سيد سعد الدين أحمد عبد الكريم
سيد سعد الدين يعزف بالألوان
- يجرى بروحه فى رحاب عالمه الرقيق ..يطير ويسبح في فراغات اللوحة يحلم مع الحالمين ينتمى لأوجاع البسطاء يستضيفهم فى مملكة الحواس يتقمصهم واحداً واحداً ويبدأ فى الغناء بالألوان على سطح اللوحات .
-نسمات من الضوء تسقط على الأشكال. تقابلها شلالات من النور الناعم تصدر من الأشكال فتحتويها اللوحة ساحة للعشق والحوار الرومانسى بين الكتل والمساحات ينفجر الضوء فى جميع أرجاء اللوحة نسائم تصنع الأقواس وتحلل الألوان فيبهرك جمال التحليل الذى ينتمى إلى حس وخيال تلقائي تجاوز المنطق وأضاف إلى المألوف مؤثرات حسية وجمالية مدهشة .
- تناول الفنان سيد سعد الدين فى أعماله أكثر من اتجاه فنى بجانب الرومانسية فكان التعبير والواقية والتجريدية والسريالية والرمزية ففى اللوحات الرومانسية التعبيرية جسد مفردات اللوحة بين أفكاره الذاتية وبين الموضوعات التى يتأملها جمالياً لتتحول من شكل طبيعى إلى فكرة تحمل معانى عديدة مثل اللوحات التى عبر بها عن الحرب والمعاناة الاجتماعية فى جو به صفاء وقدر من التراجيديا أما اللوحات الرومانسية الواقعية فقد قام الفنان بتكوين تراكيب تراها أعيننا ولكنه يضيف إليها من أحلامه الوردية ومشاعره الفياضة ولغتة الجمالية وقدرته الفائقة فى اللعب بالضوء وأيضاً بعضاً من المبالغة فيمزج بين الرومانسية والواقعية ويتجلى هذا فى الأعمال الخاصة بالموضوع الاجتماعية مثل بائع الفول والمولد وفي اللوحات الرومانسية التجريدية والرومانسية السريالية يمزج الفنان بين الأشكال الطبيعية وبين التجريدية والسريالية من خلال التلخيص والمبالغة فترى عناصر اللوحة تتآلف وتتجمع فى تناغم ورقة يقوم الفنان بتلقائيتة الصادقة فى المزاوجة بين الرومانسية والمدرستين الأخيرتين (التجربية والسريالية) وترى هذا فى لوحات عديدة مثل لوحة السوق ولوحات ألعاب البنات .
- ولا تنحصر الرمزية فى لوحات سيد سعد الدين مع الرومانسية فقط فهى موجودة بتفاوت فى معظم لوحاته المرتبط بالمدارس الأخرى وهو كثيراً ما يلخص الحب والوفاء في الفضاء ويكشف رؤية الرمزية فى الألوان ومعناها الواضح فى الترميز فترى الشفافية والألوان الناصعة سواء كانت زرقاء أو بنفسيجية مع الأبيض .
الناقد / سامى البلشي
الاذاعة والتليفويون 17 /1/ 2009
سيد سعد الدين .. وتمجيد الجمال .. ارتقاء بالحضارة
- دائم الشغف بمحاكاة الطبيعة .. ولم تتغير مفرداته التشكيلية حتى معرضه الأخير الذى أقيم منذ أيام في قاعة بيكاسو .. ولكن تلك المفردات اكتسبت نكهة متزمتة بثراء معرفي وأسلوبا متميزا ولغة درامية تترجم حساسية خاصة جعلت (سيد سعد الدين) متفردا في طياته المتراكمة على للوحة في تؤدة وهدوء رسامي عصر النهضة ويظهر تمرسه في أسلوبه الغارق في النقاء .. ذلك النقاء الذى يوضح أيضا تمرسه في الدراسة الأكاديمية وفن التشريح بشكل خاص وقد مارس فن النحت بشكل أكاديمي بجانب الرسم حين التحق بمعهد ليوناردو دافنشي ببولاق نبغ في الرسم على يد الأيطالي (تريفيزونو) وكان متخصصا في رسوم الكنائس وعلى يد إيميكالي عياد زوجة (راغب عياد) وتأثر بالفنان سيد عبد الرسول الذى كان أستاذه . البداية - كان الطفل (سيد سعد الدين) دائم الذهاب إلى الغابة الصناعية التي يشرف عليها أبوه المهندس الزراعي والتي تقع في قنا مسقط رأس الفنان 1944 م . - تضم الغابة في أخضانها ملفوفا في الأخضر مفتونا بحركة الهواء بين خمائلها يري السماء من خلال أوراق بين الشفافة والداكنة متداخلة مع سعف النخيل يستر سماء (دانتيللا) إبداعية لا نهائية . - يراقب الصغير نمو الأنتاج الزراعي من بطيخ .. شمام .. قمح هو بكر في تطور إنمائي يضع أملا دائم التلهف على النتيجة في نفس الطفل يتأمل حيوانات الضيغة التى تساهم في اكتمال المنظومة يحضر بعض الطين ويجسدها في تماثيل كل تلك المفردات التي صاحبته وخاصت معه الكفاح والحياة وهي راسخة في جزء من وجدانه الخلاق . - أنهي سعد الدين دارسته وكان أول معيد مصري عين بمعهد ليوناردو سنة 1967 يمارس الرسم مثل راقص باليه يقوم بتمارينه اليومية يتشبه بفناني عصر النهضة والتأثيريين منذ الخامسة صباحا يقوم بعمل الاسكتشات يملك في رسومه ناحية الهندسة الدقيقة واحترام البعد الثالث , تدنو من التنسيق والترتيب وتغلب عليها روح المعارى ودقة المصمم وكان قد التحق بكلية هندسة المنيا قبل التحاقه بمعهد ليوناردو دافنشى . لا يهاب الحركة المعقدة الوثابة المفاجئة تماما قبل أن يكون رساما كمال في لوحة التحطيب وتلك القفزة المباغتة لأحد المتنافسين برغم بساطة الكتلة التي تتشبه بكتلة من الحجر أوقفها الهواء ولكنها توحي بأنه ما نحت السائر - الجلابية - جسم منضبط تشريحيا تحوى ليونة الدم والأعصاب وتوازن الحركة وانضباطها وهذا يندرج في جميع مفردات سيد سعد الدين في تلخيصها ونقاء كتلتها وعمق التشريح كما يتضح في (حميره) الذى قال عنها الناقد نعيم عطية : ( هي ليست حمير الشارع ولكنها حمير كأنها أمراء ) سخطوا بقوة سحر عاتية هكذا من شدة نقائها . - رهافة اللون في لوحاته المأخوذ من طقوس(الفجر) بكل نعومتها وتذبذبها وبطلاوتها الندية وبكارتها الضافية مرتعا لشخوص شامخة منطلقة إلي حس مجهول يشدها إلى الأعلي إلى اللانهائي في ضوء فجري غامض قد يضئ اللوحة من لحظة إلى أخري أقواس تتلخص أخيرا في قمر أو شمس يثقلها الندي وكتل من بشر مثالي تخلصوا من شوائبهم قطع نحتية قادمة من عمق التاريخ هذا الفنان هو ابن الإرث الأصيل الغامض لأرض بكر لم يطأها إلا الأبرياء البنائين الشعراء المحبين فهو نحاتا بالسليقة والنحت هوايته حتة أصبحت احترافا بجانب الرسم فكانت أجمل أعماله النحتية مجموعته التي عبر فيها عن الحصاد ثم إنجازه لكوبرى الأقصر . - كان معرض سعد الدين الذى أطلق علية تمجيد الجمال في بيكاسو هو المعرض رقم 7 في خمسين عاما ممارسا للفن فهو يمكث في لوحة من لوحاته من ثلاثة أشهر إلي سبعة أشهر إلى أن تشى له اللوحة كفاية وقد مر هذا الفنان بأحداث زلزلت روحه وحياته موت أميرة ابنته في الثامنة عشر من عمرها سنة 1998 ماتت أمامه في غلطة جهل من عامل بمستشفي الهرم يدير جهازا لمرضى الربو وكانت الفتاه تحت الجهاز حين نسي العامل مكان زرار الأكسجين وعانت في لحظة أمام والدها والعامل مستمر في بحثه عن زرار الأكسجين. - وبعدها أصيبت زوجته بمرض الزهايمر وتدهورت حالتها إثر مو ابنتها وفاضت روحها سنة 2007 . - هذان الحدثان الذى مر بهما سكنا في عمق الروح ولكن سيد سعد الدين أهداهما إلى الله بروح الفيلسوف المؤمن والإنسان الواعى في فترة الفقدان كانت لوحات الفنان أكثر تحليقا في اللانهائي الموضوع فقط هو الذي تغير وقد عبر عنه برقة المتفهم المدرك في طيور الحمائم البيضاء المحلقة إلي الأعلي رموز شامخة مشدودة بمغناطيسية مبهمة يجد الموت جميلا جمال معنوى متيافيزيقي مثله مثل نحلة ترتشف الرحيق يتحول في مصنعه اللامرئي إلي لوحة مشهد من داخل عقل الفنان يسكبه في قطرات متوالية متأنية يشعر معها المتلقي بالسمو الروحي والإرتقاء والحضارة التي تنمو داخل الإنسان بلا إدارة ولكنها تتخلل الإحساس فيرفض القبح والتدني ويستشعر النسب الصحيحة في علاقات الأشياء بعضها ببعض ومن ثم رفض بشكل تلقائي عدم الانسجام والتناغم في منظومة الحياة وسيد سعد الدين جيد التوصل للجمال .. فقط الجمال النابع من المنظومة الكونية .
