رحلات مراكب الموتى الفرعون نهاية لثلاثية الحياة الأولى
فى معرض (الحياة الأولى 3/3) لماجد ميخائيل بجاليرى `كريم فرنسيس`
بعد توابيته الفرعونية الجبسية آتت مراكبه الشمعية لإكمال رحلة الخلود
ماجد ميخائيل : أبحث منذ سنوات حول حالة الموت وطبيعة الوجود
تخلص فى منحوتاته من أطر العمل المغلق الى منصة مسرح أرضى
- مُقام حالياً وحتى 18 نوفمبر القادم معرض الفنان المبدع `ماجد ميخائيل` بجاليرى `كريم فرنسيس` بوسط البلد .. المعرض بعنوان `الحياة الأولى 3/3 ` .. والمعرض يُعد الرؤية الثالثة بنفس العنوان لعرضين سبق وأقامهما الفنان فى نفس الجاليرى بأعمال نحتيه مركبه .. ففى عرضه `الحياه الأولى 1/3` كان التركيز على النحت وشمل تماثيل جنائزيه .. وفى `الحياه الأولى 2/3` كان تركيزه على الرسم مع قطع نحتيه فى تركيب تكرارى تتكامل مع الرسم ..
- وفى هذا العرض الحالى يواصل `ميخائيل` بحثه ` حول حالة الموت وطبيعة الوجود` وقد قدم فيه 16 من تركيباته النحتية منفذه جميعها بخامة الشمع .. إلى جانب نحت ريليف ورسم وخيوط إيتامين..
- هذا العرض بالكامل تحقق فيه كل قطعه من الـ 28 المعروضة مفهومها الفلسفى الخاص وفى بعضها تتكامل فلسفيا قطعه منحوتة مع لوحة رسم معلقه جوارها .. وأيضاً يتميز العرض بالقطع الصغيرة كأن الفنان وهو يتعامل مع كل قطعة على حده كان يفرغها طاقته الذهنية وأفكاره الفلسفية فى تواصل جعل كل قطعه على صغرها مُصاغه بتركيز ونقاء فكرى عال إضافة للبُعد الجمالى ..لذلك لا تصلح رؤية هذا العرض بحياديه جمالية بل يجب أن يكون المشاهد مُكمل أساسى وتفاعلى ذهنى منفتح داخل ثالوث الفكرة والخامة والدلالة الفلسفية ..مثلما هذا المعرض هو ثالوث لعرضين سبقاه بنفس العنوان..
- وأرى أن من ذكاء عرض(ميخائيل) اليوم لتركيباته النحتية من مراكب وأيقونات طوطمية ورمزيه أن تعمد ألا تكون لها قاعدة دخيله كتقدمه للعمل النحتى تفصل المشاهد عن فكر العمل بتشويشه بالحواشى الجمالية خاصه وأعماله دقيقه لا تحتمل لكتل تفسد عليها الرؤية .. بل بدى كأن الفنان يُقدم أعماله فوق مسطح بسيط بحس مسرحي دون درجات صعود فبدت أقرب للتواصل والمشاهد ..ويحدث هذا التواصل بطاقه مشتركه رغم أن منحوتاته لا تتطلع الى المشاهد ولا تكشف بهيئتها البسيطة المباشرة عن ذهنية عقل العمل وكيف يُدير وجوده إلا بعد أخذها موقف المبادرة تجاه المشاهد.. فالمشاهد لا يختار موقفه من العمل ومجسماته بل العكس.. فالعمل شديد البساطة والتلخيص فى نقاء بصرى تجريدى يجذب ويُملى علي المشاهد كيفية رؤيته ويُحدد له المركز والمسافة وقد تخلص من اجتياح اطار العمل المغلق أو قاعدته المُعلقة..
