طه محمد القرنى عبد المعبود
` الطامعون فى مصر ` بجدارية الثورة
انتهى الفنان التشكيلى طه القرنى من جدارية الثورة التى تعتبر من ملامح الثورة شارحا الاحداث المتتالية فى جداريته الممتده الى 52 م امتداد و 150 ارتفاعاً. كاكبر جدارية شهدها العالم عن الثورة المصرية .
وأعطت الفن التشكيلى بعداً اخر غير المعارض داخل القاعات حيث عرضت فى ميادين مصر منها ميدان التحرير والعباسية ومحطة الرمل وميدان بورسعيد الرئيسى وأمام محافظة دمياط .
ويقول الفنان طه قرنى: ` ظللت اتابع وأرصد المتغيرات حتى صدور الإعلانات التى حافظ بها الجيش المصرى على وطنه وتدخل لصالح ثورة 30 يونيو، ويسجل فى هذا الجزء المؤامرة وتلخيصها من خلال منظومة لونية فى المقطع الذى نرى فيها خلاصة المؤامرة التى تديرها أمريكا مع تركيا واسرائيل ولا نستثنى حكام قطر لإعادة تشكيل الوطن العربى كما كانوا يخططون له ، وصورت الوطن العربى كأنه البقرة التى يطمع فيها الامريكان فنجد رجلاً بملامحة التى تشير الى الإخوان ويعلق على يده شارة لعلم أمريكا ويرتدى فوق رأسه الرمز الصهيونى واللوحة ترمز الى خريطة الوطن العربى وخطوط طوله وعرضة وتحديد فكرة التقسيم لكل دولة ووجود غربان أسفل اللوحة يوحى أيضا بمدى المتربصين بكل دولة تقع ` .
داليا منشاوى
جريدة الأهرام - 2014
فى معرض الزار لطه قرنى : طقوس التطهير والخلاص
- ((أتمنى أن يكون الفن التشكيلى جزءا من المكون الثقافى المصرى ))...
هذا ما أكده الفنان طه قرنى فى أحد حواراته معليا من دور الفن وقدرته على التغيير ، فالثقافة دائما هى الحل .. فعندما تريد أن تغير قناعات إنسان فلابد أن تغير ثقافته ..!! والفنون بشكل عام والفنون التشكيلية بشكل خاص من اكبر المجالات التى لديها القدرة على تغيير وعى الناس ، فالفنانون بطبيعتهم عابرون لكل هذه الصغائر ، فلا أحد يسأل عن اعتقاده أو أيديولوجيته ولكن يسأل فقط عن فنه وإبداعه .
وقد حاول الفنان طه قرنى فى معرضه الأخير المقام فى قاعة بيكاسو .. استكمال مشروعه الفنى والمرتبط بحركة جموع الشعب المصرى وما يحدث من تجاذبات بين عقله الواعى والموروث الثقافى والاجتماعى المخزون فى عقله الباطن ، والذى يمثل محاولة فنية / تشكيلية / ثقافية لرصد التحولات والمتغيرات الثقافية والاجتماعية التى حدثت ــ وما زالت تحدث ــ للمجتمع المصرى .
وبهذا يكتمل الضلع الثالث من مشروعه الفنى الذى بدأه (( سوق الجمعة )) وأعقبها بلوحة (( المولد )) ولوحة (( الثورة )) .
فى لوحة سوق الجمعة كان البطل هو المكان وما به من تنويعات بشرية تحمل وجوها محبطة وأجسادا مهزومة وأحلاما دهستها عجلة الزمن .
وفى لوحة المولد تفاعل الفنان مع الموروث الثقافى بكل مافيه من عادات وتقاليد مازالت ترمى بظلالها على الواقع المعاصر ، عبر نماذج إنسانية قد تبدو أكثر استغراقا وأكثر تأملا .
أما فى لوحة الثورة فإن الحدث يفرض سطوته على الجميع فالأحداث تتلاحق والمتغيرات تتابع والوجوه أصبحت أكثر تصميما وحرارة الحدث تقترب الى الاشتعال .. وقد تجد وجوها تعرفها .. أصدقاءك أو أقرباءك ، وأشخاص ربما جلست بجوارهم على أحد المقاهى .. أو ركبت معهم إحدى المواصلات العامة ذات يوم .. إنها وجوه مصرية تشبهنى وتشبهك .. أهلك وناسك .. أنا وأنت ..!!