الناقدة / نجوي صالح
القاهرة 10 /2/ 2009
الخيول وعازف الربابة ولعبة الهيلاهوب
- تمتد أعمال الفنان سيد سعد الدين بثلاثية تعبيرية تجمع بين النحت والعمارة والتصوير .. كل هذا فى اطار اللوحة ذات البعدين أو المسطح التصويرى ..وهى تعكس روح البيئة المصرية وتجسد سحر الحياة الشعبية من صخب الاسواق ومواكب الطرق الصوفية والعاب التحطيب وعازفى الربابة والمراجيح وأطفال الحارة الذين يطلقون الطيارات الورقية ومناظر النيل والنخيل والمراكب الشراعية ..مع تصويره لطبيعة الريف المصرى الذى يجمع بين الحيوانات الاليفة والفلاحين ..بالاضافة إلى اعماله حول صور الحياة اليومية لربات البيوت وأعمال أخرى ذات طابع ذاتى تجسد بعض المعانى بشكل رمزى ..كل هذا فى مشاهد يغلب عليها الطابع المسرحى ..ليس بالمعنى المباشر ولكن بما يعنى توقف اللحظة ويعكس حالة كونية فى الزمان والمكان بتناغم موسيقى ينساب بين المسافات والمساحات والعناصر والشخوص .
- ويبدو انتماؤه الشديد لجنوب الوادى حين يصور أجواء الصعيد بشتى صور العادات والتقاليد المسكونة بسحر الزمن ..فى ملاحم تشكيلية يسودها منطق الهندسة والبناء وتشع فيها حكمة الفلسفة بشاعرية رقيقة تمتزج بالمنطق الراضى من التصوير المجسم أو التصوير النحتى .
- ولقد جاء معرضه والذى ضم أحدث أعماله بقاعة عادل حلمى .. تأكيدا لهذا العالم الذى يموج بسحر الخيال ..وربما كانت لوحة الدعاء من أعماله التى تقتنص أبهى المعانى بهذا الطابع الابتهالى البديع والمسكون بشلالات النور البهيج وهذا المبتهل الذى يطل بظهره فى عمق اللوحة متجها الى قدس الاقداس ..وعلى الجانبين تصطف أشجار النخيل التى تعانق الأفق .. مع الحمام ..وتتألق اللوحة بمساحات من الشاعرية أشبه بملحمة يتحاور فيها النور واللون ..وتنساب العناصر غارقة فى الضوء الحالم .
- فى لوحة ` الحجلة ` يمزج الفنان بين التعبيرية وهذا الايقاع الهندسى والذى يغلب عليه منطق رياضى صارم ولكن يذيب صرامته لغة التشكيل الفصيحة التى تفيض بالشاعرية وتسمو بأناقة اللمسة .
- وتتألق صور الحياة على النيل من خلال هذا المشهد اذلى يجمع رجلا وامرأة بمركب على الماء مع النخيل وهو هنا يخرج فيها من طابعه المادى إلى طابع اسطورى حالم يجعلنا نتساءل من أين وإلى أين تتجه بنا الحياة ..والنيل يجرى من مئات السنين ويتجه من المجرى إلى المصب .
- وتشتمل لوحة الطيارة على ملحمة أخرى من السطوح الهندسية وتطل الأهرام ثلاثية مصرية تتناغم مع روح الطفولة .. وتجسد الزمن فى نسيج من النغم ..النغم المصرى الذى يؤكد الحاضر والتاريخ .
- ولا شك أن لوحة سيد سعد الدين ` الخيول ` تمثل ذروة من ذرى أعماله ..تجسد مشهدا رمزيا يعنى الابحار فى المدن التى لم نزرها بعد والدخول إلى مرافئ الحلم والاقتراب من روح الاسطورة حين نطالع فتاة تمتطى حصانا وفى الخلفية مجموعة من الجياد تكاد تطير فى الهواء معلقة بين الأرض والأفق فى ايقاع أزرق هادئ .
- لقد جسد سيد سعد الدين فى تلك اللوحة حلم أن نعيش حياة بعيدة عن الواقع المادى وأخيرا تبدو اللوحة لديه ذات بناء معمارى يتسم بدقة شديدة فى التصميم والترابط والتوازن الايقاعى بين الكتلة والفراغ بما يمثل هذا التشكيل المجسم الذى يجعل العناصر والشخوص تبدو فى حالة ساكته أو حركة عنيفة مثلما نرى فى لوحته التى تبدو فيها فتاة مع لعبة ` الطوق ` أو ` الهيلاهوب ` وفى كل الاحوال تتجسد أمامنا لمسة فريدة ..تغنى للانسان المصرى وتجسد اشواقه واحلامه بين الشعبى الاصيل والحديث المعاصر وبين الخروج من الواقع الى عمق الفنتازيا .
بقلم : صلاح بيصار
مجلة حواء - 2010
سيد سعد الدين ... وملامح فن مصرى
- أقام الفنان ` سيد سعد الدين ` معرضا استعاديا فى قاعة الأوبرا للفنون المرئية إحياء لذكرى كريمته التى اختطفها الموت وهى فى الثامنة عشرة ربيعا وإحياء لمرحلة فى الفنون الجميلة بمصر ، كان يحتفى فيها بالإتقان وبكل محاولات إكتشاف خصوصية جمالية للإبداع المصرى ، قبل الغرق فى طوفان الانتحال من النموذج الـ ` أورو - أمريكى `. وقد ساند صناع القرار الثقافى إشعال الحرب ضد لوحة الحامل و تمثال الصالون . وخصصت الوزارة للعبث إحتفالا سنويا يحمل عنوان ` صالون الشباب ` وأغدقت عليه من ولائم الجوائز ما يزيد أضعافا على أكبر جوائز الدولة الرسمية ، وهى جائزة الدولة التقديرية التى لا ينالها الفائز إلا بعد أن يكون بلغ الستين - على الأقل - ولمرة واحدة فى تاريخه !.
- التطرف والتطرف المضاد
- إذا كانت حفلات الولائم السنوية قد أعلت من شأن الانتحال من ` أصْداء الدادية ` - التى اتخذت لها مسميات جديدة تليق بإدعاءات دراويش التنظير - فقد جاء ذلك الطوفان حافزا لبعض الموهوبين على التمسك بما وهبهم الله من قدرة وحساسية فى المجال الذى سبقهم إليه موهوبون آخرون ، أرسوا دروبا ممهدة إلى تقبل الإضافة إليها لا النفى . ويعد الفنان ` سيد سعد الدين ` من هؤلاء الموهوبين الذين لمعت أسماؤهم منذ أوائل السبعينات ، وبالتحديد سنة 1972 عندما اشترك فى معرض لإحياء ذكرى الزعيم جمال عبد الناصر بلوحة عنوانها ( زيارة إلى راحل ) ولفتت اللوحة الأنظار إليها أما لوحته الثانية التى أكدت موهبته وكانت مستلهمة - أيضا - من موضوع الموت كان عنوانها ( أنشودة إلى راحلين ). وفازت اللوحة بالجائزة الثانية لصالون القاهرة . بهاتين اللوحتين قدم ` سيد سعد الدين ` شهادة ميلاده كفنان أراد لفنه منذ البداية ، أن يتناسل - جماليا - من الموروث المصرى القديم (خاصة فى مجال النحت ) ومن موضوعات تحفل بها البيئة الإجتماعية، والمعمارية والطبيعية بمصر.
- وبدلا من انخراطه - شأن آخرين - فى طوفان الانتحال والتبعية للغرب التزم طريق البنائين ذلك الطريق الذى بدأه المثال المصرى العظيم ` محمود مختار ` وأكده مبدعون من أجيال مختلفة أمثال : محمود سعيد ومحمود موسى وحامد عويس و أحمد عبد الوهاب وآدم حنين وحسين بيكار الذى تأثر به أكثر من أى فنان آخر.
