حامد محمد حامد ندا
- الفنان حامد ندا بدأ فى تصوير عالمه مقتربًا من عالم الجزار ورأى فى المشعوذين والزار بداية قوية جذبته بشدة نحو قهوة المجاذيب وعالم المشعوذين بذقونهم الطويلة وملابسهم الغريبة. لقد كان هذا العالم الذى يدور فى نطاق (اللاعقل) هو النقيض لديناميكية الفكر الإنسانى العقلانى الذى اطلع عليه فى الكتب الأدبية والفلسفية لنيتشه وفرويد وبيتهوفن والمفكرين المصريين مثل طه حسين وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
- كان هذا العالم النقيض (اللاعقلى) هو المثير الكبير عند حامد ندا فانه ببساطه قد استطاع عن طريق هذه النقيضين أن يكون رؤيته الخاصة ووسيلته فى ذلك هو سطح اللوحات.
-عرفت لوحاته بداية عالم المشعوذين والأفاقين وعبر عنه إلى أن سافر إلى ينبوع الفن الراقى فى الأقصر وهناك التقى مع فكرة البعدين والاستغناء عن البعد الثالث وبدأ فى رسم أشكاله بطريقة مسطحة لا تحتاج إلى التجسيم الخفيف الذى لا يظهر فى شكل جاد وبدأ ينثر على لوحاته الألوان بطريقة عفوية.
- وقد كشف فى لوحاته عن سيطرة الجنس فى عالم الحياة الشعبية وعالم الخرافات التى يعيشونها فى الأحياء الفقيرة فصور العجز فى جميع لوحاته فى صورة الرجل بينما صور الحيوية والتفجر والإمتلاء فى صورة المرأة ومن خلال علاقتهما ببعض نسب لندا معظم لوحاته.
- لقد كان عالم الاحتفالات الشعبية هو المضمار الذى يتبارى فى إظهاره ولكن ليس على صورة الواقع ولكنه صنع منه نسيجًا خاصًا محورًا وتكسرًا أو مشوهًا كيفما تقوده حريته فى التعبير وفى النهاية كانت تبدو لوحاته مثل حائط قديم متهرئ رسمت عليه الموتيفات متناثرة ومتآكلة بفعل الزمن .
- أخذت أعمال ندا فكرة التسلل الغريزى كى يسهل عملية التخاطب بينه وبين المتلقى. شئ أخر تأثر به ندا وهو الفن البدائى على جدران الكهوف فقد حاول الاقتراب منه بشدة وهذا ما يبرر عدم منطقية الحركة أو المنظور أو الأشكال السابحة فى اللوحة.
- ولندا عالمه الخاص وهو عالم الوعى والثقافة والفكر المستنير وعالم الفن الذى يحلق نحو الممكنات وعالم النقد من أجل انسان أفضل، وعالم أكثر انسانية.وكان فكرة منصب حول مصر ومن أجلها .. ترك لنا تراث فنى عظيم.
مكرم حنين
- مرت ذكرى رحيله - مايو الماضى- دون أن يتذكرة أحد، ورغم أنه يعد أحد عمداء الحركة الفنية التشكيلية المعاصرة .. لايزال حقه مهضوماً . - لقد أثرى حامد ندا - على مدى 40 عاماً - فن التصوير بإبداعاته وتميزه الفنى مؤكداً فى أعماله على الهوية القومية الطابع فى مجال التصوير . - برحيله افتقدته الحركة التشكيلية وافتقدت عالمه الأسطورى الساحر .. وافتقدت ( الديك ) وأحلام الأحياء الشعبية التى انحاز إليها يصور ويخرج أعماقها وخيالات الفقراء من أهله .. وبغيابه وغياب إبداعاته عن دائرة الضوء مازلنا نفتقده . - وربما جاء كتاب ( حامدا ندا .. نجم الفن المعاصر ) الصادر عن الدار المصرية اللبنانية للناقد د. صبحى الشارونى ليرد للفنان الراحل بعضاً من حقه . - الكتاب يضم 12 صفحة بالألوان من الحجم الكبير باللغتين العربية والإنجليزية وبه 130 صورة تجسد رحلة الفنان الراحل . - جدير بالذكر أن ( حامد ندا .. نجم الفن المعاصر ) هو الكتاب الثامن فى سلسلة كتب الفنون الجميلة التى يقدمها الدكتور صبحى الشارونى . - ولد الفنان حامد ندا بشارع ( التلول ) بحى القلعة أعرق أحياء القاهرة فى يوم 19 نوفمبر عام 1924. عاش صباه فى قصر جده ( بالبغالة ) وفى الحى القديم عاش طفولته الأولى فى عالم ساحر خاص يسيطر على أبنائه الفقر والخرافات والدجل والشعوذه ومن ثم جاءت رسوماته معبره عن الانسان المثقل بملامح الإحباط والاستسلام للخرافات والمجهول .. ذلك الإنسان المأساوى الذى نراه فى كل أعمال حامدا ندا فى فترة الأربعينات . - شكلت طفولة حامد ندا جزءاً كبيراً من عالمه الفنى لكن كان لقراءاته فى المراحل الدراسية .. والثانوية على وجه خاص دور كبير فى تشكيل وعيه الفكرى والفنى.. ويمكننا تصنيف المراحل التى مر بها أولها : مرحلة الاربعينات التى عبرت عن ثقله الفنى والفلسفى تجاه نقد المجتمع بسلبياته وشخوصه المستغرقين فى أحلام اليقظة لذلك جاءت رؤيته الأولى رؤية نقدية لازعة سوداوية ولكن فيها بصيص من الأمل.. وقد انعكس هذا الأمل من خلال رسومات الخلفيات فى لوحات المرحلة الأولى، فرغم ملامح شخوص مرحلته الأولى بصمودها الاستاتيكى كأنها تماثيل حجرية تتألم فى صمت مهيب تغلفها نزعه تشاؤمية إلا أنه كان هناك أمل مافقد كان يعمل على تجسيم شخوصة بقوة ليؤكد وجودها . - ومن أبرز أعمال هذه المرحلة لوحة ( داخل المقهى عام 1948 ) ولوحة ( رقاد القط عام 1948 ) ( والمتعبد والسحلية 1947 )، ( والقبقاب 1947 ) ( والدراويش 1947 ) ( والعصافير 1948 ) . - أما المرحلة الثانية فكانت فى الخمسينيات وتحديداً بعد تخرجه من الكلية الملكية للفنون الجميلة فمع انضمامه للجمعية الأدبية المصرية التى كانت تضم بين محرريها د. طه حسين، د. سهير القلماوى ، د. عز الدين اسماعيل والشاعر صلاح عبد الصبور - حدث لشخوص حامد ندا الكثير من التغير بعيداً عن التجسيم النحتى الذى التزم به فى الأربعينات ، كما تأكد لديه أن الفراغ يجب أن يكون على نفس الأهمية كالشكل تماماً وفى هذا كان يتحتم عليه أحياناً أن يميز الفراغ بلون أكثر تبايناً من الخلفية . - وفى هذه المرحلة خرج حامد ندا إلى اتجاه أكثر حرية وأكثر مبالغة فى التعبير عن جسم الإنسان مع التركيز على استطالة بعض الأعضاء عن الأخرى وكانت هذه المرحلة بمثابة رؤية أكثر تحرراً من سالفتها فى إبداع الشكل وفى إدماج العناصر الزخرفية معه بطريقة متوازية فى الكيف.. وفى هذه المرحلة ظهر بوضوح مدى تأثره بالتراث المصرى القديم كشكل ولون فرسوماته أصبحت وكأنها إمتداد طبيعى للرسوم الحائطية الفرعونية بألوانها وحركاتها الجانبية المسطحة ومن أبرز أعمال تلك الفترة لوحات (الحصان الأزرق 1958 ) ( والجزيرة القائمة ) ( والحزن والفرح 1955 ) و( الفتاه والسمك 1955 ) ( وحديث المحبين 1955 ) و ( أنشودة الصباح 1956 ) ( والفجر 1958 ) و ( الليل والنهار 1960 ) . - وفى الستينيات تنوعت العناصر فكانت هناك اهتمامات أخرى للحيوان كالقط والسلحفاة وأيضاً المراكب والشموس والأقمار وأخذ الشكل الرمزى الذى يحتوى كمًا من المعانى يتجه للمعانى المبهمة ، وفى نفس الوقت أطلق أفكاراً سياسية، ولكن اللون الرمادى كان ملازماً فى غالبية أعمال الفنان وقد يكون نتيجة تأثره بالثورة الصناعية أو الجو الرمادى العام الذى سيطر على العالم من حولنا فكانت لوحات إفريقيا والاستعمار 1963 وكينيا والاستعمار ثم هيروشيما . - أما مرحلة السبعينات وتحديداً مع بداية 1972 بدأت مرحلة أخرى اعتمدت على المساحات الصغيرة 20 × 20 سم رسم فيها ما لايقل عن مائة وثمانين لوحة من الحجم الصغير وما بعد 1973 وعادت الموضوعات العامة إلى لوحاته بعيداً عن لوحات للاستعمار والسياسة وقد يرجع ذلك إلى إحساسه بالإستقرار فأنجز لوحة صندوق الدنيا 76 وعادت الألوان أكثر مرحاً وصفاء. وظهرت لوحات الحصان والقمر 1974 ومسيرة التعمير وغيرها . - وفى أواتخر السبعينيات وأوائل الثمانينات يعود حامد ندا مرة أخرى إلى الأسلوب التراجيدى الواضح وأحياناً التهكمى لمظاهر الحياة متعمداً على رؤيته السريالية التى تميز بها منذ البداية .. وظهرت فى أعماله استعارات تشبيهية كالإنسان فى صورة حيوان مصوغاً صياغة سيريالية أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، وكذلك بالألوان الغريبة عن نظائرها بالطبيعة ولاتمت بأية صلة بحياتنا اليومية.. وهذه المرحلة مميزة تهبنا المدلول التهكمى أحياناً والمأساوى أحياناً أخرى، وفى خلفيات اللوحة وفراغاتها تنتشر أشكال تجريدية مبهمة زرقاوية أحياناً رمادية أو درجات مخففة من الأبيض المشوب بالأحمر القرمزى أو البنى أحياناً أخرى ، تنم عن انفعالات وأحاسيس غير مدركة ولاملموسة. - يتناول كتاب (حامد ندا.. نجم الفن المعاصر ) المراحل الفنية للراحل حامد ندا بمزيد من التفصيل تحت عناوين ( جماعة الفن المعاصر ) و ( كلية الفنون الجميلة ) والتجسيم والتكتيل و ( موقف ندا من الحياة الشعبية ) والطريق إلى الشهرة ومن التجسيم إلى التسطيح و ( الانفتاح الاقتصادى ) وعناصر الغرابة فى لوحات ندا و ( الإشارات الجنسية فى لوحات الفنان ) و ( لوحات مرتفعة الصوت ) و ( موت حامد ندا ) . - ورغم أن كتاب الشارونى الجديد يسد فراغاً واضحاً فى المكتبة العربية لاتزال إبداعات حامد ندا فى حاجة إلى المزيد من إلقاء الضوء .
خالد يوسف
الموقف العربى يونيو 2010
- الفنان حامد ندا أحد عمداء الحركة الفنية التشكيلية المعاصرة وعلى مدى 40 عامًا أثرى فن التصوير بإبدعاته وتميزة الفنى مؤكدًا فى أعماله على الهوية القومية الطابع فى مجال التصوير فما زالت بصماته وأثرة واضحًا.وقد افتقدته الحركة التشكيلية وافتقدت عالمة الأسطورى الساحر.. وافتقدت الديك وأحلام الأحياء الشعبية والشعوذة التى انحاز إليها يصور ويخرج أعماقها وخيالات الفقراء من أهله. فهو من مواليد حى القلعة أعرق أحياء القاهرة ليعبر عن تاريخ بلده وناسه. ما أجم وأروع اختيار عناصرة وتوظيفها فى عمله السيريالى الذى حمل عبق التاريخ وقومية الأرض والإتجاه.. تشم من خلال أعماله رائحة مصر العتيقة.. الجدران الرطبة.. وقد كان بجد ممثلاً لفنان الأسطورة المصرية الشعبية وخير معبر عنها فى صياغة تشكيلية متميزة للفنان وبه.
محمد سليمه
جريدة الأهرام
- يبدو واضحا تأثره بالتراث المصرى القديم داخل إطار تعبيرى أوضح مقدرته فى التصميم وعلاقات اللون والاداء .
عبد الفتاح الجمل
جريدة المساء - 1963
- ( ندا ) لا يقتبس من الفن الغربى وتعتبر أعماله من وجهة نظر الأوروبى الغربى مزيجاً من الواقعية الشعبية والصوفية .
ديفيليت - ألمانيا الغربية - برلين - مايو 1956
- المتابع للوحات الفنان حامد ندا يلمح لأول وهلة ثبات شخصيته ووضوح الرؤية الفنية أمام عينيه ويلمح الاستقرار الفلسفى التابع من إيمان صاحبه بالأرض التى نشأ فوقها والتاريخ الحضارى العميق الذى يشكلها .
كمال الجويلى
جريدة المساء - يونيو 1965
- أحد الفنانين الأوائل الذين أرسوا أسس التعبير - انشغل فى نهاية الأربعنيات بالتركيز على التقاليد المصرية وكشف النقاب بأسلوب شديد التعبير وملئ بالسخرية عن الغيبيات وحياة المشعوذين .
أحمد فؤاد سليم
جريدة المساء - مايو 1973
حامد ندا .... أسرار الخلق وأيقونات الانتصار
- في ظل عالمنا المفتوح بلا معالم ، المزدحم بلا رواسي ، المنشغل بلا قضايا ، المشوش باهتزازات براقة مغرية كسيولة المعرفة ، وسهولة تدفق المعلومات ، ومقولة الإنسان الكوني الجديد المحايد المتعدد الهوية ، وكوحدة المعرفة الإنسانية وسقوط أقنعة العقائد الماضية ، في ظل كل هذا تبقى مصر منذ فجرها وهي براح المبدعين والمفكرين ومزدهر المواهب والموهوبين ،مصرنا بوتقة تجمع الروافد وتصهر الجواهر في صلب معدنها النبيل الفريد . ومنذ ما اتخذت ٌسنة انفتاحنا على العالم التشكيلي من شرق وغرب وهي ترحب بكل وافد وتستقبل كل جديد في سماحة وسعة مجال ، وأصبح من السهل على أي تجمع أو أي جهة أيا كان أصلها أو تمويلها أو مقاصدها إقامة الأحداث والفعاليات والبيناليات البراقة ذات الجوائز والضيوف من كل حدب وصوب ، حتى لو كان هذا الصوب مكروهاً ملوثاً منبوذا بعار تاريخي لا يمحوه جمال ولا مياه أي بحر : أحمر كان أو أبيض .
- ونحن هنا نقيم حدثاً تشكيلياً مقاوماً للعماء ....للمراوحات ...لفقدان الاتجاه .. نقيم هذا العرس لنتذكر ونذكر أبناءنا بتاريخ النصر والرفعة والنصوع ، بلحظة تعرف الإنسان المصري على ذاته الرفيعة الشجاعة التي تحققت بنصر أكتوبر المجيد .نعرض لأعمال تشكيلية تتغنى بالنصر لنكرس له ،تتغنى بمصر لنتذكرها، تتغنى بالروح الناهضة للإنسان المصري اليقظ المتنبه وليس المشوش المغيب ،في ظل عصر تميع فيه الحقائق وتتداخل الثوابت و تهتز المقدسات . وعلى الرغم أننا لا نجد غزارة في إنتاج الأعمال التشكيلية التي مجدت نصر أكتوبر كما حدث بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام1956 ، لكن من حين إلي آخر كان يظهر في أعمال بعض الفنانين تعبير عن هذا النصر .
- فنرى في ترحالنا التشكيلي الاحتفالي في صباح النصر حامد ندا وقد أبدع لوحته الرائعة في نفس عام الانتصار وهي حصان طروادة مقاس 135×128سم ، أكريليك وزيت على خشب ، متحف الفن الحديث1973 حيث المسطح الغني الذي تسبح فيه أسرار الخلق الأول وآيات الوجود ؛ فالفضاء التشكيلي النشط الموار بالوميض عند حامد ندا هنا ليس سديماً أو عماءً سيميوط يقياً كما قال أستاذنا د.محمد فكري الجزار : إنه - بالأحرى - الأيديولوجيا (السلطة) التي انتخبت ظاهرة أو شيئاً أو صورة مادية أو رمزاً و تناصاً أسطورياً كحصان طروادة ؛ لتلعب دور الدال ، أي لتنظم عالم الفكرة ، هذه الفكرة المتميعة غير المحددة التفاصيل والحدود ، الثرية النابضة الحية بالتشكيل المفتوح الرحيب الذي يحلق بنا صوب المطلق ... حيث يتسع المدى الرحيب بين يدي حامد ندا .. أو ما يصح تسميته ( بالسديم الدلالي ) .الذي يضعنا في إطاره و يشير لنا فنسري معه لنقيم في أذهاننا تلك العلاقة بين الدال - و المدلول ..الذي اختاره لنا باستخدامه أيقونة حصان طروادة كعنوان لعمله التشكيلي و التي كرس فيها لمفهوم الخداع الإستراتيجي للعدو وهو المعنى الذي يستدعيه اسم حصان طروادة فمن الصعب على العدو إصابته لكنه يحتوي في داخله كل أسباب النصر مجللة باسم الله والاستعانة بقوته جل جلاله ، هذا الحصان له صفات تشريحية مغايرة للطبيعة يشبه البراق الذي يظهر في اللوحات والمنتجات الشعبية ،حيث ربط الفنان بين رحلة البراق في الإسراء والمعراج وبين العبور من الهزيمة إلى النصر،والبراق مكتوب على جسمه نص الشهادتين ، ولفظ الجلالة يتكرر في الخلفية بجوار الهلال، شخوص سابحة في الملكوت بلا منتهى : نساء و رجال وأطفال و سمكة فوق رأس الطفل أشكال شبه دائرية تحيط مساحات غير مؤطرة ، ظلال على الأرضية توحي بمصدر الإضاءة ، التفاصيل تتلاشى في العمق، تتناثر العناصر دون تماثل و كأنها أطياف أو رموز تخلت عن ماديتها و لم يبقى سوى النزر اليسير الذي يشير إشارة خفية بليغة إلي كنهها .والخطوط رأسية في معظمها ليست حادة أو منكسرة بل منبسطة في سلاسة و منطقية.