إنها دعوة للتأمل فى أرض مصر الطيبة التى لا تنبت إلا الخير .. فنحن جميعا نعيش على نفس الأرض .. ونلتحف نفس السماء .. والرب الواحد يحرس الجميع ..!!
الزائر الأحمر
والزار هو مجموعة طقوس تطهيرية وعلاجية لطرد الأرواح الشريرة التى يعتقد أنها تسكن جسد الإنسان ، عن طريق رقصات هستيرية بالإيقاع والأداء الحركى والأغانى . وتتجسد فى طقس الزار فنون أداء مختلفة ترافقها إيقاعات خاصة وإشارات ورموز تتحرر فيها النفس البشرية من قيود الزمان والمكان ، أو تنتقل من حالة إلى حالة أخرى ، ومن هنا جاءت الوظيفة العلاجية النفسية لهذا الطقس .
وارتبط الزار قديما فى مصر بالدجل والشعوذة ، ثم سرعان ما تطور إلى شكل فنى حولته بعض الفرق الفنية إلى موسيقى شعبية يعزفها الرجال والنساء بالدفوف والطبول . ويختلف الباحثون حول التأصيل التاريخى واللغوى لكلمة الزار ؛ فبعضهم يرى أنها كلمة عربية مشتقة من الزيارة ، أى من كون أن الجن يزور الآدميين وتعمل جلسات الزار على طرده وإخراجه . وآخرون يقولون إن الزار كلمة مستعارة من اللغة الأمهرية ، وإن طقس الزار انتقل من إثيوبيا إلى السودان ومنها إلى مصر ، حيث إن الزار المصرىّ اختلط بالسودانى مع توافد الهجرة السودانية إلى مصر خلال فترة حكم محمّد على فى عام 1820 .
وفى القديم كان ينظر إلى الزار على أنه جلسة لطرد الأرواح الشريرة وتخليص النفس البشرية من الشياطين من خلال حفلة على الإيقاعات والأناشيد والبخور ، تقودها سيدة تدعى الكودية أو الشيخة وتلعب دور الوسيط بين الشخص المتعب والأسياد . وتجلس المرأة التى زارها الجن على كرسى فى وسط مجلس ، بعد أن تعلق على رأسها الذبائح التى تكون عادة ديكا أحضرته بناء على طلب الشيخة التى تؤكد أنه ليس مطلبها بل مطلب من سكنها من الجن كشرط للخروج من جسمها .
وتبدأ الشيخة فى تلاوة نصوص وأناشيد وهى تضرب مع مساعديها من الرجال والنساء على الدفوف والطبول بنغمات وإيقاعات مختلفة ومتصاعدة ، وترافق ذلك حركات الأجسام واهتزازها مع انتشار الأبخرة فى الأجواء المفعمة بالضجيج والحركة وترتفع درجة الرقص لتصل إلى مرحلة هستيرية .
وكل هذا هو ما حاول الفنان طه قرنى التعبير عنه من خلال حركة اللون وتقاطع الخطوط والتى صنعت حالة من دوامات الطاقة والحركة .. مما يجعل المشاهد يكاد يسمع قرع الطبول وصراخ والم الراقصين وتنهدات المرضى والمتعبين .. وكأنه قد أصبح جزءا من هذه الحالة الطقوسية بكل أبعادها الفنية والنفسية والفلكلورية السحرية ...!!
د. خالد البغدادى
القاهرة : 2018/3/27
جدارية ` الجوع` للفنان طه القرنى: بين التمسك بالأرض والاستغاثة بالسماء
- يحفل الواقع المعاش دائمًا بتنوعات ثرية للدراما الإنسانية على المسرح البشرى، عبر المطامع والحروب والغزوات التى تتذرع أحياناً بالعدالة والحماية من الشرور، وفى أحيان أخرى تعرب عن وجهها القبيح دون خجل يذكر، وبين الحالتين تكمن مقاومة المستضعفين للمستبدين بطرق ووسائل كثيرة يتقدمها الإبداع كأحد الأدوات الفاعلة المؤثرة التى يصعب منعها أو حجبها بكل ضروب البطش والتنكيل..والمدهش أن هذا الجبروت كان فى بعض الأحيان يشكل مصدراً لإلهام العديد من المبدعين الذين كانوا ومازالوا يرون أن هذا القهر يبعث الرمزية اللا مباشرة داخل رحم العمل الإبداعى، من منطلق الإحساس الرهيف بسياقهم الاجتماعى والسياسى.