- واللافت للنظر أن كل هؤلاء البنائين قد استلهموا بدرجات متفاوتة - جمالية النحت المصرى القديم وما يتشعع منه من إيحاءات روحانية ، يلتقط منها كل مبدع ما يتسق مع مكوناته الفردية المتفردة . إختار سيد سعد الدين طريق البناء المعمارى والتجسيم النحتى . واتسق هذا الاختيار مع مكونات سيد سعد الدين الشخصية التى اتسمت بصلابة فى مواجهة المحن وبعضها كان فادحا مثل رحيل كريمته .
- إصرار
- عند تأمل شهادة ميلاده الفنى التى أجازتها لوحتاه : ( زيارة إلى راحل وأنشودة إلى راحلين ) نجد أنه لم يكتف بالإيحاء بالبعد الثالث ( العمق المنظورى فى اللوحة الكلاسيكية) بل أراد أن يشعرنا بأن عناصره مجسمة تجسيما نحتيا . وفى هذين العملين وغيرهما من بعض أعماله يظهر الرسام سيد سعد الدين وقد تقمص روح النحات - المصرى القديم على وجه الخصوص - واتسمت لمساته وقتها بالكثافة والخشونة و كأنما يصور ضربات الإزميل فى الحجر . واتسمت عناصره بالإيجاز النافز من ثرثرة التفاصيل. ولأن كتل النحت لا توجد إلا فى حيز مكانى كذلك فعل الفنان مع شخوصه .و أقام لها مسرحا يكاد يكون حقيقيا.
- ووزع الكتل على خشبة المسرح مثلما يفعل مخرج المسرح ففى لوحة ` أنشودة إلى راحل ` . على سبيل المثال - تنهض المجاميع منشدة نشيدا جماعيا أمام مدافن الموتى . يسود اللوحة نسيج بنى اللون ودرجاته واللوحتان فى جانب من جوانبهما- إستذكار لبعض أساليب عصر النهضة الأوروبية ( فى النسب الرياضية للتكوينات والاحتفال بالمنظور الثابت والإهتمام بالمقابلات بين عناصر المقدمة والخلفية) غير أنه يلجأ ، فى ذات الوقت إلى استلهام - صراحة الكتل ونقائها مثلما تتجلى فى المنحوتات المصرية القديمة .
- بين الكل والجزء
- إن الكل - فى عديد من لوحاته - يقوم بدور ` الجزء ` وبدلا من العناية بالممكنات التعبيرية لأجزاء الجسد الإنسانى فإنه يكتفى بالإيحاءات المعمارية للشخوص والإيحاءات النفسية للظلال ، فالطفل الواقف أمام الحائط فى لوحة ( زيارة إلى راحل) لا نكاد نلمحه، غير أن حوار الكتلة وظلها الواقف أمام الحائط والظلال الممتدة لشخوص لا نراها والكتلة البعيدة لعنصر إنسانى فى مواجهة مقبرة ، كل هذا يرسب فى النفس شعورا بالرهبة والألم .
- من وحى الدواب
- خرج سيد سعد الدين من إيحاءات الموت القاتمة إلى صخب الأسواق ومواكب المتصوفة ولاعبى التحطيب وسيدات البيوت وأطفال الحارة والحيوانات الأليفة التى اختار منها موضوع الماعز والحمير . وبلغ من اهتمامه بموضوع الحيوانات الأليفة أن خصص لها معرضا أطلق عليه عنوان (من وحى الدواب ) ظهرت حيواناته - فى أغلب اللوحات- فى متتابعات تذكر باللوحة الجدارية الجميلة المسماه بـ ( أوز ميدوم ) للفنان المصرى القديم . وهو يثبت دوابه فى أوضاع مشابهة للطبيعة الصامتة غير أنها تبدو متماسكة ، متوحدة فى كيان واحد . وأسرة يصعب أن تقتلع منها فردا دون أن يحدث خلل . ويبدو الفنان هنا مستفيدا - إلى حد ما - بالأسلوب ` التكعيبى الممصر ` - إن صح التعبير - حيث تتسع السطوح المشطوفة ( فى الأسلوب التكعيبى ) لتصبح أقرب إلى المسطحات العريضة ، واضحة المعالم ، فى النحت المصرى القديم أما عجينة اللون التى كانت كثيفة فى اللوحتين المشار إليهما من قبل وكذلك بعض اللوحات الأخرى فقد .
- من وحى النيل
هو عنوان لوحة، استغرق تنفيذها والدراسات المصاحبة لها نحو سبع سنوات ، مقاسها 120سم ×90سم . ونال عنها الجائزة الأولى من المجلس الأعلى للفنون والأداب . وكعادته لا يترك مساحة مهما قل شأنها للمصادفة . اتسمت اللوحة بالبناء الهندسى ، الرياضى المحكم ، أسقط على الأشكال إضاءات كشافية دافئة تميز عناصر المقدمة عن عناصر الخلفية . وتمثل اللوحة مهرجانا للأشرعة ( أعلى اللوحة ) ومهرجانا موازيا للبشر (أسفل اللوحة ) وكانت البطولة من نصيب الأشرعة تجلت عملاقة ، شامخة أسطوانية كأنها أعمدة من معابد الأقصر ، فيما يظهر البشر متراصين أشبه بمنشدى
` كورال ` بلا ملامح تميز أحدهم من الآخر وإنما هم كتلة واحدة ، تجلس أو تنتصب . إن صفحة النهر بدت- باختياره وبراعته - زجاجية لماعة تتلقف مرحبة بالإضاءات الكشافية المسرحية ، محاطة بكل ما هو أنيق ، شفاف مغر ومغو بالولوج إلى دنيا الأحلام !.
- ابتهالات الأب الفنان
- يدهش المرء وهو يتأمل مجموعته الأخيرة التى استلهمها من مأساة رحيل ابنته الشابة . يدهش المرء لقدرة الفنان وقدرة الفن - على السواء - فى تحويل الحزن العميق إلى جمال خالص ، يتجلى بالرقة والعذوبة وصفاء الإيمان بإرادة الله . وتبدو اللوحات التى صيغت بلون القلم الرصاص المتقشف ودرجاته أشبه بزفاف سماوى لعروس من البشر لا نراها ولكننا نستشعرها عبر أسراب من الطيور الطليقة السعيدة بانفلاتها من القيود وتظهر بوابات النخيل ، سامقة رشيقة ، لامثيل لها فى الواقع ، وتصل بسموقها ما بين الأرض والسماء .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال.. مايو 1999
ثلاثية نغم .. رحلة ` سيد سعد الدين ` إلى الحرية
- ذاك النغم هو سر انسجام المكان مع الزمان والموجودات خلالهما .. والنغم أو الصوت يقبض على زمن بعينه وبدرجته .. ولما كان النيل رحباً كبحر من الأوقات .. احتوى الزمن كله .. وعزفت موسيقى تختصر كل الحكايات .. وشيئاً فشيئاً اختزل كل شىء ومر جدولاً بيننا يغنى كل صباح ويعيد أصداء أيامه الأولى ليلاً ..كل ما يحتاجه الأمر الإنصات للصوت وللصمت أحياناً ! ومصر التى يحبها سيد سعد الدين تحبه مصر التى يعرفها تعرفه جيداً ونحن نحبه .. ومن لا يحب رجلاً مثله .. قديساً صامتاً يعزف وحيداً .. كبيراً وصادقاً إلى هذا الحد ..! ومتى يجود الزمان بمثله ؟ إنه لنعمة نادرة الوجود !.
- يبحر فى رحلته الصوفية وسفره الدائم نحو النور .. بحثا عن الجمال والحب .. رحلة بحث عن الروح الحيرى .. ويبحر من جديد .. مرة بعد مرة .. البحث عن مرفأ تلوذ به الروح من الأيام من الرحيل ..نور وظلال تتخلل ثنايا الماء وتتناثر كقصيدة ملونة .حواره مع الأشياء كلها ..حوار بعيد وعميق يبحث ويبحث فى أصول كل شىء وصولاً إلى بساطة التعبير .. وهدأة التكوين .. فى حواراته تلك إنصات للجمال الكامن والساكن فيها .. إنصات مهيب كما عزلته .. كما يفسر فيثاغورث أصل الكون بعنصرين فقط ` عدد ونغم ` .. قد ينسجم كل شىء بين هذين العنصرين ..ربما هندسة الكون تختصرها علوم الرياضيات والموسيقى .. الهذا أراد آينشتين الموسيقى كما أراد الفيزياء ؟ فقد استمع للموسيقى بعمق وعزف الكمان طيلة حياته .. ربما كل ما أراده هو أن يكشف فى قوانين الكون عن ذاك التناغم العميق الذى يجده فى الموسيقى ! ، ومنحه ذلك التأمل الطويل والإنصات المخلص كصلاة دائمة .. إلى كشف بعض أسرار ذلك الكون .. فقط بشاعرية فنان! ومعتمدا على ما تقوله الألحان .. فطالما وجد حلا لمسألة معقدة أثناء استماع طويل لسيمفونيات موتسارت وباخ! .
