محمد ممدوح عمار
ممدوح عمار تجربة فنية جديرة بالمتابعة
- ظهر فى أوائل الخمسينيات مجموعة من الفنانين الواعدين.. احتلوا بعد ذلك درجات عالية .. فى الحركة المصرية المعاصرة.. كان بينهم الفنان ممدوح عمار أحد المواهب الفذة.. المنحازة للطبيعة والإنسان ..
- وبالرغم من قيامه بالتدريس فى كلية الفنون الجميلة - القاهرة. أكثر من أربعين عاماً..فإننا لا نشاهد منذ فترة طويلة معارضه الخاصة.. بالرغم من غزارة إنتاجه.. فهو فنان هاوى.. يرسم بمزاج.. لا يبغى الشهرة ولا اكتناز المال .
- يجنح إلى الوحدة فى مرسمه الذى بناه طوبة.. طوبة على طريق ترعة المنصورية.. وحوله إلى جنة خضراء.. بما غرسه من نباتات وزهور ..عرف أصولها.. حتى صارت هناك علاقة وجدانية وطيدة بينه وبين هذه النباتات.. التى تستجيب من أى لمسة أو همسة.. يخطوها .
- أثناء دراستنا فى الفنون الجميلة كنا نطلق عليه `ابن العمدة ` فقد كان والده عمدة قرية `بيبان` محافظة البحيرة.. الذى ولد فيها عام 1928.. وعندما شب عن الطوق استوطن وسط مروجها الخضراء.. يجرى بين حدائقها.. وحقولها.. ممتطياً الجياد العربية الأصيلة وأنتقل إلى المدينة لاستكمال دراسته الثانوية .. ثم التحق فى مدرسة الفنون الجميلة عام 1947.. بعد اجتيازه الاختبار المعتاد الدقيق الصعب لمدة ثلاثة أيام متوالية .
- تعلم ممدوح عمار ..أصول وقواعد الفن على يد رواده المصريين.. يوسف كامل.. أحمد صبرى .. حسين بيكار .. إلا أنه لازم أستاذه الفرنسى الأصل عاشق مصر الفنان ` بيبى مارتان P.Martin ` عام ( 1875 ـ 1964 ) وسلك سبيله فى رسم المناظر الطبيعية .. والرسوم السريعة ` الاسكتش ` وتخرج عام 1952 بعد تقديمه مشروعه عن ` المجاذيب `.. هذا النبع الفياض الذى استوحى منه هو ورفاقه.. ( الفنانون عبد الهادى الجزار.. حامد ندا .. شهده.. وحسن سليمان ) هؤلاء الدراويش المجاذيب من رجال ونساء بإشكالهم الغريبة وملابسهم العجيبة.. وتقاليدهم الشعبية الذين نشاهدهم دائما فى الموالد والاحتفالات الدينية المألوفة حول الأضرحة فى مصر .
- أتيح لمشروعه `المجاذيب ` أن يعرض فى معرض لمشاريع الخريجين بنادى المعلمين فى الجزيرة..وقامت اللجنة المخصصة بمناقشة المشروع.. بمنحة تقدير إمتياز مع مرتبة الشرف.. لقد خطى الفنان عمار فى مجموعته عن `المجاذيب ` خطواته الأولى نحو التعبيرية وذلك فى استيعابه للموضوع والإحساس به ..فقد كانت لوحاته ليست نقلا للواقع الخارجى.. بل إفراغ ما استوحاه من الموضوع فى شحنة عاطفية متولدة من انصهار الحقيقة فى مخيلته.. كما لو كانت جزء من ذاته.. وليست جزء من الواقع الموضوعى المحيط به . مع احتفاظه بالأشكال الآدمية.. مع المبالغة الظاهرة فيها.. والتأثير الباهر الذى حققه باستخدامه الجرىء للألوان القوية .
- وكانت فترة عام 1952ـ 1954غير مستقرة وعصيبة فى حياته..عندما قبل وظيفة حكومية فى وزارة السياحة التى استقال منها بعد شهر واحد .. لعدم قدرته على الانتظام الوظيفى الروتينى.. ثم جرب العمل فى الصحف والمجلات .. وخصوصا جريدة المساء عند إنشائها .. ينتظر رؤية رسوماته ترى النور فى أحد الصفحات المطبوعة.. إلى أن حصل على منحة التفرغ الفنى فى مرسم الأقصر عام 1954 لمدة عامين .
- وهنا اقترب أكثر إلى تراث أجداده العظام ..فأخذ يتأمل مبانيهم ومعابدهم ومقابرهم فى وادى الملوك والملكات..بالإضافة إلى رؤية التراث الشعبى لأهل الأقصر .. حيث تقابل مع ما هو تاريخى وفطرى فى آن واحد.. ومقارنته بما يشاهده من رسوم ونقوش .. والإنسان القاطن بالمنطقة.. ليجد تشابها وتطابقا بين الوجوه الحقيقية التى لفحتها شمس الأقصر مع الرسومات البارزة على الجدران.. الى حد كبير.
- وبالرغم من قضائه سنتين فقط فى هذه البعثة الداخلية .. إلا أنها كانت رحله هامة فى حياته .. لعبت دوراً كبيراً فى تشكيل إبداعاته .. كما تركت أثراً كبيراً لازمه حتى وقتنا هذا .. وفى هذه المرحلة الحرية بالتسجيل فى حياته الحرة الطليقة.. أبدع أخصب لوحاته العفوية لأهل الأقصر .. أبناء النوبة.. من سهرات.. واجتماعات.. ورقصات.. وتأملات .. كما أوحت له العمارة التاريخية الضخمة .. والجبال الشاهقة المحيطة .. ببساطة الخطوط وحدتها.. واختزال أشكالها وتبسيطها.. والسكون والهدوء فى مساحاتها الشاسعة القريبة من الصحراء .. حيث يظهر فيها الإنسان وحيداً ضئيلاً .
- كما تعلم من العمارة الريفية الفطرية .. المتمثلة فى قرى الصعيد الحميمية الإنسانية .. العلاقة العضوية الصادقة بين العمارة المحتوية للإنسان داخلها . ويظهر فى لوحته ` لقهوة النوبى` التى أنجزها عام 1956.. تكويناً جديداً مدهشاً كأنه صورها من أعلى جبل ..الذى نطلق عليه منظر `عين الطائر` واللوحة مستطيلة .. رسم فيها الرجال بملابسهم النوبية التقليدية البيضاء .. وهم جالسون على دكك متراصين بجانب بعضهم فى تكوين هندسى متناغم بالطول .. ينحصر فى الوسط فراغ مستطيل قائم.. لا يحتوى على شئ سوى مناضد تقليدية لوضع أكواب الشاى .. وتلفت الانظار التفافات الرؤوس بالعمامات البيضاء الضخمة عبر هذا التكوين الهندسى الصارم .
- أما لوحته ` نساء من الأقصر ` فكان تجمعا فريدا تراصت النساء فى خط واحد اتشح بعضهن بالسواد .. ليس حزناً بل احتشاماً .. وظهر البعض الآخر فى ملابس فاتحة متناغمة فى كتلة رسومه بخشونة .. بخطوط قائمة ومائلة ومستديرة صانعة نسيجا متكاملا .. كأنها لوحة من النحت البارز .. وقد ذكرتنى هذه اللوحة.. بما أنجزه أخيرا.. فى لوحته الضخمة `المناحة على الشهداء ` عام 2000 والموجودة بمتحف دنشواى هذه المناحة التى بدأن منذ القاء القبض على الأبرياء الشهداء فى مجزرة الاستعمار البريطانى الغاشم على أهل مصر.. فى أوائل القرن العشرين .
- ويقول الفنان الراحل فاروق بسيونى فى مجلة الثقافة الأسبوعية بالعدد ( 48 ) ديسمبر 1974 عن مجموعة الفنان `السيرك `.. نجده كنتاج لمعايشة أبطال السيرك الشعبيين.. يقدم مجموعة أعمال يبدو اللون فيها قد نضج وبات أكثر دسامة وأصبحت الفرشاة مثقلة باللون والشكل ..أكثر بلورة مقترباً قليلا من منطق التكعيبيين فى تحليل الأشكال إلى دوائر ومربعات تربطها أقواس وخطوط وهمية.. فصور لنا `بعزق` وهوقزم ـ كوميدى ـ حزينا مكتئبا عكس ما يراه الجمهور .. وقد بدت ملابسه برغم زركشتها قاتمة تحمل حزنا فى طياتها.. وقد استفاد من النقوش الشعبية على المنازل ومن نقوش الوشم فى استحداث موتيفات شبيهة.. مستغلا إياها فى توليف تكويناته.. أو جاعلا منها أرضية حيادية التأثير لإظهار الشكل مع إثراء الخلفية.. كما صور لنا المهرج يقف وحيدا كنقطة ضائعة وسط الحلقة .. ومن حوله المدرجات كقيد يلتف حوله .. ثم قوائم خيمة السيرك الهائلة.. يكاد يضيع بجوار ضخامتها المهرج الذى استغله كنقطة من اللون الفاتح تدور حولها دوائر تتراوح بين القاتم والفاتح.. ويخرج منها خطوطا تقود العين إلى أعلى اللوحة حيث يرتطم النظر بمساحات مثلثة يعود بعدها إلى النقطة الفاتحة معاودا الرحلة .
- التحق الفنان ممدوح عمار بعد انتهاء بعثه الأقصر الداخلية إلى هيئه تدريس فن التصوير ..فى كلية الفنون الجميلة ـ القاهرة ـ ثم أرسل فى بعثة إلى الصين الشعبية لدراسة فن الحفر على الخشب ( 1957 ـ 1958) وهناك تعلم طبع قوالبه الخشبية المحفورة.. بالألوان الممزوجة بالماء..غير ما هو متبع فى الغرب من استخدام ألوان الأحبار الخاصة بالطباعة التقليدية .
- وفى عام 1960.. أرسل فى بعثة فنية إلى فرنسا .. حيث درس على يد الفنان - الفرنسى `اندرية لوت Andre Lhote عام ( 1885 ـ 1962) الذى عاش فى مصر بعد الحرب العالمية الثانية مدة طويلة.. وكان من حظ ممدوح عمار لقائه فى أواخر حياته ثم انتقل إلى مرسم الفنان الفرنسى `أوجام ` بباريس يتعلم منه الرسوم الجدارية والموزاييك.. ثم واصل دراسته فى روما على يد أساتذة الفن الإيطالى المعاصرين .
- ويعود عمار إلى مصر عام 1966.. بتلك الرؤى المتنوعة.. وبكل هذا التراث العالمى.. منصهرا داخل الواقع المصرى.. حاملا أدواته.. يجول وسط دروب القاهرة وحواريها .. يرسم المبانى والجوامع.. والطرق الضيقة.. والموالد والاحتفالات الدينية والصناعات التقليدية.. المنبعث منها عبق الحياة الشعبية فى نبل ذى مذاق خاص .
- وفى يناير 1969 أقام معرضا شخصيا فى قاعة إخناتون القديمة.. بشارع قصر النيل..عرض فيها مجموعتين .. `الصيادون ` ذات الشخصيات البشعة .. التى تصطاد بشباكها الأسماك المتوحشة.. يقتربون تارة فى تكون بنائى صلب أو يبتعدون تارة أخرى .. فى شدهم حباك الشباك الذاخرة بالخيرات .. هذه المخلوقات الوحشية كأنها جاءت من عالم أخر.. بعيونها الثنائية أو الثلاثية الموضوعة فوق بعضها.. وتتمثل فى خلفياتها أشكال تجريدية من مثلثات ومربعات صاغها كلها بضربات فرشاة عنيفة.. كأن المخلوقات تصرخ من أجل النجاة من الانهيار الحادث تحت وطأة الحروب المندلعة فى كل جانب من الكون .. تقصد خراب كل ما فعله الإنسان للخير والسلام .
- وكانت مجموعته الثانية عن `عرائس المولد `.. تلك التى نشاهدها فى ` المولد النبى`.. هذا الاحتفال المصرى .. الذى ليس له مثيل أو نظير فى أى بلد إسلامى آخر .. وقد تناول هذه العروسة بأسلوب مختلف عن حقيقتها المألوفة.. مجردة من زخارفها وألوانها الشعبية الزاهية.. تتمايل إلى أحد الجوانب.. ملتحمة يداها مكونة شكل دائرى وشعرها ينساب لأسفل فى تخيل ميتافيزيقى .. أو تجلس مجردة من ملابسها وحولها المروحة ذات الزخارف الهندسية الشعبية.. وهى تنظر مختالة بنفسها فى مرآة أمامها .
- وقد تتابع رسمه للأفراس.. الذى تعود على رسمها وعشقها منذ طفولته.. لنراه عام 1955 قد صور فرسين يدوران فى دائرة تحدها الأحجار .. فى صحراء شاسعة.. بينما يوجد شكل مبنى بدرجات داخلية تعلوه الأقواس.. وفى عام 1959 رسم فرساً أحمر وآخر أسود متقابلان وكأنهما منهمكان فى حوار .. وحولهما الأشجار القابع على أغصانها الحمائم البيضاء .. وفى عام 1960 رسم فرساً جريحا باللون الأحمر .. يملأ اللوحة عن آخرها .
- وفى عام 1962.. صور الفرس بخطوط انسيابية وهو ينظر إلى ضوء القمر ليلا.. لكنه عام 1975 نحت أفراسه فى الأخشاب والحجارة لتظهر وكأنها حصان طروادة ..أو كقطع الشطرنج الهائلة.. بالألوان الزيتية على التوال .
- وعن لوحته `أول تعرف على الألم `.. التى ظهر فيها صبى يمتطى فرسا خشبيا وهو ينظر فى ألم إلى حمامة جريحة ملقاة أسفل اللوحة..
- قال الفنان الكبير حسين بيكار : ` لقد أثار هذه الذكريات فجأة جواد خشبى عتيق من تلك التى يصنعون منها مراجيح العيد.. وجده مصادفة مع أحد باعة المخلفات القديمة.. فلم يقدر على المقاومة .. اشترى الحصان.. وحمله معه إلى المنزل ليكون جزءا من الأثاث.. وإذا به الحوار الحميم .
- ويلتقى الطفل فى رحلة الحياة على الجواد .. بطائر ميت.. أنها أول مرة يلتقى فيها بالموت.. والفراغ من حوله صحراوى ساكن.. مجدب .. موحش .. إلا من بيت عتيق يوحى بأكثر من رمز .. إن صدمة الطفل الذى يخطو أول خطوات الحياة بهذا الحدث المفجع .. صدمة `درامية ` قد لا يستطيع تحملها .. وقد تكون حافزا له لمواصلة الرحلة بكل مخاطرها ما دامت النهاية واحدة هى الموت .
- أن هذه النظرة الواجفة.. المتسائلة فى عينى الطفل المتشبث بعنق الجواد `الأمل` تذكر فيها كل المعانى الإنسانية بكل أعماقها وأبعادها النفسية.. وهى المعانى التى تتميز بها أعمال ممدوح عمار .
- وفى معرضة المقام هذا العام 2001 قدم آخر أعماله عن الطيور الذى يختلف الكثير فى قبولها.. لاعتبارها رمزا للتشاؤم `الغراب `.. وأتذكر أنه قد تناول الغربان فى أواخر الخمسينات فى لوحته `الشاطئ المهجور ` حينما رسم أرجوحة أطفال مهجورة ..على شاطئ مهجور .. لا يوجد فيه سوى الغربان .
- ومع أنه أبدع لوحات أخرى فى مجموعته عن الحمام فى أوائل التسعينات .. إلا أنه خص مجموعة الغربان .. هذا العام بصفة خاصة .. الذى جمع فيها طيوره فى تشكيلات مختلفة .. لنرى `الطيور والمدينة ` و`الاجتماع `.. و`الطيور تلعب فى حديقة الصبار ` غير تكويناته الميتافزيقية.. للغراب المعلق على حبل الغسيل.. الغربان الطائرة حول نفسها فى حلم سوريالى .