- أما التخطيط فيقسم اللوحة إلي ثلث وثلثين 2:1 وأكبر مساحة تولدت من شكل الحصان محملاً بدلالات دينية أسطورية بها تلخيص شديد هو ما يتميز به أسلوب الفنان فعناصر لوحاته علامات نقية تعطي دلالات مكثفة ، أما اللـون : فدرجات الأزرق الذي يميل إلي الرمادي ، واستخدام اللون الأحمر للفظ الجلالة والشهادتين ، هو لون الدم و الفداء و الحياة الكامنة في حصان طروادة .درجة أصفر فاتح في الأرضية و الظلال ألوان توحي بالقدم و التاريخية كأنها ألوان مخطوط بدائي قديم .
- الضـوء ينبع من خلف العناصر وهو غير محدد المصدر ولكنه يلقى ظلالاً تدل على سقوطه من أعلى اليمين . لا يعطي إحساساً بالتجسيم النحتي ولكنه يوحي إيحاءاً قوياً بالفراغ اللانهائي والامتداد أفقياً إلي نقطة الزوال الأقل إضاءة.والإيقاع الهادئ يتولد من التنوع في المساحات بين عناصر اللوحة ، ومن تكرار اللون الأحمر في نغمات غير صاخبة. كما أقام حامد ندا احتفاليته المبهجة في مصريته ومفرداته التشكيلية ورموزه التي تميز بها في لوحة : `المنتصر` ، زيت على أبلاكاش ، متحف الفن الحديث، 1973 ، وفيها نرى حصان عربي راقص ، مكتوب عليه لفظ المنتصر يمتطيه رجل وامرأة وطفلان : إذن فهي أسرة هي بذرة الحياة على الأرض ، والممسك باللجام طفل ؛ فالفنان يضع القيادة والمستقبل في يد الطفل ، والرجل يمسك بيده طائر ،والمرأة تمسك بيد الرجل ، والطفل الأصغر يجلس بين الرجل والمرأة ويمسك برجل أبيه ، خلفهم يقف شخصان : رجل وامرأة تمسك بيدها اليمنى مفتاح الحياة وباليسرى ثلاث بيضات وهي ملامح تراثية مصرية ، مع لوحة تشبه الصلايه . في الفن المصري القديم مسجل عليها عبارات النصر في أكتوبر 1973 ، في أعلى اللوحة نرى العين والأهرامات الثلاثة وقرص الشمس وشخص يتطلع من وراء السحب عند نهاية الأفق ينادينا بترانيم روح الشهيد ترفرف فوق الفرحين بالنصر . سحب وتهويمات لونية تزيد الجو الأسطوري . مع أولئك الذين يرفعون الورود وأكاليل الغار في خطوط لينة منحنية فيها عضوية وفطرية وتجويد وتلخيص مع إهمال للتفاصيل.
- إن التركيز على دلالة الشكل أو المعاني العامة هو من أهم السمات الأسلوبية التي تميز حامد ندا ، حيث تفقد الملامح خصوصيتها وتتجه إلي المعاني الرئيسة فهذه علامة تدل على الرجل وتلك تدل على المرأة وهكذا تتخلى الأشياء عن ماديتها الشكلية إلى العلامة المميزة أو الدلالة المكثفة البليغة دون إطناب، والمجموعة اللونية السائدة في أعمال ندا توحي بالِقدم وكأنها رسوم الكهوف فيما قبل التاريخ حيث بهتت ألوانها وترسبت على جدرانها الأملاح.
- ومن ثم تظل مخلوقات حامد ندا تهرب من التفسير الواحد الوحيد ، إنها تظل قابلة لتعدد التفسيرات والتأويلات ، وتظل تروغ ، دائماً ، من الأسر في إطار ضيق أو محدد ، إنها تتبخر مثل السراب ، وتتجدد مثل طائر الفينيق الأسطوري على الرغم من أننا نظل ندركها على أنها الواقع ، لكنه يكون الواقع الخاص بها ، كعمل فني ، أكثر من كونها ` الواقع ` كما نعرفه وندركه في حياتنا اليومية العادية.
د.هبة الهوارى
جريدة نهضة مصر - 6 أكتوبر 2011
حين نتعرض لرسوم الفنان `حامد ندا` وتربط بينها وبين فاعليتها فى أعماله التصويرية. نجد أنه من طراز الفنانين الذين يرسمون من الذاكرة معتمد فى ذلك على رصيده من التأملات، وخبرته فى الرسوم الغزيرة التى سجلها دوما من واقع الحياة وخاصة تلك المناظر التى طالما استهوته فى ازقة وحوارى قاهرة المعز.. وتحمل لنا رسومه الأولى عن `الزار` من أوائل الأربعينات تعبيراً مأسوياً فاجعاً عن تلك المخلوقات التى تتسكع حول اضرحة الأولياء، تنام وتأكل وتنغمس فى هيستريا حلقات الذكر، وتفيق صريعة الاجهاد والجوع.. واللامبالاة والاتكال على الله.
كان لرسوم تلك المرحلة التى استمرت بعد تخرجه عام 1951 وحتى عام 1959، أهمية قصوى فى بناء العمل الفنى، بما يفيد الكتلة وما يؤكد المبالغة، بصرف النظر عن انعكاسات الأضواء والظلال ومحاكاة الطبيعة، بمعنى ان رسومه الخطية بوجه خاص كانت اداة للتعبير وفيه يختلف كيانه فى السمك حسب الاحساس التعبيرى، وكانت توجد لديه القدرة على التحكم فى المساحة المراد اشغالها بالتخطيط التلقائى.. واخذ الخط عنده فى فترة ثانية من رسومه كيانا أكثر تبلوراً عما كان عليه وتأكدت الصفة الرئيسية له فى تحديد الشكل تحديداً محكماً، مترجماً الحس المباشر ولكن فى صياغة أفضل مما كان عليه فى المرحلة الأولى فى `الأربعينات`. اتسمت هذه المرحلة برؤية أكثر تحرراً فى التعبير عن جسم الانسان مع التركيز استطالة بعض الأعضاء عن الأخرى، وادماج العناصر الزخرفية مع الاشكال بطريقة موفقة.. وأخذ الفراغ متنفساً له فى لوحاته فقل عدد الرموز الشعبية وأصبحت شخوصه محتوية ذاتها لتلك الرموز.. سادت هذه المرحلة الألوان الطوبية الصافية الساخنة المشوبة أحياناً بزرقة خفيفة، وتعددت درجات الأزرق، وانتشر اللون الأبيض المتعدد الدرجات. ومن أبرز أعمال الفترة لوحات `الحزن والفرح 1955` و`الفتاة والسمكة 1955` و`حديت المحبين 1955`، `انشودة الصباح` و`الفجر` و `فرح عزة 1959`. اتخذت لوحات حامد ندا مساراً مختلفاً منذ أوائل الستينات حيث اختار لغة تشكيلية جديدة مستلهماً اشكال الفن المصرى القديم تارة والفنون الزنجية والبدائية تارة أخرى، ثم اتجه تدريجياً الى فن يشبع المتع الحسية.. فى هذه المرحلة نجد أن العناصر تنوعت وأخذت الشكل الرمزى الذى يحتوى كماً من المعانى يتجه للمعانى المبهمة التى يكتنفها الغموض والشجن.. فالقط والماعز والحمار والانسان القزم كلها مفردات حية ولكل منها معنى ومغزى ووظيفة فى النسيج العام للوحة..
ومابعد عام 1967 ظهر اللون الأبيض الكثيف بدرجاته كأرضيات شاسعة، كذلك الرمادى الساخن والبارد.. وظهر جسم الانسان العارى بكل علاقاته فى الحياة الحسية.. مبلغاً ومحوراً فيه.. مستعيناً بعناصر تشكيلية وحروف وكتابات لشغل الفراغ وحل مساحة التكوين.. من أعمال تلك الفترة `حسن ونعيمة` `وحماها الغزلان 1971`.. وأعمال أخرى..
ومع بداية السبعينات وحتى الثمانينات نجد ان أعمال تلك المرحلة امتداداً شاملاً لكل ماسبق من تجارب تشكيلية مؤكداً فيها ذاته تأكيداً حسياً عاطفياً.. وغلبت على أعماله الاستعارات التشبيهية كالإنسان فى صورة حيوان مصوغ صياغة سيريالية اقرب الى الحلم منه الى الواقع، ومما يزيد من غرابتها الشديدة هو عدم انتمائها الى شىء منطقى اللهم إلا من بعض المفردات الشعبية كقطة أو ديك، أو كرسى.. أو زير.. أو بوق.
يبقى أن نشير إلى أن الرسوم التحضيرية طوال تلك الفترة من عام 1960-1986 لم تجد ترحيباً أو اهتماماً خاصاً من قبل الفنان وهو إذا رسم فرسومه ينهيها فى حينها وتكتسب قيمة الأعمال المنتهية.
أما كيف يعد الفنان لوحاته.. وكيف تتم العملية الابداعية دون تخطيط سابق فهذا ما يوضحه الفنان لى بقوله `إن العناصر تتراكم فى مساحة اللوحة سواء كانت كبيرة أم صغيرة قبل تسجيلها وتخطيطها مع اللوحة.. فهى تعيش أولاً فى خيالى حتى استوعب المساحة استيعاباً فكرياً مصحوباً بعاطفة حسية، وحين انتهى من تثبيتها ذهنياً ابدأ فى اسقاط هذه العلاقات التشكيلية واخضع وعيى الى ذلك الخيال المطلق حتى أكاد أتوه فى العمل الفنى كما لو كنت موجوداً فى عالم آخر مسلوباً لتلك الارادة الواعية ضائعاً فى ذلك الفراغ الهائل غير مبال بنسبية الاشكال مادامت تخدم الخيال والاشكال غالباً ما تكون فى حركة دائمة سواء كانت عناصر انسانية أو حيوانية أو جماد أو اشياء مصنوعة، ثم يأتى مرة أخرى التحكم الواعى لتثبيت هذا الحس فى صورة حساب لعلاقات تلك الاشكال وفراغاتها على أن يكون الفراغ له الأهمية والقيم المادية نفسها لذات الشكل وتنفيذ هذه الحالة بمهارات تكنيكية تخضع دائماً لتلك الرؤى الباهتة حتى تتوالد علاقات قريبة الى الواقع ولكنها غريبة عنه، تحكى ذلك المطلق المبهم، علاقات ما بين القط المندفع وامرأة تستقر على مساحة فى حركة دائمة.. وهنا تعبر المبالغة فى الاحجام عن شيئين مهمين، أولهما الايقاع الرمزى، وثانيهما العمق البصرى، وهو نوع من الخداع يحيل اللوحة الى أبعاد لانهائية لمرئيات مابين الواقع والخيال. وعن أثر بعض المظاهر الطبيعية التى يسجلها فى رسومه من آن لآخر ونلمسها فى أعماله يقول الفنان حامد ندا: `أنا شغوف جداً بالرسم من الطبيعة، وإنما ارجع اليها كى انهل منها برسوم فى غاية الدقة والأمانة، اذا كانت الرؤية مباشرة من الطبيعة.. انى احس ان الطبيعة هى المسيطر الأول، وقد يفسر هذا شغفى بالمناظر التى أقوم برسمها من قاهرة المعز، المنظر يحتوى غالباً على عناصر طبيعية غالباً ماتكون خلفية لموضوع مركب.. وهو يشير دائماً الى الحياة اليومية التى نعيشها داخل هذا المحتوى المركب الذى يلبث أن يترسب فى اللاوعى ويظهر فى علاقاته أقرب الى المحتوى الرمزى الذى يميز أعماله الفنية، ويستطرد `ندا` بقوله ولا غرابة فى هذا حين نعيش وفى داخلنا اسطورة الماضى بتراكيبه يضيف اليها الخيال عالم اقرب الى الحلم ولكن.. حلم يقظة مثير وفى نفسى أحاسيس لشخوص تعيش داخل هذه التراكيب، محشورة فى فراغات ضيقة مظلمة الا من بصيص ضوء يشيع لحظات من البهجة`..
ومازال `ندا` يمضى معطاء غزير الانتاج مجدداً الى أن فاضت روحه إلى خالقها عام 1990`.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
- ولد حامد ندا فى نوفمبر عام 1924 بالقاهرة والتحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا عام 1946 وحتى 1951 حيث قدم مشروع التخرج عن عالم الزار والشعوذه، وبعد تخرجه عمل مدرسا للرسم بالتعليم العام حتى عام 1955 ، ثم التحق بمرسم الأقصر عام 1957 وفى نفس العام عين مدرساً بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. وحصل على بعثة قضاها بأكاديمية ` سان فرناندو` للفنون الجميلة فى مدريد أسبانيا، عام 1962 وعند عودته عين مدرساً بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة حيث واصل التدريس به حتى وفاته عام 1990 .
- يعد حامد ندا علامة فى الفن المصرى المعاصر، منذ ان اكتشفه المربى حسين يوسف أمين مع زملائه الجزار وسمير رافع وغيرهم، وكون بهم جماعة الفن المعاصر فى الاربعينيات، التى مثلث حركة أتسمت بالتمرد على الأكاديمية والشكلية والتأثيرية من ناحية، وغاصت فى صميم الأحياء والحياة الشعبية.
- ولد فى حى القلعة ثم عاش فى حى البغاله وكان يزور قهوة المجاذيب فى حارة الميضه خلف مقام السيدة زينب ليشاهد محاسيب الست والمشعوذين ، ورسمه لوحات السيرة الشعبية وفنانو الوشم الذين كانوا منتشرين فى هذا الحى، وكانو يدعو زملائه الجزار وسمير رافع واستاذهم حسين يوسف أمين إلى هذا المكان.
- وقد بدأ حامد ندا كفنان سيريالى توازت تجربته فى هذه المرحلة مع عبد الهادى الجزار وسمير رافع ومع فؤاد كامل ورمسيس يونان، فى هذه المرحلة هيمنت على أعمال الفنان رموز داله على الجدب والبأس والخواء والعدم، بشر وحيوانات وسحالى وقطط تكوموا هامدين بلا إرادة مع أزيار خاوية من الماء ، والعناصر مشحونة داخل حجرات كالزنزانات ، تزاحمهم مقاعد المقاهى الخشنة ولمبة الغاز والقبقاب الخشبى والنوافذ الموصودة، موضوعات لوحاته دالة على محتواها- الألم- المجذوب- قراءة الطالع- رقاد القط . وفرح عزة.
- ثم طراً تحول كبير فى أسلوبه الفنى حيث تخلى عن زوايا الرؤية المنظورية، وعن حالة الخمول والبلادة التى ميزت عناصره فى الفترة السريالية التعبيرية الأولى، وأصبحت لوحاته ثنائية الأبعاد وتحررت عناصره من أثر المغناطيسية الأرضية فحلقت فى فضاء اللوحات بحيوية تداعت فى وجدان ندا عوامل عديدة فى هذه المرحلة، احساسه بحرية الإنسان المصرى الذى حررته الثورة من قيوده، ومشاعره نحو الذات القومية وعطائها المصرى القديم والأفريقى، والإسلامى والشعبى وتقديره لقطرة فنون الأطفال وطاقتهم التعبيرية المتحررة. وكان حامد ندا هو المحرك لزملائه من أعضاء جماعة الفن المعاصر، ليعايشوا الطبقات المطحونة من الشعب المصرى بحى السيدة زينب حيث كان يقيم، شاهدوا معه، وعبروا عن حلقات الذكر، وحضرات الزار والمجاذيب.
- كان يعيش عالماً هيمنت عليه الميتافيزيقا، وتدريجياً زحفت على لوحاته المسوخ المهجنة سماكا طائرة وكباشاً بأجساد أدمية وطيوراً أسطورية. وديكة متاًهبة لصياح لا ينقطع وقططاً زاحفة تاره، رابضة تارة أخرى، مع مقاعد المقاهى والحناطير والنعوش والجرامافونات والبيانولا، وأباجورة الإضاءة الحديثة وساعات البندول الكبيرة وألات موسيقى النفخ، يعزف عليها حيوانات مهجنة من الخيول والثيران وزواحف عجيبة ، مستعيدا الرسوم الهزلية فى الفن المصرى القديم ، والفن القبطى التى تصور الحيوانات تقوم بادوار بشرية أما أحوال البشر فى لوحاته فهى متقلبة جانبية كالسيلويت، أو عرائس خيال تنتفخ وتستدق أطرافها وأعضائها بصور غير متوقعة، وتلتف وتتقوس بعكس قوانين التشريح، قدرية، مأساوية، ساخرة، وضائعة، سواء كانوا فى قضاء غامض أو صحراء شاسعة أو على بلاج الشاطئ الصاخب، نسوة عفيفات وأخريات ساقطات متبجحات الشهوة.
- أجواء مفرغة الهواء محررة من الجاذبية تطفوا فيها الكائنات والمخلوقات من مساقط رؤية ومسافات متباينة، كأنها مسودات أحلام كابوسية، مع تصاعد اتجاه أرابيسكى فى زركشة الخلفيات وتطعيم الأرضيات برقاع شطرنجية دقيقة وتمويهات لونية شاعرية، تنهض من أطرافها هيئات وحشية تخالط الأحياء وتصارعهم.
- وحامد ندا صاحب وعى وحس مرهف لمصير الوطن، وقد فسر هذه الزاوية بتعمق الناقدان أحمد فؤاد سليم ونعيم عطية.