- الثلاثية
- اللوحة الأولى التى يظهر فيها مودعاً سفينة أبحرت وابتعدت .. سبقت للرحيل .. ولكنها تظل حاضرة رغم الغياب .. ويشير بيده مبعداً عنه الألم ومتوقفاً عن العزف قليلاً ..وربما يلوح لسفينة أخرى تقترب .. يرحب فى استعداد للحن آخر .. ولا يزال يحتفظ بقيتارته يمسك بها ويعرف أنها رفيقة الرحلة.
- فى اللوحة الثانية يعود للعزف فى نور تلك الدائرة متواترة الظهور .. ضوء ووهج حيناً أو نور شفيف كما هنا ..وقد غمرته الأنوار حتى كونت رداءه .. مرتفعاً ناظراً فى ضراعة للسماء ..يصلى منعزلاً وكإنما يتوقف الزمن فى هذه اللوحة.
- وفى الثالثة يعود ليحتضن قيثارته بينما الشمس فى غروب وسفينة أخرى تبتعد فى غياب.. يحتضنها فى ألم وحنين.
- لا تكاد لوحة تخلو من مصدر ضوء وانعكاسات أشعته وظلالها التى تشكل دوائراً مناسبة مع فكرة خالدة أو تشكل خطوطاً ترسم هرماً واضحاً أو أكثر .. وبين عناصره التى تختصر الكون .. دائما يستشف أحاديث الماضى .. كم هو مميز لتمنحه الأرض المقدسة أسرارها ..! مصر التى قدست العلم وجعلته سراً حفاظاً على قداسته تلك وإجلالا لها .. كانت الفنون بها أسلوب حياة ، ممارسة روحية واجبة أو هبه ينالها أبناء النيل .. وربما كثير من الأسرار .. يا لها من بوابة عظيمة تلك التى ينظر من خلالها ! .
- أتأمل لوحاته وأذهب معه فى رحلاته مسافرة عبر الزمان ... تخرجنى اللوحة المؤطرة أمامى من كل إطار وتذهب بى ربما حقيقة لا خيالا بقدر ما يلمس من حقيقة بخطوطه الزاهدة .. أستمع لحكايات أبطال قدامى وأغنيات نصر وبكائيات .. أرى فى عالمه المهيب وجودنا .. أقمارنا وشموسنا .. النور والضياء .. والأحلام المراقة .. والأمل رغم كل شىء .. وأسمع فى سكونه الجليل صلاة دائمة لقديس منفرد.
- جمال جليل وعزيز وعزلة مهيبة .. وأنوار خافتة ترسم حكايات شخوص وأحداث .. حيث النيل والصحراء .. الشمس ومراكبها .. والإنسان المصرى النبيل .. رحلة جوهرها الحرية .. تحررنا كأشعة الشمس ..كمياة النهر .. الدافقة ابداً.
بقلم : إيمان عثمان
مجلة صباح الخير 3 -9 -2019
الفنان سيد سعد الدين والخيال المبدع بين عراقة الجذور وحداثه الأسلوب
- خمسون عاماً قضاها الفنان سيد سعد الدين فى محراب الفن التشكيلى ، يبدع بأنامله ويستشعر بوجدانه ويستقى من عالمه أعمالاً فنية ذات صبغة جمالية شديدة الخصوصية تجمع بين عراقة الأصول والجذور ، وحداثة المنهج والأسلوب .
- وهو أحد فنانى جيل السبعينيات ، يسير إبداعه الفنى فى اتجاهين لا ينفصلان .. أحدهما إنسانى تستحوذ عليه تجارب صعبة عاشها الفنان أثرت كثيراً على أعماله إلا أنها جاءت مفعمة بسبل الجمال ورقة الإحساس وبهجة الألوان .
- والاتجاه الثانى يتجسد فى إبداعات فنية مستقاة من جذوره المصرية العريقة من واقعه الاجتماعى .كانت بدايات الفنان الأولى مع الفن التشكيلى حينما كان دائم الذهاب إلى الغابة الصناعية التى يشرف عليها والده المهندس الزراعى والتى تقع فى قنا ` مسقط رأس الفنان ` .. تمس إحساسه الألوان المتدالة ..الأخضر بدرجاته والألوان الوردية البراقة مع زرقة السماء الصافية.
- يراقب الصغير نمو النباتات والخضر والفاكهة بأشكالها وألوانها المتنوعة وكله أمل ولهفة لمعرفة ما ستبوح به هذه الأشجار وتلك النباتات ، ممسكا بيده قطعة من طمى الأرض.
- أشكالها فى هيئة تماثيل صغيرة . ظلت تلك المفردات راسخة فى أعماق ووجدان الطفل الصغير إلى أن صار فنانا مخضرما له أسلوبه الفنى وعالمه الخاص.
- تناول الفنان سيد سعد الدين فى أعماله أكثر من اتجاه فنى بجانب الرومانسية فكانت التعبيرية والواقعية والتجريدية والسريالية والرمزية . وأخذ الفنان يمزج بين تلك المدارس فى أعمال مختلفة وبحبكة شديدة ومهارة فائقة يجمع بين الإحساس المرهف وصدق التعبير وقوة المشهد .
- برع الفنان سيد سعد الدين بالأسلوب الأكاديمى وفن التشريح بشكل خاص ممارسا فن النحت بجانب الرسم حين التحق بمعهد ليوناردو دافنشى ببولاق .. نبغ فى الرسم على يد الإيطالى ( تريفيزونو ) كان متخصصا فى رسوم الكنائس .. وعلى يد إيميكالى عياد زوجه ( راغب عياد ) .
- قد تأثر كثيراً بالفنان سيد عبد الرسول الذى كان أستاذه فى ذلك الحين .وهو أيضاً تلميذ روحى للفنان حسين بيكار فى تلقائيته التصويرية التى تظهر فى الخطوط الإيقاعية القوسية الناعمة واللعب الهارمونى بالظل والنور واختزال الألوان فى مجموعة مونوكرومية من درجات البنى والأزرق وتحليل الشخوص بطريقة مثالية تشبه الكتل البلورية التى تشع ضوءا من داخلها .وهو تلميذ التكعيبيين من حيث تضفير عناصر لوحاته وفق شبكات خطية قوسية وهمية تحكم مواقعها وعلاقاتها البينية وتحدد مستويات الامتدادات الظلية .
- تأثر الفنان تأثراً كبيراً بدراسته لهذا المعهد وذلك بسبب طبيعة الدراسة ومناهجها وأساتذته الإيطاليين ، فقد كان بالمعهد أشبه بقطعة مصغرة من إيطاليا مما سبب له ارتباكا نفسيا جعله يشعر بفقدان هويته وقوميته ، لولا تدخل أستاذه الفنان الراحل سيد عبد الرسول ( 1917 - 1995 ) ، لقد عاونه عبد الرسول فى اكتشاف مناطق الجمال فى الثقافة المصرية فالتراث المصرى حافل بالمقومات الجمالية والفنية العريقة التى تجعل منه مثالا يحتذى به ومرجعية راسخة عبر السنين لكل من يريد النهل منه .بالإضافة إلى ما يزخر به الريف وبسطاؤه وحياتهم الشحيحة من كنوز بصرية مدهشة . كانت تلك المعانى سبيلا واضحا ومحفزا قويا لاستعادة الفنان توازنه واستقراره النفسى والفكرى بعد أن اهتدى إلى الطريق الصحيح وتلمس خطواته الأولى حتى سار يخطو خطى قوية ثابتة راسخة ، قضى الفنان سنوات الدراسة بالمعهد ليعمل بعد تخرجه معيدا فيه ويرجع هذا الفضل لأستاذه الأول سيد عبد الرسول الذى توسط له لدى مدير معهد دافنشى من أجل تعيينه كأول معيد مصرى فى هذا المعهد العتيد عام 1967م.