- أن الفنان عمار على وجه العموم ينظر إلى كل الأشياء حوله بألفه ورقة رحيبة.. ويقبل عليها بنظرة عذراء.. وخيال يقظ على الدوام .. محلقاً فى رحاب الآفاق .. متأملا الأشياء بكل عمق.. وحينما تتفتح له.. ويدرك أسرارها .. يتخذ منها العديد من اللوحات.. فى مجموعات خاصة.. منها ما ينتهى من قراءتها وتحليلها .. تعود إبداعها فى فترة محددة .. ومنها ما تعيش فى وجدانه فترات طويلة.. حيث تتعدد فى الظهور بين الحين والآخر كما تحدثنا من قبل عن الأفراس .. تلك الأعمال الفنية المتنوعة التى تبعث فيه الإعجاب واللهفة والقلق والدهشة .
- ان لوحاته تدعونا لرغبه دفينة فى داخله للإفلات من قبضة العقل الواعى .. وبالرغم من أن عوالمه من صميم الطبيعة إلا أن الناس لا ينظرون إليها ولا يعيرونها التفاتاً .. وربما الطفل والفنان البدائى ذو البصائر الصافية .. هم أول من يتاح لهم النظر فى تلك العوالم .. وما يرونه هو دليل على صدق ما يراه الفنان عمار .
- فهو مثلهم رائق النظرة .. ببساطة متناهية .. يتأمل الأشياء من حوله .. بعيداً عن المادية الثقيلة .. التى أعمت بصائر الكثيرين فى عصر الصناعة الهائلة.. والمعلوماتية المتناثرة فى كل أجواء عالمنا .. يبدو وفنه لنا شبيه بالفن الطفولى أو البدائى .. الذى لا يحترم قواعد الواقعية البصرية .. وثمة هناك أسباب عديدة تجعله لا يحترم قواعد الواقعية البصرية .. ولكنه يأخذ جوهرها مما تعلمه وجربه فى دراسته وممارسته الدائبة للفن .. فما عاد الأمر يحتمل أن يبنى الفنان مدلولاته على تقصياته البصرية .. فحسب .. فما كانت الحقيقة لتنحصر فى مجرد الصور المباشرة .. التى ترتسم على عدسة أبصارنا .. الذى يؤكد على وجود قسط من البدائية والعفوية فى كل فن حتى فى الفن الواقعى والفن الطبيعى .. فالارتكان إلى العواطف والانفاعلات أكثر من الارتكان إلى المعرفة والعقل .. وليس هذا وقفا على الفنان الكبير ممدوح عمار فحسب .. بل كل امرئ منا يجد نفسه فى لحظة من لحظات حياته .. قد أطلق العنان لعواطفه .. بحيث تطغى على صوت العقل .
- وهناك ملاحظة هامة أكدها الفنان فى مراحله المتعددة وسار عليها حتى وقتنا هذا .. وهى عملية الرسم واهتمامه بالخط.. المحتفظ بسخونة التعبير وطزاجته.. وما اللون عنده سوى عنصر مكمل للخط.. فالخط المرسوم هو الذى يشكل به لوحاته فى أغلب الأحوال.. وليس هو الوسيلة الوحيدة السريعة لتسجيل الفكرة التصويرية .. لحظة نضوجها وانطلاقها .. أن الرسم فى الحقيقة كما يقول ممدوح عمار هو للاستقراء والتعرف على الطبيعة من حولنا بجميع مفرداتها.. لتكون عونا لنا أثناء بناء الأفكار التصويرية.. كثيرا ما يحدث حوار بينه وبين الطبيعة أثناء قيامه بالرسم .
- لنشاهد فى أغلب لوحاته الخط المرسوم الدقيق حول أشكاله المحددة والفاصلة بصراحة عن الأخرى فى الفراغ المحيط .. وحتى إذا لم يكن هناك خطا مرسوما فأننا نتوهمه.. يحدد الأشكال بأسلوب آخر مغاير.. وهذا ينطبق على غالبية فنانى جيله.. الذين يعتبرون من المصورين الرسامين الممتازين فى الحركة المصرية المعاصرة .
الناقد / محمد حمزة
التصوف.. بالألوان
- العمل الفنى ليس جسماً أو شيئاً يدرك حسياً بل هو فعل يقوم به الفنان، وهو ليس فعلاً صادراً عن جسده أو عن طبيعته الحسية، بل هو فعل قد صدر عن وعيه ومن هنا تبدو لنا مشكلة صلة الفنان بمجتمعه .
- وعندما يرغب الفنان فى توصيل تجربته للآخرين، لابد أن يلتزم بالجانب العملى من فعله الفنى ولكى يحقق ذلك ينبغى أن تتوافر له السبل للاتصال بهم هذه السبل عبارة عن أجسام وأشياء يمكن إدراكها حسياً، كاللوحة المرسومة، أو التمثال المنحوت من الصخر، أو غير ذلك من هذه الأمور البسيطة للغاية طبقا للنظرية التقنية فى الفن فالفنان التشكيلى لن يكون بالفعل فنانا ما لم يدركه النجاح فى التأثير فى جمهوره فى نواح معينة .
- واللوحة المرسومة أو ما شابهها، هى تلك الوسيلة التى يستخدمها لتحقيق هذه الغاية وما يجعل الفعل الفنى جديراً باسمه هو قدرته على أحداث الآثر المطلوب فيمن يتذوقونه ومن ثم تكون صلة الفنان بالمجتمع أمراً أساسياً فى اعتباره فنانا من هذا المنطلق كانت ضرورة المتابعة لأعمال الفنان ممدوح عمار فى معارضه التى يقيمها سنوياً والتى كان آخرها معرضه الذى أقيم فى قاعة سفر خان من 17 أكتوبر 2002 إلى 16 نوفمبر 2002 بالإضافة إلى متابعة ما يستجد من أعمال يقوم الفنان بتنفيذها فى محترفه بضاحية المريوطية القريبة على مدينة القاهرة .
- والفنان ممدوح عمار له تجربة فريدة لعرض أعماله وخصوصاً أنه يستند إلى أسلوب العرض المرحلى ( المعارض الاستيعادية المجزئة ) حيث يضع الأعمال التى قام بتنفيذها فى فترة معينة بالتجاور مع أعمال أخرى نفذها فى سنة العرض ليظهر للمتلقين مدى ما وصل إليه من تطور فى الرؤية والإبداع ففى معرضه الأخير نلاحظ أن عنوانه هو ( ممدوح عمار 1952 - 2002 ) .
- كما أن هناك تجربة فنية أخرى وهى تحويل بعض الأعمال التى نفذها عند تخرجه إلى أعمال جديدة فى تنويعات على نفس الفكرة وعلى سبيل المثال هناك ( لوحة غربة ) التى استخدم فيها الفنان الحبر الشينى والألوان المائية نجدها مؤرخة ( 1952 - 2002 ) أى أنه نفذها مرة أخرى بعد 50 سنة من تنفيذها أول مرة بخامات أخرى وبالمتابعة للأعمال المعروضة تظهر لنا الموهبة الفذة لذلك الفنان ( أعماله فى مشروع تخرجه 1952 مثل الدراويش والذكر ) والتى استطاع أن يصقلها بالثقافة الراقية والموسوعية - حيث تربى ودرس أعمال رائد التنوير الدكتور طه حسين ورائد المسرح العربى الأستاذ توفيق الحكيم وتعلو من هذه الأعمال فنون الحياة المختلفة، وتفاعل باهتمام مع حركة المجتمع المصرى فى مراحل مختلفة مستخلصاً اعمالاً تظهر روح المجتمع المصرى وتفاعلاته معه كما تابع باهتمام أيضا كل مظاهر الاحتفاليات الشعبية والموالد وحلقات الذكر مستلهماً منها الكثير من أعماله .
- لاحظت تنوعاً فى أعمال الفنان على قدر متابعتى له استخداماته للخامات المختلفة، الألوان الزيتية - الطبشور الملون - الألوان المائية - الحبر الشينى منفردة أو مجتمعة أما الفعل التقنى لدى الفنان فقد اكتسبه وصقله بدراسته فى كلية الفنون الجميلة وتابع فى بعثاته إلى روما وباريس والصين أعمال الفنانين العالميين وتعرف على أساليب المدارس الفنية المختلفة واتجاهاتها الحديثة .
ملامح الفن عند ممدوح عمار
- سجل ممدوح عمار فى لوحاته التى سنحت لى الفرصة أن أشاهدها : مقابر الفسطاط - محطات السكك الحديدية فى الضواحى - ساحات المساجد ( الساحة الخلفية لمسجد الحسين ) وهذه اللوحة الأخيرة جديرة بالمشاهدة لأبعادها الفنية والتقنية والمتطورة التى أستند إليها الفنان فى تنفيذها، كما أنه اتجه فى تسجيل مرابع الصوفية والمتصوفة ومنها لوحة حديقة البكتاشية وتمثل حديقة أحد القصور الذى كان مقراً لأحدى الطرق الصوفية المهاجرة من البانيا عبر تركيا واستقرت بمنطقة المقطم أثناء الحكم العثمانى ونرصد فى تلك اللوحة قدرة الفنان وثقافته الخالصة، حيث استطاع أن يتقن التصميم العام للوحة مع الاحتفاظ بالمنظور والأبعاد كما أظهر الظلال بشكل مختلف عما هو متعارف عليه فى أعمال الكثير من الفنانين المصريين فاستخدام لكل لون من الألوان المتناسقة والعناصر البنائية التى توحى بالصفاء والهدوء النفسى، وتكاثفت الألوان بمساحاتها بين اللون الأصفر الذى يتدرج إلى البنى والأخضر الذى يزهو حتى يصل لدرجة ما من الأصفر - أن لوحة حديقة البكتاشية هى رصد لمكان وزمن لم يكن ينتبه إليهما إلا صاحب نفس طموحه ومنحازة لهذا المجتمع ولايدانى تلكم اللوحة من حيث الأهمية إلا قرينتها لوحة الساحة الخلفية لمسجد الحسين .
- وقد رصد الفنان ممدوح عمار أيضا فى معظم أعماله حالة من التوجس والخوف من القادم وهو شعور إنسانى لايمكن لمكابر أن ينكر وجوده وتنوعت رؤى الفنان وتداخلت وسجلت ( حلقات الذكر والدراويش - جلسات المتصوفة - السيرك - العرائس الخشبية - الأراجوز - الآلات الشعبية والأكسسوارات النحاسية ودخان البخور ) ومن أعماله المبهرة أيضاً ، تلك اللوحة التى تظهر فيها آلة الربابة الشعبية على منضدة خشبية تاركة الضوء صنع لها ظلا رقيقاً يعزف لها لحنا حزينا يتصاعد فى ارجاء اللوحة إنها صدمة جمالية جديرة بالتقدير أن الفنان ممدوح عمار يمثل نوعا فريدا من الفنانين أصحاب الأساليب المتطورة ويحمل فى نفسه حبا فطريا لكل ما هو مصرى - حيث تتصاعد من أعماله الملونة موسيقى خاصة بها هو ينشغل بعمله الفنى يوميا فى دراسات تنأى به عن التوجس والخوف والانشغال بالمجهول وينتظر ما يسفر عنه الغيب .
- ولد الفنان ممدوح عمار 2 يناير 1928 وتخرج فى الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1952 وحصل على درجة الدكتوراه فى التصوير الجدارى وابتعد بفنه عن الأضواء ليحفظ لنفسه الهدوء والسكينة ويبدع فنا عذباً ليعيش حياة مليئة بالحب والانحياز للمجتمع .
محمد الشربينى
رحلة عمرها خمسون عاماً ممدوح عمار .. روعة اللوحة من بساطة الناس
- وسط نزعات الفن الحديث وحرية البحث والتجديد وصيحات الحداثة وما بعد الحداثة، يطل علينا الفنان ممدوح عمار بإبداعاته المتميزة التى يعرضها بقاعة سفر خان بالزمالك ليعيد إلينا ما افتقدنا من لغة مصرية ورؤية خاصة للفن بأبجديات تراثية نبتت معه فى إحدى قرى محافظة البحيرة .
- يقدم الفنان ممدوح عمار أعمال سنة 2000 ومختارات ما بين عامى 1951، 1961 وهى تلك الفترة التى شهدت بداياته قبل وبعد تخرجه فى كلية الفنون الجميلة بأعماله الواقعية التسجيلية فى التزام واضح بالدراسة مع الميل إلى التجريب فى استخدام الألوان القوية فى التعبير محتفظاً بسخونته وطزاجته واستمرت معه ذيول هذه التجربة فى مرحلة مرسم الأقصر والتى بدأت فى عام 1954 ليتبدل المناخ وتتحول المدينة الصاخبة فى أعماله إلى قرى الأقصر وصحرائها الشاسعة ويعيش بساطة المكان وأهلة ويعبر عنهم فى اهتمام بالخط وإحكام للتكوين، ونجد فى أعماله السيدات وأزياءهن المميزة، والرجال أيضا ولعباتهم الشعبية، والخيول الراقصة والمزمار البلدى والربابة والبيوت البسيطة فى حسابات للشكل داخل تكوينات هندسية أصبح اللون فيها وقوراً حيث بعد الفنان فيها عن التعبير المباشر أو التسجيل عن الطبيعة، مضيفاً بعض الزخارف الشعبية والوشم .
- كانت البساطة سمة هذه الفترة وجاء اهتمامه بالواقع من خلال التجريد، وتأخذ الطبيعة الصامتة نصيباً من إبداعه فى هذه الفترة ليظل التكوين المحكم هو منهجه فى حسابات الكتلة والفراغ.. ثم يشده عالم السيرك فى عام 1957، لينتقل الفنان ممدوح عمار إلى مناخ شعبى جديد سادته الدوائر والمربعات التى تحتوى أبطال السيرك، وتتحول اللوحة إلى شكل رياضى مثير، وشهدت هذه الفترة أيضاً اهتماما بالخيول فى أوضاعها الثابتة والمتحركة .
- مختارات من تلك الإبداعات يضمها الجزء الأول من المعرض، وهى الأعمال التى أبدعها حتى بداية بعثته لأوروبا فى عام 1961 .
- والجزء الثانى من المعرض هو المخصص لأعمال عام 2000، وهى أحدث إبداعات الفنان حيث يؤكد من خلالها هذا الارتباط والخيط الواصل والمتواصل عبر 50عاماً من الإبداع ، فقد اختار فيها طائر `الغراب` ليكون محور هذه المرحلة، ويحوله من رمز للتشاؤم إلى رمز يحمل القيمة التعبيرية والمضامين الإنسانية .
- ` تنويعات على لحن طائر ` هو عنوان هذه المجموعة والتى بلغت 14عملا ما بين التعبير بالخامات المتنوعة كالباستيل والفحم، والتعبير بالألوان الزيتية فى بساطة ممتده فى شريط إبداعه، بساطه فى الشكل واللون والتكوين والمفردات ووعى وتمكن وتحكم فى تلك المفردات هو نتاج تراكم خبرات وثقافات الفنان، فالفكرة التصويرية تتولد لديه متمازجة مع وسيلة التنفيذ والمساحة كالمعزوفة الموسيقية والتى تتنوع ما بين العمق والتعبير المباشر ،وهو ما يسمى بموسيقى الحجرة تقوم بها آلة، أو اثنتان وحتى ثمانى آلات وكذلك العمل السيمفونى الذى يعتمد على تركيبات من آلات متعددة والذى يمثله العمل المنفذ بالألوان الزيتية إذ يتطلب التحضير والترتيب واستخدام الملامس والكشط واللمسات والعجائن ويستغرق ذلك مدة طويلة من الزمن تفقد فيها طزاجة وحيوية وحساسية الجملة المباشرة وكذلك تلقائية التعبير المباشر الذى يعتمد على عصبية الفنان الحرة مع الخامات البسيطة .