- يعد الفنان الكبير طه القرنى هو أحد أهم هؤلاء، حيث يرتمى دائماً فى حضن سياجه البيئى المصرى بكل تجلياته الشعبية، بداية من جداريته `سوق الجمعة `عام 2007م، مروراً بجداريته ` المولد` عام 2008م، والاثنتان كانتا بألوانه الزيتية على القماش، قبل أن ينخرط فى عدة تجارب تصويرية متتالية بنفس الخامة والسطح الوسيط مثل ` الزار`، `عزبة الصعايدة `، ` من مصر`، ` فوق الراس`، وفيها جميعاً وضح جلياً التحافه بأهله وناسه من أهل مصر الطيبين الذين كانوا ومازالوا مادة خصبة لاستلهاماته التصويرية من خلال توحده مع الغلابة والبسطاء والمكافحين منهم، ليستقطر ملامحهم فى أعماله المتوالية التى تشبعت بأريج جهادهم من أجل لقمة العيش عبر حالة من الطاعة للخالق والرضا بالمقسوم، حتى وصل القرنى مؤخراً إلى ملحمته الجدارية الجديدة بألوانه الزيتية على القماش تحت عنوان ` الجوع` التى افتتح عرضها فى قاعة آزاد بالزمالك يوم الأحد الماضى الثالث من أكتوبر 2021م، حيث ازداد انفعاله فيها بأزمات البشر عبر تماس مع الحالة المصرية وانفراجاتها وانقباضاتها الأخيرة التى تمثلت فى ثورتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية فى مواجهة التربصات الدولية المتنوعة بهذا الوطن العريق بين المناوشات البحرية والبرية والنيلية، ومن هنا فقد طوّر طه القرنى دوامات السياق البيئى من الدائرة المصرية إلى تقاطعاتها الإقليمية العربية والإفريقية التى تمثل فيضاً من الاستضعاف وإهدار حقوق الإنسان.
- وقد جاءت الجدارية من أربعة مقاطع متوسعة أفقياً بحجم عشرة أمتار طولاً × مترين عرضاً، أى أن كل قطعة جاءت بحجم مترين × مترين ونصف، حيث حشد فيها مجموعة كبيرة من البشر المكتسين باللون الحنائى الذى اقترب به من لون تراب الأرض، متجهاً بتشريح الأجساد إلى الضمور العضلى الذى أظهرها كأنها جماجم وهياكل عظمية متجاورة فى القبور بعد دفنها للتو، سيما أنه صهرها لونياً مع لحافها الترابى، وهو ترميز مستتر للجوع والقهر والحرمان والظلم.
- وعلى الجانب المضاد ربما لجأ القرنى إلى تقسيم الجدارية التصويرية إلى أربعة مجاميع آدمية لتجسيد مفهوم الخلية فى المقاومة ضد التجبر والاستعلاء، علاوة على استخدامه لحيلة بنائية بشخوص أبصار المقهورين لأعلى؛ فبدوا فى حالة من الاستغاثة بالسماء رغم تمسكهم بالأرض.. والمدهش هنا أن طه تخطى بملامح أبطال جداريته حدود الأنثروبولوجيا المصرية إلى سمات أخرى اقترب فيها من الملامح الأفريقية التى كانت ومازالت رمزاً للنهب الاستعمارى والسطو الإمبريالى على مر تاريخ القارة السوداء، لذا ربما وضع القرنى وشماً لصورة `ألفريد نوبل` العالم الكيميائى السويدى ` 1833م - 1896` كمخترع للديناميت ترميزاً للتوحش الغربى، وعلى جانب آخر فقد ظهر الوجه الآخر المتجمل من الحضارة الغربية بمنح جائزة باسمه فى العلوم والآداب، وهو مايومئ من خلاله الفنان فى جداريته إلى ازدواجية الغرب فى التشدق بالعدالة والديمقراطية، وفى نفس الوقت يمارس القتل والسحل والنسف والاعتداء على حقوق الشعوب التى أصابها الوهن من فرط النهش الاستعمارى.