- تأخذنا أعمال سيد سعد الدين إلى فضاء واسع رحب يندمج فيه الواقع بالحلم فى جو بهيج . فتستقطب ناظريك امرأة جميلة تمتطى ظهر فرس جاءها من عالم الأحلام يسير بين أمواج هادئه لا هى أمواج أنهار ولا هى رمال صحراء أقرب إلى طيات قماش .تنظر على يمينها مد بصرها فى هدوء وعلى استحياء إلى فتيات يتطلعن إلى تلك الخيول فى سماء اللوحة فى حالة من السرور والبهجة ، وفى الخلف بملابس بيضاء باهتة فضفاضة شفافة فتاة جميلة تنفخ فى تلك الآله الموسيقية ويمتد شعرها خلفها مد زراعها ويهرول أمامها فرسها الأبيض ملبيا نداءها .وفى شموخ وجمال وخفة يعانق النخيل تلك السماء الصافية بسعفه الرشيق فيلقى بظلاله على تلك الأهرامات الثلاثة فى أعلى فضاء اللوحة . إنه الحلم ..حلم اختلط فيه ملامح الواقع المصرى الأصيل بمشاعر إنسانية نبيلة يرق لها قلب فتاة تنتظر حصانها الأبيض يحلق بها إلى عالم الأحلام . معزوفة جميلة مفرداتها تجسد خصائص الثقافة المصرية بأسلوب مبدع شديد الخصوصية يجمع بين حبكة التصميم وقوة بناء اللوحة واختيار روحانى لموضوع يمس القلوب ويهمس للوجدان.
- إنها المرأة فى أعمال المبدع الكبير سيد سعد الدين . فتاة جميلة رشيقة تظهر بين جنبات أعماله فى أوضاع متعددة وبهيئات مختلفة سعيدة تارة حزينة منهكة تارة أخرى . وفى كل الأحوال تشى بالأنوثة والرقة والجمال. فتاة يجسدها الفنان تلعب بالطوق فى خفة ورشاقة وتجلس فى صمت تماثيل الفراعين وفى وضعياتهم المصورة على جدران المعابد تحتضن عودها ويسير شعرها خلفها أشبه بالأمواج المتلاحقة حول قاربها الساكن الصغير . وفى أخرى تتطلع بابتهاج ونشوة إلى السماوات العلى ترتفع قدميها عن الأرض محلقة لأعلى ، يعلو كفها ليلامس القمر وكأنها تريد احتضانه . أو تحمل الجرار على ضفاف النيل بجوار حميرها المجسدة فى هيئات كستها صفات الجمال .. ليست حمير الحقول التى نعرفها إنما هى كائنات تسبح فى فضاء لوحات سعد الدين تزيدها جمالا.. فتفاصيل وجهها إضافات جمالية لعالم اللوحة وليست مجرد عنصر بها ففى تنوع مثير يصوغ الفنان بناء اللوحة فى صورة هرمين متقابلين عند القاعدة .. الأعلى يجسد رجلا يمتطى حماره ممسكا بعصاه التى تمثل نقطة ارتكاز تتقابل عندها قاعدة الهرم الآخر المقلوب والذى تمثله رؤوس الحمير الأربعة تتقابل ظلالهم مجسدة البناء الهرمى الثانى . لا تخلو لوحات سعد الدين من قيمتها التراثية التى يعبر عنها فى اتجاهات عناصر لوحاته ووضعياتهم وكذلك فى اختيار ألوانه ومفرداته .عالم متكامل ينم عن ثقافة إبداعية فريدة.
- فإذا كان الفن أداة يعبر من خلالها الفنان عن عالمه ، وجدانه ،أفكاره مشاعره .. فهذا هو الحال فى أعمال سعد الدين.. فقد كان وسيلة تعبيرية تجسد حالاته تطلعاته . فحين فقد حبيبته .. ابنته وزوجته .. ` ألهمه الله الصبر والسلوان `.. أخذ ينقل مشاعره الحزينة إلى لوحاته .. فجاءت كألحان على أوتار ناى شجى حزين .. فلوحات القبور والمقرىء والمرأة الجميلة على البساط يحيطها الحمام الأبيض الجميل من كل مكان كأنه يزفها إلى السموات .وغيرها من الأعمال إنما هى تعبير بليغ ينقلنا معه الفنان إلى العالم الأخر فيمس القلوب التى ودعت يوما عزيزا لها نقله القارب للجانب الآخر من الحياة.
- الثنائية الشهيرة للرجل والمرأة بين أنامل الفنان المبدع سيد سعد الدين.
- عذوبة المشهد وروعة التكوين تضيف جمالا لنشوة الإحساس التى تمس قلوب الأحبة عند التطلع لمثل هذه اللحظات فى أعمال سعد الدين .. ففى وضعية معبرة تتقابل تلك المرأة بوجهها مع ذلك الحبيب فى لحظة صمت وسكون تجلس متكئة على ذراعها اليسرى بينما تحتضن بيمناها الممتدة بمحاذاة ذراع حبيبها . تلامس أصابعهما دارة القمر التى تسقط بظلالها على أرضية اللوحة والتى تداخلت بها الألوان الوردية الساخنة والزرقاء الباردة فقسمت اللوحة إلى مساحات متباينة تؤكد ثراء التنوع وحبكة البناء الهندسى المميز .
- كأن على رؤوسهم الطير .. سرعان ما يتسرب هذا المعنى إلى وجدان المشاهد وهو يتطلع للوحة ` العزاء ` التى يتوسطها المقرىء يدب صوته فى قلوب المعزين بترتيل آيات الذكر الحكيم يسمعون فى صمت رهيب لا يتحدثون ، لا يتحركون بصوت شجى يمس قلوبا فقدت عزيزها.
- جماعات من الحمام ثم صفوف من المعزين تتقاطع معها وتجاورها وتوازيها حمامات كثيفة فى هيئة واحدة تصطف جميعها فى اتجاهات واحدة يحلق معها النظر إلى مركزية اللوحة المتجسدة فى شخص المقرىء .وبعد ثباتها وسكونها أسفل اللوحة تحلق الحمامات فى أعلاها وعلى أطرافها فتقلل لدى المشاهد حدة التوتر المجسدة فى الكتلة الكثيفة أسفل ووسط اللوحة فتبدو كمتنفس فى أعلاها .
- أعمال تجسد لحظات قوية تزلزل الوجدان ، تصميمات محكمة ، حبكة درامية ذات صبغة جمالية ، تجسيدا للواقع الاجتماعى دون تجاهل التطورات الجمالية فى الفن العالمى الحديث ، إبداعات تفصح عن هويتها المصرية ، بأسلوب بنائى معمارى اختزلت معه الكثير من التفاصيل ،ألوان هادئة ، ملمس حريرى ، شفافية مفرطة .وأخيرا استلهام الوضع الفرعونى الشائع ، حيث الوجه ` بروفيل والجسد فى المواجهه . دون العبث بانضباط النسب التشريحية للجسد الإنسانى .كانت تلك معظم خصائص رسوم الفنان المبدع سيد سعد الدين ذات الأسلوب الفنى الراقى المثير للذوق والروح والعاطفة .
- والفنان سيد سعد الدين خريج معهد ليوناردو دافنشى للفنون بالقاهرة 1967 .عمل فيه بعد تخرجه أستاذا للفنون التشكيلية . يشارك بالحركة التشكيلية داخل مصر وخارجها منذ عام 1974 .حيث أقام مؤخرا معرضا خاصا له بقاعة نهضة مصر متحف محمود مختار ضم مجموعة من أهم أعماله الفنية التى تجسد جزءا من هذا الكبير للفنان سيد سعد الدين والذى سجل فى موسوعة كامبريدج العالمية كفنان مصرى متميز 1990.
بقلم : صالحة شعبان
مجلة الخيال( العدد التاسع والأربعون) 10 أبريل 2014
رومانسية الدهشة فى إبداع سيد سعد الدين
- الوان وتماثيل
يولد الفنان ليبقى
يعيش - يركض - يحلق ..
يتنفس إبداعاً .. ويرفض أن يسكن
يموت نسانيا
ويبقى ما دام فنه
- كلما وقع نظرك على لوحة من لوحات الفنان سيد سعد الدين وجدت نفسك تشعر بحالة من الهدوء والسكينة والصفاء ووجدت قلبك يلامس الحياة مشبعاً بحالة من رومانسية دهشة اكتشاف الأشياء والمعانى والوجود لأن هذا الفنان المصرى المتجاوز بفنه لكن ما حوله قد أخذك إلى عالمه .
- لقد استطاع سيد سعد الدين المولد فى صعيد مصر وتحديدا فى قنا فى 24 يناير 1944 أن يتجاوز المسافات والأزمان ليكون صورة لما هو آت ومدى لما هو قادم من خلال رؤيته الخاصة تلك التى تجرد العالم من التفاصيل المزعجة فلا يبقى أمامك منه سوى جوهره الشفيف الذى يغيب وسط ضجيج الحياة .
