الدلالة الأسطورية للبحر فى أعمال محمد حسن القبانى
- صار من المتفق عليه أنه عند مطالعتنا للعمل الفنى لا يمكننا أن نفصل الفنان عن العَالَمْ موضوع رؤيته، أو الوسط الحياتى الذى يعيش فيه والذى يظهر أثره بالضرورة منعكساَ فى حالاته التعبيرية وحين يتراوح هذا الأثر بين الظهور الواضح والإيحاء المستتر، فإنه يدفعنا للرجوع إلى العلاقة التى تربط الفنان ببيئته المحيطة بدءاً من الخاص وحتى العام. من حيث شكل الوعى والانتباه والاستغراق والخيال والتوجه والقصد.
- وبينما تبدو أغلب الظواهر المرئية مألوفة لدى الكثير من الناس، إلا أنها تمثل لدى الفنان مصدراً متجدداً دوماً من الإلهام، وذلك لقدراته الخاصة على الرؤية فيما يتعدى التعرف.
- فى رواية (بالومار) للكاتب الإيطالى ا. كالفينو، يتأمل البطل بوعى شديد التركيز موجة من أمواج البحر محاولاً إدراكها واستيعابها، ونجد أنه يصعب عليه أن يصل إلى نتائج محددة فى فهم الظاهرة التى يعانيها لارتباطهما بكل شئ حولها، ولاستحالة فصلها عن الكل، أو تثبيتها أو إدراكها فى ذاتها منفصلة عن وعيه.
- لكننا نجد أن البحر عند محمد القبانى ليس مجرد موضوع للفهم وليس حدوداً جغرافية أو مجرد ظاهرة طبيعية، البحر عنده هو الرحم الذى تتشكل داخله الرؤى وتنسج بين ثناياه الأساطير، هو المكان/ الزمان المتميز والخاص الذى يستدعى للذاكرة أحلاماً عتيقة وصوراً منسية، هو الرائحة واللون والعبق والضوء والشفافية والإيقاع والانسياب والتجدد والماوراء، هو امتداد له عمق معنوى غامض مثل عمقه المادى المثير للخيال والمشاعر والحنين.
- إن مشكلة التعبير التشكيلى هنا ليست الانشغال بمحاكاة المرئيات باعتبارها معنى العمل الفنى، والصورة بهذا المعنى ليست مرآة للحقيقة الخارجية بقدر ما هى مرآة للحقيقة الباطنة، حتى وإن كان موضوعها تمثيل خالص، إن الفنان يقدم لنا معادلاً مرئياً لذلك المعنى الوجدانى الذى يمثله الموضوع بالنسبة إليه، وما يهمه من الطبيعة إنما هوامتلاك الجوانب الخفية المشحونه بالعاطفة أو ذلك البعد من الواقع الذى يستجيب إليه حدسه.
- ولد محمد القبانى وشب ووعى على شاطئ البحر بين نساجى الشباك وصانعى القوارب وبائعى الأسماك، وتفتحت عيناه على مرأى تلك المياه المتحركة أبداً، هذه الحركة الأزلية فى حالاتها بين السحر والفجر والضحى والنهار والظهيرة والأصيل والغروب والظلمة وتباين الأزرق واللازوردى والرمادى والأخضر الزيتى والفيروزى والنيلى والسماوى والذهبى، وقد امتلأت ذاكرته بروائع الطحلب ورطوبة الحجر وعذرية الماء وهو وإن كان يدرك بشريته، ألا أنه كان يشعر فى الوقت ذاته كما لو كان امتداداً لهذا الكيان الأسطورى الذى شكل نوع الحياة التى يحياها البشر من حوله، وعلى مدى سنوات العمر، عاش إيقاع الأمواج واهتزاز القوارب ونسمات الريح وصرخات النوارس وجذب القمر وارتعاشات السمك وملوحة الهواء وحكايات الرجال وانتظار النسوة، امتزج ذلك كله داخل نفسه بنبضه وبحالات الفرح والأسى ومشاعر اليأس والرجاء وبحلم الفنان، فى الصحو كان البحر محيطاً بالحياة كلها، وفى الحلم يغوص الفنان فى أعماق المحيط الأولى.