- وعند هذا المنعطف من المفهوم الجدارى الملحمى عند طه القرنى نجده يقابل الشخوص البصرى لأبطال عمله من أسفل لأعلى بمنظور عين الطائر الذى يستخدمه لإظهار مشاعرهم المحتشدة بالتوسل الربانى المستنفر لعاطفة الرائى عند تفاعله مع ذلك المسطح التصويرى الممتد أفقياً.
- وتأكيداً لهذا الرجاء البشرى يدفع طه فى أيدى بعض من المجاميع الآدمية بأوعية معدنية فارغة بين مستديرة ومستطيلة بدت باللون الأصفر الذهبى الممتزج بضوء الشمس اللافح، فظهروا كأنهم لم يحصدوا سوى نسمات الهواء وأشعة الشمس، ليظلوا على وضعهم قابضين على الوهم، حتى إن بعض أياديهم امتدت إلى الأوعية الخاوية سعياً وراء السراب عبر دوامات من الجوع والعطش على المستويين الفردى والجماعى، وهو ما بدا فى تناثر الأوعية بين الأيادى الملهوفة، علاوة على ذلك الوعاء الكبير فى يسار المشهد، والذى تتسارع نحوه حزمة من الأيادى البشرية، فى ترميز من طه القرنى للعوز الجمعى الذى يخلقه لهيب الاستبداد والاستعمار معاً.. وقد رسخ الفنان لهذا باللون البنى القاتم على الشفائف وتحت العيون وعلى البشرة الخارجية للمحتشدين المنكسرين، فى إشارة للجفاف والتصحر، سيما أن خلفية العمل ظهرت باللون الرملى، وعلى جانب آخر فقد أظهر الأوعية باللون الذهبى اللامع المقابل للجلود الباهتة الجافة المترهلة، وكأنهم يقتنون ذهباً لا يشبعهم من الجوع ولا يرويهم من الظمأ، وقد أضاف طه إلى هذه الرمزية اللافتة نظرات الخوف والرعب البادية فى العيون بعد فقدهم للإحساس بالأمان تحت وابل من نيران الوحشية الاستعمارية والاستبدادية، لذا ربما مال الفنان هنا لمنظور عين الطائر الذى أظهر هذا الحشد البشرى وكأنه لأجساد سحقت وصارت وشماً على مسطح جدارى بدا كصراط فاصل بين الماضى والحاضر والمستقبل، وقد أكد الفنان هذا ببعض العظام المتناثرة حول المجاميع الآدمية الرابضة على حافة الهلاك داخل المساحة الإنسانية الترددية الواقعة بين التمسك بالأرض والاستغاثة بالسماء.
- ومن البديهى فى هذا الموضع الفكرى والبصرى أن يجسد الفنان هؤلاء المسحولين عرايا من كل ملابسهم إمعاناً فى الضغط الرمزى على المتلقى من أجل استنفار التعاطف بداخله معهم ومع كل أشباههم فى العالم المستباح من تجار البشر، وهو ما دفع القرنى إلى مقابلة الأجساد البشرية بلون التراب اليابس مع الأوعية الفارغة بلون الذهب، ترميزاً للتضاد الرمزى الفاضح بين الثرى والتبر .. بين الحقيقة والخداع، عبر رسالة يوجهها طه القرنى للعالم المتغطرس برفع أياديه الباطشة عن ضعاف البشر، والكف عن التجمل وارتداء الأقنعة، وربما كان اختياره للمساحة الأفقية الممتدة سبباً لاحتواء هذه الحالة التعبيرية الساخنة، دافعاً المشاهد المتفاعل للجمع بين التلقى الكلى والجزئى معاً، حيث الالتقاط السريع من النظرة الأولى، قبل التغلغل بين ثنايا العمل جزئياً من صرخة لأخرى، ومن توسل لثان، ومن استغاثة لمثيلتها المجاورة.
- وأعتقد أن أدواته هنا جاءت استنفارية وجدانية قائمة على إشعال العاطفة الإنسانية لدى جموع الجماهير فى العالم، انطلاقاً من نظرات العيون الحبلى بالذل والهوان لأبطال جداريته ` الجوع`، وصولاً لهذا البناء الملحمى المتعاشق الذى يحدث دوياً من تتابع الاستغاثات عبر التمسك بالأرض، بما يؤطر لذلك التراسل بين الصوت والصورة، حيث يرسخ له طه بالبناء البصرى الدائرى داخل المشهد، من خلال تقابل الأجساد الهيكلية والرؤوس الجمجمية فى كل أركان العمل، مصطحباً عينى المتلقى بشكل دوامى داخل خلايا جمعية متداخلة، ما يؤدى للشعور العام بنفس الحركة السمعية والبصرية بين كل ثنايا هذا المشهد الجدارى الإستغاثى.
