حسن بهجت غنيم موسى
- حسن غنيم لم يبدأ مما انتهى اليه الآخرون بل بدأ من البداية من إحدى مفردات أعماله الكبيرة المركبة وهى الكرة .. الكرة المسطحة والتى استدارت مصادفة من خلال تركيبها مع الأشكال المخروطية ومنها ومعها بدأ الطريق حتى أصبح المخروط قائماً بأبعاد مختلفة متبعة لمقتضيات المنظور ، ولم تكن أرض وجودها مفروضة عليه فهى امتداد لروح الفن الاسلامى من خلال صوفية نابعة من العمل ذاته ومشعة منه .. وهنا كان الالتصاق والالتحام المحسوس والمعنوى فى اعمال حسن الصوفية .. فلم يأت الاختيار مصادفة فكانت الأعمال غير عشوائية أو سهلة التناول وإن كانت فى ظاهرها سهلة ولكن معالجتها وبثها الصوفية صعبة التركيب .
فاطمة على
جريدة آخر ساعة مايو 1980
- ليس هناك متعة أكبر من متابعة فنان وهو يصعد بقدم ثابتة سلم النجاح .. لقد كانت فرحتنا كبيرة عندما التقينا بالفنان ( حسن غنيم ) فى أول معرض أقامه منذ سنوات ن المدخل الرئيسى لمحطة السكة الحديدية . - كان ذلك اليوم مولد فنان عصامى يبحث عن طريقة بقلب متفتح وشوق متلهف فى ميدان تشعبت فيه الطرق وتشابكت الدروب .. وكان ظهور موهبة جديدة بدأت تشق طريقها فى الساحة المزدحمة بالنجوم اللامعة . - أثبت الشاب العصامى أن بصيرة الفنان هى المفتاح السحرى الذى يفتح له مغاليق المعرفة وأن رهافة حسه هى إبرة البوصلة التى تشير له إلى الطريق الصحيح .. وأن الثقافة ليست كتباً تقول ولا مجلداته تزدحم بها الأرفف .. وإنما هى احتكاك مباشر بالحياة، وحوار صادق مع النفس.. وإن التعليم ليس معاهد متخصصة وورقة مزوقة إسمها بكالوريوس .. وإنما الاستماع الى محاضرات الحياة وما تلقيه من دروس من الواقع الذى يعيشه أو يحيط به . - وإن الأصالة أن ينظر الفنان حوله وأمامه ووراءه وينظر للأمس واليوم والغد، ويعرف أين هو زماناً ومكاناً.. وكيف يعمق جذوره فى أرضه . ويفرد أنابيب الاستشعار فى هوائه، فيمتص عصارات الأرض، ويتنفس منها الهواء، ويتصل بما وراء حدوده بالموجات عابرة الفضاء . - ان النجاح ليس ملعقة من ذهب توضع فى فم الفنان يوم ان يخرج الى الدنيا .. وانما هو كفاح مع اقصى الظروف.. ولقد كان الفنان ( حسن غنيم ) يقضى أيامه يؤدى عمله الوظيفى طوال الاسبوع ، ثم يأوى الى غرفته الضيقة فى القاهرة منتظر يوم عطلته الاسبوعية ليسافر الى بلدته ( دسوق ) ليجلس الى الوانه ولوحاته ويفرغ ما اختزنته نفسه طوال الاسبوع .. - هذه هى العصامية فى رأينا وها هى ذى ثمارها تنضج مع الايام.. - ولقد جال الفنان بعينه وقلبه وعقله فى كل ساحة فى ارض بلده .. واستهوته ( المشربية ) شكلاً ومعنى .. ووجد فيها عنصراً نابضاً وقادراً على العطاء عنصراً يتخطى مكانه وزمانه ووظيفته ليعطى عطاءاً جديداً بلغة تشكيلية مبتكرة ولهجة معاصرة.. - وتناول حبات المشربية ليعيد تنسيقها، رسماً وتلوينا .. ويسمح للضوء أن يتخلل فجواتها البيئية وينشره فى لوحاته بحساب دقيق وبمنهاج بارع وذكى .. - وكانت النتيجة ترجمة ( تصرف ) لمعزوفات (فاسا ريللى) التى فتح بها افاقا جديدة للتشكيل الارابيسكى المتعدد الابعاد.. ولكن بآلات شرقية . ونفحات عربية صميمة .. ولم تتنازل عن جنسيتها وأصالتها ولا عراقتها.. ولم يقف ( حسن غنيم ) عند هذا الحد بعد أن اوحت له المشربية بالكثير وانما سطح متكلم.. وناطق ومسبح.. اراد ان يسبح بحياتها مثلما يسبح المصلى بحبات المسبحة . - وهنا يدخل الخط العربى كعنصر تبادلى جديد.. يتبادل الحوار مع النسق المجرد. ويتربع لفظ الجلالة والاسماء الحسنى فوق هذه الساحات المتناغمة التى ينبثق من فجواتها نور خافت شفيف يدهم الاحساس الصوفى ويعمقة.. ويزيد فى تصاعده ذلك الترديد الايقاعى الملح الذى يتصاعد مع درجة لونية الى اخرى حتى يبلغ دروته، ثم يبدا فى الهبوط حتى يبلغ منطقة الصمت تماماً مثلما يحدث فى حلقات الذكر عندما يرتفع الذاكر الى قمة النشوة، ثم يهبط تدريجياً الى قرار السكون .