محمد الناصر
نصف الدنيا
ممدوح عمار.. ابن القرية الإنسان والفنان
- ولد الدكتور ممدوح عمار عام 1928فى قرية بالبحيرة، حيث كان والده العمدة لهذه القرية، تعلم من صغره القراءة والكتابة عن طريق حفظ بعض من آيات القرآن الكريم، وهذا ما تعلمناه جميعا من قبل منذ الصغر، عاش فى هذه القرية كأى شخص يعيش فى بيئة ويحيط به الأهل والأقارب والأصدقاء، فى جو ملئ بالطمأنينة والهدوء والاستقرار، عاش متأملا ما حوله برضا وقناعة، وبحب وإخلاص ممزوجة بتعاليم الدين الإسلامى، مما جعله متأصلاً بكل ما يحيط به من تقاليد وأعراف .
- وكما نعلم جميعاً أن لكل قرية طابعاً خاصاً، حيث الموالد الدينية والشعبية، وبعض الفرق التى كانت تطوف فى أنحاء القرى المصرية، نسمع حكاوى كثيرة وراء أشكال وطباع لبعض الأشخاص لا يمكن أن نراها إلا فى الريف، مثل المجذوب والدراويش والأخرس الأبكم، والغنى والفقير..علاوة على مكان للصناعات اليدوية والحرف الشعبية، والحركة المستمرة من مطلع الفجر، والذهاب إلى الحقل والعودة منه قبل غروب الشمس، بصحبتهم مجموعات الحيوانات والأغنام والإبل كجزء مكمل لهذا المشوار، متأملاً الحقول الخضراء الممتلئة بأشعة الشمس الذهبية، وانعكاسها على المياه الصافية .
- رسمت كل هذه الأشياء بداخله، وخرج من القرية ملماً بكل ما رآه وعرفه عنها، وذلك بعد أن أنهى دراسته الثانوية، وذهب إلى القاهرة للتقدم لكلية الفنون الجميلة، حيث التحق بها عام 1947، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة فى حياته، لها مذاق خاص سواء فى المكان أو طريق التعامل والمعيشة .
- كل ذلك كون بداخله رؤية خاصة، وكانت القاهرة حينذاك، حوالى 1947، محتفظة برونقها الأصيل فى كل شئ .
- تتلمذ بين كبار الفنانين المصريين أمثال : يوسف كامل، وراغب عياد، وأحمد صبرى، وحسنى البنانى، وعبد العزيز درويش، وبيكار، وعز الدين حمودة، وعباش شهدى، أمين صبحى..ثم تلاهم الجزار وحامد ندا .
- وعين معيدا وزامله يوسف فرنسيس، وعلى مهيب، ثم عين بعده كل من كمال السراج، وزكريا الزينى، وشعبان مشعل، وأحمد نبيل، وصلاح عسكر .
- وكان الدكتور ممدوح معيداً علينا عام 1960، ثم تزوج من إحدى زميلاتى فى الدفعة، وكانت من قسم الديكور، وهى السيدة إكرام، وكنا جميعاً سعداء بهذا الخبر السار، وكانت رحلاته كثيرة، فقد سافر إلى الصين وفرنسا وإيطاليا، وعاد ليعيش د. ممدوح عمار فى الزمالك، وفى نفس الوقت لم ينس الريف الذى زامله منذ الصغر، حيث كانت لديه هو وزوجته الفاضلة مدام إكرام عزبه بالمنصورية، وهى قريبة جداً من القاهرة، فكان مرسمه وإقامته بها شبه مستديمه، حوالى يومين إلى ثلاثة كل أسبوع، وكان مرسمه محاطاً من كل جانب بمجموعة نادرة من النباتات .كان شغوفاً بالزهور، وأنواع لا حصر لها من الصبارات، وتعلم كيف يحافظ عليها، وكيفية التعامل معها بعشق يفوق الوصف، كان يصورها فى أوضاع مختلفة وبالذات أوقات التزهير، ويحمل لنا صورها فى سعادة غامرة، كما لو كانت أحد أبنائه فى عيد ميلادها .
- كان منظماً ومحافظاً على ما لديه بحرص وترتيب وإتقان، وكان مخلصاً لعمله، ملتزم يحافظ على مواعيده بدقة فى كل شئ لا ينفعل بسهولة وله القدرة للدفاع عن نفسه، ومهتماً بمظهره، يحترم الجميع والجميع يحترمه ويقدره بما لديه من علم وثقافة، لا يحب الأضواء، كان يأتى إلى القسم فى هدوء ويخرج منه وكله سعادة لحبه لعمله، كان يعلم الطلبة ويعطيهم كل ما عنده من المعلومات دون ملل أو تعب، كانت صداقته محدودة، يختار منها ما يناسبه ويرضى عنه، كان دائما يبحث عنى ويسأل د. أحمد نبيل أين مصطفى الفقى، الجدع ده وحشنى، أصل حضوره حلو وظريف، وشعبان عامل إيه صحته كويسة، دائما ً رباعى كل واحد منا يسأل عن الآخر .
- وفى الفترة الأخيرة، أى قبل وفاته بأسبوع، كان يحكى لى أنه نظم مرسمه وسجل كل أعماله بدقة ونظام، وأنه أنهى كل شئ، وليس له الرغبة فى إنتاج أى عمل فنى، وأنه الآن فى حالة راحة وهدوء تام، وقال بالحرف الواحد : خلاص أنا قفلت الباب، كما لو كان يعلم بما سيحدث .
- ترك لنا أعمالاً امتلأت بأفكاره، لنرى خلاصة ما اختزنه بداخله، وأخرج لنا أعمالاً ستظل خالدة إلى الأبد، حاملة اسم أ.د . ممدوح عمار.
أ.د . مصطفى الفقى
مجلة الخيال - يونيو 2012
ممدوح عمار فى أخر حوار معه .. المجاذيب والخيول .. والديمقراطية فى مؤتمر الغربان
-عن عمر يناهز 84 عاما رحل فارس الإبداع ممدوح عمار، أحد الأساتذة الكبار فى فن التصوير، والذى قدم طوال أكثر من ستين عاما، لغة بصرية خاصة، ميزت عالمه الذى امتد فى مراحل وحالات وآفاق.. وتنوع بأبجدياته وثرائه التعبيرى.. كما ترك ثروة فنية، تمتد من التصوير والرسم، إلى الدراسات والأسكتشات .
- وعمار رغم قيمته ومكانته الرفيعة، كأستاذ أكاديمى، وفنان كبير، إلا أنه وللأسف الشديد، لم يأخذ حتى بعض حقه.. ذلك لأنه كان شخصية إنسانية وفنية، تعمل فى صمت.. لا تجرى وراء بريق إعلامى، أو نجومية زائفة، فهو من أكثر فنانينا نفورا من الأضواء، وحرصا على الإبداع، والصلاة فى محراب الفن.. وكان مع هدوئه حاسماً قاطعاً فى الأمانة العلمية، ومثقفاً، كل ما يشغله مع فنه أن تصل رسالته بلا ضجيج.. ومن هنا ترك تلاميذاً، تعلموا من خلاله معنى الفن، وكان حين يتوقف يستجيب لنداء قلبه، ثم يعود مرة أخرى بإشارات داخلية دون ضغوط، بعيدا ًعن تلك الغوغاء التى يفتعلها البعض جلبا للشهرة ومن هنا تحشد لوحاته بلغة تعبيرية،فاضت بمراحل عديدة من بداياته الأولى وحتى الآن.. مراحل تتحدى العولمة، وتشدو بالخصوصية المصرية بلمسة الحداثة .
- ولقد كان لمجلة الخيال شرف إجراء أخر حديث معه ضمن سلسلة `فنان العدد` .. كان ذلك منذ شهور قليلة، عندما التقينا به باعتباره أحد الرموز الكبار فى بيته بشارع الملك الأفضل، الكائن أمام تمثال أم كلثوم بأبو الفدا، بالزمالك.
* فارس وخيال :
- وسط الريف المصرى تحديداً بقرية `بيبان` بالبحيرة، ولد فناننا عمار فى 2 من يناير من عام 1928.
- يقول : فى صفاء الريف المصرى كانت طفولتى.. وببساطة وتلقائية توحدت شخصيتى منذ الصغر مع سحر الطبيعة .
- كان والدى عمدة القرية مولعا بتربية الخيول، فجعل لى حصانا أمتطيه فى المباهج الريفية فى صحبة من شباب الخيالة ومن هنا ترسبت بداخلى كل صور الحلم والانتشاء للحصان العربى .
- وعندما جئت إلى القاهرة فى المرحلة الثانوية التحقت بمدرسة عمر طوسون الثانوية ` شبرا الثانوية حاليا ` وكانت مدرسة داخلية.. وذات يوم ذهبت مع زميل لى إلى سينما أوبرا.. وهناك بالصالة تسمرت عيناى أمام لوحة موقعة باسم الفنان التركى هدايت.. ومع إعجابى الشديد بها صممت على أن أتعرف عليه، وأخذت أسأل هنا وهناك حتى اهتديت إلى عنوانه، وكان يسكن بعمارة أمام المتحف المصرى بميدان التحرير.. وفى يوم اتجهت إليه حاملا كراسة الرسم.. ومن بداية اللقاء، ومن الوهلة الأولى وبمجرد أن تصفحها هدايت.. وسط دهشته وإعجابه برسومى عرض على أن يعلمنى مجانا !!
- كنت أذهب إليه مرة فى الأسبوع وكان المشجع والدافع الأول لدخولى كلية الفنون الجميلة هو وقاهرة المعز فى كلية الفنون الجميلة.. تعلم عمار قواعد الفن وأصوله على يد رواده المصريين، يوسف كامل وأحمد صبرى وحسين بيكار أيضا، ومع هذا كما يقول: كنت على لقاء بأستاذى الفرنسي بيبى مارتان عندما التحقت بها عام 1947.
- ويضيف : مازلت أدين له بكل حب وتقدير فهو الذى عرفنى بالقاهرة الفاطمية، خاصة أننى لست من القاهرة، ولم تكن معرفتى بها تزيد على شارع فؤاد.. ولقد رأيت معه القاهرة الإسلامية بأزقتها ودروبها ومعمارها، ووصل تواضعه معى إلى أنه كان يمر على وكان يسكن ببيت الفنانين بالقلعة، يأتى إلى سكنى بلاظوغلى ويصحبنى معه.. نتجول بشوارع المعز وخان الخليلى والغورية، وفى نهاية المطاف نستريح بالحسين، ونتأمل المجاذيب والدراويش وأظل أرسم وأرسم من كل تلك الأماكن، وهو بدوره يوجهنى ويشجعنى فى الخطوط والمساحات .
- ومن هنا وفى أواخر السنة الثانية بالكلية قررت من البداية على أن يكون مشروع البكالوريوس حول `المجاذيب ` فقد بهرنى هذا العالم من الرجال والنساء بملابسهم الغريبة، وأشكالهم العجيبة، هؤلاء الذين نطالعهم فى الموالد الشعبية والاحتفالات الدينية حول الأضرحة خاصة `النيابة` وهو مجذوب نصب نفسه نائبا للحسين، وكان يرتدى ملابس ضابط بنياشين.. وتتدلى ضفائره الحمراء وتتداخل بلحيته الطويلة .
- من وحى هذا الواقع السحرى رسمت مئات الاسكتشات وقدمت مشروع البكالوريوس. وبعد تخرجى بامتياز..التحقت فى البداية رساما بدار التحرير الصحفية. وكانت تجربة ثرية اعتدت من خلالها على التفكير اللحظى السريع والتعبير الفورى وكنت أرسم أسبوعياً.. ومن بين رسومى فى ذلك الوقت مقالة د .لويس عوض، وقد أفادتنى تلك الرسوم من حيث الإحساس بالمساحة والثورة على السطح والتجريب والثراء والتنوع .
- ولكن بعد فترة قصيرة من التمرس بالعمل الصحفى الذى رغم قيمته وتنوعه يجعل الفنان فى الغالب أسيرا للنص .. كنت أحاول الخروج من هذا بالتعبير الذاتى، وموازاة الكلمة المكتوبة بلغة تشكيلية أتصور إنها كانت ترضى قناعاتى..إلا أنه جاء ما يروقنى ويناسب شخصيتى الفنية،فقد التحقت بعد ذلك فى بعثة داخلية بمرسم الأقصر لمدة عامين وكان هذا النظام يتيح للخريج فرصة التفرغ لإنجاز موضوع يختاره بنفسه، ويلتزم به وله علاقة بالبيئة هناك من هذا التنوع من العمارة التاريخية وتوهج الجداريات بالنغم التشكيلى وطقوس الحياة التى عاشها المصرى القديم..هذا مع سحر العمارة الريفية والتى تتميز باللمسة التلقائية.. وكان بمرسمى نافذتان واحدة تطل على فضاء صوفى من صحراء تلمع تحت وهج الشمس وأخرى تطل على نخيل وزروع وحقول شديدة الإخضرار.
- وفى هذه المرحلة الحرية بالتسجيل فى حياته الحرة الطليقة.. أبدع أخصب لوحاته العفوية لأهل الأقصر: أبناء النوبة.. من سهرات.. واجتماعات.. ورقصات.. وتأملات.. كما أوحت له العمارة التاريخية الضخمة.. والجبال الشاهقة المحيطة.. ببساطة الخطوط وحدتها.. واختزال أشكالها وتبسيطها.. والسكون والهدوء فى مساحاتها الشاسعة القريبة من الصحراء.. حيث يظهر فيها الإنسان وحيداً ضئيلاً.
- كما تعلم من العمارة الريفية الفطرية..العلاقة العضوية الصادقة بين العمارة المحتوية للإنسان داخلها. ويظهر فى لوحته `القهوة النوبى` التى أنجزها عام 1956 تكويناً جديدا ًمدهشاً كأنه صورها من أعلى جبل.. بمنظور `عين الطائر` واللوحة مستطيلة.. رسم فيها الرجال بملابسهم النوبية التقليدية البيضاء.. وهم جالسون على دكك متراصين بجانب بعضهم فى تكوين هندسى متناغم .
- أما لوحته `نساء من الأقصر` فكانت تجمعا فريدا حيث تراصت النساء فى خط واحد اتشح بعضهن بالسواد.. وظهر البعض الآخر فى ملابس فاتحة فى كتلة مرسومة بخشونة.. بخطوط شكلت نسيجا متكاملا.. كأنها لوحة من النحت البارز .
وبعد منحة الأقصر جاءت رحلة ممدوح عمار إلى الشرق البعيد إلى الصين وكان معه الفنان هبه عنايت.. كانا أول ناس يتجهون إلى الشرق الأقصى فى منحة دراسية بناء على أول معاهدة ثقافية بيننا وبين الصين..كان ذلك عام 1957..هناك قضى عام من التأمل فى الفن الصينى، واستوعب تكنيك الحفر على الخشب. وهو فن موجود باتساع الصين وكل أرجائها. وهذا التكنيك استخدمه فى الطبع بالألوان المائية والجواش .
* دنيا الفن وعالمه :
- فى عام 1958 وحتى عام 1961 أنجز العديد من الأعمال ما بين الرسم والتصوير توج على عرش تلك الفترة لوحته الصرحية الضخمة `الحرب` والتى تعد ذروة أعمال تلك المرحلة. وقدس أقداسها وقد استغرق الانتهاء منذ عام ونصف العام.