- وعند هذا المنعطف على منحنى الأداء التصويرى لدى طه القرنى نجده يستدرج الرائى بتلك النظرة العلوية إلى المشاركة والانخراط بذاته فى هذه الملحمة الشعبية الإنسانية، إذ يوقعه دون أن يدرى فى بئر الصراخ الاستنفارى مع لحمة وسداة العمل الذى غزله الفنان بوعى بنائى واشتعال إبداعى معاً، إيماناً منه بدوره الوطنى كفنان مؤثر فى محيطه الشعبى الذى كان ولم يزل يستلهم منه أعماله وجدارياته التصويرية، أملاً فى خلود ونبض سرمدى منير.
- ورغم احتدام هذه المأساة البشرية التى أراد القرنى فضحها وتعريتها للعالم، إلا أنه أبقى على رعشة الأمل من خلال تلك الومضات المضيئة على رؤوس وأجساد أبناء جداريته، حيث استطاع بمهارته التصويرية المزج بين أشعة الشمس وبريق الأوعية والضى الآدمى، وهو المقابل الفيزيقى المرئى للرسالة التعبيرية الكاشفة عن ذلك الفيض من المظالم والسعار الاستبدادى والاستعمارى الذى وضع معه فى المواجهة هذا التكاثر البشرى الأفقى كجبهة للمقاومة افترش بها الفنان الكبير طه القرنى المنطقة الواقعة بين القتال والاستعطاف، من خلال تحريض أبطال جداريته على التمسك بالأرض والاستغاثة بالسماء.
بقلم : محمد كمال
مجلة : روزاليوسف (4 -10- 2021 )
الفنان طه القرنى ( 1965 ) وطقوس الحياة الشعبية
- تشكيل المجاميع البشرية وتحريكها فى الأعمال الفنية بأنواعها عملية بالغة الصعوبة، لما تحتشد به من تفاصيل بغير حصر وتنويعات فى الحركات والأبعاد والألوان والإيقاعات، خاصة فى أعمال الفنون التشكيلية، التى يتطلب تصوير كل شخص فيها حركة وتعبيرا متميزا عن الآخرين مهما كان عددهم، ولابد أن تشملهم فى النهاية وحدة متماسكة بإيقاع متناغم يعلو ويهبط ، يثور ويهدأ كأمواج البحر، أو يتمايل ويتراقص، يحتد ويلين،كالقصيد السيمفونى.
- ومن منا ينسى تحفة الفنان الإيطالى مايكل أنجلو - أحد عباقرة عصر النهضة - عن قصة الخليقة مرسومة على سقف قبة كنيسة السستينا فى الفاتيكان، التى قضى فى رسمها 54 شهرا متصلة وجمع بها مئات الشخصيات الدينية والتاريخية والأسطورية بأسلوب عبقرى عن طريق ألوان الفريسك الجيرية، بما لم يستطع فنان قبله أو بعده الإتيان به ! ولسنا بحاجة إلى العودة إلى الأعمال الجدارية فى التراث الحضارى لدول حوض البحر المتوسط والعراق التى لاتزال شواهد على روعة الإبداع فيها وتعبيره عن العقائد وأحداث التاريخ والقيم الإنسانية العليا منذ آلاف السنين .