حسين بيكار
اخبار اليوم 1979
- تخرج الفنان حسن فى كلية التجارة الا إنه أكتشف أن الطريق الصحيح والوحيد بالنسبة له هو الفن واقدم نحو عشرين معرضا فرديا بين القاهرة والإسكندرية ودسوق . يتميز انتاجه بالغزاره ، ويتميز الفنان بالدأب الشديد للدرجة التى تجعلك تتساءل من أين يأتى بالوقت الذى انجز فيه كل ذلك وهو من القليلين الذين يتابعون مفرداتهم ، ويطورونها وهى بالنسبة للفنان ( حسن غنيم ) كائنات حميمة يتعهدها بالرعاية، ابتدأ رحلته الفنية بتسجيل مشاهد عن مدينة دسوق التى ولد بها : مناظر طبيعية ، موضوعات من البيئة مثل الباعة المتجولون، وغير ذلك من موضوعات الحياة اليومية، وقد عكست هذه المرحلة حبه للاشكال الهندسية ، فكان يصيد شكل الكرة، والدائرة، بل ويفرضه على الاشكال التى يفترض أن تكون تسجيليه ، ثم انفصلت الكرة بعد ذلك لتشكل كيانا مستقلا ظهر فى العديد من معارضه قبل أن يلجأ الى المشربية والمشكاه يستلهمها ، فماذا كان الفن مثل فن ( الاوب أرت ) قد استفاد من الفن الاسلامى ، فيتعين على الفنان العربى أن يلجأ الى المنبع الأول بدلا من لجوئه الى النقل والتقليد وثمة عدد من الفنانين المصريين قد استعار شكل المشربية ولكنهم وقفوا بها عند المعطيات الزخرفية بينما يتخطى الفنان (حسن غنيم ) ذلك الى خلق عالم يوحى بالتصوف . الالوان متقشفه تتحرك مساحات الابيض كالبخور تتحرك ناعمة فوق بعض عناصر اللوحة فتزيدها سحرا، وتأخذك فى رفق خارج الزمان والمكان .
- أن الفنان يستخدم بعض العناصر التى تبدو للوهلة الاولى أنه ينحو نحواً سيراليا ، إلا أنك تكتشف سريعاً أن مساحاته الشاسعة، والفراغات الممتدة، الخالية من البشر ، وعناصره الهندسية لا تفزعك بل على العكس تماما فانك واجد الطمأنينة فى العالم الذى يجسده الفنان . فالبوابات السحرية الصاعدة على حبات المسبحة تدعونا الى التسبيح بحمد الله ، وتغرينا بامتطاء البيارق الى السماوات والانسحاب . من هموم الواقع ، والزهد فى العالم الارضى ، واللهفة الى المجهول المحبوب ، الدائم . وقدم الفنان الى جوار تجربته التصويرية ، تجربة احتفل فيها بالشكل المجرد لوحدات المشربية، ورسمها على مستويين من الخشب. ربما كانت وصلة انتقال، أو وقفة يلتقط فيها الفنان انفاسه قبل أن يفاجئنا بالجديد .
محمود بقشيش
حسن غنيم وفن الطمأنينة
- من سمات الفن التشكيلى المعاصر فى الوطن العربى ، استلهامه عناصر التراث العربى ، خاصة تراث الفن الإسلامى ، ومزجه بتقنيات الفن ومدارسه الحديثة .
- الفنان حسن غنيم الذى يعرض هذا المقال أبرز أعماله ، واحد من الفنانين العرب المحدثين الذين يسعون بإبداعاتهم للبحث عن هوية فنية مميزة .
- منذ رفع المثال المصرى ` محمود مختار ` - فى العقد الثانى من هذا القرن - شعار ` نحو فن قومى ` ، لم تخمد جذوة دعوته ، بل ازدادت اشتعالا على الرغم من تحديات سلطان النموذج الأوربى فى الفن . وأسهمت إبداعات بعض الفنانين العرب فى توكيد هذا الشعار الذى صار تياراً . ومثلما تعددت أسباب الدعوة إلى اكتشاف خصوصية لفن عربى قومى ، تعددت تجليات تلك الخصوصية ، فمن الفنانين من اكتفى باستلهام إرث بيئته ، ومنهم من رأى عدم الاكتفاء بإرث المنطقة الأقليمية التى ينتمى إليها ، بل تجاوزها إلى استلهام إرث يجمع الشتات . وكان من الطبيعى أن يكون الجامع الموحد لهذا الشتات هو الفن الإسلامى بتنويعاته الفنية.. واتجه بعضهم إلى محاولات اكتشاف إمكانات ` الحرف والكلمة العربية ` الجمالية والتعبيرية . ولمعت أسماء من كل الأقطار العربية ، واستطاع بعضهم أن يحصل على اعتراف دولى . وعلى الرغم من تنوع إبداعات الفنانين العرب فى هذا المجال ، واستقلال كل قطر بملامح خاصة ، فإن المشاهد الأجنبى لا يلحظ تلك الاختلافات البينية ، ولا تلتقط حواسه إلا ما يدل على انتمائها إلى ` كتلة ثقافية ` واحدة ، لهذا كان - وما يزال - الطريق أمام استلهام الحرف العربى والزخرفة الاسلامية مفتوحا إلى الذيوع العالمى ، والتميز ، وربما التأثير ، على شرط أن تتبنى ذلك مؤسسات عربية كبرى ، تثق بدور الفن ، والفنان الحضارى .
