رحيل الفنان سعد كامل .. رائد الإيقاع الشعبى المعاصر
-عن عمر يناهز 88 عاما رحل الفنان سعد كامل رائد الإيقاع الشعبى الذى تألق فى تصاوير تمثل انعكاسا معاصرا لمفهوم الفن الشعبى بمعناه الواسع والذى يعد التعبير الحقيقى عن روح الامة ويمتد بطول التاريخ فى صور بصرية لا تنتهى.
- ولقد ظل فناننا مخلصا لهذا الايقاع طوال حياته الفنية العريضة مؤكدا صيغة الأصالة والمعاصرة والموروث والحداثى وهى الصيغة الحقيقية للتلامس مع هذا الفن الذى يكاد يقترب من السحر والمفعم بالحيوية والنضارة بما يؤكد التواصل الحضارى والحفاظ على استمرار الشخصية ومعنى الهوية .
* ريف المنوفية :
- ولد سعد كامل فى 16 من مارس عام 1924 فى مدينة شبين الكوم عاصمة المنوفية وقت أن كانت واحة ظلية خضراء جمعت بين الريف والحضر.. يفيض سوقها فى يوم الثلاثاء من كل أسبوع بدنيا شعبية تمتد فى لوحات مطبوعة بطرق بدائية تجسد أبطال الملاحم الشعبية من الزير سالم وأبو زيد الهلالى وعنتر وعبلة والأميرة ذات الهمة تتوهج بخطوط تلقائية .. مع الحصير الملون والكليم والسجاد الشعبى ومجسمات من أختام ذات نقوش وعرائس وأباريق السبوع والتماثيل الجصية الصغيرة .
- وكان يحلو لفناننا فى طفولته تأمل كل هذا ونقله فى كراسة الرسم من بداية التحاقه بالمدرسة مضيفا عليه مواكب الجمال والبواخر التى تشق المياه والتى كان يراها على واجهات البيوت فى مواسم الحج .. وهذا ما أكد إصراره على الالتحاق بالفنون الجميلة `القسم الحر ` واستمراره فى الدراسة بها حتى عام 1949.. ولم يكتف بهذا بل سافر إلى إيطاليا والتحق بأكاديمية روما للفنون الجميلة قسم الرسم الزخرفى وحصل على دبلومها عام 1953 كل هذا من اجل تعميق اتجاهه نحو الفن الشعبى والبحث عن إيقاع معاصر يضاف إلى هذا التراث الذى يغنى للحياة .
- وإذا كانت جماعة الفن المعاصر التى ظهرت عام 1946 قد ارتكزت على استلهام الواقع الاجتماعي للطبقات الشعبية بما يحمل من طقوس وإيماءات وتميزت بالعمق الدرامى وقد تمثلت فى أعمال الجزار وندا ورائف وسمير رافع .. إلا أن أعمال سعد كامل تمثل صورا تنتمى لتلك الايقاعات ذات المتعة البصرية الخالصة التى تزخر بدنيا من النقوش والزخارف والمسكونة بتعبيرية رمزية.. تنساب فى تلخيص شديد يجمع بين الهندسيات من دوائر ومثلثات.. والأشكال العضوية التى تتألق فى وحدات من نجوم وأهله واسماك وأوراق نباتية ونخيل مع الكف وعين الحسود وحروف وكتابات تحمل دلالات لمعتقدات شعبية تعد تفسيرا لمعانى الخير والشر والحظ والحسد والمحبة والتوالد والخصوبة والسلام .
* حمامات السلام :
-عندما رسم بيكاسو `حمامة السلام فى عام 1948` أصبحت أيقونة عالمية تدعو السلام بين شعوب العالم ..ولقد جاءت لوحة سعد كامل `حمامتان - جرافيك - 1964` إيقاعا جديدا ومعاصرا يستلهم الفن الشعبى مصورا حمامتين تتناجيان جمع فيهما بين هيئة الحمام والهدهد المسالم رسول سيدنا سليمان وكأنه يعمد إلى هذا التواصل الإنساني بين البشر بفعل السلام الذى يؤدى إلى المحبة واللوحة على أرضية من الأصفر الأوكر حافلة بالنقوش .
- يعلوها كنار من أعلى ويتكرر من أسفل مشكلا كتابات بخط عربى متشابك فى صفاء تلقائى بالأحمر الطوبى..أربعة صفوف أفقية فى أربع أبيات لأبى القاسم الشابى يقول أولها : `الأيا حمامات اللوى عدن فإنى لأصواتكن حزين` تطل حمامة جهة اليمين الذى يرمز للشرق والثانية إلى اليسار باتجاه الغرب وكأنها دعوة للعالم شرقه وغربة .
- وسعد كامل قدم أعمالا فى فن الباتيك والنسجيات المرسمة توهجت خيوطها بسحر اللون وبلاغة الإيقاع وثراء التشكيل والتوريق والزخارف كما نرى فى إيقاعه الفانتازى عاريات فى الحديقة ` والذى يعمد من خلاله إلى هذا الأسلوب الرمزى مصورا فى تشكيل رأسى ثلاث عاريات من عرائس الخيال مع صفوف أفقية لنقوش وعصافير وزهور واسماك بالأصفر الذى يقترب من الذهبى على خلفية من الأحمر الداكن القريب من البنى.. وهو هنا يقدم أغنية بصرية شديدة العذوبة للحياة والحب والتفاؤل والصفاء.
- وموضوعات الفنان سعد كامل تمتد بسحر الحياة الشعبية تبدو فى معظمها ذات قالب ونسق يتغير من إيقاع إلى إيقاع يغلب عليه النظم والصف الأفقي والرأسي كما يقدم لوحات تتحاور فيها الخطوط العربية مع العناصر والأشكال.