- والفنان عمار لم ينفعل بشكل مباشر يتصل من قريب أو بعيد بالحرب.. ولكنه انفعل بهذا الصراع الدائر والدائم بين الإنسان والإنسان بطول التاريخ فصور الحرب كغريزة إنسانية تحدث فى كل زمان ومكان من بدء الخليقة.. من بدء أول جريمة على الأرض.. جريمة قابيل وهابيل .
-فى تلك اللوحة تعمد الفنان عمار أن يكون ضحايا الحرب بداخلها عرايا كما ولدتهم أمهاتهم مجردين من الملابس بلا هوية..فهم لا ينتمون لوطن معين بقدر انتمائهم إلى البشرية جمعاء.. إلى كل مساحة وتاريخ تراق فيه الدماء وتنتهك القيم الإنسانية السامية .
- اللوحة فى مجملها تجمع بين التشخيص والتلخيص الشديد الذى يقترب من التجريد..فى الخلفية تطل هياكل بنايات ذات فتحات مربعة وقوسية لا تتعدى مجموعة من السطوح مع أشجار تساقطت أوراقها.. وتنساب الجموع البشرية تأخذ شكل حلقة دائرية مغلقة من الأمام مفتوحة فى الخلفية.. حشود من البشر فى أوضاع أمامية.. رجال ونساء وأطفال..أمهات ورضع.. وفى مركز الدائرة أشلاء من القتلى..فسقية تضم الضحايا صورهم بمنظور عين الطائر.. ومن بين تلك الجموع التى تحمل وجوها قلقة حزينة مسكونة بالرعب والانكسار نطالع امرأة جهة اليسار تغطى وجهها بيدها، علامة الخزى والعار وامرأة أخرى تضع يدها على صدرها تعبيرا عن الفزع.. وفى مقدمة اللوحة يطل طفلان جالسان غارقان فى بحر من الدماء.. وقد اعتمد عمار على إبراز فظائع الحرب من خلال التشويه المأساوي للأجسام والتى بدت كأنها أجسام هشة مسطحة .
- وإذا كان بيكاسو قد عبر عن مأساة قرية جورنيكا بألوانه الكابية التى استخدم فيها الأبيض والأسود مع درجات متفاوتة من الرمادى.. إلا أن فناننا عمار قد استخدم فرقة إنشاد لونية تعكس هذا العنف والدمار وقمع الإنسان لأخيه الإنسان واستخدم حواريه من الأسود والأحمر.. مع درجات من البرتقالى بدت على الهياكل الآدمية أما الأشلاء فى مركز اللوحة فقد غلب عليها الأخضر المنطفئ الذابل والذى يوحى بالوهن وانطفاء الحياة .
* السيرك :
- وقد جاءت أعمال الفنان ممدوح عمار والتى تدور حول السيرك فى عشرات من اللوحات، مع مئات من الدراسات والرسوم السريعة تصور أبطاله من لاعبى الأكروبات وعازفى الترومبيت والمهرج وساحة السيرك والعاب الترابيز، وكل التفاصيل التى تمثل تلك الحياة بين المأساة والملهاة التى تجمع النقيضين الفرح والحزن، والبهجة والآسي من خلال هؤلاء الذين يقدمون المتع من الفرجة وهم فى الوقت نفسه مهمومون بحياتهم اليومية وضغوطها ومواجعها... وهو هنا يعكس الحياة الحقيقية للبشر من خلال السيرك.. أعمال تنتمى للتعبيرية الحقيقية والتى من خلالها يقفز الفنان بنفسه على سطح اللوحة ويتوحد معها بمشاعره وأحاسيسه .
- يقول عمار عن هذه التجربة : قضيت سنة مصاحبا سيرك الحلو.. عشت وتآلفت مع أبطاله الكبار: محاسن الحلو ومحمد الكبير `كلهم حلو فعلا`.. تعايش كامل ننتقل معا ونتحاور مع ناس السيرك خاصة المهرج بعزق، وقد تأثرت بشخصيته كثيرا.. حصل بينى وبينه نوع من الاستلطاف والود والصداقة، ومن كثرة التعايش معه رسمته فى لوحات عديدة.. منها بورتريه له بالطرطور ولوحة أخرى كبيرة أعطيته فيها حقه كقيمة إنسانية فأفرغت السيرك كله ورسمته فى فضائه ..فى كل هذا البراح يقف وحده بطلا وحيدا لهذا المسرح، وهنا نتخيل الجمهور كله يراه ويشجعه ويستمع إليه .
*عروسة المولد :
- وفى بعثة إلى فرنسا وإيطاليا سافر ممدوح عمار وأقام هناك من عام 1961 وحتى عام 1966 وكان مثيره الأساسى فى صحوه ورواحه ونومه عروسة المولد لقد حملها بداخله كتميمة مصرية وصورها فى لوحات متعددة بطول هذه الفترة بدءا من العروسة ذات المروحة والتى شكلها من جديد بألوان صداحة من الأحمر النارى والأخضر والأزرق والروز إلى تكوينات متعددة للعروسة فى ثنائيات وثلاثيات وحتى رباعيات من العرائس فى إيقاعات عديدة على المسرح وفى رقصات.. جمع فى بعضها بين الإيقاع الهندسى وهذا الكائن العضوى الذى يجسد عمق الروح الشعبية تطل بعين واحدة وكأنها تتأمل ما حولها بشكل أكثر تركيزا ..عين مفتوحة على مصر فى فترة الاغتراب عن الوطن .
- هذا بالإضافة إلى عروس تنظر فى المرأة وعروسة بملابس السهرة وعرائس فرادى فى أوضاع جانبية باختزال وتلخيص شديد بين رهافة الخطوط التى تلعب دورا كبيرا فى التكوين وثراء المساحات التى تتنوع من السطوح الخشنة إلى السطوح الناعمة .
- يقول عنها : لم يغرنى أن أرسم منظرا واحدا فى أوروبا فقط كان لدى أكثر من 5000 آلاف شريحة بالكاميرا للجبال والمياه والشجر والبشر والنوافير والعمارة الأوروبية ومن هنا لم يحدث أننى أنفعلت بالطبيعة هناك.. وقد يبدو التساؤل هنا لماذا ؟
- لأننى حين أرسم المنظر من مصر.. الضوء والشمس وطبقة الرذاذ التى ينثرها الجو من التراب تجعلنى فى حالة عناق .. وتحتضن إحساسى وهو ما افتقدته فى أوروبا !!.
- ولكن قيمة الفترة التى قضيتها هناك كانت كبيرة ومفيدة من حيث الاتصال بالإنتاج الفنى..استكملت ثقافتى فى الأكاديميات وتعلمت الفريسك ` التصوير الحائطى بشكل معقول عن طريق أستاذى اوجام الذى تعلمت منه الرسوم الجدارية والموزاييك، وقضيت ستة أشهر مع اندريه لوت الذى جاء إلى مصر من قبل.. تعلمت منه دراسة الموديل والبورتريه.. وواصلت دراستى فى روما على يد أساتذة الفن الإيطالي المعاصرين .
- وفى تلك الفترة أيضا تنوعت أعماله فى تنويعات لباليه الأكواب والذى يمثل دراسة لحركة الأكواب على مسطحات من أشكال هندسية .
* مؤتمر الغربان :
- وممدوح عمار تمتد أعماله فى مراحل عديدة من التعبيرية إلى ما فوق الواقع.. ومع الزهور والورود وصور الطبيعة والوجوة الإنسانية والحمام الذى جسده فى صور هامسة تموج بالهديل ..
- فى فترة السبعينيات من القرن الماضى تحولت الخيول العربية التى تنساب بالحلم والقوة والانتشار عند عمار، والتى كثيرا ما رودها فى قريته بالبحيرة إلى لعبة خشبية.. وقد انتقل بها إلى حالة سيريالية واعتمد فيها على السطوح وتحول الحصان الذى يمثل صورة للحركة والحيوية إلى حالة ساكنة كما فى لوحته `أول تعرف على الألم` والتى صور فيها طفلا على حصان خشبى، وقد أضفى عليها ملامح تتجاوز الواقع وتتأكد تلك الملامح السيريالية حين القى بطائر جريح بين أرجل الحصان .
- وليس أجمل من تفسيره فهو يقول عنها : من الستينات حتى عام 1972 ظللت أرسم من حوارى القاهرة وعند بوابة الفتوح كان هناك رجل يعمل أحصنة خشبية للمراجيح أعجبنى الفورم الخشب اشتريته واقتنيته بالاتيليه.. وعندما ولد أبني عام 1973 أوحى لى بتركيب الصورة.. وأضفى نوع من الحس الدرامى.. ثم أخفيت الطائر الجريح فى اللوحة حتى يكون أول تعرف للألم.. العناصر داخل الفنان تقفز فى لحظة لا يدريها .
- والفنان ممدوح عمار كان يقيم بين بيته بالزمالك بالقرب من كلية الفنون الجميلة، وواحته التى يجنح فيها إلى الراحة والإبداع والهدوء حيث مرسمه الذى بناه على طريق ترعة المنصورية.. وحوله إلى جنة عذراء مع الطيور التى تروح وتجئ.. يستمد منه عالما تعبيريا آخر .
- وتعد لوحات الغربان من أعمال الفنان عمار الحديثة وقد بدأها من عام 2000 واستمرت معه.. وهى أعمال شديدة التعبير جاءت من وحى تأملاته لمجتمع الغربان بالمنصورية .
- فى لوحة `مؤتمر`.. يصور تسعة غربان فى تجمع حول باقة صغيرة من الزهور الحمراء لكن المدهش أن كل طائر يصور بشكل رمزى بورتريه لإنسان.. كل طائر جاء مسكونا بانفعال صامت.. مسكونا بفكرة.. وكل طائر أيضا فى حالة تختلف عن الآخر من حيث الوضع والحركة.. ويبدو فى الناحية اليسرى من الصورة غراب فى حالة تردد بين أن يستمر أو ينصرف.. وهو هنا كأنه يصور شكلا من أشكال الديمقراطية.. كما أن اللوحة تحتمل تفسيرات كثيرة .
- ولا شك أن أعمال الفنان ممدوح عمار بطول رحلته مع الإبداع قد شكلت صيغة تعبيرية جمع فيها بين التراث والبيئة المصرية والطبيعة التى نمتلكها، والتى تعد بمثابة حصنا من العولمة كما تمثل لمسته الحداثة بالمفهوم الإيجابى، وهو يهزنا ويدهشنا فى أعماله الجديدة الخاصة بالدراويش والذكر.. فقد عاد بنا مرة أخرى إلى مجاذيب سيدنا الحسين.. هذا العالم الذى صوره من قبل فى مئات الدراسات والاسكتشات وعشرات اللوحات أوائل الخمسينيات من القرن الماضى ..فبعد أن عثر فى أوراقه على بعض الرسوم التحضيرية لهذا العالم..عاد إليها من جديد وأعاد صياغتها وتشكيلها فى لوحات مكتملة.. وأضاف إليها خبراته الطويلة وثقافته العميقة فى الإيقاع والتكوين والخطوط والمساحات مع مشاعره وأحاسيسه.
- كما أضاف إلى لوحته `حديث الصمت - 1967- 2009 ` والتى تصور شخصين جالسين فى تلخيص واختزال فى وضع جانبى وبعين لوزية مسحوبة، وهما فى حالة توحد واندماج.. وكانت تلك اللوحة مع لوحات عديدة له فى مكان مغلق فى مخزن بمنزله بالمنصورية وما أن رآها حتى أضاف إليها أبعادا وأعماقا أخرى جديدة تنتمى للألفية الثالثة .
- سلام على ممدوح عمار الفنان والإنسان وقد أضاف الكثير بقدراته التعبيرية إلى فن التصوير المصرى المعاصر.. وشكل مساحة ستظل تعكس لمعنى الخصوصية والحداثة.. مع خالص العزاء لزوجته الفنانة إكرام عمر وابنه زياد وابنته نهلة وزملائه وتلاميذه ومحبيه .
صلاح بيصار
مجلة الخيال - يونيو 2012
ممدوح عمار .. فنان يتحدى العولمة
- يعد الفنان محمد ممدوح عمار من طلائع الجيل الثانى من الرواد، وهو من الفنانين المرموقين فى الحركة المصرية المعاصرة، وأحد أهم المواهب المصرية المنحازة للطبيعة والإنسان، يتنوع أسلوب عمار بين التكعيبية والتعبيرية والواقعية. وقد مزج الفنان بين الأسلوب الواقعى الذى يعطى أبعادا واقعية للمنظر، وبين الأسلوب التجريدى الذى يميل إلى التبسيط والتسطيح، واختصار التفاصيل .
- والإنسان دائما وأبدا هو محور أعماله وهو يعتبر الرسم أساس جميع الفنون، يستخدم الفنان من خلاله خامة واحدة، وكأنه يعزف منفردا على إحدى الآلات، فى حين اعتبر الرسم بالألوان المتعددة كالعزف الأوركسترالى .
-هو فنان يتحدى العولمة بكل مغرياتها، ويتمسك بالخصوصية المصرية، لمساته حرة، تحطم فى طريقها الواقعية التشريحية للشكل الإنسانى، لوحاته بها عفوية، ظلت دائما تكشف عن نفسها .
- تعددت موضوعات الفنان التى استنبطها من ثنايا الحياة اليومية المصرية، والبيئة الشعبية وقد استهوته دراسة المناطق الشعبية فى القاهرة والإسكندرية، والأقصر فجاءت موضوعاته محلية الطابع إلى حد بعيد، تتمثل فيها أوجه وشخوص الحياة المصرية، بكل تفاصيلها وجوهرها النقى .
- وقد تعامل الفنان مع الطبيعة، وقام باحتضانها، وبرزت تلك الحالة عند تناوله مناظر من الأحياء القديمة كالمرج والقلعة، وحدائق المقطم، وأطلال الفسطاط، وساحات الحسين، وكبارى القاهرة كما لم يغفل أبدا شخوص تلك الأماكن بطقوسهم المتفردة، وأعمالهم اليدوية البسيطة، فرسم صانعى الحصر وبائعى الفول وغيرهم .
- كما كانت النساء دوما برقتهن وغموضهن موضوعا هاما بالنسبة له، كما لغيره من الفنانين والطيور، خاصة الغربان، من موضوعاته المفضلة منذ أواخر التسعينيات، إلى جانب الزهور والمناظر الطبيعية.
- وقد اختزنت كل تلك المشاهدات فى عقله وشعوره، لا تبرح مكانها، تظل مسيطرة طاردة لأى تأثير غربى يحاول أن يتسلل إلى فرشاته، تلهمه الشمس الدافئة، وعبق الحياة الشعبية، ونبضها التى تحمل شفافية وإحساسا بالفطرة والبساطة دون مبالغة، ويرى الفنان أن الأساليب مهما تعددت يبقى الموضوع هو الذى يعطى الطابع المحلى للإنتاج كما اهتم الفنان بالكروكيات، وهى عماد كل الأعمال الفنية، وامتازت كروكياته بالسرعة مع القدرة على التركيز على المضمون، وقد حاول إيجاد حلول لمعالجة العناصر التى يراها فى الطبيعة وتصويرها بأسلوبه الخاص، وإضفاء روحه عليها وليس نقلها كما هى. أما ألوانه فشديدة الدفء، تتفاعل مع وجدان المتلقى فى علاقة خفية قوية، تماثل علاقة الفنان بهذا العالم، وقد استوحى كل ذلك من البيئة المصرية الصميمة .
- كان ممدوح عمار دائم الاعتقاد بوجود نزعة ميتافيزيقية تطل من وراء الأعمال الشرقية، وأن المناظر المصرية بشمسها الساخنة، وذرات ترابها، وعلاقة الحجر بالرمل بالشمس هى ما حفزه، فهو يعتقد أن الفنان التشكيلى مرتبط ببيئته، وهذه ليست نزعة محلية، ولكن هكذا يعيش الفنان، تؤثر فيه الأشياء والمشاهد التى عاشها فى الطفولة والصبا، وتصبح حزءا من تكوينه .
