إزاحة غبار الأساطير
- أخيراً.. استطاع فنان أن يزيح غبار الأسطورة وتراب القرون عند الفراعنة ويقدمهم لنا بعد أن هجروا توابيتهم وزهدوا فى الاقامة الجبرية داخل مقابر من ذهب .
- إن الفنان نبيل السنباطى الذى قدم معرضه أخيراً فى قلب القاهرة ، تمكن من اصطياد موضوع ساكن ومهجور لم يقربه أحد من قبل وراح يفتش بإصرار عن الإمكانات الجمالية التى تتيح له أن يلقى بحجر داخل البحيرة الراكدة للأجواء الفرعونية ، ففى العصر الحديث ومن باب مواكبة الرواج السياحى واستمثار ما يمكن من كنوز مصرية لتحويلها إلى بضاعة براقة تستهدف جيوب السائحين، سادت فكرة الرسوم الفرعونية على ورق البردى المصنوع وإنحاز لها تجار محترفون وشباب كثيرون ينقلون- بمهارة أحياناً وركاكة أحياناً أخرى- تلك الرسوم التى عبرت عن المناخ الإجتماعى والدينى فى مصر، والتى زينت مقابر الفراعنة قبل مئات السنين.
- لكن الفنان نبيل السنباطى استطاع أن ينحرف بهذا المزاج ` السوقى` ويصنع خليطاً سيريالياً أسراً قوامه البحث الدءوب عن قيم جمالية مخبوءة داخل صلابة الحجر الفرعونى وهشاشة المومياء المستكينة من خلال تفرده بخيال خصيب وفاتن.
- هل يمكن لنا مثلاً مقاومة الإنشداد الجميل للوحة يطل منها الوجه الفرعونى المألوف لتوت عنخ أمون، الذى أخذ وضع البروفيل وراحت عصاه الشهيرة تتحول الى ثعبان أنتج عدة ثعابين أخرى متحفزة ثم رسم فى الخليفة ثلاث مسلات ذات أحجام وأطوال مختلفة لكنها متحصلة ربما من باب حماية الفرعون وثعابينه وذلك الذى يبدو كما لو كان يتحرك بعنفوان ومحاطاً بجبروت هذه الزواحف الفتاكة؟ إن القمر المضى الذى توسط السماء أضفى على المشهد كله جلالأ مشهوداً.
- القدرة على الأفصاح
- لقد لاذ الفنان نبيل السنباطى بالألوان الزيتية وقدرتها اللامحدودة على الإفصاح فقام بتطويعها لما أراد ، منح الأزرق المسالم للسماء ، أما الألوان العتيقة للحجر فقد فازت بها المسلات الثلاث.. ثم انحاز الفنان نحو الملمس الناعم فصور به الوجه الفرعونى الذى يلوح كما لو كان خارجاً تواً من دارما عنيفة برغم بقايا الإحساس بجمود الحجر الذى يغلق وجهه الذى تراكمت عليه بقع الضوء المشع .
- لم تكن المدرسة السيريالية التى استقرت فى عشرينيات هذا القرن، بعد ظهورها المدوى فى أثناء الحرب العالمية الأولى إلا فتحاً مثيراً فى عالم الفنون الجميلة فبعد أن كانت الطبيعة هى المصدر الرئيسى لموضوعات الفنان، بما تحتوية من مناظر، وعناصر، وكائنات حية.. إذا بعلم النفس واكتشافاته يعطى للعقل الباطن للإنسان مكاناً مرموقاً يسمح بتحليل أحلامه وكوابيسه وخيالاته ويفسح المجال لغزارة اللاشعور بالإنهمار على اللوحات، مما منع الفرصة نادرة لارتياد العوالم المدهشة والمغايرة لكل العوالم القائتة.
- لقد كتب `هيجل` مرة بحق: إن مهمة الفن هى الكشف عن الحقيقة بشكل حسى فى صياغة فنية، لذا يصبح من المقبول تماماً أن يحوم الفنان فى فضاء السيريالية الوافرة يلتقط عناصره من كهوف الواقع ومن حلم غائم لاينتهى أبداً . إن اللوحة التى تصور طائراً بجذب قطعة قماش منسدلة أما جناحاه وذيلة فقد تحورت أيضاً إلى قطعة أخرى من قماش - تحتضن بيضتين.. لهما لوحة جديرة بالإدهاش.
- لقد صمم الفنان لوحته بأحكام فاختار وجه ` أخناتون` الشهير ورسمه مرتين فى يمين ويسار اللوحة ووضع البيضتين بين هذين الوجهين ثم وضع بيضة حائرة ووحيدة فى أعلى قطعة القماش على اليسار.
- عالم ملئ بالرموز والدلالات . إن البيضة تعبير عن المكنون أو توحى بالانبثاق والميلاد والطائر برغم انسيابيته فإنه يلوح كما لو كان معلقاً فى فضاء غير أمن ويصبح الأمل يترصد هذا البيض الموزع بحكمة على سطح اللوحة ، إن الوجه الإخناتونى جهة اليمين يحصر الإضاءة المنعشة عليه برغم حزنه البادى ، أما أخناتون الآخر الكالح الألوان محروم من بريق الحياة فى عروقه إنها لحظة تأمل حذر لما سوف يؤول إليه هذا الصراع بين الطائر المعافر والأبيض المستكين والقماش اللانهائى ووجهى أخناتون !!
