محمود أبو المجد وملاحمه الأسطورية
- هذا فنان خارج الزمان والمكان بعالمه غير المألوف لذلك سقط سهوا من ذاكرة الحركة الفنية المعاصرة.. قدم خلال حياته ملاحم تراجيدية من أعمال التصوير والنحت تدخل فى مجال الرؤى الميتافيزيقية، ما يجعلها جديرة بأن توضع ضمن أعمال كبار المبدعين فى جيل الستينات الذى ينتمى إليه، لكنه ليم يلق إلا التجاهل والنسيان.. حيا وميتا، حتى من كلية الفنون الجميلة تخرَّج فيها عام 1959 وهى تحتفل بعيدها المئوى!
لم أقرأ عن محمود أبو المجد ( 1930 - 2007 ) دراسة أو مقالا نقديا، بالرغم من حرصه على المشاركة بأعماله فى المعرض العام السنوى للفنون التشكيلية منذ أولى دوراته عام 1969 حتى أوائل السبعينات، ولا أدرى إن كانت وزارة الثقافة، التى عمل فيها كموظف نصف سنين عمره، قد اقتنت بعض أعماله لمتحف الفن الحديث أم لا.. أغلب الظن أنها لم تفعل!.. بالرغم من أن مشاركاته القليلة تلك قد شدت انتباه زوار المعرض العام فى سنواته الأولى، إلى غرابة رؤاه الميتافيزيقية وأسلوبه الملحمى، إلى درجة أنك قد تجد تأثيرات واضحة من لوحاته الأسطورية بأسلوبه المميز فى ثنايا أعمال بعض كبار فنانينا المعاصرين، دون أن يشير إلى هذا التأثيرأو إلى أهمية الفنان نفسه، علما بأن مثل هذا التأثير أمر مشروع ولا يعيب المتأثر، إنما يعيبه إنكار تأثره وعدم اعطائه كل ذى حق حقه!
عرفت أبو المجد شخصيا فى بداياتى الفنية أواخر الستينات، عند ترددى على مقر الإدارة العامة للفنون الجميلة فى مقرها القديم فى سراى النصر بالجزيرة، حيث كان يعمل موظفا بها، وكان يشكو دائما من تهميشه الطويل - عن عمد - بتسكينه فى عمل إدارى لا يناسب تخصصه، فوق ما كان يعانيه من سوء معاملة المدير العام له، والمفترض أنه فنان يقدر قيمة المبدع ويعمل على مساعدته وإن كان رئيسا له، وربما عانيت شخصيا من سوء معاملة نفس المدير فترة عملى تحت رئاسته لكن لأسباب أخرى، إلا أن شخصية محمود أبو المجد جعلته يفضل قضاء ما تبقى من فترة خدمته بالحكومة بعيدا عن أى صراعات، ويعمل فى صمت وصبر بمنزله سنوات طويلة، دون أن يسعى لإقامة معارض لأعماله، حتى يتواصل من خلالها مع متذوقى الفن ونقاده، ويوضع فى مكانه الصحيح فى الحركة الفنية، باستثناء معرضين علمت أنه أقامهما عامى 1962 و 1968، ولم أكن أقيم بالقاهرة خلال هذه الفترة، وقد حاولت مرارا معرفة مصيره ومصير أعماله وقت كتابتى لفصول كتابى `فنانون وشهداء` وفشلت فى الإمساك بخيط يوصلنى إليه أو إليها، وظل بالنسبة لى فصلا مجهولا وعالما يستعصى على الدخول إليه.. لكن هذا لا يعفينى من المسئولية فى الحقيقة!.. وهأنذا الآن أعتذر عن تقصيرى فى حقه كأحد شهداء الفن فى مصر!