- وكان الحصان دائما وأبدا عنصرا ملهما لجميع الفنانين شرقا وغربا. فهو كائن جميل رشيق، يلهم خيال أى فنان بخطوطه المرنة، وتفاصيله البديعة لذلك لا تخلو أعمال أغلب الفنانين منه سواء كان وديعا أو ثائرا ، فدائما ما تجمعه فى أى عمل فنى علاقة خاصة بالإنسان فى اللوحة، يتحاوران حوارا هامسا لا يدركه سواهما .
- ربما استوحى الفنان تلك الصرامة فى خطوطه وأشكاله من الفن المصرى القديم، الذى كان بالنسبة للفنان محدد وواضح المعالم، ولا ينقصه البعد الثالث. وذلك لأن الفن الفرعونى فى رأيه لم يكن يفتقد البعد الثالث، فهو موجود ولكن فى صورة روحية، وذلك عكس الفن الغربى الذى عبر عنه بصورة مادية بحتة.
- جاءت لوحات ممدوح عمار محكمة البناء، مرتبة العناصر، واهتم بتحقيق الانسجام بين كل أجزاء اللوحة. ويرى بعض النقاد أن الترتيب الشديد ربما جاء فى بعض اللوحات على حساب الحيوية والعفوية فى لوحاته.
- هكذا تتزاحم فى عقل ووجدان الفنان كل الخبرات السابقة التى يكتسبها من بيئته، ومن الحضارات الأخرى، لتتفاعل وتنصهر مشكلة مزيجا بديعا، وفنا به سمات كل الفنون. ويخرج إلى النور فنا طبيعيا دون انفعال، يجذب المشاهد إليه ويجعله يطوف فى كل أنحاء الدنيا بنظرة واحدة إلى العمل الفنى .
- وعن العولمة قال الفنان ما معناه، إن الطبيعة والبيئة المصرية هى الحصن، وإننا يجب أن نتمسك بأصولنا وهويتنا، مع الوعى والثقافة والانفتاح على التيارات الأخرى، لكننا نأخذ منها ما يناسبنا ويتفق معها .` وأضاف أنه لا يستطيع أن يتكلم عن لوحاته لأنه لا توجد كلمات تغنى عن اللوحة، فهى أبلغ من أى كلمات ` .
رشا أحمد نبيل
مجلة الخيال - يونيو 2012
أستاذي.. ممدوح عمار.. افتقدناك
- لقد مر أربعون يوما علي فراقك كأنها دهر فكل أشيائك تسأل عنك أين ذهبت؟ أزهارك ونباتاتك في حديقة مرسمك بالمنصورية والذي قمت ببنائه طوبة طوبة .
- لوحاتك تشتاق للمسة يدك حتي المقعد الذي ظللت تجلس عليه تحت النافذة في قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة طيلة سنوات عملك في الكلية ظل يسأل عنك بإلحاح ويرفض أن يجلس عليه أحد غيرك فقامت تلميذتك الدكتورة حنان الشيخ بنقله إلي مكان آخر فمازالت مكانتك محفورة في قلوبنا ولا ننسي أبدا أسلوبك الجاد وأنت تدرّس لنا مادة التصوير بسلاسة رائعة تارة داخل إطار اللوحة وتارة أخري خارجها، تعلمنا أن نعيش الحياة جيدا وبطريقة تناسب قدراتنا لنستفيد من طاقاتنا الخبيئة أحيانا وبقدر ما نعيش بقدر ما سوف نصنع فنا حقيقيا ولننظر ونتأمل الأشياء التي حولنا بإحساس وعمق لنستلهم من واقعنا كل القيم الجمالية الإنسانية العظيمة فعندما أنظر إلي لوحاتك ` المجاذيب ` أراك قد توغلت لأبعاد النفس البشرية بكل جوارحها في هؤلاء القوم البسطاء الذين قاموا بخلق عالمهم الغريب والبسيط ليستكملوا مشوارهم لملكوت السماء عبر النفحات الروحانية من خلال ذلك الجسد الفاني الذي ما انفك ينفض عنه شوائبه العالقة في هذه الدنيا.
- وأتصورك الآن لو كان قد امتد بك قطار العمر لتعبر عن شهداء ثورة 25 يناير كما عبرت في لوحتك الضخمة ` المناحة علي الشهداء ` وكان ذلك عام 2000 والموجودة بمتحف دنشواي هذه المناحة التي بدأت منذ إلقاء القبض علي الأبرياء الشهداء في مجزرة الاستعمار البريطاني الغاشم علي أهل مصر في أوائل القرن العشرين وماذا أقول الآن علي شهداء ثورة 25 يناير المستمرة والذين استشهدوا علي أيدي مصريين مثلهم لكنهم كانوا مصريين أعداء.. أعداء للحرية والكرامة.
- وفي لوحاتك التي تناولت فيها عروس المولد أيام كنا نحتفل بمولد النبي بفرحة نعبر عنها بشرائنا لتلك العرائس المزينة بالورق المزركش والفارس الذي يمتطي ذلك الحصان بعزة وقد صنعت هذه العرائس والأحصنة بأيادي مصريين أسطوات لتصبح جزءا مهما من تراثنا الإبداعي المصري وهأنت تساهم في توثيق هذا التراث الزاخر الجميل بإبداعاتك لتكتنز هذا التراث إلي مفهوم أكثر معاصرة فتجرده من تفاصيله الزخرفية ليشف عن حالة الروحانية والصوفية التي لا تخلو منها أعمالك حتي النهاية لأنك متنوع الرؤي منصهر في جذورك الريفية الأصيلة متأملا للطبيعة في خشوع المتعبد زاهدا تري كل شيء جميلا.
- تناولت موضوعاتك من واقع البيئة المصرية سواء في الموالد والصيادين والسيرك والجواد والطيور استخدمت خامات متعددة في أعمالك كالألوان الزيتية والمائية والباستيل وفي معظم أعمالك كنت تستخدم اللغة الرمزية لتفلت من المباشرة والعقل الواعي لتقترب خطوطك وألوانك لتكون أقرب إلي تعابير الطفل أو الإنسان البدائي الذي لا تستغرقه التفاصيل لتظل السمة التعبيرية هي الغالبة في مجمل أعمالك والموحية فأنت ترسم خطوطك بعفوية شديدة حتي ألوانك الرزينة التي تعبر عن احتفاظك بوقارك الشخصي ولغة الاحترام التي كنت تتمني أن يتعامل بها كل الناس مع بعضهم البعض.
- ولم أنس كلماتك لي وأنت تجلس في نفس المكان في قسم التصوير وكنت أجلس بجوارك مصغية باهتمام قبل رحيلك بأيام وأنت تحمد الله علي كل ما أعطاه لك في هذه الحياة، وأنك راض كل الرضا عن حياتك ولم تعد تبغي شيئا من هذه الدنيا وأنك تعيش حالة صوفية رائعة بين لوحاتك وأزهارك وكنت أنصت لتأخذني كلماتك لبعيد كأنني أعرف أنها كلمات الوداع حتي في نظرة عينيك وهي تتأمل الأشياء من الكراسي والجدران والطلبة والزملاء كانت نظراتك غير عادية وليست مثل كل المرات، وقد نظرت لوجهك طويلا أراقبك وأنت تتكلم حتي لا أنسي ما تقوله.. فوداعا أستاذي الجليل الفنان ممدوح عمار.
د.أحلام فكرى
جريدة القاهرة 19 سبتمبر 2012
عزلة ممدوح عمار
- تظل المقولات الأخلاقية الكبرى محض أمثلةٍ علوية مفارقة للواقع ؛ ومجرد نماذج مجردة مبايِنة للمشاهَد والمعيش من سلوكيات ومعاملات ، إلى أن تتحقق على أيدي نفرٍ من الناس الذين أوتوا نصيباً من نعمة التصديق بالمطلق، واشتعلت فيهم جذوة الطموح صوب معانقة القيمة ، والتخلُّق بخلائق الفرسان ، والتأسّي بشِيَم الأفذاذ من الرجال ، فإذا هم يختارون لأنفسهم درباً لا يحيدون عنه ، قوامه الاستقامة على ما آمنوا به واتخذوه نهجاً وسلوكاً ، غير عابئين بما قد يدفعونه ثمناً للاستمساك بذلك النهج ، ولا بما قد يلاقونه من عثراتٍ جرّاء التزامهم هذا السلوك . ثم هُم بعد ذلك لا يعنيهم أمر مقارنة أنفسهم بغيرهم ؛ ممن قد ينعمون ببعض المكتسبات التي ربما أتتهم من أبواب التنازل ، والمواربة ، و(الكياسة) ، والتوازنات، والمواءمات ، إلى آخر الترسانة المعروفة من التكتيكات التي رسخت في متن ما يُعرَف بـ ( الذكاء الاجتماعي ) .
- وعلى الرغم مما يكابده هؤلاء المصدقين بالمثل الأخلاقي الأعلى ، وعلى الرغم مما يفوتهم من مغانم كثيراً ما تعْلَق بأهداب كثيرٍ ممن يقلون عنهم قدراً وموهبة ، تراهم دوماً مرفوعي الهامة ، مبسوطي السمت ، منشرحي السريرة ، مقبلين على الحياة بما لا تخطئه عين من طاقة علوية آسرة ، تعزز سطوع ما يعلوهم من هالات الجلال وسيماء الزهاد . ويزيد من قدر هؤلاء ويُعلي من شأنهم ؛ أن ما يستمسكون به وينتهجونه ويتخذونه شعاراً ، هو عكس ما يسلكه سواد الناس وضدُّه ، ونقيض ما تواطأ عليه أهل الحياة وارتضوه من سلوك هو إلى غرائز الضواري أقرب ، وإلى شريعة الغاب أدنى ، وهو ما أججته الحياة المعاصرة ونفخت فيه من روح المنافسة وصَرَع اللهاث خلف المادة ، حتى بات في حكم المسلم به غض الطرف عن أي وسيلة قد يتخذها المرء لإزاحة منافسيه ، وضرب الصفح عما يمكن أن يحيق بالساقطين في حلبة الصراع، ما دامت الغاية الوصول للهدف وحصد المغنم. فهم بذلك يسبحون ضد التيار ويطيرون خارج السرب ، غير ملقين بالاً إلى صعوبة مسلكهم ولا إلى مغبته، إذ هم على يقين راسخ من سلامة نهجهم ووثاقة القيَم التي ينافحون عنها؛ كيف لا وهم يذودون عن الحق والخير والجمال؟!
- ومن هؤلاء ظهر `محمد ممدوح عمار` من مواليد عام 1928؛ فارساً على الحقيقة لا على المجاز، إذ كان أبوه عمدة قرية ` بيبان ` بمحافظة البحيرة ، فاعتاد ` ممدوح ` إبان فتوته الارتياض على صهوات الأصيل من الجياد العربية ، وربما لم يدر بخلده حينها أنه يستعد لما هو بسبيله من تدشينٍ لفتوةٍ من نوع آخر، استهلّها بالتحاقه بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1947، وخاض غمارها من بداية مشواره الفني فى أوائل الخمسينيات من القرن العشرين ، متصدياً للتدريس الفني الأكاديمي لفترة قاربت خمسة وخمسين عاماً ، قضاها كلها متعففاً عن السعي خلف الآلة الإعلامية، متحاشياً دوائر المصالح وتبادل المنفعة ، مقلّاً في عروضه ، معتزلاً صخب الحركة التشكيلية ، وعاكفاً في عُزلته هذه بمرسمه على إبداع فرائد فنه ، التي راكَم من أجلها خبرات وتجارب جديرة بالرصد والتسجيل، وشحذ خلال السنين مهاراته في سبيل إنجازها، بالصبر والمران والدُربة الطويلة على أيدي أفذاذ من رموز الفن المحلي والعالمي ؛ حيث درس `ممدوح عمار` على عدد من رواد الفن المصريين، كان منهم: `يوسف كامل`، و`أحمد صبرى`، و`حسين بيكار`؛ غير أن شيئاً جذبه نحو أحد أفراد الرعيل الأول من الفنانين الأجانب، الذين وفدوا إلى مصر لتأسيس مدرسة الفنون الجميلة وتدريب الدفعات الأولى من طلابها، فكان أن ارتبط زمناً بالفنان الفرنسى `بيبى مارتان`
Pierre Joseph Bepi Martin (1869- 1954)،
الذي صاحب المصور الفرنسي الشهير `إيميل برنار`
Emile Bernard (1868- 1941)
في رحلة فنية لمصر عام 1895، قبل أن يعود إليها مرة أخرى عام 1924 لتدريس الرسم والتصوير بمدرسة الفنون الجميلة.
- تخرج `عمار` في كلية الفنون الجميلة عام 1952، بعد أن صاغ مشروع تخرجه عن المجاذيب، أولئك الذين اعتزلوا الحياة بدورهم، ناعمين ببراءة فطرية نأت بهم عن التلوث بمطامع (العقلاء) السادرين في حلبة الحياة، والمأزومين بالتناحر حول فتات قشرتها العارضة. وبعد تخرجه؛ قضى قرابة عامين - ما بين 1952 و1954 - متنقلاً بين وظيفة حكومية بوزارة السياحة، وعدد من الصحف والمجلات، إلى أن نال منحة التفرغ الفنى بمراسم الأقصر عام 1954 لمدة عامين، سجل خلالهما طائفة من مظاهر الحياة الصعيدية في أعمال آسرة، منفعلاً بمعمار الصروح المصرية القديمة؛ وهو ما تجلى فى عمله `القهوة النوبية`، الذي أنجزه عام 1956. وعلى وجه الإجمال كانت تلك مرحلة شهدت بمدى عنفوان موهبته، وامتلاكه ناصية أدواته التصويرية، واحتسابه أستاذاً مكيناً ضمن الراسخين في الرسم، وهو ما أكدته فيما بعد لوحته الصرحية (2متر في 5متر و20سم)؛ التي نفذها بعد حوالي ثلاثة وأربعين عاماً - وتحديداً عام 1999 - ألا وهي لوحة `المناحة على الشهداء` الموجودة حالياً بمتحف `دنشواي`، والتي أسعفه تخصصه في التصوير الجداري في السيطرة على مسطحها الكبير بحنكة واقتدار. وخلال تلك الفترة - أواسط الخمسينيات -؛ أبدى `عمار` انشغالاً بيّناً بجماليات الخيل - مطيته الأولى والأثيرة - فصاغ عدداً من الأعمال التي تميزت باستجلاء هذه ( الثيمة ) Theme وفق رؤية فلسفية لا تخطئها عين، حُمّلت بالرمز وتشبعت بمعانٍ باطنية مركبة، واستمرت مراوحته بين البحث في هذه (الثيمة) النبيلة وبين غيرها من موضوعاته الشهيرة الأخرى - السيرك، وحلقات الذكر، والدراويش، وجلسات المتصوفة، والعرائس الخشبية، والأراجوز، والآلات الموسيقية الشعبية، والمقابر، ومحطات السكك الحديدية، وساحات المساجد والتكايا، والطيور - مراوحةٌ تفصح عن شغف بنبالة الفروسية وتماهياً مع منطقها الأخلاقي الصارم، وإن لم تخلُ من تيار هاجسٍ وجوديٍ متوجسٍ، تسري شحنته إلى المتلقي رغماً عما يحفها من إطار جمالي بليغ. ولعل أياً من أعماله المكرسة للبحث في تجليات الخيل، لم تقبس من جذوة هذه الشحنة العاتية؛ بقدر ما نراه في عمله ` أول تعرُّف على الألم`، الذي يظهر على أديمه التصويري طفل فارس - معادل بصري لذكريات الصبا الأولى؟ - يمتطي حصاناً خشبياً، ويرنو بعينيه صوب حمامة جريحة بأسفل اللوحة، ملخصاً بنظرته تلك مشواراً طويلاً من التطواف (الدونكيشوتي) الحالم، الذي صارع صاحبه من فوق صهوة جواده الطفولي طواحين جوفاء؛ تجعجع دونما طحنٍ حقيقي، لتطيح أذرعها الماردة خلال دورانها المحموم بحمامة الروح الرفافة، التي أبى جوهرها المثالي إلا أن تحلق عالياً تلقاء أصلها السماوي، فكانت أن دفعت ثمن طموحها الطُهراني.