- والفنان الذى نقدمه إلى القارئ العربى ، هو الفنان المصرى ` حسن غنيم ` الذى ينتمى إلى تيار مستلهمى الفن الإسلامى ، بتجلياته المختلفة ، وتكتشف إبداعاته فى فن الرسم الملون عن جوانب مختلفة ، لاجتهادات متميزة تضعه ، بغير تردد ، بين المبدعين المرموقين فى وطننا العربى .
- سيرته الذاتية
- لو حاولنا أن نبدأ الرحلة مع إبداع الفنان المصرى ` حسن غنيم ` وشخصه ، بالنظر إلى كليهما نظرة إجمالية ، خاطفة ، أو بلغة الهندسة ` منظور عين الطائر ` فإننا نلاحظ خطين أساسين . أولهما : التزام الفنان بمنبع رئيس واحد ، ظل منحازاً له حتى الآن ، وهذا المنبع المختار هو الفن الإسلامى . ثانيهما : حرصه على أن يصل فنه إلى جمهور عريض ، فلم يكتف بقاعات العرض التقليدية ، بل أقام معارضه فى محطات السكك الحديدية ، ومراكز التجمع الشبابى ، ووصل بها إلى القرى والنجوع . والطريف أنه لم يدرس الفن - وربما لحسن الحظ - دراسة معهدية ، ولو استثنينا تشجيع أستاذه فى الرسم فى المدرسة الابتدائية ، فإنه لم ينل أى قسط من الدراسة المنهجية . وعلى الرغم من حصوله على العديد من الجوائز فى المرحلة الإعدادية والثانوية فإنه كان يلقى مقاومة شديدة من أسرته ، مما اضطره إرضاءً للأسرة ، أن يلتحق بكلية التجارة ، لكى يحصل على ` شهادة ` وبعد تخرجه من الكلية عمل فى وزارة الثقافة مسئولا فى قاعات العرض الرئيسية ، فى أواخر الستينيات ، وما يزال يعمل فى مجال العروض الفنية ، وبذلك يكون قد حقق لأسرته ما أرادته ، ولنفسه ما أرادت . أتاح له هذا العمل الاحتكاك الدائم بالابداع والمبدعين ، وأتاح لموهبته ، بالتالى ، أن تصقل . يعترف ` حسن غنيم ` بأن أستاذه الأول كان جامع العارف بالله إبراهيم الدسوقى ، بمدينة ` دسوق ` شمال الدلتا ، وتولاه هذا الجامع ، منذ صباه حتى شبابه المبكر بتهذيب حواسه أو تثقيفها ، بما يملكه من إبداع معمارى وزخرفى . كان يداوم على المجئ إلى الجامع للصلاة واستذكار الدروس ، مثل معظم أبناء الفقراء الذين لا يملكون من وسائل الإضاءة غير ` لمبات ` الغاز . وتركت تلك العلاقة آثارا عميقة فى نفسه ، لهذا فإن انحيازه لم يأت استجابة لتيار قومى سياسى ، أو ركوب موجه كما يقال ، بل انحياز المحب إلى الحبيب ! .
البرتقالة المثمرة
إذا تأملت كل لوحاته ، فإنك لن تجد أثرا واضحا للملامح الخارجية الوصفية لتلك العلاقة الحميمة بينه وبين أستاذه الأول : جامع إبراهيم الدسوقى ، على غير الحال مع علاقته بالمناظر الطبيعية لمدينته ، فقد كانت علاقته بها علاقة الدارس ، الواصف الناقل لما تراه حاسة العين ، وتطرب له النفس ، بينما اختفت وقائع الجامع وظهرت إيحاءاته فى صور شتى ، تحركها أحيانا ، بعض المصادفات السعيدة ، مثل مصادفة ` البرتقالات ` ! . وقد يتساءل القارئ : وما علاقة البرتقال بالفن الاسلامى ، أو علاقته أصلا بسياق الحديث ؟ وأجيب : لقد كان شكل البرتقال بداية لبحث طويل ، وطريقاً شاقاً إلى النضوج . إنه من المؤكد أنه رأى أهرامات البرتقال على عربات الباعة ، غير أن لحظة ` ارشميدسية ` قد تألقت فى حواسه وعقله ، فاكتشف فى لمحة خاطفة أنه لم يشاهد من قبل برتقالاً . كانت كتل البرتقال الاسطوانية البراقة ، وفراغتها البينية ، تشكل فى مجملها نسقا هندسيا ، ورياضيا ، يشبه - فى جوهره - نظام المشربية . وكان حينئذ ما يزال غارقا فى رسم مناظر مدينته بأسلوب وصفى ، غير أن الوصف الأكاديمى البارد ، كان قيداً ، فقاومه برسم غطاء هندسى مجرد شفاف ، واحتفظ لتلك المربعات الفسيفسائية بألوان اللوحة الوصفية ودرجاتها نفسها فكأنهما لوحتان جمعتا فى مشهد واحد ، يجمع بين نقيضين ، لا يشكلان وحدة عضوية . وأذكر أننى اقترحت عليه حينذاك أن يفض الاشتباك المتعسف بين اللوحتين ، وفعل ، ثم جاءت البرتقالات ، فحسمت علاقته بالمنهج التشخيصى ، ورجحت كفة التجريد الهندسى غير المقطوع الصلة بمثيرات الواقع ، أو بمعنى أدق : بمخزون ذاكرة تعلقت بوحدات وفنون من التراث الإسلامى ، مثل : الفسيفساء ، والخرط الخشبى العربى ، والخط العربى ، والمشكاة ، وربما كان طبيعيا أن ` يقترب ` فى تلك الفترة من أسلوب ` الأوب آرت ` كما فعل ، دون أن يلتزم به ، فبينما - أعنى : نظام المشربية والفن البصرى - بعض الشبه ، وإن اختلفا فلسفة وتوجها .