- فى لوحاته تشعر أن المكان المصور كان حفلا لجلبة وحركة، إعتركته الأقدام وعجلات الكارو والحناطير والدواب، وهامت فى قضائه كائنات اسطورية مركبة، وشخوص متيبسة وأخرى بصفة منتفخة بالحياة والحيوية والصخب، الذى يكثفه أدوات العزف النحاسية والمزامير والطبول والبيانولا، وصندوق الدنيا وصياح الباعة الجائلين، مع إرهاصات من خيال الظل، يطوف فى تلك الفراغات أهل البركة مع ذوات الحسن والفجور، المجاذيب والمشردين، مع رموز إحتلت مكانة مركزية فى أعمال محمود سعيد كالقط ولكنه هنا فى أعماله متاهب متلوى، والزواحف والديك والتمساح والمحار، وعناصر جامدة كقلة السبوع والزير ولمبة الجاز ومقاعد المقاهى الغليظة القصيرة، والعبارات المكتوبة. وهى عناصر حركها العديد من فنانى جيله ولكن أعظم ما فى حامد ندا كمصور، هو سجيته فى توزيع ذلك الرهط من العناصر، والمؤثرات التراثية، من رسوم الكهوف إلى خيال الظل إلى رسوم الفروسية، إلى التراث المصرى القديم، والأرابيسكات الزخرفية ، بصورة منثورة وأحيانا مبعثرة، ولكنه يسيطر باستاذية المتمكن على توازن وايقاع ووحدة العمل الفنى.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
من كتاب حامد ندا رائد السيريالية الشعبية
- يعد الفنان ` حامد ندا ` ، واحداً من أهم أبناء جيل الوسط فى الحركة التشكيلية المصرية، ذلك الجيل الذى يمتد عطاؤه بداية من نهاية الثلاثينات، وتبلورت الرؤية لدى أهم فرسانه فى منتصف الخمسينات.
- والفنان ` حامد ندا ` على رأس المغامرين الأشداء، حيث يجمع ما بين التحرر والوعى فى حوار حميم، تتحول وفقه الحياة بكل مفرداتها وعناصرها إلى روافد للرؤية، هضم فيها نتاجات الأسلاف الأولية الثرية، واستوعب كذلك إيقاع العصر، واستشعر معطياته مبلوراً ذلك التصور الواقع لمدن أشبه بمدن الحب النابضة بالحب، فاللمسة لدية لا تفرض على السطح وإنما تأتى أولاً من داخله، عبر أدواته كارتعاشات النبض، لتنتشر هكذا على السطح، مستمرة أو دائرة مولدة لهيئات، يتساوى فيها أن تكون تصويراً لامرأة أو قطة أو سمكة لأنها رموز وحسب، تحمل وتحتمل، ذلك الفوران الإنسانى حريف النكهة لدية، بحيث لا نستطيع أن نتبين ما إذا كان يرسم، أو يرقص فرحاً أو يصرخ غضباً، لأن الأمر هنا هو خلق لحالة شديدة الغنى متسقة ومضبوطة، ومعبرة فى صدق عن رؤى هى خليط من الواقع والحلم والتمنى، كوثيقة بينة شاهدة على العصر.
بقلم : د. فاروق بسيونى
من كتاب حامد ندا ـــ رائد السريالية الشعبية
- حفلت لوحات ` حامد ندا ` بمظاهر السحر والدروشة والزار. وامتلأت الملابس والجدران بالرسوم الرمزية وزخارف الوشم على الأيدى الغليظة، مع العناية بالتشريح والظل والنور وإقحام العناصر الغربية مما أضفى على اللوحات طابعاً سريالياً ظل يصاحبه، بعد أن انتقل إلى تشكيلاتة الحديثة التى لا يعتمد فيها على أفكار مسبقة، بلا عنوان أو موضوع، يدفعه شعور مبهم إلى قماش اللوحة فيضع عليها عنصراً ما امرأة أو قطاً أو ساعة حائط أو عصفوراً، وغالباً ما يتصور نفسه متقمصاً شكل قط أو عصفور، ديك أو حصان، ثم تتوالى العناصر بلا علاقات منطقية مع واقع الحال وهى صور أقرب إلى الكوابيس تتسم بالشاعرية والطرافة والرهبة.
- وهى أيضاً تجسيد لخيالات ذاتية مستقرة فى أعماقة قد لا يتبينها قبل أن تبدو لعينيه على القماش ثمة علاقة بين عناصره والطبيعة لكنها تفتقد المنطق، كائنات غريبة وإن كانت ذات صبغة بشرية أو حيوانية، حتى الأشياء، غريبة فقد نلتقى بمقعد مسنده يرتفع إلى أضعاف ما ينبغى أن يكون وقاعدته فارغة كالطوق، يقف على حافتها عصفور نستطيع أن نلتمس تفسيراً لمثل هذه التكوينات اللامعقولة فى ضوء أفكار سيجموند فرويد عن العقل الباطن، خاصة فى لوحته الشهيرة التى يصور فيها فتاة عارية على ظهر حصان يسابق الريح أو الأخرى التى تصور الحصان يراقص الفتاة أو الثور والفتاة، أو الديك والفتاة. كل هذه التكوينات التى يحجم الفنان عن تفسيرها لها مدلولات عاطفية إنسانية وهى فى هذا الإطار تنأى عن الصفة المحلية وموضوعات يعبر عنها بحرية وصدق عبر لوحاته المثيرة. وهو بذلك يعود من حيث بدأ إلى ` السريالية `، ولكن فى المستوى الفردى والمشاعر الذاتية، قد يتأمل القماش الفارغ لأيام ثم يستيقظ قبيل الفجر ليخط رموزه ويجسد أحلامه.
- هذه الذاتية وهذا الصدق للتعبير عنها، وتلك الخبرة الطويلة والمعارف الموسوعية هى التى تهز مشاعر المتلقى وتخاطب أعماقه الفطرية النقية وتدفع بالصور جزافاً إلى مخيلته إنها لوحات تشبه الكتابات السحرية وتثير الهواجس فى نفس المتلقى وتستنفر الأفكار.
بقلم : د. مختار العطار
من كتاب حامد ندا رائد السريالية الشعبية
- يمكن التعرف على ` حامد ندا ` بسهولة عندما نجد فنانين كثيرين من الأجيال التالية، متأثرين ـــ إلى حد بعيد بأسلوبه، وعندما أقول أسلوبه، فلا أعنى أسلوبه فقط وعندما أتكلم عن ` حامد ندا ` فلا يمكن أن أتجاهل ` الجزار `، لأن ` عبد الهادى الجزار` و ` حامد ندا ` وجهان لعملة واحدة، وإن اختلفا، فهناك علاقة شديدة فنياً، وقد أثرا ـــ معاً ـــ على كثير من الفنانين، بسبب انتشار أسلوبهما بين الأجيال الفنية.
- وعلاقة ` ندا ` بــ ` الجزار ` أشبه بعلاقة بيكاسو وبراك فى التكعيبية، كل ما فى الأمر أن الجزار مات مبكراً، ثم أتيح لــ ` حامد ندا ` أن يضيف خبرات أخرى لم تتح للجزار بسبب موته، هذا بالإضافة إلى أنهما افترقا لفترة، وإن كانت هناك روح عامة تحكم أسلوب الاثنين، إلا أن هناك خلافات جذرية بينهما، وأرى أن جانب الطرافة والدهشة فى ` ندا ` يواجه جانباً مختلفاً عند ` الجزار `.
- إن موقف ` حامد ندا ` من المتغيرات الاجتماعية والسياسية غير مميز، وغير واضح المعالم، وغير مؤسس تأسيساً قوياً، فنجده فترة يسير على منجزات الثورة، ثم تغيرت اتجاهاته تماماً فيما بعد، وأنا لا أعول كثيراً على دوره السياسى، الاجتماعى ولكن أعول كثيراً على دوره الفنى، فهو كفنان يمتلك أدواته، حتى عندما تعامل مع مفردات البيئة الشعبية قام بتوظيفها من الجانب الفنى أكثر من استخدامها إظهاراً لموقف فكرى أو اجتماعى أو سياسى .
- وأعمال ` حامد ندا ` تحمل الكثير من التأويل حين ننظر إلى أساليبه وتقنياته المتبعة فى أعماله، وكانت عديدة ، والجانب الآخر. وهو مهم جداً، أنه من الخطأ الشديد أن نتمسك بضرورة تصنيف كل فنان، تحت إطار مدرسة معينه، فالمدارس نشأت بملابسات معينة ومن الصعوبة أن نحدد مدرسة كل فنان على حدة، لأن هذا فيه تجاهل لخبرات بشرية مضطردة حتى بعد تأسيس هذه المدارس، ومن الصعب أن نجد فناناً نطابقه على مدرسة معينه ، ولكن من الممكن إجرائياً أن نصف مناخاً عاماً لعمل فنى، أو أسلوباً غالباً على أعماله، وعندما نقول إن ` حامد ندا ` سريالى، فهذا الكلام يعد صواباً وخطأ فى الوقت ذاته، لأنه استقى واستوعب أساليب متعددة ثم خرج بالطريقة المتميز بها، وهذا ما فعله فى هذا الجانب، وليس من الصحيح إخضاعه لأسلوب فنى بطريقة جامدة، فهو فطرى وصادق، والإطار العام الذى يتحرك فيه ليس جامداً، بل به شئ من المرونة.
- إنه فنان سريالى إذا جازت التسمية إجرائياً، بمعنى أن ` حامد ندا ` فى معاملاته اللونية وضربات فرشاته والتقنية، نراها تعبيرية، وليس وصفية، فمن ناحية مفرداته وعلاقاته ببعضها البعض، نراها غير واقعية ، ومن ناحية طبيعية هذه المفردات نجد كثيراً منها: مفردات شعبية، مثل الزير، القبقاب، الديك.. الخ. ومن ناحية تحليلية للأجسام الآدمية نجد فيها أثراً واضحاً جداً لفنون الكهوف، وأحياناً الفن الزنجى وأيضاً نجد ــــ فى أعماله المبكرة والتى استمرت إلى فترة الوصفيات الفرعونية، وأعماله فى الستينات وأشهرها( لوحة الحصاد ) بها وصفية فرعونية فهو قد استخدم المنظور الهندسى الذى لجأ إليه الفراعنة والمعتمد على تعدد المستويات حتى عندما نقول ( السريالية ) فهى سريالية مختلفة فنجد ـــ فقط ـــ المعنى الأول للسريالية، وليس تفرعاتها، فسريالية ` ندا ` ليست كسريالية ( سلفادور دالى). لأن مخزون اللاشعور عند ` حامد ندا ` يختلف عن مخزون اللاشعور عند الفنان الأوروبى، وإن كانت الآليات واحدة، ولكن التعامل مع المخزون مختلف.
- ولاشك أن الجماعات الفنية لها دور فى تاريخ الفكر بصفة عامة، وأعول كثيراً على جماعات الأربعينات من ناحية تحريك الفكر، فمثلاً ` جماعة الفن المعاصر ` والتى كان ` حامد ندا ` واحداً من أعضائها، لن أعطيها بعداً جديداً، أكثر من بعدها التاريخى الريادى فقد كانوا إرهاصاً لما حدث بعد ذلك، ولكن إنجازاتهم ـــ فى حد ذاتها لاتعد أمراً مهماً، خاصة وأنهم كانوا جماعة صغيرة السن جداً، وكان مفكر الجماعة ورأسها ` حسين يوسف أمين ` وأشك كثيراً فى درجة استيعاب شباب الجماعة. فى ذلك السن. لفكر وهدف جماعة الفن المعاصر، إلا فيما يخص مسألة التغيير، كونه طموحاً، ولكن إنجازهم الفنى فرادى كان أكبر كثيراً من فكر الجماعة ، وفى رأيى الخاص أن ` حامد ندا` من الفنانين القلائل الذين تفجرت قدراتهم الإبداعية وبرزت مع تقدمه فى السن وليس العكس، وبالتحديد مع تصاعد حالة الصمم التى أصابته منذ السبعينات.
بقلم : د. وجيه وهبه
من كتاب حامد ندا رائد السريالية الشعبية
- هناك فنان له طرق فنية خاصة بمعنى أنه يملك أسلوباً معيناً لمعالجة العناصر الفنية، وحامد ندا تميز بأنه استطاع إقامة صيغ جمالية من عناصر متداولة: عمل لها معالجات خاصة، تكوينات خاصة، هذه العناصر صب عليها فكره الفنى والجزء الكبير الذى يربط هذه المفردات ببعضها فيه حلم، وهذا ما جعل البعض يقول إنه فنان سريالى، لأنه يقوم بتركيب العناصر تركيباً غير واقعى، لا يهتم بالبعد والقرب بالمعنى الأكاديمى، ولا يهتم بالعناصر الأمامية والخلفية بالمعنى الأكاديمى- أيضاً- لكنه يرمى العناصر بطريقة تتسم بالحرية وبقدر كبير جداً من الخيال، وفى تاريخ مصر القديم توجد (سريالية)، فعلى سبيل المثال، ( أبو الهول) فيه قدر كبير من السريالية:( جسد حيوان ــ وجه إنسان ) والمقابر المصرية فيها الكثير من الرسوم التى تقدم تحركات الشمس والقمر وكلها عناصر فيها قدر من السريالية، إذن ` حامد ندا ` ليس تابعاً للسريالية الأوروبية، ولكنه يتبع المدرسة المصرية القديمة، وهو قريب منها، وقريب من عناصرها المستخدمة، هو اعتمد على ( الخيال) وكثير من الفنون حتى التجريدية فيها (خيال)، السريالية تعنى أن هناك منظوراً غير واقعى، ترتيب العناصر غير واقعى، وأى عمل فنى فيه قدر من السريالية ، من الخيال، وعند ` حامد ندا` يوجد هذا ولكن بقدر أكبر.
- ولم تجئ ` جماعة المحور` لأسباب تناقض ما كان يفعله ` حامد ندا` لأن الأسباب الرئيسية التى بنت عليها ( جماعة المحور) رسالتها هى أن تقيم نوعاً من البيئة الثقافية التى تساهم وتشجع عملية الإبداع، ولكن الهدف الرئيسى هو أن الحركة الفنية فى السبعينات كان قد حدث لها نوع من الركود النسبى، ولذلك قامت ( جامعة المحور) عام 1981، وكانت تضم ( النشارـــ أحمد نوارـــ فرغلى عبد الحفيظ ــــ الرزاز). كان همهم هو : بذر بذور تنشيطية لحركة الإبداع الفنى، وكانت منطلقاتهم فى هذا هى الإجماع حول هذه الفكرة، والشكل الجمالى الذى ظهرت عليه أعمال (جماعة المحور) شكل ممكن أن يكون متطوراً، وممكن أن يكون غريباً على الحركة الفنية المصرية، ولكن الحقيقة : هى أن الناس تتصور أن أى عمل يخالف سطح اللوحة العادى يكون عملاً أوربياً أو مستورداً، ونسوا أن حضارتنا القديمة هى التى طرحت على العالم أساساً ` الأعمال المركبة` ( المعبد المصرى القديم لا يوجد فيه نحت فقط أو تصوير فقط، أو عمارة فقط بل هى تشكيلة متجانسة من العناصر المختلفة التى تتضافر لتشكل الرسالة التى يريد أن يقدمها المعبد عندما تدخله).
- وعمل ( جماعة المحور ) كان شكلاً من هذه الأشكال، يوجد عمل مجسم بعناصر متنوعة ( تماثيل ــ تصوير ـــ شاشات ـــ إضاءة ..) تتضافر لكى تنقل للمشاهد رسالة، على منوالها يدخل المتلقى لكى يجد مخططات ورسائل جديدة، وعلى عكس ما يدعى البعض فى قولهم: إن هذه فنون أوروبية نجد الذين يقولون هذا يقدمون لوحات أوروبية، فلا يوجد فى تاريخ مصر القديم شئ اسمه اللوحة التى تنتقل من مكان إلى مكان، فالفن التشكيلى ـــ فى وقتها ـــ كان منشأة كاملة، هذه المنشأة فيها من كل فروع الفن المختلفة، و(جماعة المحور) حاول أصحابها عمل تكنيك وأشكال جديدة ، هذا الكلام كان يتسق ــــ تماماً مع توجهات ` حامد ندا ` الذى يعد من الفنانين القلائل الذين استطاعوا تحقيق نوع من الإبداعية فى الأسلوب الفنى، وهذا ما سهل له الامتداد، فهو قد احتك مع الفكر الأكاديمى، بالإضافة إلى احتكاكه مع فكر آخر متطور، أو مع مجموعة أخرى من الفنانين فى مصر، ولذلك فـ ` حامد ندا ` فى وسط الفكر المعاصر، استطاع أن يشتق لنفسه طريقاً فيه قدر كبير من الخصوصية، لقد كان فناناً واعياً، لم يكن غارقاً فى تكنيكات أوروبية مثل الكثير من الفنانين، فنان له ملامح وعناصر خاصة، يمكن أن تقترب من الفن الأفريقى أو البدائى فى معالجته للعناصر الآدمية، كانت له عناصر أخرى مثل العناصر الحيوانية ( القطة - الديك .. إلخ)، وعناصر أخرى خاصة بالبيئة الشعبية مثل (الزير، البيوت، الأحياء الشعبية) وكلها عناصر يمكن لأى فنان استخدامها، ولذلك فإنها وحدها، ليست هى ميزة ` حامد ندا`.
بقلم : د. فرغلى عبد الحفيظ
من كتاب حامد ندا رائد السريالية الشعبية
- من معايشتى لـــ ` حامد ندا ` كأستاذ، كان لا يعتبرنى تلميذاً فقط بل دارساً للفن، أيام ` عبد الهادى الجزار ` كان يقول لى: لابد من دراسة ` الموديل `، ` وحامد ندا ` كأستاذ فى ` الأتيليه` يختلف عنه كفنان. كأستاذ كان يعلمك كيف تضع الألوان على المساحة التى أمامك، يعطيك الجوانب الكلاسيكية تماماً ( الظل/ الضوء/ التكوين... الخ) تبعاً للمناهج الموضوعية، ولكنه كفنان يختلف، فهو يخرج على تلك المناهج ، والدراسة الأكاديمية ضرورية فى البداية، ثم بعد ذلك أنت تملك حرية الفنان، خارج إطار هذه الأكاديمية.