- التحق `عمار` بعد انتهاء بعثته الداخلية بهيئه تدريس قسم التصوير بكُلّيته القاهرية العتيدة، ثم أُرسل فى بعثة إلى الصين خلال عامي 1957 و1958، لدراسة فن الحفر على الخشب Wood Cut حيث لقن طباعة القوالب الخشبية المحفورة؛ باستخدام أحبار طباعية مائية، تختلف عن أحبار الطباعة الدهنية الشائع استخدامها فى الغرب.
- وفى عام 1960؛ كان موعده الثاني مع أستاذ ضليع آخر من أساتذة المدرسة الفرنسية، حيث أرسل فى بعثة فنية إلى فرنسا، درس فيها على يد الفنان - المصور والنحات والمعلم والكاتب الفني - الفرنسى `أندريه لوت` - Andre Lhote 1885 ـ 1962 الذي صار واحداً من جماعة التكعيبيين عام 1917، وصاحب `النشرة الفرنسية الجديدة` Nouvelle Revue Francaise ، تلك الجريدة الفنية التي أصدرها عام 1918، والذى عاش فى مصر بعد الحرب العالمية الثانية - وتحديداً في عقد الخمسينيات - مدة طويلة، حيث تعرف `عمار` على نهج هذا الأستاذ الذي اختلف بجلاء عن النهج الاستشراقي لأستاذه الأسبق `مارتان`، فأضاف إلى ذخيرته الاحترافية في الرسم الأكاديمي ذخيرة جديدة من الرؤية الفنية المتحررة، قبل أن يستكمل دراساته بباريس في التصوير الجداري والموزاييك، التي واصلها فى روما على يد أساتذة متخصصين.
- وبعودته إلى مصر عام 1966، انخرط `عمار` في تجوال لا يهدأ بدروب القاهرة وحواريها، مسجلاً معمارها وأزقتها ومشاهد حياتها الشعبية اليومية بشقيها الدنيوي والطقسي، مواصلاً إلى اليوم بحثه الذي لم يهدأ - كما أسلفنا من قبل - في سبيل استجلاء العميق، والرمزي، والباطني من مكابدات الروح الحُرة.
- وفي أحدث معارضه الذي أقيم بقاعة `سفر خان`؛ خلال الفترة من 3 إلى 21 يناير 2011، قدم `عمار` مجموعة من الأعمال التي تعود تواريخ إنتاجها إلى فترات متباينة من مراحله الفنية ، كدأبه في هذا النوع من المعارض الاستعادية الجزئية ، التي عوّد متابعيه وعشاق فنه على استقبالها بما تتضمنه من أعمال تتفاوت زمنياً، فتكتنز بزخم وفير من طزاجة التلقي، التي تنبع من متعة المقارنة بين علامات تقلباته المرحلية، وتنوع موضوعاتها، وتعدد تقنيات معالجاتها؛ الأمر الذي يتكفل دوماً بوقوع المتابع الفاحص لها على عدد من الاكتشافات الجديدة في إبداعات `عمار` .
- قدم `ممدوح عمار` في معرضه المذكور عدداً من أعماله المُنجَزة خلال عام 1963؛ التي بحث فيها ثيمة ( العروسة) التي أنجزها خلال عام 1963، والتي بدا بعضها في حوار من ثنوية التضاد التي تتقابل فيها (عروستان)، أقرب ما تكونان شبهاً بدُمى المعبودات الأنثوية (الواندالية)، التي عرفتها قبائل شمال أوربا المتبربرة، والتي أشهرها `فينوس ويلندورف`، `فينوس الواندالية ` Venus of Willendorf، تلك القطعة النحتية العبقرية التي اكتُشفت على يد عالم الآثار `جوزيف زومباثي` Josef Szombathy عام 1908 ، في موقع لحفائر آثار العصر الحجري القديم بالقرب من بلدة `ويلندورف` بالنمسا، وهي التي كشفت عن جوانب ميثولوجية وثقافية مهمة لإنسان تلك الحقبة ، وذلك حين جسدت معتقدات وتصورات إنسان العصر الحجري القديم عن آلهات الخصوبة والأرض، من خلال تشخيص ممتلئ مُحَوّرٍ في نِسَبِه، تَنوَّع ما بين مبالغة في التضخيم ومبالغة في التنحيف، مع إعطاء أهمية خاصة لأذرعها الملتفة آناً فوق صدورها وبطونها، والمرتشقة آناً آخر في خصورها.
- صاغ `ممدوح عمار` بعضاً من موضوعات عرائسه؛ منضّداً إياها على مسطحات ضمَّنَها لصوقاً من أوراق الجرائد، فكان أن غادرت المعهود من طروح الداديين Dadists فى هذا السياق ، وتجاوزت ما أُثِر عن `بيكاسو` Picasso و`براك ` Braque و` ليجيه ` Leger، إلى فضاء أرحب، يحتفي بترجيع أصداء الزُخرُف الشعبي الموَشّي لعرائس المولد، فصار سطح الخلفية تنويعاً نغمياً على (موازير) النوتة الزخرفة الأساسية في غُلالة (طرحة) عروس المولد.
- كما قدم نماذج من أعماله التي سبق وأن بحث فيها ثيمة الصيادين؛ تلك التي أنجزها خلال عام 1968، إضافة لأعمال أخرى تستأهل بحثاً ضافياً مستقلاً بذاته، قد يكون من شأنه إلقاء الضوء على سمات التقلب المرحلي لدى `ممدوح عمار`.
- غير أن ما استوقفني حقاً خلال تأملي لمعرض هذا الفنان الراسخ ؛ كان لوحة فريدة تُجبر متلقيها على الشخوص أمامها زمناً، لمحاولة فك شفرتها البصرية الملغزة والفاتنة في آن ، تلك هي اللوحة التي عُرضت تحت اسم `عُزلة` ، وهي لوحة بقياس 120سم × 95 سم ، أنجزها `ممدوح عمار` عام 1957 ضمن ما أنجز من أعمال مجموعة `السيرك`، تميزت بتكوين بنائي معقد - بل إنه بديع في تعقيده - حيث يطالعك فيها مشهد داخلي لحلبة السيرك، بمدرجاتها الدائرية التي تُظِلُّها خيمة قماشية كبيرة، وينتصب في المنتصف من فراغها أربعة قوائم خشبية ضخمة، تنتهي في أعلاها بعوارض تربط بينها، لتتدلى منها أرجوحة لاعبي الجمباز الهوائي (الترابيز) . وفي القلب من أرضية الحلبة تماماً يقف قزم يرتدي ملابس ( مهرج السيرك ) البلياتشو، رافعاً رأسه وأحد ذراعيه ، وكأنما يشخص ببصره تلقاء المشاهد ، وهي النظرة عينها التي لابد وأنه صوبها من قبل نحو الفنان الذي التقط هذا المشهد الفريد؛ وهو ما يضفي نوعاً من التقمص الشعوري على المتلقي ، الذي لابد وأن يستبطن شعوراً؛ سبق وأن اختبره الفنان الجالس في أعلى قمة المدرجات، لاقتناص المشهد ذي التركيب المعقد من هذه الزاوية من المنظور العلوي، المعروف باسم منظور `عين الطائر`. فكأن القزم المهرج هنا ما زال رهين وقفته، تلك التي لم يغادرها طوال أربعة وخمسين عاماً، لم يمل خلالها بث شكايته لجمهور غير منظور - لعله أن يكون جمهور مشاهدي لوحته - مستبدلاً دوره الهزلي الذي سبق وأن أداه أمام الحشد الذي اكتظت به الحلبة، بدورٍ مأساوي آخر لا يصلح لرؤيته إلا فنان يجيد الإنصات للواعج القلوب، ويحترف ترجمتها ونقلها لآخرين ممن لم يعتادوا رؤية البؤس في ثياب المضحكين.
- لقد قبع المهرج في منتصف لوحة `ممدوح عمار`؛ وكأنه متهم بائس يقف محاصَراً في قفص هائل داخل قاعة محاكمة كابوسية فارغة ، رافعاً عقيرته بصرخة برائة تتردد أصداؤها دون جدوى في جنبات دائرية أحكمت حصارها حوله ، لتتقاذفها مدرجات اكتظت بجماهير خفيّة ، تعيد صرخاته كَرّة أخرى كرجع حلقات الصدى على سطح بِركة آسنة. ينتظر المهرج البائس في عُزلته تلك انتظار التعساء من العبيد في العصر الروماني، الذين كان يسوقهم قدرهم المحتوم إلى مواجهة الموت المريع داخل حلبة الأسود، وهي مشابهة أكّدتها السياجات الخشبية الخضراء البادية أسفل اللوحة، والتي طابق مرآها مرأى الممرات المسيجة الفاصلة بين أقفاص الأسود وحلبة `الكولوسيوم` الروماني Colosseumأتى التصميم اللوني للمشهد كذلك مؤكداً أفكار العُزلة ، والتوحُّد، والحصار، والوحشة ؛ حيث عمل التباين اللوني بين نصاعة ملابس المهرج، والدائرة الخضراء الداخلية لأرض الحلبة، التي أكدها المستطيل البُنّي الذي يقف عليه المهرج، على إعلاء التضاد بين هذا الكيان البشري الحطيم، وما يحوطه من حلقات صفراء خارجية، فبدا المشهد في مجموعه أقرب ما يكون إلى لوحة تسديد الرامي الدائرية (شاخص النيشان)، التي تتكون من حلقات دائرية متوازية ومتدرجة، تحيط بنقطة الهدف المطلوب إصابتها دوماً بالأعيرة النارية أو برؤوس السهام، وهو ما زاده حدة وجود أربعة خطوط قُطريّة، تمثل ممرات فاصلة بين مدرجات المشاهدين، تكملها عين المشاهد لترسم بها علامة تقاطع، ينطبق مركزها على النقطة الضئيلة التي يقف عليها المهرج التعس، منتظراً قدراً مريعاً يضن عليه بالخلاص ولو إلى هلاك.
- وربما لم يسبق في تاريخ الفن أن احتشد البؤس المشؤوم في شخوص المهرجين - على هذا النحو الذي بدا عليه المهرج في `عُزلة` `ممدوح عمار` - سوى في أعمال المصور والحفار البلجيكي المولد البريطاني الأصل `جيمس إنسور` James Ensor (1860- 1949) ، فعلى الرغم من أن `بيكاسو` تناول الموضوع نفسه في مجموعة من الأعمال - التي ربما فاقت جهود `إنسور` شهرة في هذا الصدد - إلا أن الروح السوداوية الهاجسة التي أظلّت أعمال ` إنسور`، تبقى دوماً محتفظة بهالة من رائحة وساوس بشرية ثقيلة الوطأة ، ربما لم تقع على وريث شرعي لها إلى في `عُزلة` `ممدوح عمار`. ويحضرني في هذا السياق لوحة `إنسور` الشهيرة المعنونة : `دخول بروكسيل عام 1889`، التي أنجزها عام 1888 على خلفية أحداث شائكة رانت على المجتمع البلجيكي في حقبته. ففي عام 1879؛ قامت الحكومة البلجيكية ذات النزعة الليبرالية بتحريم التعليم الديني في عموم البلاد، بغرض إضعاف سُلطة الكنيسة، وفي عام 1886 أصدر ملك بلجيكا بياناً يوضح نزوع الحكومة لتحسين ظروف الطبقة العاملة. وفي اللوحة نرى شخصاً وقوراً يرمز للسيد المسيح عليه السلام وهو يدخل المدينة، لكنه لا يقابَل سوى بانتباه عدد قليل من حشد الجماهير المحيطة به. وكأنما أراد `إنسور` التعبير بهذا عن مقاصد الحكومة الليبرالية المناوئة للكنيسة، من خلال تبيان التناقض بين الجانبين، وهو ما ظهر من خلال العبارة المكتوبة على اللافتة المهيمنة على الجزء العلوي من اللوحة: `عاشت الثورة الاشتراكية`، في مقابل اللافتة الصغيرة في أقصى يمين اللوحة، التي تحمل عبارة: `عاش المسيح، مَلِكاً لبروكسيل ` .
- ومن المقارنة بين عملي الفنانَين - `إنسور` و`عمار` - يتبين أن ثمة وشائج جديرة بالالتفات، فالمنظور العلوي الذي اعتمده كلاهما مقياساً للرؤية وحاكماً على المشهد ؛ أتاح للمتلقي الإشراف على الحدث بأسره والإلمام بتفصيلاته ، وخيمت أجواء الحفل الكرنفالي على عمل `إنسور`، إلى درجة إظهاره كثيراً من مواطنيه مرتدين ملابس مهرجي السيرك وأقنعة المهرجانات، في الوقت الذي ظهر فيه العملان على طرفي نقيض فيما يخص الشخوص والأبطال ؛ حيث بدا عمل `إنسور` مكتظاً بحشود غفيرة أحاطت شخص السيد المسيح ، الذي بدا في عُزلة بالرغم من ذلك ، وهي عُزلة نتجت عن عدم احتفاء هؤلاء المناوئين للكنيسة بقدسية شخصه ، إنها عُزلة القيم المقدسة النبيلة في أزمنة التردي الروحي ، بينما أتت عُزلة ) الإنسان) لدى `عمار` على العكس من ذلك ؛ فبالرغم من وقوفه في منتصف فراغ الحلبة التام، إلا أن هذا الفراغ الرهيب بعينه بدا مشحوناً بأصداء استغاثاته الصارخة، ومزدحماً بأشباح كيانات تتربص به رَيب المنون.
- إن `عُزلة` `ممدوح عمار` سجلٌ بصري مختزل ومكثف لتاريخ كامل من رُهاب الحصار، وإدانة صارخة لكل ما من شأنه أن يتهدد سلام النفس البشرية العزلاء ، وشهادة ضد (سيرك) الحياة بحلبته الصراعية الصَرَعية ، التي تلتفّ حلقتها لتضييق الخناق على المسالمين ، أولئك الذين لا يطمحون إلا في الانتحاء جانباً متحاشين سُعار المنافسة ، وهوس الاستعراضية ، واللهاث المحموم خلف العَرَضي والزائل، ولا يرومون من الحياة إلا هدأة تحتويهم عُزلتها المتأملة ، منتصرين لسلام الروح.... مثلما انتصر الفن في عُزلة `ممدوح عمار ` .