- وقد جاء عرض عملين تقريباً داخل إطار زجاجى مستحضراً معهما الفراغ الداخلى كعنصر مكمل أو ربما قصد بصناديقه الزجاجية إفراغ العمل من الزمنية وعزله قائماً داخل فراغ وجودى حيث أنه فيزيقيا الزمن لا يتواجد فى الفراغ .. وليجعل الحاجز الشفاف كحافه صامته بين ماهية العمل وماهية الوجود خارجه ..وقدم عمل آخر شغل محيطه قطع صغيره هندسيه الشكل لما يمتاز به من نقاء وقد تناثرت حول العمل كجسيمات فى مدارها الخارجى ..
- رمز(الدرب) المصرى يقود للضفة الثالثة بدت بعض أعمال(ميخائيل) المركبة وكأنها أضرحه قائمه كأنصبة منهير الحجرية من عصور ما قبل التاريخ ..وأراها أيضاً تحمل طوطميات خاصه بزمنها المصرى القديم حتى لو اتخذت مظهر معاصر.. كأنها تمثل رمزياً هياكل بوابات خروج فى رحلة ما بعد الموت إو إلى فكرة البعث بعد عدة حيوات أولى لترسو حيث الضفة الثالثة الغير مدركه حدودها والتى لم يرها أحد قبلاً.. وجعل الفنان المركب المصرى القديم هو وسيلة انتقال هذه الرحلة من عالم لآخر..
- وقد بدت مراكب `ميخائيل` الشمعية الخامة والمحملة بدلالات راحليها غاية من السكونية بينما ما يوحى بحركتها فى الزمن هو بُعدها الثالث.. واعتقد ان فى أعماله مفهوم شديد المفارقة .. فبينما توحى مراكبه بالحركة نجد إدراك الموت هو ما يقود تلك الحركة.. وأراه اختزال عبقرى لمفهوم المصرى القديم باعتقاده ان الروح المصرية برمزها الحضارى (الدرب) هو ما قاد مراكب موتى(ميخائيل) الفرعونية فى دربها المائى لتفضى بها فى النهاية لتقف أمام قاض الموت كما جاء فى `كتاب الموتى` [ الفقرة 125 ] لتبدو أعماله كأنها مواكب كهنة حضارة قديمة فى مسيره `الدرب` تتبع رحلة الروح سالكه دربا مرسوما ومحدد تحديدا دقيقا صارما تماماً كهيئة مراكبه الحادة الحواف الصارمة..
** مراكب الماء
- المرفأ وجهة المراكب لا يظهر فى العمل لكنه حاضر بشدة ..وقد امتازت المراكب بمعالجة مادية بسيطة خالية من الغموض لكنها تحوى حكمة ما ورؤية فلسفية صاغها الفنان بعناصر هندسية بسيطة تجريدية وبمادة `الشمع` شبه العضوية الجافه وهى مادة دهنيه غير قابله للغوص فى الماء ..فمراكبه الشمعية طافيه داخل الدرب المائى فى استمراريه لرحلة `الحياه الأولى` فى معالجته الثالثة بالشمع وقد سبقتها معالجه توابيته ترابية اللون بخامة الجبس الأكثر صموتا وصلابه..
- وقد عالج الفنان مراكبه تخوض الماء بطريقه جعل فيها الماء مشاركاً فى دلالة الرحلة..ففى تجسيدات الفنان لهيئة الماء اسفل مجسماته قدمها بطريقتين : الأولى بقعه شبه دائرية مغلقه غير معزولة غير متحركة.. والثانية بالمستطيل المثلثى الحواف برمزية الماء كما رسمه المصرى القديم اسفل مراكبه فوق جدارياته..وذكرنى هذين النمطين فى المعالجة البصرية بما ذكره (إدجار آلان بو) بقوله ان الماء يذكره بالموت على مستويين : الأول : مستوى السيولة الذى يرتبط بالديناميكية وظاهرة الانسياب المؤدى للزوال .. والمستوى الثانى : بالركود الذى يرتبط من وجهة نظر نفسيه بين الموت والسبات الذى تذكره بعقدة (اوفيليا) وعقدة قارون الذى كان موضوع صوره دانتى فى جحيمه (الكوميديا الإلهية) وايضا لدى ديلاكرواه فى (طوف الميدوسا) التى ربطت بين صورة الموت وصورة الماء بواسطة مفهوم فكرة الرحلة .. لنرى معالجة (ميخائيل) للماء مره جاء يوحى بالحركية الحيه الحيوية الممتدة خلال مثلثات السطح.. وأخرى جاء كإنغراس أرضى للمركب فوق قطعه دائريه كرويه صغيره فى حالة سكونيه داخل محيط يشبه البقعة المائية الضحلة فى ركودها مثلا للموت..