- وتشكل مفردات لوحة ` حامد ندا ` معنى إنسانياً شاملاً، وأعماله تجمع بين مجموعة مدارس فنية فى إطار واحد فيمكن أن نقول أنه سيريالى أو تكعيبى أو تعبيرى.
بقلم : د. محمود القاضى
ندا وسيريالية الموت
- فجأة ، وبلا مقدمات 1995 مات ` حامد ندا ` ، تلقينا الخبر ذاهلين ، فلم يكن `ندا` فناناً عادياً ...ولم يكن موته عادياً أيضاً ... سقط لم يسقط من علٍ .. بل سقط من فوق الأرض على الأرض !! لم يفق بعدها - إفاقة الموت .. إلا فى غرفة الإنعاش!
- كان فى طريقه إلى الإنصراف من وكالة الغورى ، حيث مرسمه ، وخطر له أن يذهب إلى غرفة التليفون بالدور الأرضى . والمدهش أنه لا يتعامل مع هذا الجهاز بسبب صمم أَلَمَّ به ...
- وعندما باغته الظلام الذى فاجأ مصر كلها 1995 ، ترك الغرفة ، غير أن قدمه تعثرت بشئ فسقط ، وارتطمت رأسه بحافة العتبة الحجرية .. وفى لحظات كان غارقاً فى بركة من الدماء ! أليس فى ذلك الذى حدث شئ من ` السيريالية ` التى تتبدى فى لوحاته ؟
- كثيراً ما تساءلت عن سر جاذبية لوحاته أهى ألوانه الصريحة المرحة ؟. شفافية المستويات النسيجية ؟.. البراعة فى تحليل مستويات اللوحة وبصورة خاصة خلفيتها؟ الأشكال المبتكرة لكائناته الإنسانية والحيوانية ؟ .. أم تلك المفارقات المضحكة التى نشاهدها عند رسامى الكاريكاتير .. خاصة الهيئة التى يظهر بها الرجل ، وقطته الطريفة ، وديكه الذى يفاجئنا به فى مواضع غير متوقعة ؟ .. هل يكمن هذا السر فى التداعيات الحرة التى يشكل بها عالم اللوحة ؟ ... أم فى جرأته فى البوح والتصريح بما نحرص على إخفائه ، حفاظاً على مظهرية زائفة ؟ .. ربما لكل هذه الأسباب وغيرها أنجذب إلى لوحاته .
- أسرته الفنية :
- إن لكل فنان ` أسرة ` من المفردات الخاصة به ، تصاحبه فى معظم أو كل رحلته الفنية ، وإن تلونت بطبيعة ملابسات تطور الفنان وموقفه من محيطه الاجتماعى ، ومحيطه السياسى وأسرة ` حامد ندا` تتكون من :
- أولاً : ` المرأة والرجل ` - الترتيب مقصود - ثم ` القط والديك `
- ثانياً : ويأتى فى المرتبة الثانية ` العنقاء ، والثور ، والسمكة .`
- تلونت ` أسرته ` عبر رحلته الفنية بتغير الموضوعات ، فقد شغله كما شغل بعض أبناء جيله عديد من القضايا الإجتماعية ، بل إنه دخل الساحة التشكيلية المصرية عبر موضوعات قاع المدينة : ` المشعوذون ` ثم ` العمال ` .
- غير أنه لم يتناول تلك الموضوعات من موقف سياسى معين .. بل من موقف إنسانى خالص .. وعلى الرغم من تنوع موضوعاته ، فقد ظلت الملامح الجوهرية لأسرته ثابتة ، فلا فرق فى ` ملامح امرأة ` أمام ` طشت الغسيل ` وأخرى تلهو بالرقص أوالغناء ...
- إن القط الذى كان يقف فوق قمة صناديق النفايات ، ولا يزال يقف نفس الوقفة ، وإن تحسن وضعه ` الطبقى ` ! .. فبدلا من التشرد بين صناديق النفايات فإنه يتلاعب حديثا .. فوق صندوق ` البيانولا `!!.
- إما ` الرجل ` فهو مضطهد فى عالم ` حامد ندا ` يبدو مسخاً كاريكاتيرياً، وهو يختلف فى هذا عن مسوخ الفنان الغربى الصادمة ، فمسوخ ` ندا` .. تدعونا إلى الابتسام وربما إلى الضحك .. فهى ` لا تحتج ولا تثور على شئ ` ، بل ترضى بأن تكون تابعاً لا يخلو من خفة الظل ، والتبعية المقصودة هنا هى التبعية للمرأة العملاقة ، التى يترك لها الفنان المواقع المحورية فى اللوحة ، ولا يسمح ` للرجل ` إلا بالهامش !!.
- ولأنه يهمل تعبير الوجه ، فإنه يعوضه بتعبير الحركة الخطية للأجساد ، وخطوطه تتسم بالليونة ، ويندر أن تلتقى بخط مستقيم عنده .. يستخدم الخط اللين ببراعة فى تشكيل جسد وأعضاء المرأة .
كالعازف البارع فى تلوين درجات الصوت ، يبالغ فى التلاعب بالتكوين التشريحى للجسد الإنسانى ، ويجعل من الصعود إلى الرأس والهبوط إلى القدمين رحلة ممتعة ،
وغنية بالانتقالات من الرشاقة إلى الانبعاج والعكس ، مصحوبة بالرموز الملونة والمبهمة . إن المتأمل للخطوط المؤطرة للأشكال يكتشف ملمحين :
- ` الملمح الأول ` هو الاستمرارية ، استمرارية تؤطر ` الوحدة المرسومة `، واستمرارية تجمع بين الوحدات المختارة للتكوين ...
- ` الملمح الثانى ` فهو ما تمنحه تلك الخطوط من إيحاءات مجردة تشبه الحروف العربية ، بالإضافة إلى الإيحاء المباشر باستلهام الرسوم البدائية .. غير أنه نجح فى ابتكارات سبيكة مستقلة .
- إن مفردة ` المرأة ` على سبيل المثال لا تشبه امرأة أخرى فى الواقع ، أو فى تاريخ الفن ، وإن لم تفقد الصلة بها بطبيعة الحال فهى تجمع بين ملامح ` الإنسان والطائر`، ويجمع ` الطائر ` بدوره بين الصفتين أيضاً .. والأسماك والثيران لها عيون إنسانية ، وتتخلل الأجساد أشكال اقرب إلى ` الوشم المضئ ` ، بل إن الأجساد نفسها تبدو زجاجية شفافة هشة.
- فى معرضه الأخير صاحبنى للتجول بين لوحاته، وكان يقدم لى أفراد أسرته الفنية كما لو كانت أسرة واقعية ، فكان يقول : انظر إلى تمثال الثور المرسوم ، إنه وقح !! .. انظر إلى هذه ` الفتاة ` إنها طيبة ، وهذا الرجل كم هو شعبى .. أنظر إلى هذا الغلام إنه شقى جداً!!
- إن عالم الفنان ` حامد ندا ` يدعو إلى البهجة ، والمودة والابتسام ، والجنون أيضاً ولهذا فهو فريد فى الحركة التشكيلية المصرية !
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال : يوليو 1995
الفنان حامد ندا من الكشف عن أعماق الواقع إلى البحث عن لغة جديدة
- ما زالت قضية استقلال الفن بشخصية قومية مميزة - فى البلدان المتخلفة أو النامية - تمثل إحدى المعضلات التى تواجه الفنانين والمثقفين فى تلك البلدان ، حتى لو نالت استقلالها السياسى ..ذلك أن تبعيتها للعالم الذى استقلت عنه تستمر لعوامل مركبة ، وإحدى مظاهر التبعية هو التبعية الثقافية ، بكل ما تشمله الثقافة من نشاط إبداعى وإنسانى .
- وفى مصر تبدو قضية استقلال الفنان التشكيلى بشخصيته القومية المميزة أكثر صعوبة من أى بلد آخر ، فإنه بتراثه الحضارى والإبداعى عبر آلاف السنين ، وتجربته الفنية الحديثة خلال خمسة وسبعين عاما ، يمر بعلاقة معقدة غير متكافئة مع تيارات الفن الغربى ، فرضتها الأحداث التى مرت بها مصر فى تاريخها الحديث ، والفنان يواجه تلك التيارات حينا ، ويحاول استيعابها وتمثلها حينا آخر ، ويستسلم لها مبهورا ومقلدا فى كثير من الأحيان ، وفى جميع الحالات يبدو مغتربا عن بلده وواقعه ، مغتربا حتى عن ذاته، إذ يضع اعتراف العالم الغربى به معياراً لنجاحه .
- لكن ثمة عدداً قليلاً من الفنانين المصريين - خلال مسيرة الحركة الفنية الحديثة- استطاعوا بإبداعهم أن يقتربوا من حل تلك المعضلة ، مما يجعلهم علامات هامة فى تطور الفن المصرى الحديث خلال هذا القرن ، مثل مختار ومحمود سعيد وراغب عياد وجمال السجينى وعبد الهادى الجزار وحامد ندا .
- وحين أقدم حامد ندا اليوم لا أقدمه كحلقة هامة فى سلسلة هذا التطور فحسب ، بل كواحدة من أصعب الحلقات فيها .. ذلك أن معاناة الفنان المصرى فى تحقيق هويته القومية لم تكن فى أى مرحلة ماضية مثلها هى عليه اليوم ، بعد أن تضاعف اغترابه وتخبطه بين مفترق الاتجاهات الأجنبية ، كجزء من الشعور العام بالاغتراب على كافة المستويات .على أنه مما يهون الأمر أن تجربة حامد ندا الفنية - التى استمرت ثلث قرن حتى الآن - تعطى الناقد الحق فى إصدار كلمة فيها ، دون خشية المصادرة على خط تطوره ، وما قد يضيفه بعد ذلك ، وإن لم تكن هى الكلمة الأخيرة بالطبع ، ما بقيت يد الفنان قادرة على الإبداع .
- الفنان .. وقاع المجتمع :
- إن تجربة حامد ندا فى مجملها تقدم نموذجا فريدا لفنان العالم الثالث ، الذى يعى دوره الحقيقى نحو وطنه ، ويمثل انتمائه إلى تراثه وواقعه : منطقة الأساسى فى رؤيته الإبداعية ، فى حين أن التراث الثقافى العالمى يعد مخصبا ضروريا لنمائه ، وأن التطورات الفنية والفكرية المعاصرة فى العالم شرقا وغربا، تمثل محكاً دائماً لأصالته ، يجعلها تحدث شرارا خلاقا، وتعطى إضافات جديدة إلى الإبداع الإنسانى ، وهو ما يجعلنا نضفى العالمية على أعمال فنية وأدبية شديدة المحلية ، لم يحاول مبدعوها أن ينسجوها على منوال الأنماط الغربية ، بقدر ما استمدوا أنماطهم الخاصة من مناجم التراث القومى والوجدان الشعبى ، ثم صقلوها فى محك الإنجازات الإبداعية فى العالم المتقدم.
- وإذا كانت خصوبة التعبير الفنى تصل ذروتها - بالنسبة للفنان - عند احتدام المأساة الإنسانية ، فإن الواقع الذى تفتح عليه وعى حامد ندا فى العشرين من عمره ، كان كفيلا بتفجير موهبته التصويرية : إنه واقع الطبقات الشعبية فى قاع القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد - فى منطقة ` الخليفة ` و` السيدة زينب `، حيث يتلازم الجوع والبطالة ، والكبت والخرافة ، والخوف والهستيريا ، وكان هذا الواقع يتجسد ويتركز حول أضرحة الأولياء ، حيث يحيا الناس فى الشوارع وعلى الأرصفة وداخل المساجد ينامون ويأكلون وينغمسون فى غيبوبة حلقات الذكر الهستيرية ، ويفيقون صرعى الإجهاد والجوع ، يتناثرون كآثار وباء أو غارة حربية.
- كيف عبرت موهبة حامد ندا - ابن الأسرة المتوسطة المتدينة المحافظة - عن هذا الواقع - وهو مازال بعد طالبا بكلية الفنون الجميلة فى أواسط الأربعينات من هذا القرن ؟
- كانت الحرب العالمية قد أسفرت - بجانب التدهور الأقتصادى والأجتماعى الشديد - عن تفجر الوعى الثورى لدى المثقفين وطلائع العمال ، كما كان الجيل الشباب من الفنانين قد أنتظم فى عدد من الجماعات الفنية التى رفعت شعارات تدعو للتغيير والتجديد . وما إن حل عام 1946 حتى كانت هذه الأجيال على اختلاف ميولها ، قد نفضت أيديها تماما من الأسلوب الأكاديمى المحافظ الذى يرى الأشياء فى نظام منطقى مستتب ، وتنوعت دعواتهم: من إطلاق الخيال السجين ( عند جماعة الفن والحرية ) إلى الغوص فى مخزون الأساطير والأحلام والطبيعة البدائية والرموز الشعبية ( كما فى جماعة الفن المعاصر ) ، إلى الالتزام بقضايا الكادحين والتقدم الاجتماعى ( كما فى جماعة الفن الحديث ) ، وتنوعت أساليبهم الفنية فى التعبير عن هذه الدعوات ، من السيريالية إلى التعبيرية إلى التجريدية إلى الواقعية .
- أما عند حامد ندا - الذى كان أحد مؤسسى جماعة الفن المعاصر 1946 - مع ` الجزار ` و ` سمير رافع ` و ` ماهر رائف` و ` إبراهيم مسعودة ` و ` شهدة ` وغيرهم، تحت إشراف أستاذهم ` حسين يوسف أمين ` - فقد التزم أسلوبا مختلفا عن تلك الأساليب ، وإن يكن قد استفاد من كل منها بقدر ، أسلوبا يمكن أن نسميه ( الأسلوب النحتى ) حيث يشكل أشخاصه الذين كبلهم العجز والجوع والذهول كما لو كانوا تماثيل حجرية أو خشبية خشنة من فروع أشجار ( عجر ) ، تتلاشى فيهم التفاصيل الواقعية وتذوب الفوارق بينهم ويصبحون كتلا صماء متشابهة ، كأنهم أبناء إحدى مدن ألف ليلة وليلة التى أصابتها لعنة ما ، فتحولوا إلى تماثيل بنفس حركاتهم وأوضاعهم !.. ومع ذلك فقد برزت فى عيون أشخاصه تعبيرات صارخة بالشكاية والاتهام أو شاخصة إلى المجهول فى انتظار أبله!
- ومع التسليم بالعلاقة بين هذه الأوضاع وبين الظروف الاجتماعية والاقتصادية ، فإنه يبدو بوضوح الحس الميتافيزيقى التشاؤمى فى هذه المرحلة ،مما يجعل الإنسان كما لو كان فى علاقة مع القدر مباشرة ، وليس مع ظروف يمكن فهمها وتغييرها ، ولعل هذا ما جعل عالمه يبدو مغلقا وجعل أشخاصه يخفون وجوهم بأيديهم ويديرون ظهورهم للحياة يائسين .وقد أكد حامد ندا هذا المعنى - فضلا عن المسحة الأسطورية فى أشكال الناس وحركاتهم الذاهلة - باستخدامه لعناصر من السحر الشعبى ، كالرموز والأحجبة والرسوم الجدارية البدائية والوشم ولمبة الجاز التى تلقى بالظلال أكثر مما تلقى من الضوء ، وكراسى القش الغليظة وزير الماء الخالى ... فى خلفيات اللوحات ، بالإضافة إلى الاستعانة بعناصر أخرى حية ذات دلالات سحرية فى الموروث الشعبى ، مثل القط والسحلية والبرص والديك ..وساعده استخدام ألوان الشمع مع الألوان المائية على تأكيد خشونة السطح وغرابة ذلك العالم ، وهو عالم وأزاح تحت ثقل باهظ غير مرئى :ألوان داكنة محدودة الأسود والبنيات والرماديات ) ..ملامح الأشخاص وكتلهم محرقة ومحددة بخطوط سوداء تشبه خطوط ` جورج رووة ` ، تؤكد الغلظة والجمود والاستسلام .. البعد الثالث فى اللوحة عنصر هام يؤكد سيطرة المعانى الغيبية : المجهول والخرافة.
- وقد يكون منهج حامد ندا فى هذه المرحلة متسقا مع منهج أرسطو فى الجمال ، الذى يرى أن رسالة العمل الفنى هى القيام بدور المطهر لنفس المتلقى ، بما يعرض عليه من محاكاة للألم والمأساة ، كما كانت تفعله التراجيديات اليونانية .وليس حتما أن يكون ندا قد قرأ لأرسطو كتابه عن فن الشعر ليصل إلى هذا الفهم ، إذ أن من الممكن أن يبلغه بالسليقة .
- يقول الناقد ` أيمية آزار ` فى تعليقه على هذه المرحلة ما يتفق مع هذا الرأى : إن أشخاصه الصماء المقفلة تمثل أشخاصا لا أسماء لهم ، يحتضنون أحلاما جسيمة ومقلقة ومشروعات للمستقبل يقوضها ويأبى عليهم تحقيقها !
- الفنان ابن عصره:
على أن هناك عاملاً هاما يغفله كل من تعرض لأعمال هذه المرحلة عند ندا، ساعد على بلورة هذه الرؤية لديه ، وهو المد الوطنى العارم والقلق الاجتماعى المبشر بالثورة الذى كان يسود مصر فى سنوات ما بعد الحرب ، والذى بلغ عنفوانه الشعبى عام 1946، وكان للمثقفين فيه دور أساسى .وبالرغم من أن حامد ندا لم يشتغل بالكفاح الوطنى السياسى والاجتماعى المباشر ، فإنه على أية حال كان يتنفس هذا الزخم ويتمثله فى أعماله الفنية المعبرة عن معاناة الطبقات الشعبية والقادرة على التواصل معها ، ولعله فى ذلك كان نقيضاً لاتجاه جماعة ` الفن والحرية ` التى سبقته بسنوات طويلة ، وكان يتزعمها الفنانون رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، ذلك أنهم كانوا يصرخون بالشعارات الثورية ويلقون بالأحجار على كل الأفكار السلفية ، ويربطون ربطا مباشرا بين الفن والسياسة ، بينما سلكوا فى تعبيرهم الفنى مسلكا اتباعيا ، حيث اعتنقوا المذاهب الفنية الحديثة فى أوربا - خاصة السريالية والتجريدية - باعتبارهما انعكاسا للتقدم ولرفض القديم ، وعندما نسجوا أعمالهم الفنية على منوالها انعزلوا عن الجماهير التى كانوا يرفعون شعاراتهم ، إذ أن تلك الأعمال كانت تبدو نوعا من الرطانة بلغة أجنبية!