واليوم تقدم لنا قاعة `ضى` بالمهندسين أعمال هذا الفنان بعد تجميعها من أسرته ربما لأول مرة، فيبدو بمثابة مفاجأة سارة واكتشاف مهم لفنان أصيل يملك رؤية ذاتية متفردة، وحسا بنائيا راسخا فى التشكيل بوَسيطى التصوير والنحت البارز، وهذه الرؤَية تنتقل بنا بسلاسة من الواقع إلى ما فوق الواقع، بين الأسطورة والميتافيزيقا، بين الحلم والكابوس.. فهو مَعنى فى أغلب أعماله بالبحث عن رؤى فلسفية ووجودية، مستلهما الأسطورة حينا، ورسالة الغفران لأبى العلاء المعرِّى حينا آخر، وسرديات الفنون الحضارية القديمة حينا ثالثا، بدءا من الحضارة الفرعونية، إلى الحضارة الآشورية إلى الحضارة اليونانية والهللينستية والرومانية خاصة `آثار مدينة بومباى التى هدمها الزلزال فى إيطاليا` بل نراه متأثرا حتى بآثار النحت الهندى القديم فى المعابد البوذية.. وتلك جميعا مؤثرات نلمسها فى معالجته للتكوين والكتلة، وفى تحليله للأشكال والأشخاص والرموز الفلسفية.
إن المشاهد لأعماله - دون أن يكون مستوعبا لهذه المؤثرات - قد يلتبس عليه الأمر حال ملاحظته عدم التزام الفنان بالنسب التشريحية والمنظور الهندسى أو معالجة التكوين بالطريقة الأكاديمية، حتى يبدو هذا التكوين مفككا أحيانا أو أشبه مفكك، والحقيقة أنه فى بنيته الأساسية يبدو كلاسيكى النزعة، غير أنهَ لم يأخذ من الكلاسيكية إلا بعض ملامحها مثل `السيمترية` والرسوخ المعمارى والتوازن والتجسم الأسطوانى للأشكال عبرالظل والنور، ثم ينطلق بعد ذلك فيعيد بناء عناصره فى تكوينات غرائبية، مازجا فى العمل بين أنساق حضارية مختلفة، فقد تجمع لوحة واحدة بين المسلة المصرية والمومياء التى يرفعها بعض الأشخاص من مستوى الأرض إلى سطح معبد رومانى، وفى بعض أجزاء اللوحة نشاهد حشر أشخاص فى خانات ضيقة تشبه الفجوات المعمارية الغائرة فى البناء ونشاهد بعضهم يستغيثون من هول غامض يتربص بهم، أو من عاصفة كونية تبدو بوادرها فى السماء وهى تدور فى شكل حلزونى يحركها مَسُّ من الجن، ويقف أمامها الفلاسفة والكهنة بين الذهول والدعاء.
كما يتخذ فى عدد من اللوحات أسلوب الرسام المصرى القديم فى المقابر، إذ يجعل الحدث يستمر فى عدة صفوف أحدها فوق الآخر، وفى مقابلها شخصية تقف عموديا فى مواجهة جميع الصفوف الأفقية، نرى هذه الشخصية فى إحدى لوحاته على هيئة ملكة بيدها صولجان الحكم وبالأخرى تمسك لؤلؤة صغيرة، ويمثل الصف الأفقى الأعلى رجلا عجوزا يجره الجنود جاثيا على ركبتيه، ويداه مربوطتان خلف ظهره، ليكون أمام الملكة وهى تشير نحوه بإصبعها، فيما تمسك بيدها الأخرى لفافة من الورق أو الجلد، وكأنها تتضمن قرارا بالحكم عليه بالإعدام، وهى محروسة بكائن أسطورى مجِّنح بوجه إنسان وجسم أسد بما يشبه `السنطور` الرومانى.. وفى الصف السفلى تتقوقع امرأة بائسة حول نفسها محصورة بين ثور هائل الجُرم ينقضُّ عليها من ناحية اليمين، و`سنطور` مجنح ينقضُّ عليها من اليسار.
ويمثل الرُّخ الأسطورى فى `ألف ليلة وليلة` بطلا رئيسيا فى عدد من لوحاته، بجناحيه الهائلين ومنقاره الجارح، حيث نراه فى إحدى اللوحات يختطف شخصا ويطير به معلقا من قدمه ورأسه إلى أسفل، فيما ينفخ نافخ الصور وكأنه يعلن قيام الساعة، ونرى المشاهد السردية للوحة فى ثنائيات وثلاثيات بشرية تعبر عن هول القارعة، ويتصدر هذه الملحمة شخص جهة اليمين يمد ذراعيه يستصرخ الجنديين الواقفين عاجزين بلا حول ولا قوة، وعلى اليسار عجوز آخر ممدد على ظهره عاريا بلون أخضر كالموت.. وفى أغلب اللوحات الزيتية أو بالنحت البارز فى الخشب يستخدم أسلوب التقطيع إلى مقاطع منفصلة / متصلة تعكس الحسَّ الحكائى السردى مستلهما مشاهد من جحيم رسالة الغفران للمعرِّى بين العالمين العلوى والسفلى، ففى المقاطع العُلوية يندفع شخصا محاولا إدراك الحصان المجنّح كالبراق مندفعا فى الفضاء، وعن يمينه ويساره مقطعان، أولهما للكرة الأرضية والآخر للمجرِّة السماوية، وفى مقطع سفلى نرى إنسانا يلقى به الرُّخ عند قدمى عملاق يقفز من أحد أبراج بابل المعلقة أو يخرج من كهوف أسطورية محطمة `حيث تبين اللوحة ملامح واضحة من كلا النوعين` ليقوم بركل الشخص الذى ألقى بَه الرُّخ عند قدميه ركلة تطيح به إلى أسفل سافلين!