- استدعاء مفردات جديدة !
- مع لوحات كرات البرتقال ، حدث التوفيق بين نظام المشربية والمدرسة البصرية ، أو بين القديم والمعاصر ، وقد حال نظام ` الفسيفساء ` دون الانحياز إلى الطابع الإعلانى الذى تدعو إليه المدرسة البصرية ، وكشفت لوحاته الأولى عن روح الدارس ، الباحث ، الدؤوب . فى جوانب مادة اكتشفها ، أو علاقة التقطها : علاقة كتل البرتقال بفراغاته البينية من ناحية ، وما يمكن أن توحى به تلك العلاقة من مشابهات مع نظام المشربية من ناحية أخرى ، وعندما وظف كتل البرتقال فى سياق لوحاته الأولى ، التزم بمصدر ثابت للضوء ، ولم يترك للظلال أن تنزلق على أسطوانية الكتل ، بل قسم حدودها الداخلية إلى وحدات مربعة صغيرة ، التزمت بدرجات الظل ، وأوحت بمستويات ` كريستالية ` ، تناقضت مع منهج بناء منطقة النور ، وربما لهذا السبب أو غيره ترك هذه الطريقة ، وبسط كتلة البرتقالة ، وجعلها دائرة ، مسطحة ، وما تزال تلك الدوائر تحتل مركزا مرموقا فى لوحاته ، وقد ولد منها وحدات أخرى : وحدات المشربية ، ووحدات الخرط الخشبى العربى . وفى البداية لم يلتزم بنظام المشربية حيث الانتشار إلى مالا نهاية ، والانضباط الرياضى المحكم ، بل اصطنع حدودا خارجية ، ترسم نهايات شبكة الوحدات الهندسية ، وتوحى لنا بأننا أمام منظر طبيعى ، كما فى لوحة ` تكوين من الخرط العربى` على سبيل المثال ، ففى اللوحة نشاهد عند حدود التماس بين نهايات التكوين العلوية ، وفضاء اللوحة ، ما يوحى بأننا أمام كثبان صحراوية ، تتوجها دائرة قمرية أو شمسية ، تتردد فى إطارها الداخلى كلمة : (لا إله إلا الله ) ، ويظهر الإيحاء بالمنظر المستلهم ، أو المتولد من صورة ذهنية ، عن جماليات البيئة المصرية المنبسطة أكثر وضوحا ، ونضوجا فى مجموعة لوحات تسمى ` سحر الشرق ` . فى تلك اللوحات تنتشر الأعمدة فى صفوف ، وفى مستويات مختلفة ، وتتسم تلك الأعمدة بملامح جامعة ، تفصح عن أصولها ، دون أن تتطابق معها ، ففيها ملامح من المشربية ، والخرط الغربى ، والشمعدان.
- تألق فى تلك المجموعة ، دور الفضاء التصويرى ، كما تألق دور اللون الأبيض ، وبمعنى أدق : رذاذ اللون الأبيض الذى كان يمطر به اللوحة ، فتكسوها غلالة شفافة ترقق كتل الأعمدة والأقواس ، وتذوب بعضها فى فضاء اللوحة الأبيض ، ويسبغ هذا التدرج فى درجات الغامق والفاتح ، مع غطائه الأبيض ، فى إرضائنا ودعوتنا إلى نوع من السكينة والطمأنينة .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة العربى الكويتية : مارس 1990
حسن غنيم والبحث عن هوية
- يحكى حسن غنيم عن تجريته التشكيلية فيقول :
` بدأت التجربة من خلال تأثرى بمشهد بائع برتقال على الطريق الزراعى قرب طوخ سنة 1974 فى هذه الفترة كانت أعمإلى تتحرك من التشخيص ، فرسمت البرتقال مرصصاً على عربة اليد بالطريقة الواقعية كما وقعت عليه عيناى ، ثم تبين لى عام 1975 أن التكوينات الكروية حينما تتلاصق تخلف فيما بينها فراغات تومئ إلى تلاحم حبات المشربية ، وهو الأمر الذى نتج عنه بعد ذلك تطوير أعمإلى فى اتجاه هذه المرحلة مرحلة استلهام المشربية `
- ويبين من ذلك مدى ارتباط إبداعات الفنان برؤى الواقع المحيط به ، فمن الواقع تنبثق حتى أعمال التجريد التى تمضى بالواقع متطورة به إلى مستوى تشكيلى غير ما كان عليه أول الأمر ، ونفهم من ذلك أن أعمال التجريد التى جلبها حسن غنيم لم تكن نابعة من فراغ ، وهو ما يحدث فى كثير من الأحيان بالنسبة لمقلدى الاتجاهات التجريدية التى تنبت فى بيئات أجنبية ، وتستجلب إلى الحلبة التشكيلية استجلابا ، ولهذا سنرى أيضا كم كانت إبداعات حسن غنيم اللاحقة فى هذا المجال أصيلة المحتد قومية الطابع دون افتعال أو تشويه لحقائق الفن الجوهرية فإن العلاقة بين التجريد والواقع علاقة لا تستعصى على الفهم ، ولا تنبوعن إمكان الملاحقة ، لنجد فى الواقع المرئى مفاتيح فعالة فى كشف ما استغلق على الأذهان من إبداعات التجريد مهما أو غلت بعيدا .