- وهو ينتقل فى أعماله من حالة إلى حالة مستخدما وسائل ووسائط عديدة من الجرافيك والباتيك والنسجيات والزجاج الملون والجوبلان والابيسون وكأنه يريد أن تصل رسالته الفنية بكل الطرق .
- يقول : `أنى أهداف فى أعمالي إلى إدماج الواقع بالأسطورة والحقيقة بالخيال لاؤلف عالما جديدا ساحرا وغنيا اكتشفه باستمرار لاول مرة وفى نفس الوقت مرتبطا بالجذور العميقة للعالم الذى أعيش فيه` .
- وإذا كان فناننا قد أعاد تصوير الملاحم الشعبية كما فى `الزير سالم - جرافيك 1962` والفرسان الثلاثة جرافيك 1964` والتى توحدت فيها الجياد مع الفرسان فى جسد واحد وتألقت بالنقوش فى تسطيح يخلو من التجسيم مع تغيير حركة الرؤوس بالأبيض والأسود. ألا أنه خرج بنا إلى موضوعات أخرى تمس الحياة اليومية المعاصرة كما فى لوحته الجرافيكية ` العائلة 1963- ` و لوحته `أمومة 1959` والتى وصل بهما إلى ذروة من التعبيرية الرمزية فى الإيقاع الشعبى المعاصر من العائلة التى تضم الأب والأم والابنة إلى تلك الأم التى تمتد فى انحناءه بعرض اللوحة تحوط ثلاث عرائس من البنات يتألقن بالأبيض على أرضية سوداء.. وليس اجمل من لوحته `السمكة ` والتى تمثل رمزا للتوالد والإخصاب ورخاء الحياة صورها سابحة فى فراع اسود تتدلى منها نجوم وأهلة و `ما شاء الله ` .
- وهناك أعمال للفنان سعد كامل تمتد فى إيقاع خطى خالص تشابكت فيه الحروف والكلمات قدم من خلاله المعنى الحقيقى للطاقة الروحية للحرف العربى حين يهتف ويبتهل ويسبح فى تعبيرية يسمو فيها وتستطيل الحروف الرأسية مع تشابك وانثناء الحروف الافقية فى حيوية كما نرى فى تشكيله` من بنى لله مسجدا بنى له قصرا فى الجنة `وهو تشكيل بالأصفر الذهبى على أرضية سوداء وصل به إلى إيقاع روحى يذكرنا بالكتابة على أستار الكعبة فى تعبيرية جديدة تنساب بالإشراق الصوفى .
* سلام على فناننا بعمق أعماله التى تألقت بالسحر والصفاء.
أ. صلاح بيصار
جريدة القاهرة - 10/ 4/ 2012
سَعد كامل واستلهام الفنون الشعبية
1- بعد مشوار فنى طويل، فى طريق, لم يكن محفوفاً بالورود قدر ما كان مفروشاً بالشوك، يعطينا الفنان سعد كامل المولود فى شبين الكوم عام 1924 خبرة السنين الطوال، ويفرغ حكمة العمر فى كلماته القليلة الرصينة هذه: على الفنان ألا يكون مجرد صانع أشياء جميلة لذاتها, بل أن يحقق فناً قومياً ناضجاً ذا طابع مميز وشخصية واضحة, له كل مقومات الفنون الأصيلة. إن الفنان المصرى المعاصر وراءه تراث فنى ضخم، وعليه ألا يتنكر للدور الهام الذى يستطيع القيام به، مع دفع فنون ذلك التراث نحو التطوير والازدهار فى مجال الاستخدامات الحديثة، فالفنان الحق إنما هو الروح المرشدة للبيئة المحيطة به. (راجع مقالة `راجى عنايت` بمجلة ` العربى ؛ عدد يونيو 1977 ص 124 وما بعدها).
- وقد كابد سعد كامل الكثير حتى يبلغ اللحظة التى تؤهله أن يسمعنا كلماته الحكيمة تلك. وقد ادلهمت من حوله فى حياته سحب الإحباط، ولم يلق على جهوده المضنية فى الدرس والتحصيل والحياة العملية كلمات تشجييع أو مديح أو استحسان، وعلى الرغم من ذلك واصل تجاربه وتضحياته، ومضى فى الظل مغموراً لا يلتفت إليه أصحاب الأيدى الناعمة والياقات المنشاة مرتادو الصالونات، انزوى الفنان الشاب إلى جوار أنواله وأحباره وأصباغه وخيوطه وأدوات الطباعة والحفر التى شغل بها حيز الجراج القائم فى أقصى الحديقة بعيداً عن بيت الأسرة بالعمرانية فى طريق الهرم بالجيزة، لا يلقى الاستحسان حتى من الأب مهندس المساحة الذى كان صاحب ميول فنية أفرغها فى هواية الخط العربى، فقد خاب ظن الأب فى ابنه الذى عاد من بعثة طويلة فى روما وباريس استغرقت الفترة من 1950 إلى 1953، إذا كان الأب يتصور فى هذا الابن الذى درس فى أوروبا أن يعود ليحتل مكانة مرموقة فى صالونات القاهرة، لا أن ينحدر به الحال إلى حد ارتضاء `الجراج` مشغلا له يفنى بين جدرانه زهرة عمره. ويهرع إليه، ما إن يعود من وظيفته بمصلحة الآثار، ويقبل لنفسه أن يتدنى بأن يجمع من حوله فى ورشته نفرا من الحرفيين الشعبيين ويعاشرهم كأنهم أفراد أسرته، ويتبادل معهم الحديث والمشورة فى أمور الصنعة، كأى عامل جلف لم ينل من التعليم قدر ما تعلمه.