وتبدو لوحة النحت البارز فى الخشب، التى يعلو قمة مستوى الأول منها ثور هائل جبار يفترس بقرنيه وحوافره رجلا كهلا منبطحا على وجهه، وعبثا يحاول الإستغاثة؛ فالصفوف الأفقية من تحته لطوابير من البشر يواجهون مثله مصيرهم التعس بأيدى وسيوف السفاحين، بلا حول لهم ولا قوة!
إن لوحات أبو المجد ملاحم عن قهر القوى الغاشمة للبشرية بشكل مطلق فى الزمان والمكان، وكأنه قدر مكتوب على الإنسان أن يواجهه عبر المسيرة الإنسانية، سواء فى الحروب أو بأيدى المستبدين والطغاه، وكثيرا ما يؤكد سمتها الكونى بإظهار شكل كروى لكوكب الأرض، وكأنها نبؤة مبكرة للفنان منذ الستينات بعصر العولمة المتوحشة التى تجتاح العالم اليوم!
وفى مقابل قوى القهر والعدوان وما تصنعه بالبشرية، قدم أبو المجد لوحات أخرى لعامة الشعب، نراهم فى مجاميع تسعى فى الأرض أو تركب عربة كارو يجرها حمار، أو نسوة تحملن الجرار أو تحملن أطفالهن فوق أكتافهن، أو تَبعن الغلال والفاكهة فى الأسواق، فى هذه اللوحَات تخلّى عن حسه الأسطورى أو الميتافزيقى، أو أصبح أقرب إلى الواقعية المباشرة، وإن اكتسبت لوحاته بمسحة من الرقة والعذوبة الإنسانية، وحظيت بألوان مشرقة براقة بالنسبة إلى لوحاته الأسطورية سالفة الذكر، التى اتسمت ألوانها بدرجات مؤكسدة قاتمة مكونة من لون أو لونين، كالبُنِّى والرمادى والأزرق، مُغبَرَّة بتراب الزمن.
أما لوحاته الدنيوية - إن صح التعبير - فتنضج بالحياة، وتمتلئ بعناصر الأشخاص فى جو من الغناء والطرب والرقص `والصهللة`، مستخدما فيها ألوانا مبهجة كالأحمر والأزرق والأخضر والأبيض الناصع، بلمسات عفوية وتلقائية أو انطباعية، إلى حد ينقلك فى بعض لوحاته إلى عالم يشبه الفردوس، ربما من تأثيرات رسالة الغفران!
غير أن المستوى الفنى لهذه الأعمال يجعله يبدو رساما عاديا فهى لا ترتقى إلى أعماله التراجيدية أو الأسطورية، كملاحم تثير الدهشة والخيال و تحِّرض على طرح الأسئلة `وتلك من صفات الفن الحقيقى` كما تموج بحركة خطية مليئة بالتوتر الدرامى، حتى داخل الأقبية الضيقة الخانقة المحفورة فى صفوف متراصة داخل الصخر، وكذلك فى نسب الأجسام الغليظة العُجَر المدكوكة كتماثيل حجرية، وهو الأسلوب الذى شاع استخدامه لاحقا فى رسوم بعض الفنانين كما سبق القول، هذا إضافة إلى أشكاله التى تجمع بين الإنسان والحصان والبراق والسنطور فى مركب يضم حضارات عدة كما أسلفنا... فتلك حقا إضافته إلى الفن المصرى التى لم يلتفت إليها النقاد والفنانون على امتداد عدة عقود.. وآن الآوان للكشف عنها.
عز الدين نجيب
القاهرة - 2016/11/8