- الغريب أن تلك الشحنة الرومانسية قد انتقلت أيضاً إلى الكتابات النقدية التى تحاول رصد شطأن الواسعة لفن سيد سعد الدين . نجد الناقد سامى البلشى يكتب عنه فيقول : هو يجرى بروحه فى رحاب عالمه الرقيق .. يطير ويسبح فى فراغات اللوحة .. يحلم مع الحالمين .. ينتمى لأوجاع البسطاء يستضيفهم فى مملكة الحواس يتقصمهم واحداً واحداً .. ويبدأ فى الغناء بالألوان على سطح اللوحات وبالفعل فإن لوحاته ما هى إلا نسمات من الضوء تسقط على الأشكال .. تقابلها شلالات من النور الناعم تصدر من الأشكال فتحتويها اللوحة .. ساحة للعشق والحوار الرومانسى بين الكتل والمساحات ينفجر الضوء فى جميع أرجاء اللوحة .. نسائم تصنع الأقواس وتحلل الألوان .. فيبهرك جمال التحليل الذى ينتمى إلى حس وخيال تلقائى تجاوز المنطق وأضاف إلى المألوف مؤثرات حسية وجمالية مدهشة ..هكذا رآه ذلك الناقد وكذلك رأته كل عين عايشت لوحاته .
- لقد تناول الفنان سيد سعد الدين فى أعماله عدة اتجاهات فنية إلى جانب الرومانسية فكانت التعبيرية والواقعية والتجريدية والسريالية والرمزية متجاورة ومتناغمة فى لوحاته وسط حالة فريدة وغرائبية حين تجتمع النقائض لا لتتنافر وتتجادل وتختلف بل لتئتلف وتتناغم وتتكامل فى جمالية نادرة ومطلقة .
- وبالفعل تمتد أعمال الفنان سيد سعد الدين فى أبعاد مركبة عميقة تجمع بين النحت والعمارة والتصوير .. إنه الفنان العميق التأمل فى الضوء واللون الذى يستطيع جمع مختلف الأبعاد المكانية والمسافات الزمنية فى اطار اللوحة ذات البعدين أو المسطح التصويرى ربما هى الرمزية من جانب والسريالية من جانب أخر وسط غلاف رومانسى شديد البساطة والوضوح والتماسك .ولعل هذا ما جعل بعض النقاد يشيرون إلى ما لديه من مشهديه ومشاهد يغلب عليها الطابع المباشر ليس بالمعنى المباشر ولكن بمعنى أنه يستطيع إيقاف الحركة وإدراك سكون اللحظة بما يجعله يعكس حالة كونية فى الزمان والمكان فى تناغم ينساب بين المسافات والمساحات والعناصر والشخوص .
- كان الفنان سيد سعد الدين قد أنهى دراسته وأصبح أول معيد مصرى يتم تعيينه بمعهد ليوناردو دافنشى سنة 1967 وهذه الرصانة الأكاديمية المبكرة جعلته يقوم بعمل الاسكتشات ويعتم بالتحضير للوحاته بمستويات عديدة وكأنها مشروع شامل .كانت ميزته الأولى دائماً هى أنه يملك فى رسومه ناحية الهندسة الدقيقة واحترام البعد الثالث .إنها الدقة والرصانة والتماسك الذى يدنو إلى درجة الإبداع فى التنسيق والترتيب .ولذا غلبت عليه روح المعمارى الساعية إلى الاتزان ودقة التصميم ولم يكن هذا غريبا عليه فهو قد التحق بكلية هندسة المنيا قبل التحاقه بمعهد ليونارد دافنشى إنه ذلك الذى يعرف كيف يبنى اللوحة ويدهشنا بها ويدخلها إلى قلوبنا ويدخلنا إلى عالمه من خلالها .
بقلم : سوزان التميمى
جريدة المساء 16 يونيو 2020
سيد سعد الدين .. والتصوير النحتى
- هو واحد من جيل السبعينات ، ومع ذلك ، فقد قدم فى سنوات قليلة ما يستحق عنه أن يوضع بين فنانى الصف الأول ، فعلى المستوى الإنسانى يعيش دراما حقيقية للإصرار ، وعلى مستوى الفن يقدم إبداعات تفصح عن هويتها المصرية ، وعن براعة متميزة ، وعن رؤية يحرص صاحبها على أن تكون مستقلة .ينتمى إلى ما يمكن تسميته بالمدرسة المصرية التى تشكلت على أيدى الفنانين ..بدءاً من محمود مختار ، وراغب عياد ، ومحمد ناجى ، ومحمود سعيد .. ثم راتب صديق ، وحسين بيكار ..إلى فنانين لمعت أسماؤهم فى أواخر الخمسينات وبداية الستينات أمثال : سيد عبد الرسول ، وعبد الهادى الجزار ، وحامد ندا ، وكمال خليفة ، وحامد عويس ، وحسن سليمان ، وممدوح عمار ، وسعد عبد الوهاب ، وعبد الوهاب مرسى ، وزكريا الزينى .. إلى فنانين لمعوا فى الستينات أمثال : صبرى منصور ، سعيد العدوى ، ومصطفى الرزاز ، والجبالى ، وسمير تادرس ... وغيرهم
- مولد فنان
- ترك الجيش قبل إتمام الخدمة العسكرية بعد إصابته بأزمة صحية حادة، ويبدو أن الحالة قد تفاقمت للدرجة التى رأى فيها المسئولون أن يسمحوا له بترك الخدمة .!.. وظل نحو عامين لا يكاد يغادر غرفته، وفجأة قال له صديقه وشريكه فى الغرفة مداعباً: ما دمت فى طريقك للموت فلترسم لنا شيئاً من إيحاءاته !..ولم يكتف بالدعابة الثقيلة بل أحضر له الخامات الضرورية ، ووضع أمامه حامل الرسم ، ولم يبق إلا أن يغمس الفرشاة فى عجائن اللون ، ويبدأ العمل .وبدأ العمل فعلاً ، وأنجز بضع لوحات ، دارت لوحتان منها حول الموضوع ` الموت` .الأولى بعنوان ( زيارة إلى راحل) ، والثانية بعنوان: ( أنشودة إلى راحلين ) ، وقدم زميلة اللوحة الأولى لمعرض كان قد أقيم إحياء ً لذكرى عبد الناصر عام 1972 بقاعة الاتحاد الاشتراكى بكورنيش النيل ، ولفتت اللوحة الأنظار إليه ، واقتنتها اللجنة المركزية .أما لوحته الأخرى فقد فازت بالجائزة الثانية لصالون القاهرة .
- بهذين العملين قدم شهاده ميلاده كفنان تميز بملامح خاصة ، وواصل رحلة نضجه الفنى ، وحصل على كمية من الجوائز لم يحصل عليها فنان آخر فى مصر فى فترة زمنية قصيرة.
- ( تصوير نحتى !)
- عند مشاهدة هذين اللوحتين نلمح للوهلة الأولى أننا أمام تحويرات نحتية لعناصره الإنسانية . لم يشغله فقط تأكيد البعد الثالث ( الإيهامى ) ، ولكنه أراد أن يشعرنا أننا أمام منحوتات يمكن الدوران حولها ، ورؤيتها من كل الزوايا!. وفى هذين العملين ، وبعض الأعمال الأخرى، يظهر الفنان متقمصا روح النحات ، ملصقاً بالوسائط التصويرية السهلة إيحاءات بالوسائط النحتية الصعبة ، فاللمسات تصبح كثيفة ، وخشنة ، كضربات الأزميل فى الحجر ، والإيجاز فى التفاصبل ، التى يضطر إليها نحات الكتل الحجرية ، يتبناها ` سيد سعد الدين ` ، ولأن كتلة النحت لا توجد إلا فى حيز مكانى ذى ثلاثة أبعاد ، كذلك فعل الفنان مع شخوصه ، فأقام لها مسرحا يكاد يكون حقيقيا ، فوزع الكل على خشب المسرح كما يفعل مخرج المسرح ـ ففى لوحة ( أنشودة إلى راحلين ) تنهض المجاميع منشدة نشيداً كورالياً أمام مدافن الموتى ، تكاد تشملها جميعاً تنويعه على مفردة لونية واحدة هى اللون البنى .واللوحتان ، فى جانب من جوانبهما ، استذكار لبعض أساليب عصر النهضة الأوروبى : فى النسب الرياضية للتصميم ، والاحتفال بالمنظور الثابت ، والاهتمام بالمقابلات بين عناصر المقدمة والخلفية ، إلا أن ملامح الفنان تظهر بوضوح ابتداءاً من هذين العملين .وأبرز نلك الملامح ، كما أشرنا من قبل ، هى السعى لإيجاد كتل صريحة ، ونقية ، فهو يزيل الشوائب التى تقاوم نقاء الكتلة .تختفى من لوحاته التعبيرات الحادة ، والحركات المتشنجة ، وأحيانا تختفى الوجوه نفسها!.. ففى لوحة زيارة إلى راحل تصبح رأس الطفل كرة كاملة الاستدارة ، وتشكل ذراعا الطفل قاعدة لتلك الكرة النحتية !