- وقد كان للأب محمد كامل مع ابنه سعد وقائع أخرى, تبين مبلغ ما عانى الفنان سعد كامل كى يشق طريقه إلى أن يصبح على حد قول كمال الملاخ `رائداً للفن الشعبى` انصرف عن أسلوب اللوحة والتمثال التقليدى، واتجه إلى عناصر جديدة من نسيج وحصير وحفر وطباعة يبتدع منها أشكالاً تصل عبق جمال الماضى بواقع الحاضر. ( كتالوج معرض سعد كامل عام 1971).
- الصبى الصغير سعد كامل تلميذ مجتهد، يكمل الدراسة الابتدائية بمجموع يؤهله الالتحاق بالمدرسة الثانوية، ولكنه يفصح عن رغبته فى دخول مدرسة الصنائع، لا شىء إلا لأنه سمع عن وجود مدرسة اسمها مدرسة الفنون التطبيقية تعلم الرسمَ لتلاميذها، والسبيل إلى دخولها هو إنجاز الدراسة الصناعية. وبرفض الأب الذى يريد لابنه بعد الدراسة الثانوية دراسة جامعية تؤهله الالتحاق بوظيفة مضمونة مرموقة بديوان من دواوين الحكومة. ولكن الإبن يصر على المدرسة الصناعية، وإزاء عناده يرضخ، الأب، الذى تربص بعد ذلك لتفويت الفرصة على أبنه فى دخول مدرسة الفنون التطبيقية، فعندما وصل خطاب القبول من هذه المدرسة, كانت الأسرة قد نقلت إلى أسيوط، والحرب العالمية الثانية دائرة رحاها, فخشى الأب على ابنه من الغارات التى كانت تتعرض لها القاهرة. فأخفى الخطاب عن الإبن الذى واصل الدراسة الصناعية. ولكنه إذا لم يكن فد سمع من قبل عن مدرسة الفنون الجميلة العليا، فقد سمع الآن عن افتتاح القسم الحر بهذه المدرسة، فتقدم إلى امتحان القبول لهذا القسم ونجح رغم صعوبة الامتحانات لذلك القبول آنذاك. وأمضى هناك سبع سنوات من الدراسة المثمرة على أيدى بيكار الذى شجعه كثيرًا على اختطاط طريقه الفنى وحصل عل منحة التفرغ بمرسم الأقصر عام 1949.
- وكان الشاب الطموح ذو المواهب الفنية العالية سعد كامل قد أسس مع زميل, أرمنى عام 1947 مكتباً للإعلانات والتصميمات الفنية نجح نجاحاً تجارياً ملحوظاً فى أول الأمر, ثم تعثرت أموره بعد انضمام شريك ثالث إلى المكتب, فصُفْى والتحق بالعمل رساماً بمصلحة الآثار العربية, حيث انفتحت عيناه على تراث بالغ الثراء والدلالة, وبدأت تراود الفنان الشاب الرغبة الملحة للسفر إلي الخارج للدراسة, فكان الأب يقف عائقاً فى طريقه، إلى أن توفيت والدته إثر حادث أليم فارتجت أعصاب الإبن الذى أحب أمه أعمق الحب, وحرم من صدرها الحنون ونصحها الأمين فى لحظات الضيق، وإزاء نصح الأطباء أذِنَ الأب لابنه بالسفر كنوع من المداواة مما أصاب نفسه وروحه من مرض.
2- ورغم أن سعد كامل كان تلميذاً دءوباً انصاع لتعاليم أساتذته فى الرسم الأكاديمى والاتباع الصارم لأصول الخط واللون، حتى أن أستاذه الكبير أحمد صبرى كان ينهره نهراً شديداً إذ رآه يشغف بلوحة تأثيرية، باعتبار أن التأثيرية كانت تعمد آنذاك خروجاً على التعاليم الأكاديمية فى التصوير ـ رغم ذلك فإن روح التلميذ التى تبحث عن طريقها الخاص كانت تبحث وتنقب عن غير ما يعتبر لوحة أكاديمية، وقد بدأ التلميذ يجد ضالته المنشودة فى التراث، ولكنه لم يكن قد التقى بعد بما يتلائم تماماً مع مطالب روحه, إلى أن قاده القدر إلى متحف ومصنع جوبلان للسجاد الحائطى أو ما يسمى بالنسجيات المرسومة، فهتف لنفسه قائلاً: هذا حقاً، ما كنت أبحث عنه . سوف أتخذ من النسجيات المرسومة، ومن الكليم على الأخص وهو منتج يتتمى إلى التراث المصرى الموغل فى القدم، أداتى للتعبير الفنى، وسوف أدرسٌ التراث ومفرداته. وأستقى منه موضوعات لأعمالى.
- ويعود سعد كامل إلى مصر بعد أن استوفى الغرض من رحلته الدراسية، ومن المعرض الذى أقامه عام 1954 والنقاد يعتبرونه ـ على حد قول شيخ النقاد حسين بيكار ـ `قد أعاد الروح إلى جسم محنط ، فأصبح له نبض وشهيق وزفير`.
- ويمضى سعد كامل على أرض راسخة من ثراث شعيى يزوده بالمفردات، والنبض والدروس، فيحصل فى بينالى الإسكندرية الدولى الثالث عام 1959 على الجائزة الأولى فى الحفر، ثم على جائزة الإبداع للفنون الشعبية من وزارة الثقافة عام 1962 ثم على الميدالية الذهبية بالمعرض التطييقى لجمعية محبى الفنون الجميلة عام 1963 ويختار عضواً بمجلس الحرف العالمى بجنيف عام 1963 وممثل مصر الدائم فى هذا المجلس. ثم مديراً للمركز القومى للنسجيات المرسومة التابع لوزارة الثقافة بحلوان. وتقتنى أعماله الفنية فى السجاد والكليم والباتيك والخيامية والحفر من المتاحف والمجموعات الخاصة فى مصر وأوروبا وأمريكا...