- ولعل ندا كان فى التزامه الفكرى والتعبيرى ذاك، رائدا بالنسبة لزملائه فى جماعة الفن المعاصر أيضا ، مثل الجزار وسمير رافع والآخرين .. فقد كانت السمة الغالبة على أنتاجهم هى السريالية ، التى تنهل رؤاها من عالم الأساطير والأحلام ومخزون العقل الباطن ، أو من عالم الطبيعة البدائية بما فيه من وحشية أو غرائز مكبوتة ... إلى أن وضع حامد ندا يده على كنز ( الموضوع الشعبى) بكل تراثه التشكيلى والتعبيرى البكر ، واستبط منه لغة جديدة مفعمة بالدهشة واللامعقول ، تستصرخ الضمير وتستدعى التساؤل عن واقع عينى معروف ، رافضة أن تكون تهويما وجوديا أو ميتافيزيقيا أو ` فرويدياً` فى النفس البشرية . كان ذلك يبدو بجلاء فى لوحاته التى اشترك بها فى معرض الجماعة الذى أقيم فى مايو 1948 ، مما لفت أنظار النقاد الأجانب وجعلهم يشيدون به... هنا بدأ اهتمام زملائه - خاصة رفيق الصبا ` عبد الهادى الجزار ` - يتجه إلى الموضوع الشعبى ويستوحى منه رؤى جديدة تعطى منظورا مصريا - اجتماعيا لتجربتهم السريالية السابقة . واستمر التنافس بعد ذلك بين ندا والجزار - سنوات عديدة فى هذا المضمار : تنافس خلاق أثرى حياتنا الفنية بتراث إبداعى عزيز ، ولم يكن ذلك يخلو من تأثير متبادل فيما بينهما ، مما يذكرنا - مع اختلاف العصر والظروف والاتجاه الفنى - بما كان بين الفنانين العظمين بيكاسو وبراك فى باريس منذ أوائل هذا القرن ، الأمر الذى يجعل التمييز بين بعض أعمالها صعبا فى بعض المراحل الفنية !
- وعلى عكس معظم النقاد الذين تعرضوا لأعمال حامد ندا، فإننى لا أميل إلى تصنيف أعمال تلك المرحلة فى إحدى المدارس الفنية الغربية، كالسريالية أو التعبيرية ، فلا أظن أن ندا فى ذلك الوقت المبكر كان يشغل نفسه كثيرا بأى المذاهب الفنية يتبع ، بقدر ما كان مشغولا باستكمال مفردات لغته التشكيلية الخاصة ، المشتقاه من الروح الشعبية المصرية ، وبعناق التيار الاجتماعى المتصاعد قبل ثورة يوليو 1952 ، ولعل أكبر دليل يؤكد ذلك هو ما يقوله حامد ندا نفسه فى حديثه مع الدكتور نعيم عطية ( مجلة المجلة - يونيو 1969 ) - و ` .. وإن كانت أصدقائك القول أننى فى صباى كنت قليل الاطلاع على الأعمال الفنية الأجنبية وإن كنت كثير القراءة فى مجالات الفلسفة والاجتماع وعلم النفس ، وقد تبينت فيما بعد أيضا أن يبنى وبين راغب عياد فى لوحاته عن الحياة الشعبية قرابة روحية ، وإن كان الفارق شاسعا بين معالجة كل منا للموضوع الشعبى وللشخوص الشعبية .لقد صور راغب عياد بموهبة غير منكورة واقع الحياة الشعبية ،أما أنا فقد عنيت بالغوص إلى ما تحت الواقع ، مقتنصاً ما فى النفس الشعبية من رواسب لا تلبث أن تنعكس على سطح البيئة الشعبية وسلوكات رجالها ونسائها ..` .. ويمضى حامد ندا فى حديثه بعد ذلك فيقول :
- ` .. ولا تعنينى العلامات التى تميز الشخصية الفردية ، بل الدلالات الانسانية من خلال رؤى تشكيلية لمجتمع تكالبت عليه الرزايا منذ سنين سحيقة .لكننى أبادر فأقول إن شخوصى لا تستجدى إحسانا ، إن فيها إباء بدائيا رغم كل شىء ، لكن ثمة شيئا فيهم ،أو ربما فى الجو الكابوسى المحيط بهم ، يجبرك على التعاطف معهم ، ويدعوك إلى بحث أوضاعهم الاجتماعية والانسانية وإنى أستبيح لنفسى أن أشير إلى الأجواء الشعبية التى صورها أدبينا الكبير نجيب محفوظ فى روايته ` زقاق المدق ` على الأخص ، لأقرب شخوصى وعالمى إلى ذهن المتفرج المصرى وذوقه الفنى .`
- البحث عن لغة جديدة :
- ويبدو أن تلك كانت المرحلة الأولى والأخيرة من مراحل تطور الفنان حامد ندا التى ارتبط فيها بالقضية الاجتماعية !.. فبعد قيام ثورة 52 وتحقيق انجازاتها الوطنية والاجتماعية ، شعر أن دوره ( الإصلاحى ) قد انتهى ، وأن عليه أن يخطو خطوة جديدة فى تطوير لغته التشكيلية ، مستمرا فى استلهام عناصر البيئة الشعبية بعد أن تحررت - أو هكذا تصور ! - من كابوس الظلم والتخلف ، وبدأ مرحلته الجديدة منذ عام 1955، مستخدما مظاهر العادات والتقاليد الشعبية المصرية كعناصر تشكيلية ، مثل العاب الأطفال فى الحوارى ، والرسوم الفطرية الساذجة على الجدران ، والوحدات الزخرفية الفلكلورية ... وكل تلك العناصر التى كانت عناصر مساعدة فى خلفية مرحلته ( التراجيدية ) ، لكنها انتقلت الآن لتحتل مكان الصدارة ، بعد أن تخلصت من مأساويتها ورمزيتها الخرافية ، وأصبحت أشكالا فنية محسوبة حسابا تجريديا على مسطح اللوحة ، تعطى حساً غنائيا ناعما ، ساعد فى تأكيده ( بالته) الألوان الجديدة التى استخدمها من فصائل الأحمر والأزرق والأخضر ، بما تحمله من طزاجة وانتعاش ، كما تحررت كتل الأجسام من كثافتها الحجرية وإسطوانيتها المعمارية وأصبحت أقرب إلى التسطيح وأميل إلى الحركة والنشاط والرشاقة بينما أصبح الجو العام السائد هو البهجة والفرح وإستقبال الحياة فى تفاؤل.
- وكما وضع ندا يده من قبل على كنز الموضوع الشعبى ، وضع يده فى مرحلته الجديدة على كنز آخر كان قد سبقه إليه راغب عياد دون أن يستنفده ، وهو كنز التصوير الفرعونى ، وراح يستلهمه بذكاء مهتديا بما أنجزه راغب عياد .لكنه إختط لنفسه أسلوبا مختلفاً تماما عن أسلوبه .
- بين عياد وندا :
- وإذا كانا قد تشابها فى تسطيح الأشخاص ورسمهم فى وضع جانبى وإلغاء البعد الثالث ، والتركيز على الأهمية الخط فى تصميم اللوحة ، وتكرار الوحدات والعناصر فى نسق منتظم أحيانا ومتقابل أحيانا ، فإنهما فيما بعد ذلك تختلفان كل الاختلاف .. فالجو العام للوحات نراه عند عياد جوا صاخبا بإيقاع الحياة اليومية وزحام الأسواق والأعياد والعمل فى الحقل ،أما عند ندا فنراه جوا ` فنتازيا ` ولكن فى رزانة ووقار التصوير الفرعونى ، مع نعومة فى الايقاع واقتصاد فى الأشخاص والحركة .
- وإذ نرى عياد لا يكاد يترك فراغا فى لوحاته دون أن يملأه بالخطوط ، نجد ندا يهتم بالفراغ كرئة ضرورية تتنفس بها اللوحات ، لهذا يعطيه دورا مساويا لدور الأشكال حيث تدخل الفراغات فى علاقة جدلية مع المشخصات ، كما يعمل الفنان على تنغيم هذه الفراغات بدرجات الألوان والملامس مما يجعلها عمقا للوحة .
- وبينما تبدو ألوان عياد شاحبة شفافة أقرب إلى الألوان المائية وثانوية إلى جانب الخطوط ، تبدو عند ندا كثيفة معتمة مركبة وأساسية فى تحقيق التجسيم وإن خلت من الظلال.
- وعلى حين يراعى عياد فى شخوصه النسب الواقعية ويهتم بالتفاصيل الدقيقة للأجسام والأزياء ، فإن ندا يعمد إلى تحليل الأشكال تحليلا تشكيليا خالصا فيبسطها إلى أقصى ما يسمح به الشكل من تلخيص ، ويشوهها تشويها فنيا محسوبا.
- وإجمالاً .. فإن الفرق بين تجربتى عياد وحامد ندا يكمن فى أن الأولى تجعل من اللغة التصويرية المستوحاة من الفن الفرعونى خادما للموضوع الشعبى ، وإن الثانية تجعل من اللغة التصويرية هدفا فى حد ذاته تستدعى التعمق فى البحث عن مفردات ذات أصول مصرية قديمة وشعبية ، وفى نفس الوقت معاصرة وخاصة بالفنان وحدة .
- المرحلة الزنجية :
- هذه الرغبة ذاتها فى البحث عن جماليات تصويرية خاصة هى التى قادت حامد ندا إلى التنقيب عن مصادر جديدة للشكل الفنى يخصب بها تجربته ، وذهب فى بحثه إلى الفنون البدائية ، وخاصة فن الكهوف والفن الزنجى ، كما فعل بيكاسو من قبل ، وأمده هذا الرافد الجديد بقدر هائل من الحركة والخيال فى التصرف فى الأجسام وتحويرها وتحريكها على مسطح اللوحة ، ودون التزام بمنطقية الأشياء ، فنجدها وكأنها متحررة من الجاذبية الأرضية ، تحلق طليقة رشيقة فى فضاء اللوحة .
- وقد أخذت المرأة فى أعمال هذه المرحلة دور البطولة ، فكانت - بخطوط جسمها العادى الرشيق - تسيطر على اللوحة وتنطلق متفجرة بالأنوثة والحياة ، كمركب أطلقت أشرعتها للرياح ، بينما يبدو الرجل إلى جوارها ضئيلا قزماً يشرئب جاهدا للتواصل معها ، بل يبدو أحيانا كطوطم سحرى فى طقس من الطقوس الوثنية الأفريقية .ويذكرنا هذا الجو السحرى بما كان يشيع فى مرحلته الأولى من روح بدائية ، مع فارق هام ، وهو أنها كانت هناك محملة بمضمون اجتماعى ، على حين أنها مجرد خلفية للعلاقات اجتماعية فى معمار اللوحة ، وهى علاقات تمثل الهدف الأول لوجودها .
- إلا أن هذه المرحلة - التى امتدت بتنويعات مختلفة حتى منتصف الستينات - لم تخل تماما من الأبعاد الدرامية والإيحاءات الميثولوجية ، فكثيراً ما يشده الحنين إلى ذكريات من مرحلته الأولى ، تنبثق عنها عناصر ذات بعد أسطورى وتغلغل فى الموروث الشعبى ، مثل القط الأسود الذى يتسلل فى لوحاته كروح خفية مخاتلة مليئة بالتربص باعثة للخوف ، كأنه الموت الخطاف ..وقد بالغ الفنان فى نسبه فجعله ممطوطا غامض الملامح متلصص الحركات قبل أن ينقض على فريسته .كذلك يستخدم الفنان شكل السمكة كرمز شعبى يستخدم فى الوشم والوحدات الزخرفية ويوحى بالخصوبة والتكاثر ، كما يستخدم الديك البلدى الشقى المتحفز دوما للنقار وهو يملأ الدنيا بصياحه دون أن يدرى بالمصير الذى ينتظره ! والحمامة البيضاء المعدة للذبح قربانا فى النذور أو فى طقوس الزار ... كل هذا غير الزير الفخارى ووابور الجاز واللمبة ذات الزجاجة الطويلة والظلال الكثيفة.
- وشهدت هذه المرحلة أيضا ومضات فنية ذات طابع تعبيرى مباشر مثلما نجد فى لوحات هيروشيما ، الحرب والسلام ، عزيزة ... وفيها يميل إلى الأقتصاد الشديد فى اللون حتى تصبح أقرب إلى الأسود والأبيض بتنغيمات شفافة وأشكال مبهمة ، فى الوقت الذى عاد فيه إلى تكتيل الأجسام وترسيخها - دون استدارة - بأقل الألوان الممكنة ، حتى تصبح عزفا على لون واحد ، كثيرا ما يكون الأزرق أو الرمادى ، وهو يعوض هذا الزهد اللونى بإكساب سطح اللوحات ملمسا متوترا مرتعشا غنيا بالطبقات والدرجات ، كالذبذبات الصوتية المتتابعة ، أو كأثار الزمن على جدران قديمة .
- من هذا نتبين أن ندا - بالرغم من بعده عن الموضوع واحتفاله بلغة الشكل - لم يتخلص من الروح الدرامية . كل ما فى الأمر أنها تحولت من الصياح والجهر إلى الحوار والهمس ، اللذين لا يقتصران على الآدميين بل ينسحبان أيضا على الحيوانات والطيور والكتل والفراغات والمساحات اللونية وملامس السطح .
- المرأة .. والحصان
- منذ أواخر الستينات بدأ حامد ندا مرحلة ثالثة، قد نعتبرها استمرارا للمرحلة الغنائية ، من حيث تركيزها على السطح التصويرى الديناميكى ، لكنه هنا يخطو خطوة جديدة بالنسبة لكتل الأجسام والأشكال ، فقد عمد إلى تفتيتها وإطلاقها من عنانها المنطقى ، محاولا إيجاد إيقاع أكثر بدائية وعنفا كطبول أفريقية أو موسيقى الجاز، وأصبحت الغلبة هنا للعناصر الزنجية من أقنعة وأشكال محرفة .ويلعب دور البطولة معها عنصران جديدان لم يستعملا فى لوحاته من قبل : الأول حروف الكتابة العربية ، التى استخدمها الفنان كمشخصات تتجاور وتتحاور مع العناصر البشرية ، والثانى الحصان .. لقد اقتحم عالمه طائرا كالبراق حاملا على ظهره المرأة العارية النائمة فى استسلام وأصبح هذا الثنائى - المرأة والحصان - بطلين متلازمين فى العديد من لوحاته فى السبعينات ، محلقين فى نشوة ذات إيجاد جنسى لا يخطئه الحس ،إلا أنه يمكنك أن تستشعر من داخل هذه النشوة وجود شبح غريب لم يظهر فى أعماله من قبل إلا فى لوحات القط الأسود .. وهو الموت .. قد يبدو ذلك من خلال إيحاءات فى غاية الرقة ،، مثل نبات أجرد على حافة أفق صحراوى يتلاشى فى المجهول ، بل لعله يبدو أيضا جسم المرأة المستلقية على ظهر الحصان بعينيها المتسعتين فى ذهول وفزع ، وكأننا حين نبلغ ذروة النشوة نكون قد بلغنا فى نفس الوقت حافة الموت !
- ويذكرنا هذا بأعمال زملائه السرياليين من أعضاء جماعة الفن المعاصر فى الأربعينات خاصة عبد الهادى الجزار ، حيث كان ميدانه الأساسى - الذى تمرد عليه حامد ندا حينذاك - هو الطبيعة البدائية والنوازع البشرية المجردة والحياة التى تولد من قلب الموت والموت الذى يتربص بالحياة ، وكان للمرأة والحصان أيضا دور هام فى ذلك العالم ... أفكان حامد ندا طوال تلك السنين يطمر هذه الفكرة فى أعماقه كى لا ترى النور ، حتى إذا مات رفيق صباه ونده العتيد الجزار، وبلغ من العمر مرحلة النضج الفلسفى والادراك لمعنى الحياة ، انفلتت البذرة المطمورة من مكمنها وأعلنت عن وجودها فى طيات لوحاته؟
- لقد اكتسبت ألوانه فى هذه المرحلة شفافية حزينة ، دون أن تخرج عن باليته اللونية السابقة ، سوى أن اللون الأبيض صار هو اللون السائد فى خلفيات اللوحات ، وأن خشونة الملامس أخذت تخف تدريجيا لتصبح أكثر نعومة ، مما يقربها من أعمال الفنان السريالى ` ماجريت ` ، ولعل علاقته بالسريالية لم تنقطع عبر مراحل تطوره ، وأن كانت بطانة غير مرئية للموضوع الشعبى ولغة التصوير المستقاه من الحياة الشعبية . وها هو بنفسه يصرح بتاريخ 11/5/59 لجريدة وطنى قائلا : ` إن كل عمل فنى يخلو من السيريالية لا يمكن أن يعد عملا فنيا ، بمعنى أن التعبير التلقائى مهما كان لونه واتجاهه لا يمكن أن يخلو من ذاتية الفنان إذا كان عملا صادقا. ` .