د. ياسر منجي
ممدوح عمار .. فنان الرؤى الفلسفية
- ابن العمدة الذى انبهر بعالم المجاذيب
- تعلم على يد الرواد: يوسف كامل، وأحمد صبرى، وبيكار
- كان يقول: أصابع الفنان كأوتار آلة الموسيقى
- ترك ثروة فنية نتاج نصف قرن من الإبداع
- الفنان بيكاسو لم يحجز نفسه فى إطار النمط التجريدى من الرمزية اللاشعورية، لكن كان هناك أنماطًا أخرى عديدة انجرف إليها، صال وجال فيها وحقق العديد من النجاحات، وترك أعمالًا عديدة تعد بصمات فى عالم الفن التشكيلى، وعلى سبيل المثال اتجه للتجريد الهندسي بين التكعيبية وما فوق الواقعية، واعتبره السرياليون فى وقت من الأوقات واحدًا منهم رغم عدم إعلانه عن ذلك، والفنان الذى نحن بصدده اليوم كان فنانًا مختلفًا، عندما تتأمل لوحاته تجده واحدًا من جماعة التكعيبيين، وتارة أخرى تجده من مدرسة المنحازين للتجريدية، وفى أعمال أخرى تشاهده فيها فنانًا أكاديميًا صاحب رؤية فنية متحررة عاشقًا للطبيعة والإنسان، تجاربه وخبراته العديدة أفرزت أعمالًا متنوعة الاتجاهات، لكنها تؤكد أننا أمام فنان دائب البحث عن أشكال ليس المهم أن تكون لها دلالة تمثيلية، لكنها تؤكد على أننا أمام فنان ترك بصمة فى الحركة الفنية المصرية المعاصرة.. انه الفنان المصور محمد ممدوح عمار.
-- هدايت شيرازي:
- ولد الفنان ممدوح عمار فى 2 يناير 1928م بين الحقول والحدائق الخضراء، بين البساطة والتلقائية فى قرية بيبان بالبحيرة، ورحل فى إبريل 2012، كان والده عبد المقصود عيسى عمار عمدة لهذه القرية، حصل على شهادته الإبتدائية من مدرسة الشوربجي التي أنشأها جده لأمه وسميت بإسمه، ثم سافر إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة عمر طوسون الثانوية الداخلية `شبرا الثانوية حاليًا`، ويخطو أولى خطواته فى ممارسة هوايته للرسم بشغف ودأب، استدل بعد ذلك على منزل الفنان التركي `هدايت شيرازي` الذي كان بارعًا في الرسم بالألوان المائية، ليتبناه إيمانًا بموهبته ويعيش ممدوح عمار في صومعة أستاذه العظيم يتحسس بحواسه أسرار هذا الفن العميق، ويسكن بيت الفنانين بالقلعة فى سن مبكرة ليبدأ الرحلة الطويلة.
- المجاذيب :
- حصل عمار على دبلوم الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1952، ثم دبلوم فن الحفرعلى الخشب من أكاديمية الفنون ببكين عام 1958، وشهادة تدريب فى فن التصوير الحائطى من الفنون الجميلة بباريس عام 1962، كما حصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1965، وتعلم أصول وقواعد الفن على يد رواد الفن المصري: يوسف كامل، أحمد صبري، حسين بيكار، تعلم ممدوح فن الأسكتش وعشق رسم المناظر الطبيعية بعد أن تعلم من أستاذه الفرنسى `بيبي مارتان`، كان مشروع تخرجه عن `المجاذيب` أصحاب العادات والملابس العجيبة والغريبة، والذين كانوا ينتشرون فى الموالد والاحتفالات حول الأضرحة، فرسم عنهم مئات الإسكتشات والعديد من اللوحات، وتم عرض مشروعه ضمن مجموعة من مشاريع الخريجين بنادى المعلمين بالجزيرة، وحصل مشروع المجاذيب على إعجاب أعضاء اللجنة، وتم منحة تقدير إمتياز مع مرتبة الشرف.
- الرحالة المتمرد
التحق ممدوح بعد تخرجه بوظيفة حكومية فى وزارة السياحة، لكنه استقال منها بعد مرور شهر واحد بسبب الروتين، ثم عمل بجريدة المساء وقت إنشائها ليبدأ فى مشوار الرسم الصحفى، لكنه أيضًا تركه بعد حصوله على منحة التفرغ الفنى وذهب إلى الأقصر عام 1954 وقضى بها عامين يتأمل المعابد والتماثيل، وتأثر كثيرًا بالجداريات التى تملأ جدران المعابد، كما تأثر برؤية التراث الشعبى لأهل الأقصر، ورسم لوحات عن أبناء الأقصر وعن الرقص النوبي والتحطيب - منها: نساء من الأقصر، قهوة النوبى،.. عاد من الأقصر ليلتحق بهيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة، ثم سافر فى بعثة إلى الصين لدراسة فن الحفر على الخشب عام 1957، ثم إلى فرنسا عام 1960 ودرس على يد الفنان الفرنسى `أندريه لوت`، وتعلم من الفنان `أوجام` فن الرسوم الجدارية والموزايك، ثم اتجه إلى روما لدراسة أساليب الفن هناك عام 1965.
- فلسفة المهرج
- كان يقول: أصابع الفنان كأوتار آلة الموسيقى، لا يمكن أن تضبط الآلة على العزف للموسيقى الشرقية والغربية في آن واحد، لكن عليك أن تضبط الآلة وتروضها على عزف ما أنت هادف إليه، والرسم الصحفي أردت أم لم ترد ـ فهو رسم تابع للمقال الذي توضحه برسومك، أو حتى للمجلة التي تمدها بلوحاتك الصحفية، أما التصوير فأمره مختلف، فأنت بعيون الخيال ترى ما يختلف عما تراه العين على الرغم من وجود علاقة بين ما تراه بعيونك وبين ما يراه الفنان بخياله ويترجمه إلى لوحات ملونة أو غير ملونة..، رسم ممدوح مجموعة لوحات عن الصيادون حمل فى طياتها فلسفة عن الشخصيات الانتهازية البشعة، ورسم مجموعة أخرى عن عرائس المولد وتناولها أيضًا بأسلوبه الفلسفى بعيدًا عن حقيقتها المعهودة، حيث جردها من زخارفها وألوانها المعروفة لدى الجميع وقدمها من وجهة نظره مجردة من زينتها وملابسها المعروفة، ورسم عدة لوحات تعكس مدى حبه وعشقه للحصان، ونحت بعضها فى الخشب والحجارة وكأنها حصان طروادة، ورسم مجموعة رابعة عن السيرك بحلبته الصراعية، لخص فيها حياة المهرج الذي يضحك المتفرجين وهو حزين، رسم ممدوح المهرج وهو مؤمن بما قاله الكاتب الأمريكى أرثر ميلر: المهرج هو حقيقة الإنسان، إنه يمثل كل ما فى هذه الحياة من سخرية، وهو الرمز الأكثر قدرة على التعبيرعن العمق الحقيقى للوجود.
- اسكتشات نادرة
- قدم ممدوح عمار أيضًا لوحات مختلفة عن الغربان والطيور التى كان يراها بالقرب من منزله الجديد الذى بناه على طريق ترعة المنصورية، ولم تخلو أيضًا لوحاته من الرؤى الفلسفية والفكرية حيث صور الغربان كأنها فى حالة من حالات الديمقراطية!!، فرسم كل طائر وكأنه يفكر وينفعل ويتردد فى سكون تام، ستظل أعمال عمار الذى كان لا يعشق الأضواء، لكنه كان يعشق عمله ويقدسه، كانت صداقاته محدودة لكن كان يحترمه الجميع، كان لا يبخل على طلابه بأى معلومة، وكان ينقل لهم تجاربه وأفكاره، ترك لنا ثروة فنية هى نتاج أكثر من نصف قرن من الإبداع، ثروة هائلة تعكس رؤيته وفلسفته وتعلقه بمجتمعه المصرى الذى أستمد منه تكوينه الثقافى والفنى، ويعرض حاليًا جاليرى بهلر بوسط البلد مائة اسكتش نادرة لعشرين فنانًا من كبار الفنانين فى تاريخ مصر، من بينهم الفنان ممدوح عمار الذى سيتم تكريمه على هامش المعرض.
مختارت من الفن الأوروبي
فى مجمع الفنون
يستضيف قصر عائشة فهمي `مجمع الفنون بالزمالك` حاليًا وحتى نهاية أكتوبر القادم معرض جديد من سلسلة معارض `كنوز متاحفنا`.. المعرض بعنوان `مختارات من الفن الأوروبي` ويُعد هو النسخة الخامسة من سلسلة معارض `كنوز متاحفنا` التي تبنتها الإدارة المركزية لمراكز الفنون برئاسة داليا مصطفى، وقال خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية: الأجيال الجديدة تأتي في مقدمة المستهدفين من مثل هذه المعارض ليتعرفوا على جانب مهم وحيوي لدور مصر في الحفاظ على التراث الإنساني إمتدادًا لإسهامها التاريخي في الميراث الحضاري العالمي، وعن العرض ومحتواه قال إيهاب اللبان `مدير مجمع الفنون ومعد المعرض`: إن العرض يضم أكثر من مائة عمل من مقتنيات متحف الجزيرة ومتحف محمود خليل وحرمه ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ما بين تصوير زيتى ونحت لكوكبة من الفنانين العالميين أمثال (بول جوجان، رودان، كلود مانيه، إدوارد مانيه، رينوار، وألفريد سيسلى وديجا)، وهو بمثابة فرصة حقيقية للتعرف على الحركات التي سادت أوروبا فى تلك الفترة الزمنية والربط بينها ويُعد عرضاً إستثنائياً.
بقلم : طارق عبد العزيز
مجلة أخبارالنجوم 17-9-2020
فى محبة ممدوح عمار
- أن تمسك عين بتلابيب روحك فتلاحقها ، فهذا ما فعلته عين لوحة ` عروسة تبكى ` التى أبدعها الفنان الراحل ممدوح عمار .. إنها عين فى منتصف الوجه تحتله بالكامل ، اكتفى بها الفنان بديلا عن الفم والأنف والأذنين وكأنها كفيلة بأن تقوم بفعل كل تلك الحواس، والغريب أنك تشعر بألفة شديدة مع هذا الوجه وكأن تلك العينين كافية لتحدثك وتستمع إليها .إنها العين التى تكررت فى أكثر من عمل للفنان ممدوح عمار، بعضها فى مجموعته عرائس القرنة وبعضها فى مجموعات أخرى ، إذ استدعت فى مخيلتى عين حورس حين فقدها وحين استعادها فأصبحت هى رمز الحكمة ، لكن فى` عروسة تبكى` كانت تلك العين التى فاضت اشتياقا للوطن فى الغربة حين كان الفنان يدرس فى الخارج .وبمناسبة حلول الذكرى الثالثة والتسعين لميلاد الفنان ممدوح عمار استضاف جاليرى خان المغربى مؤخرا معرض `باقة من المحبة ` ، احتفاء بالفنان الراحل ، إذ تضمن المعرض مجموعة من أعمال الفنان التى عرضت جنبا إلى جنب مع مجموعة من مقتنياته من أعمال أساتذته هدايت شيرازى ، وبيبى مارتان وعبد العزيز درويش ، وأصدقاء عمره من بينهم زكريا الزينى ، ومصطفى الفقى ، وأحمد نبيل، وجورج بهجورى إذ نجد اثنين من البورتريهات التى رسمها له بهجورى ، وكذلك أعمال عدد من تلامذته وأحفاده ، إذ يحمل كل عمل من تلك الأعمال الحكاية التى جمعت ممدوح عمار بعدد كبير من الفنانين ، تلك المحبة التى نقرؤها فى لوحات تلامذته وكتاباتهم عنه ، فقد عبر كل مشارك - كما جاء بكلمة المعرض - بطريقته ، فى لمسة حب بقيمة ومسيرة فنان ساهم فى الحركة الفنية التشكيلية المصرية والعالمية ، سواء على نحو أكاديمى كأستاذ فى كلية الفنون الجميلة ، أو مبدع من أبرز فنانى النصف الثانى من القرن العشرين وحتى رحل 30 أبريل 2012 ويأتى هذا المعرض كذلك كفعل محبة من أسرة الفنان الراحل ، إذ قامت زوجه ابنه عبير حلحيل بتنظيم عدد من الفعاليات التى لها علاقة بحفظ وتوثيق أعمال الفنان الراحل ، إضافة إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعى لحفظ كل ما له علاقة بالفنان ، سواء أعماله أو الأفلام الوثائقية التى تناولت سيرته ، أو حتى قصاصات الصحفوالجرائد والمقالات وكل ما نشر عنه لتؤكد مرة أخرى على أهمية توثيق أعمال الفنانين التشكيليين ، إذ تتيح تلك المنصات الإلكترونية التعرف على تاريخ الفنان وإنتاجه الفنى وقراءة ما كتب عنه .
- أعود للمعرض الذى قدم مجموعة منتقاه من أعمال الفنان ممدوح عمار والتى لها علاقة بمجموعة ` عرائس القرنة `، فإذا كان صلاح جاهين قد ترك فى أشعاره روائح مصروتفاصيلها فلا مولد دون أن نتذكر مثلا الأغنية التى كتبها ` حلاوة زمان .. عروسة حصان` ، فإن هذا ما فعله ممدوح عمار فى كثير من أعماله التى وثقت العديد من الملامح الفلكلورية ومنها على سبيل المثال المولد ، إذ كان موضوع تخرجه حول مجاذيب السيدة زينب وسيدنا الحسين ، كما تناول فى أعماله الحياة فى السيرك ، وحياة الأقصر ، والحصان وعروسة المولد التى تعتبر واحدة من أشهر العناصر التى قدمها الفنان الراحل عاشق مصر ممدوح عمار .وربما لهذا السبب اختارت حلحيل ` عروسة القرنة` لتركز عليها الضوء فى المعرض الأخير ، إذ ظلت عرائس القرنة تيمة وفكرة تراود الفنان الكبير ممدوح عمار ، بدأت معه من منحة مراسم الأقصر 1954 وصاحبته فى الصين وفرنسا وإيطاليا ، صورها باكية من ألم الغربة تارة ، وتحمل جرار الفخار، وتتزين ، أو ترقص على أنغام الموسيقى الكلاسيكية، وتارة أخرى تقوم بأداء مسرحى بديع وقد قدم عمار عرائسه بمختلف الخامات ، وبمختلف الأشكال إذ نراها تطالعنا كبورتريه ،أو صورها بالكامل ،كما أعاد صياغتها فى ثنائيات ومجموعات خالقا حوارات متعددة ولعل أكثر ما يميز تجربة عمار التشكيلية هى ولعه بالبيئة المصرية ومفرداتها ، إذ إنه كما وصفته رشا أحمد نبيل فى مجلة الخيال فنان يتحدى العولمة بكل مغرياتها ، ويتمسك بالخصوصية المصرية ، لمساته حرة ، تحطم فى طريقها الواقعية التشريحية للشكل الإنسانى ، لوحاته بها عفوية ، ظلت دائما تكشف عن نفسها والفنان ممدوح عمار حصل على دبلوم كلية الفنون الجميلة قسم التصوير 1952، وقد حصل على منحة داخلية فى مراسم الأقصر للفنون الجميلة لمدة عامين 1954 حتى 1956 ودبلوم فن الحفر على الخشب من أكاديمية الفنون بكين 1958 ، وشهادة تدريب فى فن التصوير الجدارى من الفنون الجميلة بباريس 1962، إضافة إلى دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بروما 1965 .
- فنان يتحدى العولمة بكل مغرياتها ، ويتمسك بالخصوصية المصرية ، لمساته حرة ، تحطم فى طريقها الواقعية التشريحية للشكل الإنسانى، لوحاته بها عفوية ، ظلت دائما تكشف عن نفسها .
بقلم : منى عبد الكريم
جريدة أخبار الأدب 7-2-2021
عالم الفنان ممدوح عمار
مقدمة :
- البداية التى حددت مسار الفنان ( ممدوح عمار ) يمكن اكتشافها فى مشروع تخرجه فى كلية الفنون الجميلة ( قسم التصوير ) ، فقد كشف المشروع عن فنان اختار الأسلوب التعبيرى ، واختار خامة الزيت ، وتعلق بهما حتى اليوم .قد يخرج أحيانا على الأسلوب التعبيرى ، وقد يتمرد أحيانا على الخامة ،إلا أن لحنه الأساسى يعاوده أكثر قوة وطغيانا! ، وتعبيريته تتسم بالمذاق المصرى ، غير المنفصلة ، بطبيعة الحال ، عن الوعى بإنجازات الفن التشكيلى ، خاصة الأوروبى .