3- هكذا يلين الصخر، وتتدفق ينابيع المياه العذبة من شقوقها, ويعد سعد كامل فى طليعة فنانينا المستلهمين للثراث فى إبداعاتهم التشكيلية، المستخدمين له استخداماً عصرياً واعياً, ليس بمجرد النقل والتقليد بل بالتطوير والإضافة، وذلك سواء من ناحية `الموتيفات` أو من ناحية `التكنيك` وقد توصل سعد كامل من معالجته للأشكال التراثية على حد قول الناقد الفنان فاروق بسيونى - إلى تخليق أشكال جديدة تختلط لتولد عالماً أقرب إلى السيربالية، ولكن بحس شعبى لا يجعلها تسقط فى الإغراب الميتافيزيقى قدر ما تقترب من معنى الأسطورة الشعبية ووقعها فى النفوس. (مقالته بمجلة `الثقافة الأسبوعية` عدد 14 نوفمبر 1974 - ص 18 وما بعدها).
- ومن موتيفات سعد كامل المستخدمة فى الحفر والنسيج والطباعة, الأسد الحامل سيفاً، والفارس على ظهر حصانه، والتحطيب، ورقص الخيل، والزير سالم، ومارى جرجس, وأبو زيد الهلالى، وحسن ونعيمة، وعرائس المولد، وزخارف إسلامية، والسمكة، والحمامة، وطيور أخرى غريبة شديدة الزركشة وحيوانات خرافية مثل خيول وأسماك ذات وجوه آدمية مما تفرزه الأحلام والفانتازيات الشعبية وأرضيات وخلفيات ثرية بالمساحات والخطوط والتداعيات الهندسية فى شكل أهلة ونجوم ودوائر ومثلثات وصلبان وبيارق وحروف عربية، بل إن هيئات الناس والحيوان والزرع والسمك تتراكب من مثلثات ودوائر ومربعات متناغمة، تساعد على إضفاء قدر من طلاوة الزخرف على الشكل البدائى، الذى يشبه أيضاً وإلى حد بعيد رسوم الأطفال وزخارفهم، لما أثبته الباحثون من علائق وثيقة بين الفنون الشعبية وفنون الأطفال والفنون البدائية. مع وجود فوارق جوهرية مع ذلك بين كل منها.
- وقد استمد سعد كامل من الحياة الشعبية اليومية عدداً لا بأس به من رموزه التشكيلية كالحمامة رمز السلام والوئام، والشجرة رمز الاخضرار والبقاء، والنجمة رمز العلو والمطالب بعيدة المنال، وهناك أيضاً النخلة وهى رمز مصرى قديم يومئ إلى الخصب والرخاء كما يرمز أيضاً إلى الشموخ والرفعة.، والسمكة ترمز إلى العطاء وإلى النسل الوفير، ولها أحياناً صلة بأسطورة إيزيس وأوزوريس, وقد امتدت السمكة عبر التاريخ المصرى القديم فصارت رمزاً من رموز المسيحية وجدناه فى الحفر والنسيج والعمارة القبطية. ومضت السمكة شكلاً شعبياً محبباً حتى فى ظل الإسلام بعد ذلك, فكانت القرويات يطلين قبل الزواج وشم السمكة تجنباً للعقم.
- وفى لوحات سعد كامل الشعبية يتكرر رسم الفارس، فإذا امتطى الفارس صهوة أسدٍ فنحن إزاء الزير سالم الذى شاع عنه أنه كان يفعل ذلك، ويومىء الشارب المفتول فى الوجه الصبوح ذى العينين اللتين, لا تطرفان إلى الرجولة الواثقة من نفسها والتى تبعث فى الأخريات الأمان.
- أما إذا كان الفارس يمتطى صهوة جواد فهو واحد من أبطال السير الشعبية، مثل
أبو الفوارس عنتر بن شداد أو سيف بن ذي يزن وغيرهم.
- وعندما التحمت الفنون الشعبية فى مصر بالإسلام قلباً وقالباً مضت تنحسر عن الساحة التشكيلية تصوير المخلوقات لما كان بيخشي أن ينم ذلك عن افتتان بالمخلوق دون الخالق، لتحتل الساحة الزخارف الإسلامية التى وصلت شأوا عالياً من الإبداع وأدخل الفنان الشعبى إلى رسومه وتصاويره ما شاء له ذوقه وخياله أن يبدعاه من وحدات هندسية وزخرفية.
- ومن النسيج الشعبى يستقى سعد كامل وحدات زخرفية كثيرة كالدائرة والمثلث والمربع يملا بها الفراغات فتتدفق اللوحة بالحيوية والحركة والثراء بأقل الأدوات.
4- وقد ظل الاعتقاد سائداً طويلاً بأن الفنون الشعبية ليست فنوناً جديرة بالاعتبار, وأن عطاءاتها لا ترقى إلى مستوى الأعمال الفنية الإبداعية, وأن أى ناقد أو ذواقة يحترم نفسه يجب أن يُعْرض عن هذه الأعمال التى وصمها قصور الصنعة، وانحطاط الرؤية بالتشويه والتقلص. وكان مرد ذلك على الأخص أن الطبقات الاجتماعية الأرقى ثقافة كانت لها مقاييس رسمية متزمتة لا ترضى عن نتاج الفنون الشعبية التى مضت الهوة بينها وبين نتاج ما يمكن أن نسميه بالفن الرسمى تتسع بشكل ملحوظ، وبخاصة أن الفنون الشعبية إنما يمارسها ويبدعها مجهولون من غمار الشعب يغلب عليهم ضعف الإمكانيات الاقتصادية وقلة فرص التزود بالتعليم والثقافة المتاحة للطبقات الاجتماعية الأرقى ماديًا، والذين يمكن أن نسميهم بالسلطة الحاكمة أو أهل القمة. وهكذا وٌجِدَ التضاد بين الفنون الشعبية، وهى إبداعات عامة الناس فى القاع، والفنون الرسمية، وهى إبداعات خريحى معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة.