- تتطلب الأعمال الفنية من هذا النوع إقامة صروح جدارية ضخمة ليعبرالفنانون فوقها عن موضوعات ملحمية أو دينية أو قومية أو غيرها، تصويراً، أو نحتاً بارزاً، وتثبيتها فى مواقع جماهيرية كالميادين أو القاعات الكبرى، وقد شهدت الحركات الفنية العربية الحديثة نماذج عديدة منها خاصة بمصر والعراق أقيمت على فترات تاريخية متباعدة مثل لوحة الفنان المصرى الرائد محمد ناجى عام 1920 بعنوان ` النهضة المصرية ` التى كانت مثبتة فى القاعة الكبرى بمجلس الشورى بالقاهرة وقد نجت لحسن الحظ من الحريق الذى أتى على المبنى التاريخى منذ عامين، ولوحة نصب الشهداء بميدان الحرية ببغداد بالنحت البارز للفنان العراقى الرائد جواد سليم فى الأربعينيات من القرن الماضى، وقد عاشت هذه الجدارية حتى اليوم متحدية كل آثار الغزو والدمار التى لحقت بهذا البلد منذ عام 2003 على أيدى القوات الأمريكية، وفرضت وجودها على مشهد الأحداث فى هذا الميدان عبر لقطات التليفزيون والصحافة، كرمز للصمود والمقاومة.
- وقد شهدت سنوات الستينيات والسبعينيات فى مصر نهضة ملموسة فى مجال الأعمال الصرحية والجدارية، شملت العديد من دور المحاكم ومراكز الاتصالات والمؤسسات الصحفية والعلاجية والتعليمية على أيدى كبار الفنانين المعاصرين آنذاك، فكانت بمثابة معارض للفنون مفتوحة للعامة فى غدوها ورواحها وسط شئون حياتها اليومية، وقد استهدفت - فوق ماتحققه من زينة وحس جمالى فى تلك الأماكن - تنمية الذائقة الجمالية لدى أبناء الشعب، وتحريك مشاعرهم الوطنية والإنسانية وفتح آفاق الأمل أمامهم نحو مستقبل أفضل يسوده الحق والعدل والسلام .. لكن هذه النهضة الجمالية خمدت تماما منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى حى الآن ، لاختلاف التوجهات السياسية والثقافية وارتقاء أولويات أخرى إلى الصدارة، وعندما عادت بشائرها فى السنوات الأخيرة بأيدى بعض الفنانين الشبان، اكتسبت سمات الأسلوب التجريدى أغلب الأحيان، مما وقف حائلا بينها وبين الذائقة الجمالية لعامة المواطنين .
- لهذا كان بزوغ لوحتين عملاقتين يصل عرض إحداهما 19 متراً والأخرى 34 متراًخلال عامى 2007 - 2008 للفنان طه القرنى، كان ذلك حدثاً شد اهتمام الأوساط الثقافية والفنية خاصة لارتباطهما الوثيق بالمشهد الحياتى والعقائدى لملايين الشعب، ويمكن تسميتهما تجاوزاً أعمالاً جدارية وإن كان الأدق اعتبارهما من أعمال التصوير فى الأماكن المغلقة لاحتشادهما بتفاصيل دقيقة تتطلب الرؤية عن قرب .
- اللوحة الأولى تصور` سوق الجمعة ` بمنطقة السيدة عائشة بالقاهرة التاريخية، فى رؤية بانورامية أخاذة كانت خلفيتها تلال جبل المقطم الذى يطل شامخاً على القاهرة حاملاً ذكريات تاريخية عبر العصور، وأسلوب الفنان فيها ليس تعبيراً عن رؤية سياحية أو استشراقية من الخارج ، بل هى رؤية من الداخل نتيجة معايشة حقيقية التحم الفنان من خلالها مع هذا السوق الذى يجمع فى يوم واحد من كل أسبوع آلاف الأنماط البشرية من مختلف الطبقات الاجتماعية خاصة الفقيرة والكادحة ، لتذوب معا فى هذا اليوم وتتفاعل كافة الخصائص الإقليمية والأخلاقية والثقافية للمجتمع المصرى فى بوتقة واحدة عبر العرض والطلب والمساومة والصفقات ومواقف الفرجة الشعبية للفنون الارتجالية التى باتت من معالم هذا السوق ، والسوق بهذا المعنى ليس مجرد وسيلة لقضاء الحاجات الضرورية للمواطنين، بل بات يمثل حالة ثقافية ، تتداخل فيها المنفعة مع الترويح ، والأنانية مع التكافل، و` الفهلوة ` مع الكفاحية، وفنون المساومة مع فنون العرض والأداء التمثيلى ، والاحتشاد مع الاستعراض المتبرج فى كرنفال من الأزياء الشعبية المتنوعة ...
