لوحة `مدخن الشيشة ` مع لوحات من تلك الاعمال التشخيصية لصبايا الريف وغيرها.. إلا أن أغلبية اعماله تنتمى لهذا المنطق السيريالى الذى يجعل اللون يسرى على سطوح اللوحات يجسد التعبير البليغ `الدنيا ريشة فى هوى` أو يجعل الدنيا تطير على جناح يمامة .
- وربما كان هذا المشهد الاحتفالى الذى صور فيه مجموعة من الاسماك واقفة بشكل رأسى مع عرائس النخيل وموجات من ماء النيل وفى الخلفية وعلى الشاطئ البعيد تطل سفينة تمتطيها سمكة ديناصورية ضخمة مساحة تعكس سحر عالمه.. وهنا تتداخل العناصر برقة شديدة مع سريان الألوان وانتقالها من الاحمر الوردى إلى الاخضر العشبى والأبيض البرىء.
- وتظل لوحة `سفينة نوح ` لشاكر المعداوى واحدة من أعماله التى ارتكز فيها على قصة من الماضى القديم..لكن اعادها بأسطورته الخاصة..هنا تقف فى مقدمة اللوحة حسناء السحر والجمال بمثابة الربان بينما تطل السفينة واقفة على الماء بالحيوانات والاسماك التى تبدو فى الخلفية ايضا.
- والوان المعداوى تذكرنا بروح شبورة الفجر فى لحظات الطلوع وايضا لحظات الغروب التى تنطفئ فيها الشمس ويمتزج الشفق بزرقة السماء وهناك اعمال للمعداوى تداعب فيها الكائنات بعضها البعض فى مرح وحيوية بلمسة تلقائية شديدة العذوبة كما نرى فى لوحة `الطائر والاسماك ` والتى يتربع فيها طائر ابيض يمتد من عمق اللوحة وذيله مغمور فى الماء متوحدا ومتداخلا مع الاسماك.. بينما ينشر جناحيه بامتداد الأفق.
- ومع حركى المصيف التى لا تهدأ حين تتراءى الشماسى على الشاطئ مع دنيا البشر..تتعانق الامواج مع زرقة الافق الذى يتشكل فى اطياف من جياد ورجال ونساء بالأبيض الشفاف المشوب بزرقة خفيفة .
- وفناننا يجسد ادم وحواء فى مشاهدة السابحة فى اللون والخيال مثلما نرى فى لوحته التى يحمل فيها رجل امرأة وساقاه مغمورتان فى الماء بين الاسماك وتبدو عنف الحركة من وطأة الحمل بينما هى تحلق فى الأفق ناعسة هادئة ومطمئنة ..على خلفية من الرمادى المدخن .
- وفى مشهد اخر تتربع امرأة فوق جسد رجل مسترخى على الشاطئ `البلاج ` وتقف تحتضن عصفورا صغيرا.
- وحين تتداخل العناصر فى أعمال الفنان شاكر تتحول سطوح اللوحات الى انغام بصرية تذكرنا بسيمفونية بيتهوفن السادسة `الريفية ` والتى تعبر عن مشاعر واحاسيس الانسان عندما يرى الريف..فنسمع خلف اعماله حفيف الاشجار وهمس الطيور واصوات الحيوانات وصرصور الحقول وحركة الفراشات.
- وقد كان لشاكر المعداوى اهتمامات كبيرة بالتأليف ورسوم الاطفال فصاغ العديد من قصص الاطفال ورسمها ونشرت فى مجموعة من الكتب بدار المعارف والهيئة المصرية العامة للكتاب وكتاب قطر الندى مثل : `احلام دجاجة ` و ` توتو وشجرة التوت ` و `نونو وعنزاته الثلاثة ` و `عنوش والغراب ` .
- تحية إلى روح شاكر المعداوى بعمق ماء النيل الذى فاض وتألق بالتعبير وشاعرية الأداء فى لوحاته.
صلاح بيصار
جريدة القاهرة 20 سبتمبر 2011
ستون فنانا فى ` دروب ` تكريماً لشاكر المعداوى حتى العام القادم
- أعمال ستين فنانا وفنانة اجتمعوا فى قاعة `دروب ` بجاردن سيتى فى المعرض السنوى للأعمال الفنية الصغيرة فى مجالات التصوير .. النحت ..الخزف .. الرسم .. الخط العربى .. والحلى وأعمال الزجاج .
- وقد تميز هذا المعرض بأن تم فيه تكريم الفنان الراحل شاكر المعداوى الذى رحل عن عالمنا منذ شهرين كضيف شرف لمكانته الفنية المتميزة كأحد أهم فنانى الرسم بالألوان المائية الشفافة التى فيها رصد مظاهر الحياة الريفية والبيئة المصرية بشفافية تتأكد فيها أهمية عنصر الضوء المصرى المتغلغل والمؤثر فى العناصر المرئية حولنا والذى استطاع الفنان بالضوء والوسيط اللونى المائى الشفاف آن يقيم بنائياته داخل اللوحة أقرب للبنائيات الزجاجية المتداخلة الشفافية بمقدرته العالية .
- المعرض الذى افتتحه السفير البريطانى جيمس بصحبة الفنان الكبير جلال الحسينى ومسئولة القاعة السيدة سوسن سالم تميز بالتنوع الشديد فى الاتجاهات الفنية وأيضا فى تمثله لعدة أجيال فنية داخل قاعات العرض فى تناظر بين الأستاذية والاجتهادات ليبدو المعرض صورة مصغرة لتفاعلية أجيال الحركة الفنية المصرية والتى تمثلت فى أعمال فنانين نذكر منهم الفنانين : سمير فؤاد.. محمد مندور .. جلال الحسينى .. حليم يعقوب.. عز الدين نجيب.. ثناء عز الدين .. محمد الطراوى.. ميشيل معلوف..مكرم حنين ..فرحات زكى ..عطية مصطفى ..فارس أحمد.. نجوى العشرى..عادل ثابت ..حسن راشد.. حسن الشرق.. على عزام..طاهر عبد العظيم.. فاروق وجدى.. مرفت رفعت..وفنان الخط العربى السكندرى يسرى المملوك ..
- هذا المعرض الذى يستمر حتى العاشر من يناير من العام القادم سيتم معه تجديد وإحلال أعمال لنفس الفنانين لتتجدد الرؤية مع كل زيارة للزائر الواحد.
فاطمة على
أخر ساعة - الأربعاء 30-11-2011
|