ولضعف الصنعة فى الأعمال الشعبية يكون الإفصاح عن الانفعالات الشعبية أوضح وأكبر مهما أعوزها الصقل والتهذيب.
- ولكن الفنون الشعبية لم تبق فى الظل، فقد انشغل بها الباحثون والمنظرون منذ أن سمحت مدارس الفن الحديث مثل التعبيرية والسيريالية بالتعويل على المضامين الإنسانية أكثر من كمال الصنعة ومن المآثر التى لا تنسى للتعبيرية الحديثة أنها أولت اهتمامها بدراسة ما كان يعتبر من قبل فى ظل المدارس الأكاديمية نماذج من الفن غير جديرة بالالتفات إليها، كالفن القوطى، والفن الزنجى، وفنون الأطفال والبدائيين وأيضا الفنون الشعبية.
- وقد واكب ذلك تقدم الديمقراطية النى كان من نتائجها تراجع البلاء وفنونهم، وتبوأ السلطة الاقتصادية والسياسية حثيثًا أفرادُ طبقة العوام تلك التى كانت مقصية قديمًا عن مقاليد الأمور والتى يخرج من بين صفوفها ذلك الإنسان غير المعروف الاسم الملقب بالفنان الشعبى...
- ولعل فى ذلك كله، ما يفسر إدراج استلهامات الفنون الشعبية فى عطاءات المدرسة التعبيرية التى كانت السيريالية فى البداية أيضًا مندرجة فيها، إلى أن تتضح معالم الإسهامات فى إطار المدرسة الواحدة, ويمكن اختصاصها بقوانين تنفرد بها تمضى تتميز بذاتها, وإن بقيت تلك الروافد مرتبطة عن بعد بالمجرى الأصلى.
5- وقد كتب سعد كامل فى يناير 1975 يشرح أسلوبه فى العمل, فيقول: `إن أهدف فى أعَمالى إلى إدماج الواقع بالأسطورة والحقيقة بالخيال، لأؤلف عالمًا جديدًا ساحرًا وغنيًا, اكتشفه باستمرار لأول مرة فى نفس الوقت مرتبطا بجذور عميقة بالعالم الذى أعيش فيه(نقلا عن كتاب فتحى أحمد بعنوان `فن الجرافيك المصرى` الهيئة العامة للكتاب ـ طبعة (1985 - ص 92و93) ويتمشى هذا القول مع جوهر الفن الشعبى الذى سمح بأن تجمع القصة الشعبية بين شخصيات واقعية وأخرى خيالية، أو أن يضم العمل الشعبى حوادث متباعدة زمنيًا أو شخصيات سبق بعضها البعض الآخر قرونًا. ولذلك كان من الطبيعى أن يتكشف سعد كامل فى التراث الشعبى باستمرار ولكأنه يكتشف ذلك لأول مرة ما هو مرتبط فى الوقت ذاته أوثق الارتباط بالعالم الذى يعيش فيه الفنان.
- وفى لوحة سعد كامل الأسرة نرى الأب والأم والإبن قد اتحدوا فى شكل واحد رمزًا للتماسك الأسرى, وعلى كتفى الأب والأم - اللذين بدت على قسمات وجهيهما مسحة فرعونية - وقف عصفور صغير. قد يبدو غير ملفت للأنظار، ولا أيضًا الغصن أو الشجرة الصغيرة النامية فى جانب اللوحة إلى جوار جسد الأب. ولكن فلنحاول أن نزيد من استمتاعنا بكل من هذين الشكلين (العصفور والغصن) من خلال موروثاتنا الشعبية المصرية. وفى هذا المقام فإننى أضع أمام القارىء هاتين الفقرتين من كتاب `الرسوم التعبيرية فى الفن الشعبى` للفنانة سوسن عامر. فتقول عن العصفور بعد أن استعرضت أسطورة إيزيس وأوزيريس: `وهكذا كان العصفور الأخضر يرمز دائمًا للخير والخصب والحياة، وكان المصريون القدماء يتخذونه للدلالة على هذا المعنى، وظل هكذا ينتقل من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل محتفظًا بدلالته الرمزية إلى أن جاء الرجل الشعبى البسيط ووضعه على صدره أو وجهه دون أن يعرف ما ترمى إليه الأسطورة التى وراء ذلك. وكذلك نرى أن كثيرًا من الرسوم الشعبية تحوى رسومًا لتلك العصافير (ص 36).
- وهكذا ترى مبلغ الدلالة العميقة لشكل الطائر الصغير أو العصفور الذى وضعه سعد كامل على كتفى الزوجين فى لوحته. ومن مبلغ تغلغل ذلك الشكل الرمزى إلى أعماق التراث القومى يستقى المتفرج متعته بهذا العمل الشعبى. ويتأكد لنا بذلك مبلغ ما يجب أن يكون الفنان المستلهم للثراث الشعبى من ثقاقة بالعالم الطقسى والشعائرى الذى يغمس فيه فرشاته، ويثرى به لوحاته..