- يظهر ما يبدو تصويراً للبحر فى مسطحات محمد القبانى كلها، ولا يخلو عمل واحد من حضوره فى الخلفية أو على الأصح فى كونه المسرح الذى تتجسد عليه الملهاة أو المأساة أو (الحكاية) التى تمثل منطلقاً تعبيرياً لدى الفنان عند شروعه فى العمل، وتدريجياً فى صياغته حين تتحول الأشياء والعناصر إلى رموز يحتل كل منها مكانه على المسطح (الذى يظل الشعور بالفضاء فيه هو المحور الأساسى الفعال) وهى رموز تتشكل محملة بدلالات ومعان وإحالات لا يمكن ترجمتها إلى كلمات وألفاظ لكنها تعاين وتحدس وتستدعى للذاكرة حالات شعورية يختلط فيها الماضى بالحاضر والحلم باليقظة.
- محمد القبانى فنان اكتسب خلال دراسته المهارات الأدائية اللازمة لحرفة المصور، وهو يوظفها باقتدار بحيث لا تطغى ويتحول العمل إلى مجرد خبرة تقنية، ذلك كى يحافظ على الروح المنتشرة عبر السطح التصويرى فى سكونية بعيدة عن الصخب والانفعال، تتشكل فى فعل النسيج اللونى الصامت للبقعة والعلامة والخط، ونحن نراه حينما يسترسل فى بناء تلك الأسطح الغارقة فى الضوء والمجدولة بتلك المتاهات الشكلية التى توحى بتعدد المعنى، أكثر مما تحمله تلك القراءات المباشرة أحادية الدلالة.
- ينسج لنا محمد القبانى تلك المسطحات الزرقاء وهو منغمس فى الماء بروحه كما لو كان يصبو إلى تظهر أشد عمقاً، وتبدو ذبذبات اللون ودرجاته المتنوعة داخل الزرقة نفسها وهى تتراكب فوق بعضها لتوحى بتلك الكثافة الشعورية أو ذلك الدفق الوجدانى، بعيداً عن القراءة الظاهرة أو المستترة للموضوع، وتتشكل بنية العمل من هذا الأداء المتناسق والمتوافق ... هذا الإيقاع من الشهيق والزفير المتنامى تارة والمتلاشى تارة أخرى.
- لا يطرح محمد القبانى قضايا فكرية ولا يثير مشكلات تشكيلية، وإنما يصور ببساطة خالصة أقرب إلى الطبيعة غير المفتعلة، ذلك الفيض العاطفى الذى يعيش مغموراً فيه، ذلك البحر الذى نظره الإسكندر المقدونى وعشقه، ثم شرع فى بناء مدينته الجميلة التى انصهر فيها الفكر القادم من الشرق والغرب لتنشأ الفلسفة والعلم والحكمة والفن، ولتصبح منارة للعالم القديم، وإذا كانت الحضارة قد ولدت فى مصرنا الأم، فإن الثقافات المختلفة التى تنوعت على شطآن البحر المتوسط قد تجمعت فى الإسكندرية تاركة إرثا فكرياً هائلاً لم يندثر، وإن كانت التحولات وتقنيات (التقدم) قد طمست ملامحه وشوهته، ونحن تستشعر فى أعمال محمد القبانى ذلك العبق الأسطورى وهو ينتشر بين العلامات والخطوط وفى ثنايا الألوان، ليردنا إلى أصول عتيقة مضببة نعرف أنها هناك دون أن نتمكن من إدراكها.
بقلم : مجدى قناوى
مجلة : إبداع ( العدد 10 ) أكتوبر 1994