- هكذا أصبح السوق تمثيلا لشريحة رأسية دالة على مشهد الحياة المصرية الراهنة، يمكن أن تصبح عونا للباحثين الاجتماعيين حولها فى المستقبل، وكان تخصيص مكان ثابت لعرض هذه اللوحة أمراً يتطلب موافقات جهات عديدة واشتراطات معقدة ، وهنا جاءت فكرة عرضها بشكل مؤقت فى موقع قريب من السوق تحت الكوبرى العلوى المطل على منطقة السيدة عائشة بجنوب القاهرة، وتضامن مرتادو السوق وأهل المنطقة فى مبادرة غير مسبوقة، فجمعوا البترعات لإقامة المعرض وكل يبادر بتقديم مايقدر عليه بحسب مقدرته، وتبنى محافظ القاهرة المشروع وأصبح كل شىء معداً ليوم الافتتاح، لكن قبل الموعد بساعات صدرت التعليمات الأمنية بمنع العرض تجنبا لحدوث تجمهر لايمكن السيطرة عليه (!) ..
- وانتهى الأمر بعرض اللوحة فى قاعة دار الأوبرا برعاية وزارة الثقافة، ومع ما فى ذلك من تكريم للوحة وصاحبها، فإنه أفتقد الهدف الأساسى من عملها : وهو التفاعل مع أبناء الشعب البسيط بعد أن يروا أنفسهم فى عمل فنى كانوا هم الملهمون الحقيقيون له .
- وفى العام التالى 2008 أنجز الفنان طه القرنى ملحمته التصويرية الثانية بعنوان ` المولد `، فى ضعف مساحة لوحة السوق، وقدم فيها صورة حية لطقس من الطقوس الشعبية المصرية حول احتفال المصريين بموالد الأولياء وتقربهم إليهم فى مواعيد معلومة من كل عام، حيث يحج الألوف إليها آتين من أقاصى الأقاليم والقرى والفئات الاجتماعية من مختلف مستويات الوعى والمعتقد ، يعيشون حالة ثقافية مكتملة لبضع ليال تنتهى بالليلة الكبيرة، وهى ذروة التزاحم البشرى والتلاحم الشعورى بين مئات الألوف المجتمعية فى موقع واحد، بين سرادقات الذكر والترتيل والمديح للسيرة النبوية وأشكال الملاهى والتسلية البريئة وغير البريئة، بدءا من الموسيقى والطرب حتى ألعاب المراجيح والسيرك وأشكال المتعة فى الخيام المتوارية ، ومنصات بيع حلوى المولد والحمص وأنواع الحلوى المختلفة، مئات من الشخصيات المطحونة فى قاع المجتمع صورها الفنان باحثة فى تلك المناسبة عن التعويض المؤقت عن معاناتها وحرمانها، وأخرى ممن يعيش أبناؤها حالة من الضياع النفسى والألم الروحى وافتقاد الأمل، يغرقون فى طوفان محموم بحركات الذكر وهم يتطوحون بأجسادهم بإيقاع متصاعد على دقات الطبول وأنغام الموسيق الشعبية حتى يبلغوا درجة الهيستريا أو النرفانا أو لحظة الذوبان الصوفى فى نور الله ونعيم القرب منه، وثالثة تبتغى متعة مؤقتة تلهيها عن قسوة واقعها وضغوط دنياها، ورابعة ترتزق من المناسبة، ومن هؤلاء جميعا يبيع مايريده كل مرتاد من بين تلك الأصناف ... هكذا صور طه القرنى مختلف الحالات والأنماط والنوازع والرغبات فى جو غرائبى مثير للدهشة لكنه بالغ الصدق والحميمية، وقد فرض عليه توقيت المولد فى ساعات الليل أن تكون كل مشاهده ليلية بأضواء صناعية ، فرضت حلولها التشكيلية على امتداد اللوحة، بالتباين الحاد بين الأضواء والظلال ، وبتأثيرات الوميض الناتج عن ذبذبة آلاف المصابيح الكهربائية فى السرادقات والتعاليق. والبيارق والرايات التى تحمل أسماء الطرق الصوفية بألوانها المختلفة بين الطريقة الأحمدية ( نسبة إلى سيدى أحمد البدوى ) إلى الطريقة الشاذلية ( نسبة إلى سيدى أبو الحسن الشاذلى) والطريقة الدسوقية ( نسبة إلى سيدى إبراهيم الدسوقى) والطريقة النقشبندية .... إلخ.