- ويمضى حسن غنيم فى متابعة مغامرته الابداعية فيرد لنا أنه عمد بعد ذلك ، وعلى وجه التحديد منذ عام 1977 إلى التقليل من الأشكال الكروية المجسدة ، وأصبحت الدوائر مجردة ومتماثلة تملأ اللوحة بتشكيلات مختلفة غلب عليها طابع هندسى بصرى ، وبخاصة من خلال استخدام للألوان سيطر على تناغم موسيقى أقرب إلى التقاسيم المنسابة على آلة القانون .
- ثم تحول حسن غنيم بعد ذلك من مرحلة استلهام المشربية إلى أشكال مستوحاه من ( وحدة الخرط العربى ) بالإضافة إلى الخط العربى كعنصر تبادلى .
- وقد كانت وحدات الخرط العربى أول الأمر عند حسن غنيم مجرد وحدات متراصة تميل إلى التجريد نائية عن العمق والبعد المنظورى ثم أخذت هذه الوحدات تتطور فى رجاح أخرى إلى التحرر من القالب السكونى الذى بدأت به ، فأصبحت منذ عام 1978 إلى المعمار الإسلامى أقرب ومن ثم كان من الممكن أن تومئ بأكثر من شكل كالمسلة أو الشمعة أو المئذنة ، وصار المنظور يشكل فى هذه المرحلة عنصراً رئيسيا قالت هذه الأشكال نتيجة للعمق على المساحة إلى القالب الميتافيزيقى الذى كانت تفتقده بسبب التسطيح السابق ، كما نحت تلك الأشكال نحو التعبير عن أجواء الشرق وسحره ، ولما قدر لهذه الوحدات أن تجتمع مع الأشكال الحانية للبواكى الإسلامية أعطى ذلك كله فى النهاية إيماءات إلى عالم يفوح رحيق الشرق .
- وفى كثير من لوحات حسن غنيم الموحية بسحر الشرق نجد العمل على أساس شكل الخرط العربى ، ذلك الشكل الذى تعددت تطبيقاته ، ومن هذه التنويعات استعمال الفنان لهذا الشكل على هيئة أعمدة سامقة ورشيقة ، مع نثرها فى أرجاء المشهد ، فضلا عن استخدامه اللون الأبيض موحيا بالبخور الذى يعبق أرجاء تلك الأماكن ، بالإضافة إلى ما توصل إليه أشكال الخرط من الإيحاء ببوابات من قصور أو مساحات قديمة تنيئ عن أماكن وافدة من حكايات شهرزاد وألف ليلة ، بل وصل الأمر بتوظيف شكل الخرط العربى إلى الإدلاء أيضا بأشكال عصرية تقترب من ناطحات السحب ، وأحيانا من مدن فضائية ممتدة فى أثير شاسع فتعطى هذه الأشكال فى النهاية إحساسا باللانهائية والتسبيح للخالق وتمجيده .
- وقد تكررت هذه التكوينات فى معارض متتالية فى الأعوام 78 ، 79 ، 1980 بتنويعات مختلفة ممهدة الطريق للمرحلة الصوفية التالية التى حصل حسن غنيم عن أعمالها على الجائزة الثانية فى التصوير الزيتى ببينإلى الإسكندرية الثالث عشر عام 1980 .
- وقد مضى حسن غنيم فى هذه المرحلة إلى التخلص من وحدات الخرط العربى ، وأصبحت الرؤية التشكيلية عنده أكثر عمقاً ونضجاً ، من خلال تعامله مع منجزات الفن الاسلامى كالمشكاوات والبيارق والفسيفساء والآنية الخزفىة والمآذن والخط العربى ، منظوراً إلى هذه العناصر التراثية كلها نظرة عصرية جديدة ، بالإضافة إلى الاعتداد باقتصاد لونى ارتقى بالألوان مدارج من الشفافية أوصلت إلى درجة ملحوظة من النورانية فى لوحات الأعوام 1977 إلى 1979 مهدت لظهور الجانب الصوفى إلى جانب البعد الميتافىزيقى فى أعمال السنوات من 1981 إلى 1985 اللاحقة .
- وفى هذه الفترة أقام الفنان معرضين الأول ، عام 1982 بقاعة السلام بالزمالك ، والثانى بأتيلية القاهرة عامى 84 ، 1985 ، وعندما سافر إلى أسبانيا عام 1982 زار الأندلس ومدنها قرطبة وغرناطة وأشبيليه ، فانتشت عيناه بالعمارة الإسلامية ، ومضى عقل الفنان يسجل ويختزن الرؤى التراثية حتى تمخض ذلك كله عن المجموعة المستوحاة من التاريخ الأندلسى أو بمعنى أدق من حضارة الاندلس .