- بل لقد ذهب إلى أبعد من ذلك، إلى أن يجاهر بتحقيق نوع من التجريد فى أعماله ، مستمدا من عناصر البيئة الشعبية ، بل ويرحب بدرجة أرقى من التجريد وهو التجريد المطلق وإن كان عاجزا عن بلوغها ، فيقول فى نفس الحديث المذكور :
- ` التجريد نوعان : الأول يستخدم الأشكال من واقع حياتنا ، والثانى يعطينا أشكالا مبهمة تكون موجودة فى إحساسات الفنان الداخلية ، وهى تعطى شكلا مطلقا ، وأنا أحب الجانب الأول ، وأرحب بالثانى وإن كنت أشعر بالعجز عن تحقيقه .`
- هل كانت هذه النزعة المبكرة الكامنة بداخله هى السبب فى تحوله السريع عن خطه الاجتماعى ؟ .. وأيهما أكثر أصالة فيه : الفنان الملتزم بقضايا بلده أم الفنان الممتلىء بطموح فردى بحت ؟ .. إن الإجابة شديدة الصعوبة ! .. ذلك أن أعماله فى كلا الاتجاهين تعد ؟ أعمالا جيدة ورائدة ، فضلا عن أن انتماءه الشعبى ظل يفرض نفسه كظل رقيق على جميع مراحله رغم تحلله من أى التزام اجتماعى أو مضمون أدبى . ولعلى أتفق فى هذا مع الدكتور نعيم عطية فى تحليله لأعمال حامد ندا إذ يقول : ` .. وإذا كان حامد ندا قد احتفظ بروابطه بالواقع فإنه لم يقدم فى أى من أعماله رغم عصريتها وتقدميتها على تلك القفزة العدمية التى قام بها التجريديون المعاصرون ` ( مجلة المجلة - يونيو 1969 )
- عودة إلى الأصول :
- وتشهد آخر مرحلة من إنتاجه عودة من نوع جديد إلى ( الموضوع الشعبى) ، فقد بدأ يعالج رسم المناظر الطبيعية من واقع الأحياء الشعبية القديمة فى الجمالية والحسين .لكنه دوران تنكب فيها منجزاته التصويرية السابقة ، بالعودة إلى البعد الثالث وإلى التجسيم وإلى منطقية الأشكال فى أماكنها الطبيعية ، يكسبها قوة بنائية جديدة تعوض القيم الأخرى التى تخلى عنها ، بالحس الدافىء المتوهج بالحيوية الذى يسود هذه اللوحات الصغيرة - سواء بألوانه القوية الساخنة أو بخطوطه المتوترة السريعة أو بلمسات فرشاته المرتعشة الرشيقة ، التى تلمس سطح اللوحة بخفة وعفوية مشحونة بالانفعال . وهى لوحات قد تغفر له بعض محاولاته التى تقترب من الفن السياحى والدعائى التى أقدم على إنتاجها فى السنوات الأخيرة ( لسبب أو لآخر ! ) ، هذا بالرغم من أنه لا يجد غضاضة فى أن ينتج فنا سياحيا طالما كان يتغنى بجمال بلده ( كما صرح بهذا المعنى فى مناقشة لأعماله جرت فى العام الماضى بأتيلية القاهرة !) .
- وأيا ما كان أمر التزام حامد ندا الاجتماعى أو الجمالى ، فإنه يعد - كما سبق القول فى بداية المقال - نموذجا لفنان العالم الثالث ، حتى بافتقاده للوضوح الفكرى والنضج السياسى ... فهو على أية حال جزء من أزمة المثقفين فى تلك البلدان ، التى تفتقر إلى المناخ الديمقراطى الراسخ الذى يولد تيارات فكرية تتحاور فيما بينها أو مع الواقع ، وتكتسب من خلال الحوار والجدل آفاقا جديدة على كل المستويات ، بما فيها قضية الفن.
- ومع ذلك ، فإن الحقيقة التى لا يمكن لاحد إنكارها ، هى أن حامد ندا - بتجربته المتنوعة والخصبة - يعد خير مثال على إمكان استقلال الفنان - المنتمى لمثل بلدنا - عن المجتمعات الغربية ، برغم أنه من أكثر فنانيها فهما واستيعابا للتيارات الفنية فيها ، تلك التى بهرت وجذبت وراءها الغالبية العظمى من الفنانين المصريين والعرب.
- ولعل تمسكه باستقلاليته يرجع إلى عمق انتمائه إلى أصالته الحضارية ، وإلى وقوفه على أرض صلبة من الموهبة ، التى خلصته مبكرا من الشعور بالنقص أمام تلك المجتمعات الغربية ، بالرغم من أنه عاش فى بعضها فترة من حياته .
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة إبداع ( العدد 1 ) يناير 1984
حامد ندا.. طير البرارى
- من المأساة الاجتماعية إلى الملهاة الميتافيزيقية
- توقف ديك البرارى عن الصياح، وسكت عن الكلام غير المباح - توقفت الفرشاة الجرئية عن فض أسرار ما خلف سور العقل وأستار الخدور، عن تحطيم طواطم الأخلاق وقماقم الغريزة، عن كشف مخابىء ذكريات الطفولة ورموز الخرافة الشعبية.
- توقف القلب الطفلى النزق، ذو الصبوات المارقة على السلوك البرجوازى المغلّف بورق السيلوفان. إذ كان يعى لعبة الحياة العبثية (المأساة - الملهاة) التى يلعب دور البطولة فيها ممثل اسمه القدر، فكان رسامنا هو شاعرها الساخر، وكان أيضا ضحيتها، إذ أن موته كان ذروة المأساة العبثية، فمن بين ثلاثة وخمسين مليونا من المصريين كان هو الوحيد الذى دفع حياته ثمنا لحادث عرضى تافه يحدث كل يوم بلا ضحايا.. هو انقطاع التيار الكهربائى!
- جيل الجماعات الفنية:
- كان حامد ندا خيط العقد فى جماعة `الفن المصرى المعاصر` فى الأربعينات ومفكرها المتفتح على الثقافات الأوربية الوافدة على مصر آنذاك، والمنقب فى موروث الثقافة الشعبية بحثا عن الأصالة والخصوصية فكان أول لبنة فى بناء حركة سريالية ذات ملامح مصرية، متزاملا مع رفيق الحى والصبا والشباب عبد الهادى الجزار، ومعهما كوكبة من الموهوبين فى ذلك العمر الجميل.. عمر العشرين أو ما فوقها بقليل، لكنهم صنعوا واحدة من أهم موجات التطور فى فننا التشكيلى المعاصر.. مثل: سمير رافع، ماهر رائف، ابراهيم مسعودة، شهده، وكان أغلبهم رفاقه بمدرسة فاروق الأول الثانوية، وبشعبة الرسم فيها تحت أشراف أستاذهم وراعيهم حسين يوسف أمين، الذى لم يتخل عنهم حتى بعد أن تخرجوا فى كلية الفنون الجميلة وأصبحوا فنانين مرموقين..
- كانت الجماعة بذلك هى الموجة الثانية فى ثورة الشباب على الأسلوب الأكاديمى والفن المحافظ، بل حتى على جيل الرواد، مكملة للموجة الأولى التى قادتها جماعة `الفن والحرية` قبل حلول عام 1940 التى تزعمها يونان والتلمسانى وفؤاد كامل، وكان قدرها أن تصحح مسار `الفن والحرية` بفتح الطريق للموضوع الشعبى المحفوف بضفاف الأسطورة والميتافيزيقا والسحر، لتخلق بذلك ملامح مصرية صميمة للحركة السريالية المتمردة بقيادة `الفن والحرية` التى كانت تنجرف فى اتحاه الفن الغربى شكلا ومضمونا. ولتعطى للفن - ربما عن غير قصد - بعدا اجتماعيا، فكلمة الفن أصبحت ملازمة لكلمة المجتمع، وأصبح انتماء الفنان إلى جذوره الثقافية وتراث شعبه التزاما سياسيا.
- ولعل جماعة `الفن المصرى المعاصر` كانت وسط منظومة جيل الجماعات الفنية فى الأربعينات هى المؤهلة لخلق وتوطيد دعائم مدرسة مصرية صميمة؛ تتفادى سيطرة المؤثرات الغربية المكتسحة لهويتنا، لكن قوة الدفع فيها لم يكتب لها النمو والاستمرار لأسباب تاريخية معقدة، منها غياب أبرز فرسانها، وما أصاب المجتمع من تحولات جذرية.
- وندا هو آخر حبات عقد الجماعة، بعد أن مات الجزار عام 1966، وهاجر رافع ومسعودة وشهدة وتاهوا فى دنيا الله الواسعة بلا حسّ ولا خبر وانكفأ رائف على عمله الأكاديمى كأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالاسكندرية مغتربا فى بلده، متبرئا من الفن القائم على التشخيص، لائذا بفردوس الخيار الدينى وبحروف الكتابة المجردة... أما ندا فقد نفى الاغتراب بمزيد من الإنتاج، وقاوم قبح الحاضر بخيالات الماضى وعرائس الأحلام، وتجاوز الصمم بالتصنت إلى دبيب الحياة الخفى، والتعبير بالرسم عن هدير الصمت، وظل مشرعا فرشاته فى مرسمه بوكالة الغورى. حتى آخر يوم فى يقظته. قبل أن يغتاله الموت الذى تسلل فى ظلام القاهرة مثل القط الأسود الذى اعتاد أن يرسمه متخفيا كاللص. غادرا تطلّ من عينيه الخيانة. فى ذلك المساء من شهر إبريل حين تعثرت قدمه فى مكان ما بالمبنى ليقضى قرابة شهر بغرفة الانعاش بالمستشفى مصابا بالشلل النصفى والباولينا قبل أن تفيض روحه فجر يوم 37 مايو 1990.
- عالم الطفولة
- ولد حامد ندا عام 1924 بحى الخليفة بالقلعة لوالد متدين ميسور الحال. يقوم بالأشراف على عدة مساجد، وعاش طفولته بالحى الشعبى العتيق فى شبه متحف انثروبولوجى مفتوح، محاطا بمظاهر متناقضة من التدين إلى الخلاعة، ومن التفتح إلى الخرافة. ومن الجوع إلى التخمة، ومن أمجاد التاريخ إلى حضيض التخلف واستمع إلى حواديت العجائز المليئة بالخوارق والسحر والجان والديوك المذبوحة والقطط ذات الأرواح السبعة ووسط أنماط العمارة المملوكية والسرايات التركية والأسبلة العثمانية ومساجد الأولياء والمقاهى المعتمة داخل البواكى الأثرية. شاهد أفواج القادمين من أقاصى الريف. من العاطلين الجياع، ملتائين فى هستيريا حلقات الذكر، أو مغيبين فى غيبوبة اليأس أو الجوع أو الانتظار الأبدى لخلاص ما.. واختزن مع هذه الصور، صورا أخرى للموالد المزدحمة بما تحتويه من ألاعيب السيرك الشعبى والمهرجين والأراجوز وصندوق الدنيا والفوتوغراف العتيق يذيع أغانى العشرينات والثلاثينات المليئة بالتأوهات جنبا إلى جنب قصائد المديح النبوى، ووسط الزحام تندس النسوة والفتيات بملاءاتهن المحبوكة على قوام متفجر، فواحات بعبق الأنوثة، موقظات بداخله بواكير إحساسه المراهق بالجنس، وذلك الذى لم تنطفىء جذوته فوق ريشته طوال مراحله الفني ولم يفتر بداخله حس الاكتشاف المنبهر تجاهه.
- مرحلة الأربعينيات
- هذا العالم كان الينبوع الأول والدائم لفنه، فكانت لوحاته المبكرة منذ 1946 انعكاسا لرؤاه قبل أن يكتشف عالم السريالية وعندما سمع عنها وشاهد أعمال روادها وقرأ لفرويد ويونج وأدلر عن العقل الباطن ومخزون اللاوعى والتحليل النفسى، كان يشعر أنه يكمل ماقرأه فى كتاب طفولته وصباه وما عبر عنه بالفعل فى رسومه، التى اتسمت منذ البداية بنوع من القدرية الباهظة والسكونية الجامدة، وبدرجة كبيرة من الخشونة والغلظة فى نسب الأجسام وأحجام الأيدى والأرجل، وأجرام الأشخاص حتى بدت كالأصنام المنحوتة. وهى جالسة على مقاعد من أغصان محشوة بالقش، فى أوضاع تعكس البؤس والغيبوبة والاستسلام، محاطة برموز خرافية تشبه الوشم، لحشرات وطيور وحدوات وكفوف وأسماك وقطط ومصابيح كيروسين وأزيار ماء.... أما النسوة فكن عاريات أغلب الأحيان، أجسامهن كتل وحشية مهوشة الشعر كأشجار برية ذات نداء جنسى ناغم.
- كانت السمة العامة لهذه الرسوم هى البدائية الساذجة التى تناسب مضامينها ورموزها الخرافية. وهى سذاجة فطرية طازجة لا أثر فيها للتصنع أو الحرفية. ويلعب عنصر الخط غالبا الدور الأساسى فى تشكيل هذا العالم. مع تأكيد للمنظور الثلاثى الأبعاد للوحة وعلى الاستدارة الأسطوانية للأشكال عن طريق الظلال، لكنه تفادى إغراء التفاصيل الجزئية التى يقود إليها هذا الاتجاه. وجعل همه الأكبر رسوخ التكوين وترابط عناصره وإبراز الحس التعبيرى.
- نذكر من أعمال هذه المرحلة لوحات `ظل القبقات`. `الطيور` `داخل المقهى`. `وئام` `الحمام `الشعبى`. `المولد`.
- ونلاحظ فى تلك الأعمال وغيرها تشابها كبيرا فى موضوعاتها وأسلوبها مع أعمال الجزار فى نفس المرحلة. واذا كان الجزار أكثر امتلاكا للحرفية وللقواعد الأكاديمية آنذاك، فإن ندا كان اكثر جرأة على تحطيم تلك القواعد، وعلى ارتياد منطقة المعتقدات الشعبية بما فيها من أبعاد خرافية. لكنهما فى النهاية يشتركان - بتكامل وتنافس معا - فى تأسيس لغة جمالية وتعبيرية جديدة. وسرعان ما استقل كل منهما بأسلوبه المتميز قبل نهاية الأربعينات.
- مرحلة الخمسينات
- اكتشف ندا - مع أوائل الخمسينات - القيم الجمالية للتصوير المصرى القديم، بنزوعها الى التصفيف والتسطيح والحركة الإيقاعية المنتظمة بواسطة الأوضاع الجانبية للوجه وحركات الأذرع والسيقان، وبما تحدثه من علاقات توافقية وتبادلية. أو طردية وعكسية بين عناصر التكوين. وقد شغف حبا بهذا النسق الجمالى، الذى وجد فيه انسجاما مع نسق الرسوم الشعبية على الجدران، الذى استهواه من قبل وتأثر به فى رسومه. كما وجد فيه إمكاناً للتعايش مع الأنماط الطوطمية - الطقوسية من فنون الكهوف والفنون الزنجية البدائية وما يحيسطها من ملامس سطوح الجدران الخشنة بألوانها المتأكلة بفعل الزمن وعوامل التعرية.
- كانت تلك المنظومة الجمالية التراثية هى الخلفية لتحوله البنائى فى مرحلة الخمسينات. فتحرر شخوصه من جمودهم وسكونيتهم واستسلامهم القدرى. كما تحرورا من أجرامهم الثقال وأطرافهم الغلاظ، دبت فيهم الحركة، وصاروا أقرب إلى الرشاقة والانسيابية، وتلاشى الحس المأساوى من سيماهم وحركتهم ليحل محله حس غنائى إيقاعى راقص.
- استفاد فى تحقيق ذلك كله، بجماليات الفنان الفرعونى والشعبى والبدائى، فألغى المنظور الهندسى (البعد الثالث) وأصبح التسطيح ليس فى اختفاء العمق بل أيضا فى اختفاء التجسيم الاسطوانى للأشكال، وأصبح الوضع الجانبى للأشخاص هو المفضل دائما لديه، مع الاهتمام بحركات الأذرع والأيدى والسيقان العارية ذات اللون البنى الدافىء الذى يحاكى لون الأجسام الفرعونية، التى يعمد إلى تشويه نسبها بمفهوم أقرب إلى الفن البدائى والشعبى. ومع اعتنائه بالألوان القوية (من الأخضر الفيروزى الى الأزرق البروسى والأحمر الطوبى على أرضية رمادية متآكلة ذات ملمس خشن) فإنه أضفى على هذه الألوان نوعاً من الشفافية والهمس، بينما راح يوشى حواف الملابس والخلفية وبعض العناصر بوحدات زخرفية على نمط المتواليات الشعبية فى الموسيقى. يقوم المثلث فيها بالدور الرئيسى لصنع ` زجزاج` لا يكف عن الحركة والوميض على سطح اللوحة.
- أما عن مضامين لوحاته فى تلك الفترة فكانت تدور غالبا فى اطار علاقة حب رقيقة أو تعبيرا عن الخصب أو السلام أو العمل..
- كما ظهر زير الماء، رمزا للارتواء أو للأسرار الدفينة.
- وظهر الديك لأول مرة فى أعماله آنذاك، ليس رمزا للتضحية الدموية كما كان فى رسوم الأربعينات، بل رمزا للشقاوة والذكورة والاخصاب، إنه المعادل الموضوعى للرجل، نراه ملازما للمرأة أو محلقا فوقها.
- كما ظهر زير الماء، رمزا للارتواء أو للأسرار الدفينة.
- من هذه اللوحات `حديث المحبين` 1955، `أنشوة الصباح` 1956، `الفجر` 1958.
- وثم ما يدعونا الى الاعتقاد بأن الحس الأسطورى - القدرى لم يفارقه وثمّ حتى فى تلك المرحلة، وان اكتسى بطابع شعرى رقيق على عكس المرحلة السابقة وهو يتضح بشكل خاص فى لوحة `الفجر` التى تبدو فيها الفتاة المستلقية أقرب إلى مومياء ملكية فى تابوتها، الذى ينقره ديك أبيض رمزا للبعث ولوحة اخرى عام 1960 هى `الليل والنهار` قسم فيها المستطيل الرأسى للوحة إلى شريط طولى أسود يخترقه مصباح كيروسين، فوق مستطيل رمادى أكبر يخترقه قط أرقط يتسلل مثيرا للمخاوف، على خلفية من رموز شعبية تشبه الرقى والتعاويذ.
- مرحلة الستينات
- امتلك ندا خلال هذا العقد أهم خصائصه التشكيلية والتعبيرية، وذابت فى نسيجه المركب مخصبات الفنون التراثية مع عالمه الأسطورى والشعرى، فى الوقت الذى اتسع عالمه لواقع المجتمع الناصرى بشعاراته عن العدال الاجتماعية.