- إن ` الكل` يقوم بدور ` الجزء` .فبدلاً من العناية بالممكنات التعبيرية لأجزاء الجسد الإنسانى ، فإنه يكتفى بالإيحاءات المعمارية للشخوص داخل المكان ، فالطفل الواقف أمام الحائط لا نكاد نلمحه يبكى ، غير أن حوار الكتلة وظلها المنعكس على الحائط ، والظلال الممتدة ، الجانبية ، لشخوص لا نراها ، والكتلة البعيدة لعنصر إنسانى فى مواجهة مقبرة .. كل هذا يرسب فى النفس شعوراً بالرهبة ، والألم .
- ( طريق لأوربا ..وطريق لمصر !)
- فتحت دراسته فى معهد ليوناردو دافنشى أمامه قناة للاتصال بالتصوير الأوروبى ، ووقف طويلاً عند فنانى عصر النهضة العظام ، وانبهر بذلك الإخلاص الاستشهادى من أجل إبداع أعمال فنية قد تستلزم من فنان مثل ` مايكل انجلو ` - مثلا - البقاء لسنوات تحت سقف كنيسة فى ظروف اختيارية بالغة الصعوبة . والواقع أن طبيعة المعهد ، والجو العام بداخله يشعر الطالب أنه انتقل إلى أوروبا .لهذا كان وجود أستاذه الفنان` سيد عبد الرسول ` مناقضاً لهذا الجو ، جاذباً له لدراسة التراث المصرى ، والفنون الشعبيىة ، ومحركاً له لاكتشاف خصوصية لفن مصرى معاصر .ولم يكن للفنان سيد عبد الرسول تأثير فنى على الفنان سيد سعد الدين فقط ، بل كان أيضا على المستوى الإنسانى ، وربما لو لم يلتق الاثنان لكان تغير مصير فناننا ، ففى ظروف عصيبة كالتى يحياها الفنان التشكيلى المصرى الآن ، حيث لا اعتراف به كثروة قومية من الدولة ، ومن الشعب على السواء ، ويترك فريسة لوظائف حكومية معاكسة ، ومعطلة لطاقاته ، وحيث ينعدم التقييم الموضوعى ..عندئذ يصبح للصدفة دور البطولة ، فسيد سعد الدين كان قد جاء إلى المعهد هارباً من والده الذى كان مصراً على أن يظل ابنه بكلية هندسة المنيا ، وأخفى عن والده حقيقة الأمر حتى يستغل المصروف الشهرى الذى كان يتلقاه منه، والتحق بالقسم المسائى ، وهناك اكتشفه الفنان ` سيد عبد الرسول ` ، وساعده ، وألحقه بالقسم الصباحى ، وتوسط له لدى المسئولين بالمعهد فأعفى من المصاريف ، ونشرت وقتها قصة مغامرته ، وعلم بها محافظ المنيا ، فقرر له مكافأة شهرية قدرها ستة جنيهات خلال سنوات دراسته ، كما قرر شراء لوحاته التى يرسمها فى الأجازة السنوية بمبالغ قريبة من قيمة المكافأة ! أما على المستوى الفنى فقد تأثر بانعطافات ` سيد عبد الرسول ` نحو موضوعات الحياة اليومية ، والتوجه نحو التراث المصرى القديم ، كما تتلمذ لفترة على الفنان ذى الشعبية الكبيرة ` حسين بيكار` لدراسة فن الباستيل ، وأصبح ` سيد سعد الدين` أول معيد مصرى بمعهد ليوناردو دافنشى عام 1967 .
- ( من وحى الدواب !)
- خرج من إيحاءات الموت القائمة .. إلى صخب الأسواق ، ومواكب المتصوفة ، ولاعبى التحطيب ، وسيدات البيوت ، وأطفال الحارة ، والحيوانات الأليفة التى اختار منها الماعز، والحمير .وبلغ من اهتمامه بموضوع الحيوانات الأليفة أن خصص لها معرضاً أطلق عليه عنوان ( من وحى الدواب ) . تظهر حيواناته ، فى أغلب اللوحات ، فى متتابعات تذكر باللوحة الجدارية الجميلة ( أوزميدوم ) للفنان المصرى القديم ، وهو يثبتها ، ويسكنها فى أوضاع مشابهة للطبيعة الصامتة ، إلا أنها فى كل الأحوال تبدو متماسكة فى كيان واحد.أسرة يصعب أن تقتلع منها فرداً دون أن يحدث خلل ما ، ويبدو هنا مستفيداً إلى حد ما بالأسلوب التكعيبى ، أما عجينة اللون التى كانت كثيفة فى اللوحتين المشار إليهما من قبل ، وبعض اللوحات التى عبرت عن موضوعات قومية مباشرة فيما بعد، قد خفت .
- ( موضوعات قومية )
- نفذ عديداً من اللوحات استهدفت تمجيد إنجازات الجندى المصرى فى حرب أكتوبر ، أبرزها لوحتان الأولى بعنوان ` لمسة وفاء ` ، والأخرى بعنوان ` الوصية ` .. وصل بهما إلى درجة عالية فى الأداء ، والحبكة فى التصميم ، ولو أتيح لشخوص هاتين اللوحتين التجسد فى منحوتات ، لكان من المناسب لها أن توضع فى الميادين كنصب تذكارى ! فى لوحة ` لمسة وفاء ` تتجه كل خطوط اللوحة للترابط ، والتوحيد بين عناصرها ، وهو لا يكاد يترك شاردة أو واردة للصدفة ، وفى هذين العملين تظهر الاستفادة من النحت الفرعونى : صفاء الكتلة . البناء عن طريق المسطحات العريضة . التركيز على الحركة الداخلية للأشكال . شموخ الكتل البشرية ، وصلابتها ، وتحديها للزمن ، إلا أنه استخدم رموزاً دارجة ، ولم يقف فى هذين العملين عند حدود الإيحاء بل قفز إلى منطقة الإفصاح الصريح ، المباشر .الدعائى .وربما كانت لوحة ` لمسة وفاء ` أكثر وضوحاً ، إلا أن اللوحتين تدوران فى فلك واحد.
- ( من السكون .. إلى الحركة )
- أقام فى مارس 1983 معرضاً بقاعة جوتة بالقاهرة، ونجح فى تقديم إضافة جديدة بالنسبة له ، فقد انصرف عن ` سكونية ` العناصر إلى درجة ملحوظة من ` الحركة ` ، كما تخفف من أثقال العجائن الحجرية ، ودخل مناطق جديدة من اللون البارد ، والساخن !.
- كان معرضه الأول عن الدواب ، والثانى عن البشر ! .. غير أنه فى انتقاله من جو التراكيب السكونية .. إلى التراكيب الموحية بالحركة لم يغير من جوهر عالمه.فالمجاميع البشرية ، والحيوانات متلاحمة ، ومتماسكة كأسرة ريفية ، ذات كتل على قدر متساو من الاهتمام ، وهى كتل ذات حضور ثقيل ، وتبدو المجاميع ، رغم تماسكها ، وحيدة ..كجماعة ضلت فى الصحراء .. يرقبها من أعلى وجه القمر!
- تمثل لوحات ` التحطيب ` مباريات بين ديكه بشرية ، متفرجوها يبدون كأصنام ، أو عرائس حجرية .
- يقفز اللاعب قفزة مفاجئة .ويتجمد فى الفراغ الشاسع ، وتصطدم عصا كل من اللاعبين بالأخرى ، وتندفع تلافيف الملابس الفضفاضة .الأسطوانية كالمروحة ، طائرة بأجساد انفصلت للحظة عن جاذبية الأرض لتتلاقى فى حوار راقص . أما القمر .. ذلك الشاهد الفضى .. المتسلل خلف الأسوار فإنه يهدى اللاعبين ضوءه.