2- وقد تدرج حسن غنيم فى إستخدامه للون ، وقد بدأ بالألوان القاتمة أو أن شئنا الدقة الأميل إلى ذلك ، ثم مضى يتدرج إلى الفواتح ، تبعا لمقتضيات تكوين اللوحة إلى أن بلغ فى لوحاته الأخيرة قدرا ملحوظا من الاقتصاد اللونى ، ومن ثم اتسمت بالشفافية التى يغلب عليها الضوء الأبيض المرسوم على سطح اللوحة المرسوم بالألوان الزيتية الشفيفة .
- ومن ثم فلئن كان حسن غنيم يرسم اللوحة ويلونها بالفرشاة وبالطريقة المألوفة إلا أنه أقبل على أسلوب ` البخ ` باللون الأبيض فقط ، وبذلك تأكيدا لمطلب الشفافىة فتأتى اللوحة سابحة على حد قول الناقد الأديب محمد الحلوفى ` بحر من الضوء ` قادر على أن يوقظ فى وجدان المتفرج مضامين معينة .
- وفى هذا المقام يقول حسن غنيم : أشعر أن قمة السمو أن أتعامل مع شفافية اللون والزهد فيه ، وأحرص على أن تقل فى الألوان الموضوعة على اللوحة قبل بخ الرذاذ الأبيض عليها ، الدرجات اللونية الداكنة ، حتى إنه بعد عملية البخ يتحقق الهدف المقصود من الضوء ، وهو تأكيد النورانية فى العمل الفنى ، ويرجع اهتمامى بهذا الهدف إلى ارتباطى بسنوات الطفولة ، وقد اختزنت منها فى ذاكرتى أيام دسوق وقد أوضحت ذلك فى مقدمة أحد كتالوجات معارضى ، فانطلقت الرؤى القديمة على رواسب من طفولتى الباكرة ، وقادتنى تجاربى مع التراث القديم إلى إمكانية هضم ذلك القديم وإفرازه من جديد فى صورة تستحق العشق ومن ثم الوصول إلى لغة جديدة خاصة بى فى تعاملىمع الفن التشكيلى ، أو بعبارة أخرى إبداع استلهامات تراثية فى قالب عصرى ، تؤكد ما نحن إليه فى النهاية من أن يكون لنا فى عالم الفن الحديث هوية .
- وقد مضى حسن غنيم من منطلقه هذا يتعامل مع مفردات التراث الإسلامى محتذيا فى إقصائه الشكل الإنسانى من تشكيلاته على الأخص متوصلا إلى تجريديات لا تقف عند حد شكلها الأصلى الذى هو ` شكل تراثى ` بل تمتد ضاربة فى أغوار الحداثة مرتقية بذلك إلى مستوى يزود تلك الأشكال بطاقة إيحائية ، وهى إذ توحى فإنها توحى بالعصر الذى نعيش فيه، وإن كان مصدرها التراثى يؤدى دوره فى توجيه الذهن إلى استيعاب ذلك الذى توحى به ، مما يجعل فن حسن غنيم التجريدى غير منبت الصلة بالجذور القومية ، فيكتسى فى الوقت ذاته بسمتين جوهريتين ، أولاهما المعاصرة وثانيهما الأصالة ، وهو ما يسميه الفنان بتحقيق الهوية وعلى سبيل المثال فلنتأمل شكل المشكاوات السابحة فى الفضاء بقوة ذاتية ، إنها تومئ إلى عصر الفضاء الذى نحياه اليوم ، رغم أن المشكاة شكل مستفى من التراث الإسلامى وبذلك يضاف فى فهم اللوحة بعد تراثى ، يومئ إلى تفسير عصر الفضاء تفسيرا شرقيا روحيا بالتوق الإنسانى إلى الانعناق من ريقة الماديات الأرضية ، والسباحة الأثيرية فى اتجاه الخالق ، وبنفحه منه عز وجل .
- ويمكننا أن نقول إن التجريدية نشأت فى أعمال حسن غنيم كنتاج طبيعى ومرحلى شأن سائر المبدعين الجادين من الفنانين حيث تبدأ البداية دائما بالدراسات والرسومات الأكاديمية وتتطور تلقائيا بمرور الوقت .. هكذا كان حسن غنيم فى بداية مراحله إذ بدأ بالتصوير الكلاسيكى ثم استهوته التكعيبية فحقق من خلالها الكثير من الأعمال التشخيصية التى كانت محببة إلى نفسه ثم من التكعيبية تدرج إلى ما يسمى بالتكعيبية التحليلية فحقق أيضا من خلالها مرحلة اتسمت بالغزارة فى الإنتاج سواء فى الأعمال التشخيصية أو بدايات المرحلة الإاسلامية فكان التجريد هنا يأخذ مأخذا طبيعياً دون تكلف .. ودون محاكاة .. ومن ثم كان لابد أن يكون هناك أوجه شبه بين حسن غنيم وبين كل من ينحو نحو التكعيبية فى ذلك الوقت . وقد كان البعض من الفنانين الرواد عاشقين لفن المصور العالمى (براك) أبى التكعيبية ومنهم الراحلان أدهم وسيف وانلى وقد كان لهم مكانة كبيرة بالنسبة للفنان الشاب فى أول الطريق إلى أن تلاشت تلك المرحلة تماماً بمرور السنوات وتحول عطاؤه إلى مرحلة تطورية من الاجتهادات فى الفن الإسلامى اشتملت على مسحة من التجريدية فى قالب تعبيرى وإذا كانت التجريدية قد انتشرت اليوم بين معاصرى حسن غنيم فإن الكثيرين منهم بدأوا مباشرة بمحاكات التجريدية من خلال اطلاعهم على الكتب وأيضا تحت وطأة طرق تدريبية معينة مفروضة من المعلم على تلاميذه وهذا يعد كمينا أما إذا كان التطور إلى التجريدية يأخذ مراحله الطبيعية فهذا أجدى على قدرات الفنان الإبداعية .