- ولنزداد يقينا بأن الفن الشعبى الذى كان سعد كامل واحدًا من الرواد الأوائل فى استلهامه فى التصوير المصرى الحديث شأنه فى ذلك شأن كل من `فاروق خورشيد` و`شوقى عبد الحكيم` فى الأدب المصرى الحديث لنضع أمام القارىء هذه الفقرة من كتاب سوسن عامر أيضًا: (..... وقد أوحت العقيدة فى أوزوريس كإله لقوة الإنبات بكثرة إظهاره فى هيئة تماثيل من الطين تزرع بحبوب القمح أو الشعير المستنبتة أو تصويره ميتًا مستلقيًا على الأرض وقد ملأت جسمه حبوب تبلل بالماء فتنبت وتنمو، وهكذا تعود الحياة إلى إلآله. ولا تزال فكرة إنبات حبوب القمح والشعير فى أوعية مستعملة فى بعض الأعياد المسيحية إلى يومنا هذا. ويجدر بنا أن نذكر أن أوزوريس كانت تنسب إليه كل التطورات التى تحدث على سطع الأرض طوال العام فهو رمز الخير والخصب ورب الزراعة والإنبات والإثمار (ص 35).
- فذلك النبت الأخضر الذى يحتل الجانب الأيسر السفلى من اللوحة يفتح الباب لمن يريد أن يتعمق فى تذوق اللوحة كى يتلقى ما فى أسطورة إيزيس وأوزوريس من قيم وجمالية لا تستنقد حتى أحالها أهل الريف والقرى على مر الأيام إلى القصة الشعبية الشائعة التى يتغنون بها ومطلعها: `أنا العصفور الأخضر، امشى على السور واتمختر.....`.
- وهكذا إزاء كل لوحة من لوحات سعد كامل، يمكنك أن تزيد من تذوقك لها من خلال استيعاب رموزها التشكيلية مها بدت صغيرة, فقد يتفتح لك عبرها عوالم وعوالم من التراث الثقافى لبلادنا العريقة، يكفى أن تؤمن فقط كما آمن بها سعد كامل منذ تفتحت عيناه فى الفن على الحقيقة.
- وإذا عمدت بعض رسوم سعد كامل ومن قبله عطاءات الفنون الشعبية إلى المبالغة كأن يمسك أسد سيفًا فلأن الفنان الشعبى يتوق إلى المبالغة فى إظهار المثل التى يهتز لها وجدان الناس، وربما أضفى ذلك على الرسوم الشعبية قدرًا من المبالغة وعدم التصديق والرومانسية ولكن بافتراض فهمنا لهذه المسلمة الأصولية مقدمًا نستطيع أن ندخل إلى تذوق العمل الشعبى دون أن يصدمنا فيه بعد ذلك مبالغاته ولا معقوليته، وهل يعقل أن الزير سالم كان يمتطى أسدًا، ولكن ذلك ليس إلا أداة لا يرى فيها الفنان الشعبى غضاضة للنفاذ بها إلى أذهان وقلوب الناس. وبعد ذلك أيضا لا يعنينا أن تكون الصفات الجثمانية للشخصية التى تناولها الفنان الشعبى مطابقة للشكل الذى أفرغ فيه هيئته، فليس بلازم أن يكون الزير سالم بهذه الشوارب الضخمة المفتولة، ولكن بمنطق الفن الشعبى ما الذى يمنع من ذلك، وبخاصة أن للأسد الذى يمتطيه شوارب مفتولة أيضًا؟ وقد لا يكون الفنان الشعبى قد رأى أسدًا فى حياته قط, ولكن شحنة الخيال التى يمتلكها ويستعملها الفنان الشعبى بلا أدنى شك ولا افتعال شحنة كبيرة. وليس ثمة ما يمنع أيضًا أن يضع الفنان الشعبى أبطاله في غير زمانهم الفعلى ولا وسطهم الواقعى، فيمكن أن يصور الفنان الشعبى أحد القواد العسكريين الكبار اليوم وليكن من قواد سلاح الدبابات أو الطيران وقد امتطى صهوة أسد أو أى حيوان آخر ولو كان أسطوريًا، مادام ذلك يخدمه فى دعم تمجيده للقيمة الإنسانية التى يتغنى بها، وهذه القيم كالشجاعة والنخوة والكرم أبدية لا تتغير فى جوهرها. وهذا فقد رأينًا سعد كامل فى لوحته أمومه يصور الأم الحديثة فى وضع الإلهة الفرعونية هاتور, إلهة الخير والعطاء من ناحية، وإلهة السماء من ناحية أخرى وقد صورت فى إحدى الجداريات الفرعونية كأنها السماء يمد أبناء الأرض أعناقهم إلى أضرعها يرشفون منه اللبن والخير والحياة، فالصورة الشعبية تقوم كثيرًا على منطق مختلف تمامًا عن المنطق العقلانى النفعى، فتبدو فيها الأشياء فى غير موضعها الواقعى، ولكن أوضاعها تلك إنما تستمد منطقيتها من وجد أن الفنان الشعبى. ويجدر أن نبادر فنؤكد أن الفنان الشعبى رغم أنه فرد مجهول من غمار الشعب وليس على الإطلاق من طبقة المترفين اللاهين عن مجريات الأمور على أرض الواقع اليومى، ولا من طبقة الحكام الذين يطلون على الرعية من فوق أسوار قصورهم الحصينة، إلا أنه - أى الفنان الشعبى - لم يكن ساذجًا فى تصوره للوجود. ويمكننا أن نتأمل هذه الحقيقة الجادة من خلال تقصينا لتصاوير الفرسان عند سعد كامل ومن خلفه عطاءات الفن الشعبى المصرى.