- هذا ما نلمسه بشكل قوى فى لوحة `العمل فى الحقل` 1962 التى تعكس استلهاما واضحا للفن المصرى القديم، من خلال صفوف الفتيات المنحنيات بملابسهن الزرقاء يبدرن الحب، وحركة أذرعهن وسيقانهن تصنع متوالية إيقاعية راقصة بلونها الطوبى، فى صفوف رأسية متتابعة فوق مجموعة مكونة من الرجل والحمار والفتاة والطفل أسفل اللووحة، بينما تتقابل العنزتان بلونهما الأبيض فى أعلى اللوحة مع الحمار الأبيض فى أسفل من اليمين، وتتقابل الفتاة على اليسار مع مجموعة الفتيات بأعلى من اليمين.. هكذا تتحقق حركة تبادلية شديدة الحيوية والرشاقة والتعقيد والبساطة فى آن واحد، على إيقاع العمل النبيل فى الحقل.
- وهذا ايضا ما نجده بدرجات متفاوتة فى لوحات `آدم وحواء` و`أفريقيا` 1963 التى تعكس قيمة حركة التحرر الوطنى فى الستينات.. وقد ظهر عنصر السمكة فى تلك المرحلة رمزا للخصب والخير، ويلفت الانتباه ولعه الشديد بالملابس الخشنة، وميله إلى تحليل الأجسام البشرية تحليلا فنيا يستوحى فيه أسلوب الأقنعة الأفريقية والنحت الزنجى بما فيه من مبالغات وتشويه.
- ومع نهاية الستينات تصفو لوحاته من خشونتها الضارية وتشف الوانها تحت فيض من النور يتسرب اليها من مصدر مجهول، فتبدو لنا وكأنها تحت غلالة حررية شفافة، وتكتسب أجسام النسوة رشاقة ورقة، على عكس أجسام الرجال التى أصبحت قزمية طوطمية طائرة لا مستقر لها، بينما يمتلىء السطح جميعه بعناصر زخرفية مستمدة من التراث الشعبى أو الفرعونى، ويضج بموسيقى جياشة بالحيوية مثال ذلك لوحات `توأمتان` و`حسن ونعيمة` عام 1969.
- وإذا تذكرنا أننا كنا آنذاك فى أعقاب حرب 1967 والبلاد تجاهد لاسترداد شرفها الوطنى فى حرب الاستنزاف وتحاول أن تتماسك وتتشبث بمقوماتها الحضارية التى تجعل من الهزيمة حدثا عارضا استطعنا أن نفهم تأكيد ندا على شموخ المرأة وسيطرتها على الفراغ تعبيرا عن الصمود والخصب وتجاوز المحن، بينما يحاول الرجل القزم تجاوز عجزه بالصعود للالتحام بها، ولنا أن نعرف - قبل أى شىء آخر - أن شخصية ندا كانت شخصية مسالمة تكره الحرب والعنف وتدعو إلى السلام والحب، وهذا ما نرى آثاره على مجمل مسيرته الفنية.
- مرحلة السبعينات والثمانينات:
- ينبغى الاعتراف بأنه يصعب تقسيم أعمال أى فنان إلى مراحل زمنية مستقلة، فإن رحلة الفنان بناء عضوى متماسك ومتداخل بعضه فى بعض وهذا ينطبق على ندا أكثر من أى فنان آخر، لأن أعماله على امتداد أربعة وأربعين عاما تنويعات على لحن أساس واحد وكثيرا ما نراه فى مراحل متأخرة يعود إلى عناصر ورؤى سبق أن عالجها فى مراحله الأولى، ولعله كان يجدر بنا أن نذكر هذا فى بداية تتبعنا لخطواته الأولى ومراحله المتعاقبة، لكن القارىء سوف يدرك بسياق التطور أن ما نقدمه الآن ليس الا مرشدا تقريبيا عاما لبعض العلامات الأساسية على طريق حامد ندا.
- وإذا عرفنا أنه منذ أوائل السبعينات بدأ يفقد قوة السمع فى أذنه الوحيدة التى كان يسمع بها. تنبهنا إلى سر الصفاء النورانى الشفيف الذى أخذ يتزايد فى لوحاته خلال تلك الفترة ذلك أنه كان ينزع السماعة عن أذنه فينعزل كلية عن العالم الخارجى ويصبح أكثر قربا وحميمية من عالمه الخيالى ومن صوته الداخلى وهو ما دفعه الى الانغماس أكثر فأكثر فى عالم الفانتازيا وإلى استدعاء عرائس الأحلام.
- فى السبعينات يتصاعد الايقاع الراقص فى لوحاته على أنغام شرقية موقّعة. والجمل الموسيقية تصنعها أجسام الفتيات الفارهات المتلويات فى مرونة الكاوتشوك واستداراته وكأنها تخلو من العظام مساحات اللوحات تزداد اتساعا وتميل إلى شكل المربع، والمعالجات اللونية والملمسية تصبح أقرب إلى الجداريات.
- تدخل إلى اللوحات عناصر جديدة: الحصان `الكتابات العربية.. الألوان الدافئة الناصعة.. قطع الأثاث القديمة من أرائك وكراسى.. قطع الملابس الداخلية.. ساعات الحائط العملاقة.. الهرم الأكبر.. الفونوغراف القديم ذو البوق.. الثور.. الآلات الموسيقية النحاسية والدفوف والطبل.. ملامح من الأرابيسك والعمارة الشعبية..
- يزداد ايغالا فى عالم اللامعقول، فى العلاقات اللامنطقية بين عناصر متنافرة.. يزداد اقترابا من عالم السيرك والأكروبات.. يرتفع حس الملهاة فى رؤيته للأشياء.. خطر لى أن هناك علاقة سببية بين ازدياد نسبة الصمم فى أذنه وازدياد نسبة الرفض للعالم الخارجى والتهكم عليه وتقديمه فى شكل الملهاة.. ومن السهل أن يقوم أى واحد منا باختيار لنفسه فى ذلك وقد يصل الى نفس النتيجة.. فلو فتحت جهاز التليفزيون على تمثيلية جادة وأغلقت مفتاح الصوت، وتأملت كيف يفتح الممثلون أفواههم ويغلقونها مشتبكين فى مواقف ميلودرامية دون أن تعرف ما يقولون، وكيف تتغير المشاهد والديكورات فى سرعة دون أن تفهم سببا منطقيا لذلك، فسوف تجد نفسك تضحك حتى ولو كان الموقف يدعو إلى الحزن... هذا فى تخيلى ما كان يشعر به حامد ندا فى السنوات العشر الأخيرة على الأقل.. فلم يكن فقد القدرة فحسب على السمع بوضوح، بل كان زاهدا فى سماع ما حوله، الذى كان بالنسبة له نوعاً من التلوث السمعى، مفضلا الاستمتاع بالدهشة الدائمة لكل ما يراه، مطلقا لخياله العنان فى تخيل ما تنطق به الشفاه، ولا ننس أنه كان يحمل بداخله دائما الطفل الشقى المشاكس؟
- مع هذا الخط يتصاعد خط المرأة - كامرأة وليس كرمز كما كان فى الماضى، يتلمس مواطن الفتنة فيها ويبالغ فى استطالتها ورشاقتها، ويكسبها أقصى ما تستقطب به الرجل من إثارة وخصب لكن بشكل سريالى يموج بالعناصر المتنافرة، كالقط والديك والزير، تلك العناصر التى استعادها من عالم الماضى، ويزداد الخيال جموحا به وهو يضع المرأة مستلقية فوق حصان يشق الفضاء كحصان الريح فى ألف ليلة وليلة.
- أما فى أعماله فترة الثمانينات حتى أوائل التسعينات، فإن حس التهكم والمفارقة يزداد مع ميل أكثر إلى التطريب الشرقى الراقص على إيقاعات الدفوف والطبول وأنغام الآلات النحاسية ذات التلافيف والأبواق التى يعزف عليها العازفون القُرْع وهم متقابلون فى جلسة تذكرنا بطريق الكباش. ولا نكاد نشعر بحضور للرجل إلا نادرا إلى جوار المرأة الفواحة بزخم جنسى، وهو ينظر نحوها باشتهاء، ولعل اللوحة التى تجمعهما على مستوى واحد - بل وتضعه فى المقدمة - ذات طابع مأساوى ساخر. وهى بعنوان `القاهرة` رسمها عام 1983 إذ نرى الرجل إلى جوار جسدها المنطرح أرضا تحت أقدام ثور عظيم الجرم، يقف بدوره تحت سفح الهرم منتصرا وبجوارهم ما يشبه التابوت أو القارب الأجوف تطل منه عين تراقب فى حياد. ولا تخفى الدلالة الرمزية لما آل إليه حال القاهرة.
- هكذا تتكثف الرؤية الفنية والتعبيرية عند ندا حتى نجد أنفسنا أمام ملهاة مأساوية فى عالم ميتافيزيقى ملىء بالعجائب.. للنساء فيها حضور الأقزام، وللقطط حضور الأرواح الضالة والموت المتسلل، وللثور حضور الأهرام، وللساعة حضور الشاهد الأخرس...
- أما هو... فيطل علينا من خلف هذا كله، نازعا سماعته مبتسما فى سخرية محبة للحياة، لا تعرف المرارة.. رغم كل ما يدعو إليها!
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة: إبداع ( العدد : 7، 8) يوليو 1990
حامد ندا عراب السريالية الشعبية المصرية
- ما بين الميلاد والرحيل من عام 1924 وحتى 1990 حياة خاصة تعدو بالفنان من عالم الوعي واللاوعي لينطلق الفنان حامد ندا عازفا وبمهارة بالغة التفوق والتفرد على أوتار السريالية الشعبية المصرية ليحدث نوعا من التميز المطلق لأعماله الفنية بأسلوب فريد للغاية.
** الأسلوب الفني للفنان
- انطلاقا من المدرسة الشعبية المصرية وضروبها العميقة الثرية نجد الفنان ينطلق ثابت الخطى ليجسد أعمالا تشكيلية بالغه الخصوصية والتميز مستخدما موتيفاتها ورموزها متعددة الأشكال والمعاني والمعالجات التشكيلية في البنية التصميمية حيث وظفها بأسلوب وطرق تعكس دلالات ومضامين تعبر بلغة خاصه جدا عن فكر الفنان، كما تجسد الطابع السيريالي متأثرا بالطابع الإبداعي، ومستخدما الطابع والتفكير الابتكاري لإثراء المعالجات التصميمية المستخدمة في كل أعماله هذه التعديلات لأصل واحد يختلف نتيجة وضع وجهات نظر الفنان الشخصية إلى جانب تعديل الفنان لرؤيته الخاصة، بحيث يصل إلى مرحلة قد يبدو فيها مختلفا لكنه من نفس الأصل مع إجراء بعض التعديلات على شكل الأصل حيث إن جميع صياغات الفنان حامد ندا تعتمد وبشكل مباشر على خياله وإبداعه، وأيضا ثقافته الفنية المستمدة من تراثه الفني الشعبي والتى تمثل أهم عناصر بنائية، أعماله الفنية التشكيلية ذات الطابع السريالي.
- نلاحظ أن الصياغات والمفردات الخاصة بالفنان تمثل أهم عناصر بنائية أعماله التشكيلية حيث أنها أعمال تتسم بالازدهار والنماء حيث يتوفر عامل التفاعل الحيوى بين الفنان ومفرداته وصياغاته وتقنياته وأسلوبه الفني مما يسهم فى تفعيل البنائية الصحيحة أو السليمة التى تسهم في إثراء وازدهار أفكار أعماله الفنية والخلاقة، باستخدام صياغات ومفردات مبتكرة نابعة من الحس الشعبي، ومعالجا ذلك باستخدام الأسلوب السيريالي مما نتج عنه أعمال فنية تعد وبمنتهى الصدق انعكاسا للبيئة المصرية الشعبية ومردودا للحضارة المصرية المتوارثة، مؤكدا على حيوية موضوعاته والتصاقها بالنفس البشرية والتى تعكس المكان والزمان وعبقرية الفنان التي تظهر فى أعماله.
- كما وظف الفنان الرمز ببراعة داخل أعماله الفنية ليشكل لغة بصرية ابتدعها من خياله وإحساسه حيث قام باختراق عالم الخيال ببراعة ومبتعدا عن الواقع في تصوير مفردات أعماله متجها وبسرعه فائقة نحو عالم الأسطورة حيث بنى مشاهد وأحداثا على مسطح لوحاته تتسم بالأفعال الغريبة وغير الواقعية، كما أنها كانت مغايرة للواقع المرئي وتجنح وبشدة نحو الخيال واللاواقعية، لذلك أطلق على الفنان عرَّاب السريالية المصرية الشعبية، وذلك نظرا لجنوحه نحو تحقيق الخيال وتفعيله فى إبداع صياغاته ورموزه ومواضعات لوحاته مما ساهم فى ظهور رؤية بصرية على مسطح لوحاته تتسم بأنها محملة لما بداخله من أحلام وانفعالات وأفكار أسطورية.
- الفنان يستطيع وبشدة أن يوقع المتذوق لأعماله بل ويجبره في الغوص داخل عالم التصورات الخيالية فهو يجنح نحو الخيال البصري والتأملات الفلسفية في أمور الكون والحياة التي يعبر بها الفنان باستخدام وسائط ومفردات تثير الفكر السيريالي الممزوج بالفن الشعبي والأسطورة ليجسد أحداثا لها صور خاصة للغاية ولغة وأسلوب يضع الفنان حامد ندا على قمة رواد الفن الحديث باعتباره عرَّاب السريالية المصرية الشعبية.
- اتخذ الفنان الطابع الخيالي مستخدما اللاشعور والخيال والرموز بتنوع أعماله ليجسد الثقافة الشعبية المصرية محاولا أن يضفي على تجربته الفنية طابعا فكريا ومعاني فلسفيه بالغة الخصوصية حيث يؤكد الفنان من خلال أعماله على أن الفن استجابة مباشرة للعوامل الفكرية والاجتماعية والتاريخية لأي مجتمع مستخدما الصياغات التشكيلية في أوضاع وبنائية بالغة الخصوصية في مجال التعبير منطلقا بفكر وفن أكثر صدقا وفنا، حيث إن أشكاله الرمزية والخيالية ترتبط بالأعماق والوجدان ويكون لها امتداد عميق في أيدولوجية المتذوق لأعماله الفنية، كما صور أيضا الفنان لوحاته التشكيلية ومفرداتها وصياغاتها وتقنياتها موظفا الفن الشعبي وبعض الظواهر المختلفة والشخصيات والبناء التشكيلي لأعماله ولوحاته صبغهم بأسلوب وصفات ميزتهم وأضفت عليهم قدرات خارقة غير طبيعية حيث أظهرتهم بصورة مغايرة للواقع المرئي بشكل مبالغ فيه يتسم بالخوارق ويتجاوز الواقع المعقول والمنطقي فهو يستحضر دلالات غير مباشرة للعمل الفني ويحاول جاهدا أن يستشف أبعاد أعمق في دلالات وصياغات رمزية لها مسحه أسطورية، كل ذلك ساهم في ظهور سلسلة من الصياغات والرموز المعبرة عن التكوين الفني الطبيعي للعناصر البشرية والحيوانية والنباتية وغيرها طبقا للرؤية الخاصة بالفنان، حيث تميزت المعالجات التشكيلية للصياغات والرموز بقوه الخطوط وتنوع حركاتها حيث ابتعد الفنان عن النقل الحرفي للعناصر مما أعطى ميزة تجريدية استغلها الفنان حيث كان صاحب أسلوب وفلسفة خاصة اتسم بها في الحركة التشكيلية المعاصرة.
** المراحل الفنية في رحلته التشكيلية
- يطالعنا الفنان حامد ندا بمراحل من الإبداع وتمثل المرحلة الأولى والثانية في صياغته الفنية الجزء الأكبر لاستلهامه من البيئة الشعبية وتصوير المضمون الاجتماعي والفكري الخرافي الذي ساد هذه الأوساط، وتميزت الصياغات التصميمية عند حامد ندا للعنصر الآدمي بالتسطيح والبعد عن التجسيم، والتلخيص الشديد من خلال فلسفة جمالية خاصة، والفراغ في أعمال الفنان له دور أساسي في تأكيد عمق اللوحة، وترتيب الصياغات داخلها من خلال معالجات تشكيلية كالمبالغة والاستطالة والضغط لعناصره، حيث جسد الإنسان في الحيز الفراغي كوسيلة للوصول لإمكانيات تحويره في تصميم يحتوي المساحة في اللوحة وكذلك لا يفقد جوهره واستعان الفنان بالعناصر والأشكال الهندسية مثل (المثلث، المربع، المنحنيات، الدوائر) على أرضيات اللوحة، وبذلك اتجه في صياغاته إلى المبالغة في التعبير عن العنصر الآدمي مع التركيز على الاستطالة في بعض الأجزاء عن الأخرى كما دمج الفنان العناصر الزخرفية في صياغة أعماله، فأصبحت الصياغات محتويه على تلك الرموز وتحولت صياغاته التصميمية إلى التعبير عن مضامين رمزية يمتزج فيها الحلم بالأسطورة في تعبيرية وشجن تشكيلي، كما استعان الفنان في معالجة خلفيات أعماله ببعض العناصر الزخرفية الشعبية وكتابات وحروف تشكل بعداً أساسياً في بناء أعماله.
- ظهرت في أعمال حامد ندا صياغات تصميمية سريالية للعنصر الآدمي وتمثله في رأس أو أطراف حيوان أو جسمه وهي صياغات أقرب من الحلم منها إلى الواقع، واستعان الفنان هنا بأسلوب التحطيم أو التحوير ليقدم صياغاته للعناصر الخرافية.