- وقد وجد حسن غنيم فى التراث ترياقا عصمه من التردى الأجوف فى الاتجاهات الحديثة الوافدة وإن كان لم يحفل عن الاستفادة من الدروس التى أتت بها التجارب المعاصرة الواعية ، وفى ذلك يقول الفنان : إن استفادتى من التراث استفادة لا حدود لها حيث كانت المعين الذى لا ينصب من خلال الرؤية الثاقبة فى محاولة هضم مفردات التراث وإفرازها فيما بعد إلى إبداعات وابتكارات مختلفة ... تعددت من خلالها المعارض المتتالية ... ومازال البحث مستمر أو مدى استفادتى من المدارس المعاصرة كانت لا شك استفادة إيجابية سواء من خلال التعبيرية أو التجريدية أو السريالية أو (الأوب آرت) الذى بدأت به المرحلة الإسلامية فى منتصف السبعينيات كل ذلك لا شك ظهر فى تجاربى الفنية منذ أن بدأت طريقى عام 1969 ، وكل مرحلة بالنسبة لى استفادة من تلك المدارس .
3- ويستهوى المتأمل للوحات حسن غنيم الأثيرية تقصى مقدمات السكون ومقومات الحركة فى تكويناته ، وتمضى العين تتساءل هل لوحات الفنان أميل إلى السكونية أم إلى الحركة ، ثم تمضى فى ساحاته التشكيلية وراء حركة مضمرة تطل عند غياب الحركة الصريحة وتتأرجح العين العاشقة بين ` حركة على وشك أن تجيئ ` و ` سكون على وشك أن ينقضى ` .
- ومع الحسابات والمعادلات الرياضية يميل التكوين إلى السكون وهو من طبيعة العمائر ويطالعنا فى أشكال ` الأعمدة ` و ` المشربيات ` ولكن عندما نطل من المشربية الذى يتسم شكلها بالسكون نرى من خلالها البعد الآخر ، من وحدات الخرط العربى فيتحقق ما يمكن أن نسميه بالبعد اللانهائى .
- وفى مرحلة من مراحل حسن غنيم كانت درجات اللون تحقق الحركة ، أما بالنسبة لمرحلته الميتافيزيقية فسنجد المجال قد انفسح من وراء المشربيات للفضاء الفسيح والبعد اللانهائى ، وفى وسط هذا السكون نجد البيارق خفيفة الألوان على خلفية سماوية ، وبميل محسوب .. تحقق فى قلب الرائى إحساسا بالحركة فى قلب السكون الشامل الذى يغلف العالم .. وهذا السكوت .. قد يكون بإمكانه أن يعادل السكينة التى تنعم بها الأرواح التى لقيت الهداية .
- وأنك إذا تأملت السماء فى لحظة صفائها .. وأمعنت فيها التأمل فستجد أن أديهما قد انفسح لحركة غير مرئية بالعين العادية وإنما ترى بالبصيرة .. وهذه الحركة المضمرة تتحقق كثيرا فى لوحات حسن غنيم .
- وتأتى لدى حسن غنيم بعد ذلك فكرة ` التحلق ` وعلى الأخص فى المراحل الأخيرة حيث تكاد تكون الأشكال كلها سابحة فى الفضاء ولا تقف على أرض ملموسة مما يحقق فى قلب الرائى إحساسا بالحركة .
- كما أن اعتداد غنيم بالمنظور والبعد الثالث يبعث بدوره حركة مضمرة فى لوحاته ، ومن خلفياته بند على الدوام إحساس بالسكينة من خلال الرؤية التى تميل إلى الضبابية التى تذكيها فى النفوس تلك الشفافية اللونية التى يمارسها الفنان فى خلفيات لوحاته أو جوانبها ، والتى تشتم من خلالها رائحة حيث تشتم أثيرها عبق البخور الذى يتصاعد دخانه رهيفا متماوجا كأطياف لا تكاد تلمح ، والحق ، أن الفنان عندما يغوص فى بحثه عن الحقيقة المرئية تتكشف له رؤى كان هو أصلا وفى واقع الأمر لا يعبها بوضوح . وهو ما ينطبق على الرؤى التى بدأت عند حسن غنيم منذ عام 1979 .
- ومن الطبيعى أن تكون أدوات الفنان فى إحداث الحركة وإضفاء الديناميكية على لوحاته هى الأشكال واللون والضوء والتكوين ، وفضلا عن ذلك ، بل والأهم هو سياسة هذه المفردات وتوجيهها إلى تأكيد المعانى .
- فمن ناحية الأشكال ، فإنها تعمل على إحداث الحركة من خلال تتابعها وتكراريتها حتى تصل فى بعض الأحيان إلى ما لا نهاية .
- كما تنجح هذه الأشكال أو الأشياء فى تدبير الحركة أحيانا بتحقيق ميل أو تصادم ، أو تراشق ، أو تراكم ، وقد مالت الأشكال عند حسن غنيم فى مرحلته الأولى إلى نوع من الزخرفية التصويرية وإن كان قد تلاشى ذلك فيها نتيجة التطور المرحلى إلى تلخيص الاشكال والتقليل فيها فى وسط عندما يخلو نتيجة ذلك تدب فى أرجائه نسمة هواء تنفخ فى الأشياء حركة توقظها من سباتها .. وتجرفها ببطء هامس .