- ` البداية `
- دار مشروع التخرج حول موضوع المجاذيب ، وامتلأت لوحاته بكل أصناف المجاذيب من رجال وسيدات ، وقد أتيح لهذا المشروع العرض فى معرض خاص بمشاريع التخرج بنادى المعلمين بالجزيرة ، وقامت لجنة بمناقشة أعمال الفنانين المبتدئين الذين قدموا مذكرات تفسيرية لمشروعاتهم تبين الاتجاهات الفنية التى ينتمون إليها ، وقد كان مشروع ( عمار) هو أبرز المشاريع المقدمة ونال عنه تقدير امتياز .
- اتسمت لوحاته بالأداء العنيف، فاللمسات حوشية تنطلق فى أرجاء اللوحة كما لو كانت فى سباق محطمة فى طريقها الواقعية التشريحية للشكل الانسانى ، والوصفية الاكاديمية ، واتخذ من المبالغات الظاهرية للشكل طريقا لتعرية ذلك الجو العبثى للدراويش.
- لكن على الرغم من أن تلك اللمسات العاصفة قد هدأت الآن ، بل تاهت فى الكتل المعتنى بها، إلا أن عفوية الخطوط الأساسية للوحة ظلت تكشف عن نفسها .الفارق هو أن الفنان فيما مضى كان يبدأ رحلة اللوحة من بدايتها لنهايتها بنفس الدرجة من العفوية .وبالقدر الذى كان، وما يزال ، يقسو على الشكل الإنسانى ، كان يتعامل مع الطبيعة بحنان ، وتبرز هذه الحالة أكثر عندما يتناول مناظر من حى الحسين مثلاً، وفى هذه الحالة يكون أسيراً لسحر العمارة الإسلامية .
- خرج الفنان من معركة مشروع التخرج فائزا بتقدير امتياز ، كان يريد هذا الاعتراف ، وكان يظن أن هذا كاف ، إلا أنه عندما أصبح موظفا بالحكومة أدرك أن الشىء الوحيد المطلوب منه هو التوقيع فى سجل التوقيعات ، والالتزام بالمواعيد وليس مهما أن يصنع شيئاً فى مساحة العمل ، فترك الوظيفة بعد شهر واحد من اللاعمل ، وقرر العمل للفن بالتفرغ له تفرغاً كاملاً .ومن ثم تعرض للجوع ، ثم التوبة ، والعودة من جديد إلى كابوس الوظيفة!
- مرسم الأقصر
- جاء الانقاذ الحقيقى فى شكل بعثة داخلية بمرسم الأقصر، وكان هذا النظام يتيح للخريج فرصة التفرغ لإنجاز موضوع يختاره ، ويلتزم به له علاقة ما بالبيئة وكان الطالب يحصل على نحو عشرة جنيهات شهريا! ، ورغم ضآلة المبلغ كان الفنان ( ممدوح عمار) سعيدا بتجربة التلاقى مع بيئة تجمع بين ما هو تاريخى وفطرى ، فى آن معا.
- كان طبيعيا أن لا يكون طريقة هو طريق الفنانين التأثيريين ، الذين لا يشغلهم سوى الضوء العابر ، والجو ، حتى إذا صوروا البشر فباعتبارهم لحظات تتلاشى.
- لم يتوقف أيضا عند سحر العمارة الريفية والعمارة التاريخية فى الأقصر ، ولم يرها بمعزل عن الإنسان . وإذا كانت حوارى الحسين قد أوحت له بصخب المجاذيب فى الموالد ، فقد أوحت له البيئة الجديدة بصمت المساحات الشاسعة ، وتناقضها الغريب، الساحر مع ذلك، فقد كان فى مرسمه نافذتان ، نافذة تطل على صحراء جرداء تلتمع تحت وهج الشمس ، والأخرى تطل على حقول شديدة الاخضرار ممتدة.
- ومن هنا كانت لوحات تلك المرحلة مليئة بالمصادمات بين الغامق والفاتح بين المساحات الممتدة تقطعها صيحة فى شكل بقعة صغيرة تمثل انسانا ، حتى إذا اضطر إلى رسم جموع بشرية متصلة ، فأنه يفصلها بمساحات واضحة وصريحة ، مؤكدا الفراغ الهندسى .
- الإنسان ، فى مرحلة الأقصر ، ضئيل . نقطة تؤكد جلال الطبيعة .ولقد بقيت هذه النغمة فى أعماله بصور مختلفة حتى الآن ، وربما دفعه هذا إلى الاحتفال بعنصر ثالث غير الطبيعة، والانسان ممثلاً فى :الخيول العربية الرشيقة المعتدة بنفسها. فقد بها عديدا من اللوحات والرسوم ولا يكاد يوجد بين خيوله الجميلة سوى فرس واحد أو أثنين ظهرا متعثرين ، ليعبر عن المثل : لكل حصان كبوة !
- على الرغم من أنه قد أمضى عامين فقط فى مرسم الأقصر ، إلا أن هذه المرحلة قد تركت أثرها الحاسم على انتاجه ، فظلت تتردد بعض عناصر هذه المرحلة فى لوحاته حتى الآن ، منها : المساحات الممتدة ، ظهور أشكال معمارية فى لوحاته الأخيرة ، هى ذاتها نفس الأشكال التى تعلق بها أثناء المرسم، وان اختلفت فى الهدف مثل شكل المنابر الموجودة فى الهواء الطلق ، وشكل المهد ، المبنى بطريقة لا تسمح الزواحف السامة بالتسلل إلى الأطفال.
- مرحلة السيرك :
- ليس فى سيرك ( ممدوح عمار ) غير الحزن ، حتى أذا أضحكنا فهى ضحكة مرة ، تدفعنا للأسى .ليس فقط على كائنات السيرك الإنسانية المهرج ( بعزق) ، أو الراقصة الحامل ، بل تمتد لتملأنا حزنا على الإنسان فى كل مكان . أن أهم عملين فى تلك المرحلة هما العملان المشار إليهما .
- تمثل اللوحة الأولى راقصة عملاقة ، حاملا ، تتوسط اللوحة .
- تستقطب وجوه المشاهدين الخالية من التفاصيل الوجوه .. مجرد دوائر تشكل فى مجموعها طلقات موجهه لهدف. والهدف هنا هو جسد الراقصة ، وهو يمنح المتفرجين أردافا سخية لا نراها ، ويواجهنا بما هو أخطر .
- أما لوحة ( المهرج) فتضعنا أمام مفارقة أخرى ، أو لازمة من لزومياته ، تتمثل فى تأكيد جلال ، وعظمة ، وقوة المكان على حساب الإنسان الضئيل .فالشكل المعمارى للسيرك ، والمقاعد الخالية تماما التى تحيط به فى حلقات من كل جانب ، وظهور المهرج فى قاع المشهد ، تؤكد ما يسمى الفنان لابرازه فى لوحاته الأخرى وهو غربة الإنسان ، ومع ذلك ينفلت شىء خاص يفصح عن هوية هذا السيرك ، فسيرك ( ممدوح عمار ) القاتم ، سيرك مصرى فقير يتميز بدرجة مختلفة من العبث والغرابة عن سيرك ( بيكاسو ) الوردى.
- مرحلة التحصيل :
- يعتبر الفنان السنوات التى أمضاها فى بعثات إلى الصين الشعبية ، وفرنسا ، وإيطاليا ، من عام 1957 حنى 1966 ، مجرد سنوات للتحصيل نتج عنها كمية هائلة من رسوم للجسد العارى والبورترية .درس فن الجرافيك فى الصين الشعبية إلا أنه لم يعرف فى مصر كحفار وقد يرجع هذا إلى طبيعته التى تنفر من الوسائط الميكانيكية بينه وبين مسطح اللوحة.
- وفى باريس التحق بمرسم الفنان والناقد (أندريه لوت ) ، وكان ذلك قبل وفاة الأخير بستة أشهر ، وعندما سألته بماذا أفادك ؟ قال : لا شىء ! ، ولما لمح دهشتى قال : كان يحدثنى عن أشياء لا وجود لها فى اللوحة ، مما أزعجنى ، غير أننى أكتشفت أنه فاقد البصر تقريباً ، وأن ما كان يصله من اللوحة كان مجرد ضباب غير محدد المعالم !
- انتقل بعد ذلك إلى مرسم الفنان ( أوجام ) ، وهناك تعلم أسلوب الرسوم الحائطية ( الافرسك) غير أنه لم ينفذ رسما جداريا حتى الآن فى مصر وحتى عندما أصبح أستاذا بكلية الفنون الجميلة لم يدرس هذه المادة لطلبته .وعلى أية حال فإن باريس وروما لم تلهماه بشىء، كل ما رسمه فى الفترة الباريسية ، الإيطالية كمية من لوحات تدور حول موضوع واحد ، هو ` عروسة المولد` وقد أقام بها معرضا فى روما ، وكتب أحد النقاد الايطاليين عن ذلك المعرض ، فاستخرج من عرائسه أبعادا إيطالية ، ربما لم تكن واردة عند ( ممدوح عمار ) الذى رسم عرائسه بدافع الحنين ، على حد تعبيره .قال الناقد :
` لقد اكتشف ممدوح عمار سحرا فى العروسة الحلاوة التى توجد فى كل منزل فى مصر حيث ولد. وقد صورها وأبرزها فى حركات متغيرة : فهن يحملن الجرار مثلا ، وهى صور تذكرنا بعالم كامبيللى وتتكون أرضية اللوحة من عناصر زخرفية أجنبية.
- لعل الشىء الجوهرى الذى أفاده من تلك البعثات هو ضرورة عمل دراسات مستمرة مع الطبيعة ، وهى عادة تخلص منها للأسف الغالبية الساحقة من فنانينا ، فابتعدوا يوما بعد يوم عن منابع ما بعد الالهام الحقيقية ، وغرقوا أكثر فأكثر فى النماذج الأوروبية المجففة فى علب ..والنتيجة : معارض تتعامل مع كتب ، لا معارض تتعامل مع الشمس المصرية ، العمارة المصرية ، والإنسان المصرى
- المرحلة الخشبية !!
- تحول انسان ( ممدوح عمار ) الذى حكم عليه بالغربة إلى دمية ، لا تفصح عن عمرها ، ولا تتميز بالتعبير ، وجوهها الكروية جامدة الملامح ، بكاء هزيلة الأطراف .وفى هذه المرحلة لا يكفى الفنان بالإيحاء بل أنه يسمى إلى تثبيت كل هذا عن طريق التجسيد بتأكيد البعد الثالث .عن طريق المقابلات الحادة بين اللون الأسود والفواتح القوبة.
- ولم يكتف باصدار حكم الأعدام على انسانة المحاصر، بل تجاوزه إلى إعدام الأمل فى الخيول العربية، المتحدية ، الرشيقة المعتدة بنفسها ، وجمدها فى شكل لعب خشبية لا حول لها ولا قوة!
- أصبح الإنسان الضائع .والحصان الشامخ مجرد ( طبيعة صامتة ) فى ركن من أركان الأتيلية ، ملقيا عليها بالأضاءة الصناعية المناسبة التى تسمح له بدراستها دراسة قريبة من الدراسة الاكاديمية ، وحتى يبعد عن الخيول الخشبية شبهه أن تكون موضوعا من موضوعات الطبيعة الصامتة ، حاول أن يخلع عليها غرابة سيريالية بوضع بيضة ، أو ستارة إلى جوار رأس الحصان ، أو يلقى بطائر جريح أو ميت أسفل سيقانه الخشبية .إلا أن مخزون الفنان من الدراسات التى كان يجريها على المناظر الطبيعية قد أفادته كثيرا، وأبرزت قدراته فى بناء ( الفورم ) والتكوين المحكم.
- ومن أنجح أعماله تلك التى لم يصطنع فيها غرابة باضافة عنصر غير متوقع ، وانما انعكست تلك الغرابة من قلب الشكل الواقعى ، ومن أبرز اللوحات الدالة على ذلك ، لوحة ( الشاطىء المهجور ) ، فقد التقطت فرشاته منظرا يمثل أرجوحة للأطفال مهجورة ، على شاطىء مهجور إلا من غربان ! إنها لوحة تترك فى النفس أثرا مريرا ، تشبه أطلال الشاعر الجاهلى الذى يبكى لحظة على الأحباب الغائبين ، قبل أن يشرع فى إنشاء قصيدته .
- لوحة ( الحرب ) 1960 :
- استغرقت هذه اللوحة من الفنان ممدوح عمار عاما فى التنفيذ ، وتحضير دراسات خاصة بها، وتبدو للوهلة الأولى لوحة جدارية ، وهى موجودة الآن ، ليس فى متحف من المتاحف ، ولكنها تسد فجوة فى حائط منزل الفنان، تعانى من التخريب ، والأهمال ، محرومة من الضوء الغامر للوحة العصر ( الجورنيكا ) للفنان الأسبانى ( بابلو بيكاسو).
- ولقد بلغت لوحة (بيكاسو) المحظوظة درجة فريدة من التأثير ، بحيث يستحيل أن تتحدث عن لوحة للحرب ، دون أن تفرض ( الجورنيكا ) نفسها فاللوحة ممتلئة بكل عناصر الدراما : التحدى . السقوط .الادانة . الألم . الأمل.فالفرس يصرخ ألما ، والفارس يسقط على الأرض ، ولكنه وهنا البراعة ، ما يزال ممسكا بالسيف ، وبزهور الأمل البرية ، بينما لا يصلنا من لوحة ( ممدوح عمار ) عبر صوت واحد هو لوعة الهزيمة.
-تبدو لوحة ( ممدوح عمار) للوهلة الأولى كما لو كانت متناقضة ، أو مختلفة مع أعماله الأخرى إلا أن المتلقى يستطيع أن يكتشف أنها تسير فى نفس الطريق .طريق التأكيد على غربة الإنسان فى العالم ، وان كان الصوت فى هذه اللوحة أكثر ارتفاعا .فألوانه عموما تتسم بالوقار بينما ينتشر الأحمر الصريح بدرجاته .فى مسطح لوحة الحرب ، وتتكدس الكتل البشرية ، وتتدافع فى طابورين عظيمين ، مقبلة من الأطلال ، منكفئة إلى داخل اللوحة .رجال ونساء عرايا ، يجمعهم تعبير واحد هوة الرعب ، ويقين واحد هو : النهاية التى لا مفر منها.
- لا أمل ، لا مقاومة ، بل استسلام كامل للفناء أن عددا قليلا من الفنانين المصريين هم الذين استجابوا لموضوع الحرب ، بينما فضل كثيرون التعبير عن السلام على طريقة هيئة الاستعلامات فامتلأت المعارض والميادين بكل أنواع الحمام فى فترة من أحلك الفترات!
- أن الفنان ( ممدوح عمار ) من أكثر فنانى مصر تعففا ، ونفورا من الأضواء ، وحرصا على الصلاة فى محراب الفن.
- قال لى :
- ` تكفينى مساحة بيضاء أرسم فيها، وأوقع عليها ، والتوقيع بالنسبة لى يعنى اننى أعلن أننى أشهد ، وأنا بكامل قواى العقلية ، وكلى صدق ، واخلاص ، بأنى بذلت أقصى جهدى فى التعبير عن انفعالاتى فى هذه اللوحة .
- وأنا بدورى أشهد :
` أن كل اللوحات التى تحدثت عنها ، صراحة أو ضمنا، كانت موقعة من الفنان !
بقلم : محمود بقشيش
مجلة :إبداع ( العدد 4 ) 1-4-1983
|