- لقد رسم سعد كامل فرسانًا كثيرين، ولكن يجب ألا نسى أن أول الفرسان الذين دخلوا التراث الشعبى المصرى, كان فارساً مصرياً بالجيش الرومانى وكان شاباً وسيماً يحتل منزلة رفيعة لدى الحاكم الرومانى لشجاعته ورجاحة عقله. دعاه هاتف الإيمان إلى المسيحية التى كانت آنذاك جديدة ومحرمة، كما كان الانضمام إلى صفوفها خيانة عظمى للإمبراطورية الرومانية شديدة البطش، وديانتها الوثنية التى ثمثلت فيها وحدتها. ولكن الفارس البطل داس أناد الدنيا كلها، ولم يتخل عن تمسكه بعقيدته السامية رغم صنوف التعذيب التى مورست عليه لإثنائه عن المسيحية الوليدة، حتى استشهد فى سبيلها مما ترك فى قلوب بنى شعبه صدى عميقًا من الأسف عليه والجزع من أن يصبهم ما أصابه، والآمل فى أن ينتصر الخير المصرى على الوثنية الشريرة، وهب الفنان الشعبى يخلد هذه التضحية النبيلة فأبدع رسمًا يجمع فى بساطته أبعاد اللحظة التاريخية كلها، ويصدق عليه كما يصدق على عديد من الرسوم الشعبية وصف `السهل الممتنع` صور القديس المصرى مارى جرجس يمتطى صهوة جواد، يجفل إزاء الثعبان الضخم المتلوى نحت سيقانه, والذى يحاول أن يهجم على الفارس المؤمن ليفتك به، كما فتك به الرومان الأشرار القساة محاولين إثناءه عن عقيدته الطاهرة الخيرة، وبكل ذكائه الفطرى الأصيل يدرك الفنان الشعبى مبلغ جبروت الشيطان الأفعى، فيعكس الرعب الذى تبثه قوى الشر على حركات الحصان الأبيض الذى أجفل، ورفع ساقيه الأماميتين عالياً، ولكن الفارس الذى يمسك بمقوده هادىء رابض وقد اعتصم بإيمانه الراسخ، وامتلأ قلبه بسكينة اليقين التى تبعث بها إليه نجمة فى السماء عالية. وانحنى يطعن الأفعى الوحش فى الصميم بحربته النفاذة، وقد وقفت على مبعدة العذراء - التى تمثل الشعب الذى طوى الإيمان فى قلبه - ووقفت مبتهلة أن ينجح الفارس القديس فيما تتمناه له ولنفسها.
- هذا هو الفارس الذى سبقت خطواته على أرض الفنون الشعبية المصرية كل الفرسان الذين سيأتون من بعده، لكن فلنذكر سلفاً هاماً لمارى جرجس أيضًا؟ فقد خلفت لنا الآثار الفرعونية نقشاً بارزاً لحورس فى هيئة فارس يطعن التمساح، وربما كانت هذه القطعة هى النموذج الأصلى التى استقى الفنان الشعبى تشكيلاته التالية لمارى جرجس والأفعى الضخمة أو التنين كما توصف به تلك الأفعى أحياناً. (سوسن عامر ـ المرجع السابق ـ البحث المصور).
بقلم : د. نعيم عطية
مجلة: إبداع ( العدد 10 ) أكتوبر 1985
ترنيمات نابضة بالحس الشعبي الفنان سعد كامل نموذجا
- فى غضون شهر أبريل الحالى2021 أقيم معرض استعادى لأعمال الفنان المصرى سعد محمد كامل عبيد فى بيته الفنى مشربية شارع شامبليون بالقاهرة وهو معرض استعادى أقامه أبناء الفنان إحياء لذكراه وفنه متضمنا أعماله الفنية التى أنتجها الفنان قبل رحيلة فى 2012 باعتباره أحد رواد الفن الشعبى المصري والمولود عام 1924 ويعتبر من أوائل الفنانين الذين اتجهوا إلي الفن الشعبي وتفاعلوا معه وأثر في أسلوبه الفني، وقبل أن يتجه سعد كامل إلي استلهام الفن الشعبي، لم يكن هناك من المثقفين المصرين من يعبأ بهذا الفن أو يلتفت إليه فى تلك الفترة، الفنان كامل كشف عما في هذا الفن من طاقة تعبيرية وانفعالية وعناصر ورموز وقيم فكرية وإنسانية تستحق الدراسة والعناية والاهتمام بها علي مستوي راقي كما وظفها بأسلوب مميز يعكس فلسفه وثقافة خاصة جدا بجانب إعجاب شديد لزخم هذا التراث الفنى العتيق الذى يعكس نبض وإحساس المصرين بفنونهم الشعبية النابعة من نبض البيئة المصرية العتيقة ، ويعد سعد كامل في طليعة فنانين المستلهمين للتراث في إبداعاتهم التشكيلية، المستخدمين له استخداماً عصرياً واعياً، ليس بمجرد النقل والتقليد بل بالتطوير والإضافة بجانب التحديث والابتكار وذلك سواء من ناحية المفردات والصياغات أو من ناحية التقنية أو الألوان وقد أبدع كامل فى معالجته لأشكاله التراثية ليصل كامل وببراعة غير مسبوقة ومتفردة إلي تخليق أشكال جديدة تختلط لتولد عالماً أقرب إلي السريالية ولكن بحس شعبي مصرى صميم، ويعد أسلوب الفنان أسلوباً تعبيرياً رمزياً، حيث يغلب عليه الطابع الزخرفي التكرارى ذو الخطوط الحادة الهندسية، حيث نفذ معظم أعماله باستخدام عناصر(المثلث والدائرة والمربع) في تكرار منتظم بديع للغاية وغير مسبوق .