- أراد الفنان أن يجسد من وراء المولد طقساً شعبياً يضرب بجذوره فى الوجدان الجمعى لمختلف الطبقات منذ مئات السنين، فيصنعون حياة كاملة تتغذى على الموروث - وتتقاطع أيضا - مع عالم يحكمه المجهول ويفضى به إلى مجهولين: المجهول الأول لايقتصر على قوى الغيب وما تملكه من مصائر البشر، بل يشمل قوى فوق الأرض تفرض أوضاعاً قد لا ترضاها السماء، والمجهول الثانى حياة بلا يقين فى عدل فوق الأرض أو عوض عنه فى السماء ، فى هذه المنطقة بين اليأس والرجاء ، بين الخوف من المجهولين .. يتوسل الإنسان بالأولياء ابتغاء مرضاة الله ، تغذيه وتحركه نحو ذلك ثقافة متأصلة منذ القدم لجماعات صوفية التحمت بالذاكرة الجمعية وأسست مرجعية لقطاعات عريضة من الشعب ،عوضا عن مرجعيات المؤسسات الرسمية المنوط بها تحقيق الحق وإقرار العدل عبر ساقية الحياة .. صنع الناس من طقس المولد عدالة موقوتة بفترة إقامته ، حيث تتساوى فى حلقات الذكر كل القامات وإلهامات ، وحيث يستطيع الكل أن يعبر عن نفسه حسبما يتراءى له بعيدا عن أية سلطة .. إلا سلطان نفسه وربه ، وحيث يجد كل أمرىء حاجته وملذاته، وحيث تأخذه حالة الذكر المحمومة إلى عالم من الغيبوبة النشوانة والإشراق الروحى الذى يرى فيه بالبصيرة ما لا تراه العين، وحيث يتحول الواقع المحكوم فى ساعات النهار بنظام قهرى إلى منطقة محررة من أى قهر فى ساعات الليل، وربما تصل إلى حد الفوضى، لكنها فوضى ذات نظام خاص غير مرئى ، تصنعه الفطرة وقانون الجماعة .
- عبر طه القرنى بحميمية بلغت حد النشوة أثناء اندماجه فى عمله عن تلك المنطقة المحررة ، فتحررت الأجساد من كنترول حالة اليقظة المنمطة والمهندسة بحاسوب الواقع ، وانطلقت فى حالة جيشان تعبيرى يجعل الأجساد - وقد ملأها الشعور بنشوة الوصال مع قوى يمكن أن تراها بالبصيرة - فى خفة الطيور وطلاقة الأرواح السابحة فى الفضاء ، وتحررت الساحة من قوانين التمييز الطبقى والجنسى ، فجمعت بين الفقير والغنى، والرجل والمرأة، والصعلوك والمجذوب، والعجوز والصبى ، والمعمم والأفندى، البعض يذوب بين طبقات الوجد والنشوة والتجلى ، والبعض الآخر يذوب من عذابات الروح وهى ترتقى سلم الشوك والشوق متطهرة من الخطايا. وعلى قدر اتساع التعبير فى موضوع اللوحة تحرر أسلوب القرنى من بعض سمات أسلوبه فى لوحته السابقة ` السوق ` حيث اكتيب من حالة المولد الكثير من خصائصها وإلهاماتها، فتنقل من التسجيل إلى التعبير، ومن أسلوب ` الشخصنة ` الواقعية الملتصق بالمكان والزمان إلى حالة من ` الاشتعال الذاتى` المدفوع بطاقة الحركة المجردة فى المطلق بغير مكان أو زمان ، وتلك لا تصنعها وحدها الخطوط العنيفة والألوان الناصعة التى تفرضها عناصر الموضوع، بل تصنعها كذلك حالة من الإنفلات من هيمنة ` الموضوع ` فشكلت نسيجاً تصويرياً غنياً بالألوان والملامس ، وصنعت هديراً للصخب الذى تجسده موجات البشر المتزاحمين، لكن هذا الهدوء تتولد عنه فى مخيلتنا أصداء غامضة متتالية لكورالية لاهثة الإيقاع ، ترتيلية الصوت ، تطريبية الوزن ، فسيفسائية الزحام ... هذا الزحام الذى تكاد تشم فيه روائح العرق والبخور والأنفاس ، ممزوجة بسحب الغبار.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثية والتبعية )
|