** الكا.. مرفأ الخلاص
- تبدو الأعمال جميعها تقريباً ملهمه كـ(النيرفانا) فى الديانة البوذية القديمة التى تمثل الحالة النهائية للخلاص والتحرر والعمل على انمحاء الذات فى الكل الى حد التلاشى وألهمنى بهذا استخدام `ميخائيل` لخامة الشمع التى نفذ بها كل مجسماته وهى خامه قابله للذوبان والانمحاء معا.. واعتقد ان اختياره لمادة الشمع مع مراكب الموتى يشعرنى بعمل وفلسفة النيرفانه التى تتطلب المرور بمراحل عدة الى ان تخلص الروح من التناسخ بما يوحى بنفس الفكره بإذابة ما تبقى من الشمع واستخدامه كسائل لصنع شموع مكرره جديدة وهو ما يتسق تماماً وفكرة إعادة الميلاد أو إعادة الروح للجسد كما فى رمزية (الكا) الفرعونية .. وأيضا مراكب `ميخائيل` مُحمله بشوق بلوغ المرفأ حيث الـ(كا) تنتظر ليندمج معها الإنسان العائد من رحلة الموت وتتعرف عليه لأنها قرينه وتتجسده من جديد كإعتقاد المصرى القديم ..وقد ذكر الفنان أن `المفاهيم القبطية والإسلامية مع مرور الوقت اتخذت شكل متقارب من حيث الحياه الأخرى وأيضا من حيث العناصر المعمارية والتى تشبه كلمات مصريه قديمه كرمز (الكا القديم).
- ومن المثير أن الفنان المستغرق فى بحثه هذا من ستة أعوام قد بدت رمزية ذراعى (الكا) المرفوعتين لأعلى واضحه فى منحوتة عرضها 2015 فى جاليرى (آرت توك).
- الفنان(ميخائيل) يبهر من تابع مجموعته (الحياه الأولى) لما بها من إدراك ووعى فلسفى سخر له الفنان التعبير الجمالى وبقصديتة البعد الرابع للإرتباط بالزمان والفراغ اللانهائي ..وأرى الفنان مهتم ذهنياً بتفسير العلاقات اللانهائية ولا يعالج الحالة الفردية ..وأراه يتعايش داخل هذه الطبيعة بما قدم من مبحثه الثلاثى عبر معارضه الثلاثة `الحياه الأولى`..والتى بلورها فى عرضه الحالى بكريم فرنسيس من خلال 28 عمل .. منهم 16 عمل من النحت المجسم كلها بخامة الشمع الملون وعددها 16..وعدد 2 نحت بارز من الشمع الملون .. وعدد 5 عمل من اعمال منفذه بالخيط الايتامين ..وعدد عملين من الأقلام الجاف ..وعمل واحد من الأكريليك..
يقول الفنان عن عروضه `الحياه الأولى` :`هذا المعرض هو الثالث لفكره بدأت منذ سنوات حول حالة الموت وطبيعة الوجود أصلاً.. وهل نحن نعيش واقع أم نحن نعيش فى خيال ؟ ` وعن خاماته :` استخدمت الجبس فى المشهد الأول للتعبير عن الحالة الترابية.. والرسم فى المشهد الثانى للتعبير عن أشياء صعب التعبير عنها الا من خلال الرسم ..وفى هذا العرض استخدمت الشمع لتغير الحالة من التراب اليها ومنها إلى التبخر `..
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة 19 أكتوبر 2021