- وقد كشف كامل عند استلهامه للفنون الشعبية مخاطبا ومنقبا عما في هذه الرسوم من طاقة تعبيرية وانفعالية هائلة، تتسم بالزخم والثراء بالإضافة إلي عمق تأثيرها في نفسية المشاهد الذي ينظر إليها متعاطفاً لامتدادها الطويل والمتواصل عبر التاريخ حتى نستطيع أن نلحظ تشابهاً بين رموز الفنان الشعبي وأساليب عدد من الفنانين التعبيرين المشهورين ولكن بصياغه وأسلوب كامل شديد الخصوصية وبالغ الثراء، حيث تميزت الموتيفات والصياغات التصميمية للعنصر الآدمي عند كامل بأخذها اتجاهاً فكرياً فلسفياً في صياغاته الرمزية لهذه العناصر بجانب مخالفتها للواقع المرئي حيث جاءت المعالجات التشكيلية للعنصر الآدمي معبرة عن الحركة الحيوية في صياغاتها لتأتي ثرية بالمساحات والخطوط والتداعيات الهندسية في شكل أهلة ونجوم ودوائر ومثلثات فالعنصر الآدمي يظهر في أعماله بتفاصيل هندسية مبسطة ومساحات مدروسة وحركة في أجزاء العنصر بشكل إيقاعي منتظم في بعض الأحيان وغير منتظم في البعض الأخــــــر، فصياغات الفنان لعنصر المرأة تعني الحيوية والجاذبية والغموض، حيث تميزت المعالجات التشكيلية للعناصر في أعماله بالمبالغة في أجزاء الجسم كالأيدي والوجوه في عنصر المرأة والشارب في عنصر الرجل مجسدا من خلالها القصص والسير الشعبية المصرية مثل الزير سالم يمتطي الأسد وله شوارب مفتولة كذلك تميز بأسلوب التسطيح فى صياغاته الفنية حيث اعتمد علي درجات داكنة من لون واحد كما تتطرق إلي التأكيد علي التفاصيل الداخلية للعنصر وتميزت رؤوس العناصر الآدمية في صياغات كامل بالشكل المستطيل والعيون الواسعة والوجه البيضاوي وتحويل تفاصيل الجسم إلي خطوط وعناصر هندسية لنجد أنه اهتم بشكل مباشر ببناء العنصر وتفاصيله وإضافة رؤية مستحدثة من حيث البناء والتشكيل والطاقة التعبيرية للعنصر المرئى فى أعمال ليكسب عناصره لغة تشكيلية بديعة ومنفردة بجانب تقنيات المتنوعة والمدروسة ، كذلك اهتمامه بخط الأرض ،كما اعتمد علي فطرة التوزيع المنتظم لصياغاته داخل العمل، والتكرار الذي يؤكد الحركة الراقصة في الجو السحري الذي يعبر عنه حيث تمثل العلاقات المتبادلة بين الصياغات والموتيقات التصميمية في بعض الأحيان علاقة تماس أو تكرار أو تراكب أو تداخل، يعبر بها الفنان عن التجمعات المختلفة للعناصر الآدمية في أعماله مستخدما إياها فى تكوين مترابط ومنسجم، كذلك تميزت الصياغات والموتيفات التصميمية لعناصر الحيوانات والمستخدمة فى أعماله الفنية مثل السمكة والطائر والجمل موظفا الخيال الأسطوري فى رسمها وعلي خلفيات من أشكال هندسية ونباتية مستعيناً بالتسطيح والتزيين لإبراز هذه الصياغات بشكل جديد ومستحدث من قبل الفنان وفي استخدام الفنان لعنصر الطيور قام بالاستعانة بالزخارف الشعبية معتمداً علي أسلوب التبسيط والاختزال الموجز لهيئة الطائر ودمج الزخارف الشعبية معها وتقسيمها بشكل هندسي منتظم كذلك توزيع الوحدات بشكل تكراري منتظم ومبسط حيث تتحدد جميع الصياغات بشكل مترابط وكذلك حرص الفنان علي إظهار تفاصيل الصياغات بشكل خطي منتظم في شكل مترابط أما الصياغات والموتيقات التصميمية للزخارف الهندسية فقد شكلت معظم أعمال كامل فاختلطت هذه الزخارف وتداخلت مع صياغات العناصر الأخرى في هيئة صياغات خطية تزين خلفيات أعماله، وهي شرائط ووحدات هندسية منتظمة في بعض الأحيان وغير منتظمة في الأحيان الأخرى وكذلك مثلثات وأشكال حلزونية أو دائرية وتظهر دائماً في خلفية العمل أو علي أجسام الموتيفات الآدمية أو الحيوانية أو علي أرضية العمل بأسلوب واضح ومؤكد وراسخ رسوخ بقية صياغات العمل بأكمله ، كما لجأ الفنان إلي الزخارف الهندسية والتي تعتمد في بنائها علي مجموعة من الخطوط مختلفة الاتجاهات رأسية، أفقية، مائلة، منحنية وهي في مجموعها تتداخل وتتراكب لينتج عنها البناء الهندسي لأعماله الفنية في شكل صياغات وموتيفات تصميمية هندسية شعبية مثل المثلث، المربع، المستطيل، الدائرة، الهلال، النجمة وهي في مجملها صياغات تصميمية شعبية، وبملاحظة أعمال الفنان نجده يعتمد في بناء أعماله التشكيلية علي صياغات ذات طابع هندسي مستمد من الزخارف الهندسية الشعبية في معظم أعماله الفنية مؤكداً بها علي الصفة السطحية وعلي الطابع التزيني الزخرفى بجانب تأكيده الشديد وانجذابه للتراث الشعبى المصري والعمل الدؤوب من قبل الفنان على تحديثه وتوظيفه فى الفن المصرى الحديث .
د. أمجد عبد السلام عيد
صحيفة اوكر للفنون التشكيلية العربية الصادرة من ليبيا 28 أبريل 2021