- ثقافة اسطورية
- إن الفنان ذا النزعة السيريالية يستطيع أن ينتخب من الوجود العناصر التى تحقق للوحته أعلى كفاءة ممكنة شريطة أن يكون متسلحاً بثقافة غزيرة من الأساطير والحكايا وعلم النفس والتاريخ وأحاجى الفلاسفة وغيرها، وهذا عبر خبرته الخاصة بالفنون الجميلة وتطورها وآخر المدارس والاتجاهات التى ابتكرها الفنانون فى بلاده وفى العالم كله. إن مفتاح الحياة الفرعونى الذى يستقر جهة اليمين فى أعلى إحدى اللوحات يخاصم هذا الكائن الفرعونى المعتم مجهول الاسم الذى يحتل مقدمة اللوحة بوجهة الكئيب وجسده الحجرى بينما عين كبيرة قابعة جهة اليمين مغطاة بثنيات من قماش أزرق يسطو على معظم فراغ اللوحة. وجاءت الرقعة الشطرنجية التى تستولى على ربع السطح الأسفل كترديد جمالى لعنصرى الخير/ المفتاح، والشر/ الكائن ، من خلال تناغم اللونية الأبيض والأسود أما عن العين المنزوع من محجره فى مقدمة اللوحة بياضه اللامع فربما أفسح المجال للتفاؤل .
- إن نعومة الملمس صفة ملازمة للسيرياليين بشكل عام منذ إبداعات كبيرهم ` سلفادور دالى` إلى الآن ربما لأن نعومة السطح تسمح للخيال بالانسياب السلس لتفسير الرموز التى تصطبخ بها الأعمال من ناحية وربما لتكثيف المتعة البصرية وعدم إزعاج حركة العين من ناحية أخرى .
- لكن الفنان نبيل السنباطى ارتأى أن ينحاز نحو تكنيك مختلف فى بعض لوحاته من خلال استخدام الفرشاة الجافة بعد أن كسا لوحته بطانية لونية بواسطة هذه الفرشاة. أيضاً فقد لنا إحدى الآلات تحمل فوق رأسها قرنين بينهما قرحن. لقد آثر الفنان أن يحيط هذه الألهة بحجر ضخم غامق تعلوه موتيفة فرعونية مألوفة وهى الثعبان الشهير. لكن بتحوير مقصود . إن معمار هذه اللوحة شديد الأحكام من خلال توزيع العناصر وحركة الضوء المنسال على الوجه الأسفل، وعلى الثعبان ذى الأصغر الطازج أعلى اللوحة. إن العبارة التشكيلية الشجية التى تمنحها إياها هذه اللوحة مع السطح الخشن الذى يشبه حبيبات الرمل، تؤكد أن وراءها فناناً مقتدراً لا يكف عن البحث الشاق عن أساليب جديدة وعوالم مقابرة تمكنه من إبداع لوحات تثير الفضول وتشحن الوجدان بأنها رهن المتعة الرفيعة .
- لقد ظل الهرم محط أسرار الحضارة المصرية القديمة لما يحوى من إعجاز فى البناء أو غموض فى طقوس الدفن بصفته مقبرة للعظماء . لذا لم يكن من المستغرب أن يقتحم الفنان هذا العالم المثير. فصور لنا كاهن المعبد جالساً القرفصاء بتأمله التاريخى وحزنه الكهنوتى أمام بهو الأعمدة الفرعونية المألوفة ومعلق فوق رأسه فى الفراغ هرم صغير، بيفا أحتل الجزء العلوى من اللوحة هرم مقلوب ، لقد وزع الفنان كتلة المعمارية بحذق، فوازن الكاهن بالهرم المقلوب ، كذلك وزع الأعمدة فى اليمين واليسار بطريقة أبرزت قوة التصميم. هذا عمل قصدى يراعى فيه الفنان أصول حرفته مراعاة كاملة من أول استخدامه للكتل وظلالها سواء كان الكاهن أو الأحجار حتى اللون الروحانى الذى يحيط بالهرم المقلوب .
- مؤثرات فرعونية
- لم يبخل الفنان نبيل السنباطى على هذه التجربة الثرية، فاستفاد من معظم الكائنات والعناصر التى تركها لنا الفراعنة على جدرانهم ومعابدهم ، عن الحيوانات مثل الأسد والكلب والقط إلى الطيور بأنواعها المختلفة مروراً بالحروف الهيروغليفية ومفاتيح الحياة وأحجار المعابد.
- لذا لم يكن مستغرباً أن تجئ أعماله محيرة للعين، مثيرة للأسئلة، ممتعة للعقل. هذا الفنان مثقف ، يعرف أصول صنعته ويعطيها حقها بالكامل، يبحث بشغف عن الجديد فى الفكر والمضمون لايتورع عن الولوج داخل الكهوف المعتمة ما دام سيخرج منها بلحظة ضوء باهرة..
ينتزع الفراعنة من على جدرانهم ومعابدهم ويقدمهم لنا فى معالجة تتصف العذوبة وجموح الخيال.
هذا فنان يمنحنا نعمة التأمل ومؤاخاة الألوان .
بقلم : ناصر عراق
من كتاب ملامح وأحوال