- ويفضى التدرج اللونى من القاتم إلى الفاتح مرورا بعشرات الدرجات اللونية فى اللوحة الواحدة إلى تحقيق التنغيم الحركى فى اللوحة ، وما أشبه هذه التنغيمات بما يؤديه العازف الماهر على آلتى القانون والعود الشرقيتين ويساعد وضع اللون الأبيض ، والأبيض فقط ، على مساحات محدودة من اللوحة بعد رسم مفرداتها رسما متأنيا تحت هذا اللون الأبيض ، على زيادة السلم اللونى تدرجا من أقصى القاتم إلى أقصى الفاتح ، وأنه ليس منكورا على الإطلاق أن لأعمال حسن غنيم موسيقية أقرب إلى الغناء الشرقى .
بقلم : د./ نعيم عطية
مجلة: إبداع (العدد 9) سبتمبر 1987
الفنان حسن غنيم ( 1948 ).. الرسم بالنور والظلال
- عبر رحلة طويلة بحثا فى لغة النور والشكل واللون والأطياف المجنحة فى جو الحياة الروحية / الإسلامية بمدينة دسوق ، أصبح للفنان حسن غنيم عالمه الفنى المتفرد ، يهيم بين أرض الواقع وسماء العشق الصوفى ، فعناصره الفنية يستمدها من أشكال المشربيات العربية وقباب المساجد وأهلة المآذن وبيارق الطرق الصوفية ، لكن هذه العناصر تتخلص فوق سطوح لوحاته من ثقلها المادى وصلابتها الواقعية ، وتتحول إلى رؤى طيفية كالسراب أو الأحلام ، وهى تذوب وتتلاشى فى نهر النور المصفى كأصداء ألحان موسيقية تأتى من أزمان سحيقة ، وتترسب فى أعماق المشاهد معانى روحانية هادية ، تعلو فوق ضجيج المدينة وصراعات الواقع .
- يزاوج غنيم فى أسلوبه بين التجسيبم الأسطوانى للأشكال ، وبما يصل إليه علم المنظور الهندسى من امتداد فى البعد الثالث ، وبين التسطيح التجريدى للعناصر ذات الأصل الواقعى ؛ من عمارة أو مواد صلبة ذات ثبات على الأرض ، ونجد هذه الإزدواجية الأسلوبية أيضا فى استخدامه للعناصر التشخيصية والتجريدية بأسلوب زخرفى حينا ، وبأسلوب تعبيرى فلسفى حينا آخر، بل كثيرا ما يتحد الأسلوبان فى اللوحة الواحدة ، فنراها فى إطارها الخارجى قائمة على تكرار وحدة زخرفية مسطحة من عناصر المشربية تتردد بشكل منتظم ، متوازية مع الأضلاع المتساوية لمربع اللوحة ، فإذا إنتقلنا من الإطار الزخرفى إلى داخل اللوحة وجدناها متضمنة عناصر مجسمة ، يسقط عليها الضوء من جهة معلومة ويلقى بظلها بوضوح إلى جوارها، فتوحى بمعان رمزية أو بتأملات روحية وفلسفية .
- لكننا مع ذلك لا نشعر بتناقض بين الأسلوبين ، مثلما لم يكن هناك تناقض لدى الفنان الإسلامى القديم الذى كان يوظف المشربية فى العمارة توظيفا مزدوجا ، بين الستار الذى يخفى ماوراءه ويشف الرؤية أمام من بداخل المكان وبين امتصاص حدة الضوء المندفع عبر ثقوبها التى تشبه ستائر الدنتلا فوق النوافذ والفتحات ... هكذا تعمل لوحات حسن غنيم على تصفية حواسنا بمصفاة بالغة النعومة والرهافة ، وأن يهدهدنا على بساط النور الرائق ويرتفع بنا فوق العالم الملموس .
- ويقوم الضوء بدور المولد للحركة المتجددة فوق سطوح لوحات حسن ، التى تمتلىء بأشكال هندسية رتيبة ساكنة ، فيجعلها هذا المولد أقرب إلى حركة الشهيق والزفير، ويبدو هذا الضوء كما لو كنا نراه من خلف ستارة حريرية تجعله يومض ويخبو محفوفا بالضباب ، مايخفف كثيرا من جهامة القباب والمبانى المعمارية الثقيلة المتزاحمة ، ويقلل من واقعيتها التسجيلية ، ويحولها إلى أصداء غامضة تسرى فى الوجود مثل تكبيرات الأذان وأصوات الذاكرين .
- ويتخذ الضوء فى بعض لوحات غنيم مظهرا محسوسا عبر أشكال خاصة بعيدا عن العناصر المادية المجسمة على سطح اللوحة ، وذلك حين نراه آتيا عبر الفضاء كأسراب من الفراشات المضيئة فى إندفاع مائل نحو بؤرة اللوحة ، موحياً بالرايات الحريرية الهفهافة أو نورانية غامضة ... هنا يبلغ الفنان ذروة التوحد مع الوجود ، حيث تأتى أطياف النور مثل إشراقات الصوفيين ، إذ تتوحد أرواحهم مع مع الخالق والكون كله .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|