- إن قطعة صغيرة من الحجر لا قيمة لها وهى مهملة إلى جوار حائط، لكنها تكون مثيرة عند انطلقها إلى السماء ، وعودتها المتوقعة إليك . أما إذا تجمدت فى سماء اللوحة ، فالخيال يكمل عودتها المتوقعة ..وقد قام الفنان ` سيد سعد الدين ` بتجميد اللاعب القافز فى سماء اللوحة ، للإيحاء بالقفزة العنيفة ، وبالعودة المتوقعة .. المقلقة .إن قطعة الحجر المنطلقة إلى السماء سوف تعود بنفس الهيئة ، أما كتلة اللاعب المحورة تحويراً مثيراً ..وهى فى السماء ، لا ندرى على أى هيئة يمكن أن تعود إلينا .. ومن ثم ، فإن هذه الحيلة التى استهدفت ` الحركة ` تدهمنا بالارتباك ، والقلق .. ويخلق فى لوحات أخرى إيحاءات.
- بكتل تذهب ، وتجىء فى الفراغ كما فى لوحة ` المرجيحة ` - على سبيل المثال ، ويضيف حيلة أخرى للإيحاء بالحركة ، هى تفتيت المنظور الثابت ، فيستخدم أكثر من منظور فى اللوحة الواحدة لإطلاعنا على أكثر جوانب العناصر إثارة ، وجمالاً . ولقد نجح فى لوحات لاعبى التحطيب فى إبراز عنصر الحركة أكثر من أغلب الموضوعات الأخرى بما فى ذلك لوحة ( الخبر ) التى فاز عنها بجائزة البينالى الأولى فى التصوير . أما شخوصه فقد قدر لها الفنان أن تكون ساكنة ، ولا يسمح لها بالخروج من جمود ` العروسة ` الخشبية أو الحجرية .. إلى الليونة العضوية ، الإنسانية إلا عندما تكون ( المرأة ) هى محور اللوحة ! .. والمرأة التى يتعامل معها هى سيدة البيت ، أو الشغالة ، فى لحظات الاسترخاء ، أو العمل فى تنظيف الملابس ، وتشترك بليونتها ، وحسيتها فى مقابلة مع إيقاعات المساحات الهندسية للملاءات المغسولة ، كما تظهر الملامح قريبة من الواقع فى بعض لوحات الأطفال .. إلا أن عنصر ` الرجل ` يبدو عنصراً متربعاً على عرش اللوحات !
- ( لوحة من وحى النيل )
- استغرق تنفيذ هذه اللوحة ، والدراسات المصاحبة لها نحو سبع سنوات ، مقاسها 120 × 90 سم ، ونال عنها الجائزة الأولى من المجلس الأعلى للفنون والآداب ، وكعادته فإنه لا يكاد يترك مساحة مهما قل شأنها للصدفة ، فاللوحة اتسمت بالبناء الهندسى ، الرياضى المحكم . أسقط على الأشكال إضاءات كشافية ، دافئة ، تميز عناصر المقدمة من عناصر الخلفية . واللوحة تمثل مهرجانا للأشرعة ` أعلى اللوحة ` ، ومهرجاناً للبشر ` أسفل اللوحة `، وكان من نصيب الأشرعة البطولة الأساسية فى اللوحة ، فهى عملاقة .شامخة .توحى بالامتداد خارج إطار اللوحة العلوى .اسطوانية كأنها أعمدة معبد من المعابد المصرية ، بينما يظهر البشر متراصين كمنشدى كورال .بلا ملامح تميزهم ، وإنما هى كتل تجلس أو تنتصب فى تلاصق .. هادىء . إن صفحة النهر الزجاجية ، والإضاءة المسرحية ، والسكينة التى تحيط بكل شىء ، والأناقة التى تتسم بها كل العناصر ، والرضا الذى يضم شخوصاً شامخة . هادئة. تدعونا إلى حلم من أحلام اليقظة الصافى.
- إن عالم ` سيد سعد الدين` - بشكل عام - عالم سكونى .خال من المبالغات الانفعالية .خال من التجهم . يحتفى بالجماعات المتشابهة ، ولا يحفل بالأفراد المتميزين ، ولهذا فقد أهمل فن البورترية ، فإذا أضطر إليه ، فإنه لا يلجأ إلى المحاكاة البسيطة ، وتظل الوجوة ساكنة لا تفصح عن مكنونها.
- قد نتعاطف ، أولا نتعاطف مع رؤية الفنان ` سيد سعد الدين ` ، غير أن ما يقدمه لنا من إخلاص الدارس ، وصبره ، وشاعريرية الفنان ، وقدرة المهندس .. تدعونا إلى احترام ما يقدمه لنا .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة إبداع ( العدد 2 ) فبراير 1984.
الفنان سيد سعد الدين (1944) .. بين الإبداع والتجويد
- بما يقابل لغة الرباب والأرغول، ظل الفنان سيد سعد الدين يتغنى فى لوحاته بنهر النيل على امتداد مشواره الفنى منذ سبعينيات القرن الماضى بلا كلل أو ملل ، ارتبط استخدامه الألوان الزيتية بالشاعرية والغنائية الدافئة والطروب، مصوراً أبدية النهر، كرمز للعطاء بالخيرات، وللكتمان بالأسرار، وللغموض فى مسيرته منذ انشقت عنه الأرض، ومصوراً أزلية الإنسان فوق مائه وشاطئيه وهو يعمل ويشقى فى الزرع والقلع والحصاد والصيد .. عبر ملاحم إنسانية لاستخراج الرزق والتغنى به على شاطئيه . وبينهما تسبح القوارب ذات المجاديف ، والمراكب ذات الأشرعة ، مختالة على صفحته ، وعاكسة على مرآة سطحه الصافية أرق صور الصباح والمساء، بلمسات لونية شفافة تبدو وكأن فرشاة الفنان تهمس بها وتقبل خد النهر من فرط رقتها وعذوبتها، وكثيراً ما يرسم قائد القارب أو الصياد عازفا على العود أو الرباب كعازفى جنادل البندقية، سارحاً فى ملكوت النهر والسماء، يغنى للرزق والحب والشكر لله، عبر مسيرته التى بدأت قبل نشأة الحضارة على شاطىء النيل ، ويهون بالموال المتشاكى على الإنسان قسوة الكفاح وغدر الأيام .. وقد نرى هذه المسالمة للطبيعة فى رسومه للحيوانات الصدقة للفلاح، بل يعطيها حفاوة واهتماماً فيجعل منها كائنات جميلة لاتكتمل الحياة إلا بها .
- وبنفس هدوء مجرى النيل وإيقاعه الوئيد يمارس الفنان سعد الدين الرسم والحياة معاً .. مثل الفلاح الكادح على شاطئه يصحو مع الفجر ويبدأ العمل فى مرسمه دون أن يكون مكلفاً من أحد أو من جهة ما بالعمل أو بإنتاج معين، هو يعمل للعمل فى حد ذاته ويمارس الفن للفن كنشاط خلق له ولا يعرف غيره ولايريد سواه، يطل على صراعات الحركة الفنية كعابر سبيل لا يعنيه أمرها إلا فيما يضمن له انتظام حياته واستقرارها عبر منحة التفرغ من وزارة الثقافة التى استمرت سنين طويلة، وعندما توقفت لم يلجأ للشكوى والأنين أو للدعة والراحة متكئاًعلى أنه قد آن أوان الراحة خاصة بعد أن أصبح من المستورين ، بل واصل عطاءه فى نفس المسار متصالحاً مع الواقع والحياة والفن والبشر، تماماً كنهر النيل .. التجديد فى الفن عنده يعنى ` التجويد ` وليس الثورة أو الانقلاب أو اللهاث وراء الإتجاهات الوافدة، والمغامرة الإبداعية لديه لاتتعدى مزيداً من ضبط الإيقاع ، وتحريك الكتل، وتشبيك العلاقات، وانسياب الخطوط، وشفافية الألوان، وتبسيط الأشكال وتحقيق الهارمونى الموسيقى بين جميع عناصر التكوين، حتى تكتسب مزيداً من الإنسيابية الغنائية، أو إضفاء مشاعر الأسى والحنين أو لواعج العشق والتفانى فى المحبوب، أو إشراق النور فى اللوحة وكأنه ينبع من سطح النهر أو من قلوب المحبين، أو هبوب الريح فتنتفخ بها الأشرعة وتكاد تطير هفهافة فوق صواريها الشواهق دون أن تبلغ حد الإندفاع أو المخاطرة، وسرعان ماتعود إلى إيقاعها الوئيد، تطربنا بموالها الحالم بالمحبة والسلام .
- أما هو - الفنان - فيأوب آخر النهار إلى نفسه راضياً متصالحاً مع الكون مثل الفلاح العائد من حقله بما أعطاه الله من رزق أو الصياد وهو يجمع شباكه التى نثرها فى الليل فيجمعها فى الصباح حامداً ربه أيا ماكانت تحمله أو لاتحمله من أسماك .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|