- تميز حامد ندا بالحس الميتافيزيقي التشاؤمي، مما جعل صياغاته للعنصر الآدمي كما لو كانت في علاقة مباشرة مع القدر وليس مع ظروف الحياة التي يمكن فهمها وتغييرها، ولعل هذا ما جعل عالمه يبدو مغلقاً، وجعل أشخاصه يخفون وجوهم بأيدهم ويديرون ظهورهم للحياة. وقد أكد الفنان هذا المعني فضلاً عن المسحة الأسطورية في صياغته للعنصر الآدمي وحركاتهم العنيفة باستخدامه لعناصر من السحر الشعبي كالرموز والأحجبة والرسوم الجدارية البدائية والوشم ولمبة الجاز التي تلقي بالظلال أكثر مما تلقي بالضوء وكراسي القش الغليظة وزير الماء الخالي في خلفيات لوحاته، بالإضافة إلى الاستعانة بعناصر أخرى حية ذات دلالات سحرية في المورث الشعبي مثل (القط والسحلية والبرص والديك) .
- فلسفة الرمز في أعمال الفنان
- يعتبر الرمز الداعم الأول لأعمال الفنان واللبنة الأولى في نشأة الصياغات التي يقدمها الفنان من خلال لوحاته حيث يتسم الرمز بالتحقق الكامل على مسطح أعمال الفنان بجانب احتوائه على الفكر الحسي بجانب الاهتمام بالمعتقد والجنس والأسطورة في المكان والزمان ضمن أعمال الفنان حيث يعد صاحب قدرة بالغة الخصوصية على بناء وتشيد رموزه وصياغاته وصهرها في قالب إبداعي تشكيلي مميز يتسم بالجمال المطلق ورموز لا تأتي من فراغ أبدا ولكنها مسببة ومتأثرة بالأبعاد التاريخية والحضارية والاجتماعية وبالتالي يحقق الفنان المعادلة الصعبة شديدة الخصوصية من حيث تنوع الأشكال الفنية إلى جانب تجانس الرمز تجانسا بديعا مع الأبعاد سابقة الذكر.
- برع ندا وباقتدار في بناء رموزه وتصويرها في قالبها الجمالي وأيضا تصويرها في تعدديات وأشكال مختلفة حيث استطاع تحويل قلقه وهواجسه الداخلية الناشئة في ذهنه إلى رموز وصياغات فريدة وأشكال فنية جديدة ومفاهيم مستحدثة عن الواقع والاتجاه المغلف بالفن الشعبي والانطلاق به نحو التعبير عن الغامض الذي يسكن النفس البشرية الذي لا تعنيه نفس الفنان ولا تعنيه رغبته الصادقة المفعمة بذاتها والتي تنطلق بأسلوب سريالي شعبي دون تغير أو اهتمام بضروريات العالم الخارجي حيث تفاعل الفنان مع الفنون الشعبية وسار في ضروبها معيدا تشكيلها وفق رؤيته ومعتقداته وتطويره لها مرة وإعادة تشكيل القيم التي تحملها مرة أخرى وفق الثقافة المعاصرة، وهو ما يثير بدوره العديد من الآراء تجاه أعمال ندا وفكرة التنويري التطويري منذ توجهه بقوة ليعبر بصياغاته ورموزه عن تقاليد وعقائد وأفكار ومعتقدات وموروثات شعبية من وجهة نظرة الخالصة بالغة الخصوصية التي تحمل فلسفته وآراءه وليست هناك أي التزامات يلتزم بها الفنان سوى طموحه الفني وغايته الإبداعية التي ينبغى تحقيقها من خلال بناياته التشكيلية التي تحمل وجهات نظره الخالصة والتي تعبر عن فلسفته النابعة من صميم شخصيته وقناعاته.
- سار الفنان في درب التشكيل الفني وبناء أعماله مستمدا من التراث الشعبي روحه وجماله مؤكدا على جماليات أعماله الفنية من خلال عناصره ورموزه وصياغاته ليفعل عنصر الخيال ويدعم الفكر الشمولي للعمل حيث تجد نفسك حينما تطالع أعماله قد أثير بداخلك الإعجاب والمتعة النفسية بجانب الغموض والشجن أيضا نظرا لأن الفنان حامد ندا حاول جاهدا الوفاء بالأغراض الوظيفية والجمالية للعمل التشكيلي إلى جانب تدفق الشعور بالإيقاع العام في بناء أشكاله ورموزه الفنية فضلا على إصراره للتأكيد على الكتلة والتنوع في رموزه مؤكدا على القيمة الجمالية وكذلك تحقق أعماله وبشدة لعنصر الوحدة والتنوع وسيطرة الفنان المباشر على وسائط التنفيذ والخامات المستخدمة في بناء أعماله وكذلك اللون وتمكنه منه وباقتدار لنعيش جميعا في درب ندا السيريالي.
- أكد الفنان على رموزه وعناصره المصاغة على مسطح لوحاته سواء كانت أشكالا أو رموزا تمثل مظاهر كونية أو الحياة الطبيعية لمجتمعات ومعطيات لها ماض بالغ الخصوصية متصل بشكل كبير بحياة الفنان وتقاليده ليؤكد ندا من خلالها على أسلوبه السيريالي الشعبي الذي يظهر من خلاله البساطة والبعد عن التعقيد بجانب التحطيم والتخلي عن النسب إلى جانب تنوع الصياغة بجانب التسطيح أحيانا والتجريب والاستطالة أحيانا أخرى، وكلها سمات قولبت أعماله ووضع لها سمات بالغة الخصوصية أضفت عليها الأسلوب المبسط والتلقائي، ويمكن دمج هذه العناصر جميعا في عملية الاستلهام الخاصة بالفنان من خلال زمن متغير وثقافة متغيرة عاشها ندا طيلة حياته وجنوحه الملحوظ نحو المورث الشعبي لينتج لنا الشكل النهائي لموضوع عمله الفني حيث يظهر محتوى الإبداع التشكيلي.
- وبمطالعة أعماله نجد أنه نجح في تحقيق الشمولية في تذوق التراث واستيعابه بشكل كامل وهضمه مع سائر مكتسبات المدخلات الأخرى ليعيد تنظيمها وتركيبها ودمجها على نحو مغاير جديد بما يتفق وخصوصية العمل الذي يبدعه وهذا ما نلاحظه في أعماله، مثل: راقصة على نغمات البيانو، الحب، كيد النساء، البجعة، الرقص بجوار الشاطئ، السقا، حديث، الليل والنهار، من الجمالية، من الأحياء الشعبية، مسيرة التعمير، في الليل لما خلي، حارس البحر، امرأة وقط، المنتصر، القاهرة، الديك والقمر، البلاج، أسطورة شعبية، رقصة شعبية، الأمومة، العبور، الحصان الجامح، السفاح، المغني والبيانولا، الممسوس، خيول برية وغيرها من أعمال ندا المميزة.
د. أمجد عبد السلام عيد
مجلة الثقافة الجديدة ديسمبر 2021
أشكال ومعان فى فن..حامد ندا 1924- 1990
- ما كادت ترتفع بنود السلام بعد الحرب العالمية الثانية، حتى سارع المفكر والفليسوف حسين يوسف أمين (1904-1984) بتشكيل `جماعة الفن المعاصر` وكان الرسام حامد ندا (61 سنة) يجتاز عامه الثانى والعشرين حين دعاه إليها صديقه وزميله عبد الهادى الجزار قبيل المعرض الأول سنة 1946.
- لعبت الجماعة دروها التاريخى المعروف حتى سنة 1955 ثم تشتت أعضاؤها كل فى طريق اعتكف رائدها واعتزل الحياة العامة وهاجر أبرز أعضائها `سمير رافع` إلى فرنسا. وما لبث نجمها الساطع `عبد الهادى الجزار` أن توفى سنة 1966.
-.. أما حامد ندا فمضى بالرسالة يثريها بثقافته الواسعة وموهبته الفذة وتجربته الزاخرة، حتى أصبحت لوحاته نموذجاً فريداً للرسم الملون الحديث، فى حركة الفنون الجميلة فى بلادنا، ودرباً من الإجابة القوية على التساؤل المحير حول `الأصالة والمعاصرة` و`المحلية العالمية`.
- وبالرغم من أن فناننا ترعرع فى أسرة محافظة وكان والده يحفظ القرآن ويشرف على بيوت الله، فإن تكويناته الأخيرة ذات مضامين عاطفية وتحفل برموز أشار إليها علم النفس التحليلى عند `سيجموند فرويد` فى كتاب تفسير الأحلام فى مطلع القرن. إلا أنها تشكيلات ترقى إلى مستوى الفلسفة والشعر والأسطورة ذات المغزى، وتبعد كل البعد عن الإثارة الرخيصة. فالتحويرات والتصريفات تحول نساءه الداكنات المسطحات كخيال الظل، إلى أشياء تشبه `فرسة النبى` - تلك الحشرة المتوحشة ذات الأذرع الطويلة والمفاصل الدقيقة والخصر الرفيع والجسم الممطوط.. والشكل الغامض الرهيب.
- ولد سنة 1924 فى بيت مملوكى الطراز فى حى القلعة بالقرب من `مسجد السيدة سكينة`. وساعد الطابع الدينى للحى، على إرساء التقاليد الشعبية التى هى فى الواقع تراث الثقافات الماضية فى جو تردد فيه أغانى: سيد درويش وسلامة حجازى ومنيرة المهدية. يستمتع فى أمسيات الصيف بالسمر مع الكبار في المضيفة في أعلى الدار. ويختلف في الصباح إلى `كتاب الشيخ بيومى` وهو جزء من المنزل كثيراً ما كان يتأمله من النوافذ الخلفية، ويراقب عمال `الطابونة` المجاورة وهم يخلعون ملابسهم ويخرجون الخبز من الفرن.
- يستطيع المتلقى أن يحس بهذا الجو الحافل بالحركة والحيوية والصورة الدرامية فى لوحات `ندا` إلى يومنا هذا حتى هؤلاء الفتيات العاريات اللاتى يتوزعن فى تشكيلاته كأنهن من أوراق القص واللزق. لا تخطئ العين ملاحظة التسطيح وأغفال المنظور وإهمال التجسيم. ولكن من قال إن فناننا يحاكى الطبيعة؟ إنه مخترع أشكال يضيف ويحذف لينشئ عناصر مبتكرة قد تمت إلى الطبيعة بسبب.
- تبلور أسلوبه التسطيحي فى الستينيات فى لوحات مثل `فرح عزة` التى تبدو وكأنها مرسومة على جدار مع تحريف فى موضوعية التشريع وحركات الجسم والسيقان والأيدى. ونوع من التصفيف فى توزيع العناصر ونوع من التصفيف على سطح اللوحة من أعلى إلى أسفل. مع أنه أتم دراسته الأكاديمية الدقيقة فى قسم التصوير - أي الرسم الملون - فى كلية الفنون الجميلة سنة 1951. لكنه كان يدين بالولاء لفلسفة `جماعة الفن المعاصر` يختلف إلى المدرسة طوال النهار ثم يعود إلى مرسمه الخاص أسفل البيت بجوار مسجد السيدة زينب، ويلون فى حرية وطلاقة.
- وتعلم صباحاً على أيدى رائدى الأكاديمية والتأثيرية: أحمد صبرى ويوسف كامل، ولم ترسخ فى أعماقه سوى تعاليم الرائد المنسى `حسين يوسف أمين` الذى أطلق قوى تلاميذه وحطم أغلال مواهبهم الخلاقة. إلا أن الدراسة الأكاديمية المعتمدة على المحاكاة زودته بمغزى من صور الطبيعة وقراءاته الغزيرة فى الفلسفة وعلم النفس والمعارف العامة لسنوات طويلة، منحته أسلوباً حضارياً للتفكير. ومن هذا المزيج المتفاعل مع تجارب الحياة والجرأة والذكاء والموهبة، تشكلت صور ذهنية هى التى نلتقى بها مجسدة فى لوحاته. وهذا هو مكمن الصدق. فهو لا يستهدف سوى التعبير بلا خجل عن خلجات نفسه حتى ليفصح أحياناً عن مضامين عاطفية ذات رموز ظاهرة، لكنها تخلو من التدنى والسوقية، وبخاصة لوحاته الأخيرة المفعمة بالحيوية والإثارة. عبر فيها عن ذاتيته وفرديته فى إطار إجتماعى ثقافى عميق. فمثل هذا الإبداع إذا لم يتضمن فلسفة قوية، تحول إلى فن سطحى أقرب إلى التشكيلات الشعبية التى نراها عند بعض فنانينا.
- ربما استلهم `حامدا ندا` أسلوبه التسطيحي من رسوم الأطفال إبان عمله كمدرس إبتدائي سنة 1953. ربما شاقته جرأة التعبير وتحطيم المسلمات وعدم مراعاة المنظور، والرسم على الأوراق كما لو كانت جدرانا وربما استقاه من الصورة الفرعونية العتيقة فى المعابد والمقابر، حين قضى عام 1958 بكامله في `مرسم الأقصر` التابع لكلية الفنون الجميلة وأتيحت له فرصة التأمل عن كثب إلا أن هذا الأسلوب ظهر فى لوحاته قبل ذلك بخمس سنوات فضلاً على أنه قضى سنة المرسم فى رسم `الموديلات` - أى النماذج الحية الرجال والنساء - أما إذا رأينا أن ثمة علاقة جدران الكهوف منذ 40 ألف سنة فلهذا الرأى ما يبرره لما بين الأسلوبين من علاقة حميمة تتمثل فى الأشكال المسطحة كخيال الظل والبعد عن التصفيف.
- لكن.. مادام الفنان الحق لا يبدأ من فراغ وهو يبني أسلوبه الإبداعى على تراث متراكم عبر التاريخ، فلن نزيد الأمر وضوحاً بهذا التأصيل. إن الجو الأسطورى الشاعرى الذى يكسو تكوينات `حامد ندا` والرموز الشعبية والطلاسم والإيحاءات السحرية والعبارات الدينية التي بدأت تتسلل إلى رسومه أخيراً، وأسباغ الروح البشرية الإنسانية على الحيوانات والطيور والزهور، كل ذلك يخاطب أعماق المتلقى والجوانب الفكرية التى يخفيها بقناع التكلف. يهز أحاسيسه ويوقظ ذكرياته بحلوها ومرها ويشحذ عواطفه شحذا...
- لقد شجعه الكونت `فليب دار سكوت` على هذا الأسلوب التعبيرى منذ البداية سنة 1953. وأحضر له أوراقاً خاصة لها طبيعة النشاف لتساعده على التعبير بالملابس. وأقام له معرضا فى ألمانيا الغربية ظفر بتقدير ملحوظ. ومن العقوق أن نغفل التعليق على جهود `الكونت دار سكوت` وألا نذكر له المساندة القوية لجماعة الفن المعاصر والكتيبات التى وضعها عن أعضائها وبخاصة `عبد الهادى الجزار` و`حامد ندا` التقيت به لأول مرة فى الهرم فى منزل حسين يوسف أمين سنة 1950 كان لسان الجماعة في دول أوروبا والناقد الذى نصحنى بالكف عن الرسوم والتلوين والتفرغ للكتابة.
- كانت لوحات ندا قبل السبعينيات تنزع إلى تصوير الحياة الشعبية والطبقات الدنيا كانت تخلو من هذه العناصر الأنثوية العجيبة، التى أصبحت كالبصمة تتميز بها بين مئات الأعمال الفنية. تكسوها مسحة ميتافزيقية ليبرالية تصادف هوى عند المثقفين ورواجا لدى `تجار الفن` وجامعى التحف. فالقدرة الشرائية حين تتوافر لمتلق تحكمه معايير أربعة هى: اسم الفنان. الموضوع. الجاذبية الفنية.. ثم بعض العوامل الذاتية المحضة.
- ولكى نبدأ القصة من أولها نعود إلى شهر مايو عام 1948 - تاريخ المعرض الثانى لجماعة الفن المعاصر حيث ظهرت باكورة أعمال `عبد الهادي الجزار` و`حامد ندا` مكتملة الشخصية ولفتت النقاد والمعنيين كان الفرق جليا بينهما فى كل من الأسلوب وما ينطوى عليه من فكر ومضمون وفى مقدمة `كتالوج` هذا المعرض، وصف رئيس الجماعة ورائدها `حسين يوسف أمين` أعمال الرسامين السبعة العارضين. قال عن ندا `إنه مصور الحياة الشعبية من وجهة نظر المحلل الكاشف لما فيها من عوامل الخرافة والانفعال المتصلة بالبيئة الشعبية فى عادتها ومظاهرها ومشاكلها المختلفة، وبتعقيداتها المبهمة والدوافع السيكولوجية لها`. أما `الجزار` فوصفه قائلاً `إنه أكثر التصاقا بالطبيعة، منذ أن جذبته بدايتها المجردة من كل أثر للعقل`.
- إن جذبته بدايتها المجردة من كل أثر للعقل البشرى. وراقب الإنسان كيف عاش وسلك طريقه فى هذه البداية.
- كان` الجزار` يرسم الواقع وأمواج البحر والإنسان بشكله البدائي. بينما انشغل `ندا` بالبيئات الشعبية والمقاعد القش ومصابيح الكيروسين والقط الأسود والبرص الذي كان يربيه فى مرسمه ويقدم له الطعام، والنساء والرجال بالملابس الشعبية المزخرفة لكن سرعان ما تلقف `الجزار` الفكرة ومضى بها إلى مستواها الرفيع الذي نعرفه، والذي بدأه رسام آخر وانقضت فترة من الزمن تشابهت فيها لوحات الصديقين إلى الحد الذى تختلط فيه على المتلقى. ثم أقلع `ندا` عن هذه الموضوعات وإن كان الطابع الشعبى يلقى بظلاله على فتياته العاريات وما يحوطهن عن عناصر رمزية، كالعصفور والصقر والديك والمفتاح والزير والقط والبرص والسمكة والزهرة. وقد يصور موضوعات العمل والبناء فى المناسبات الخاصة كما فعل فى لوحة `العبور` التى أبدعها تحية للسادات فى الخامس عشر من مايو سنة 1978 ربما كانت اللوحة الوحيدة التى استخدم فيها أسلوب الكولاج إذ لصق صوراً للرئيس الراحل وسط تكوين يعبر عن قيام الجيش بالبناء والتعمير من شبه جزيرة سيناء إلى الصحراء الغربية وفي لوحاته الصرخة التي أبدعها سنة 1984. رمز إلى تعبير بشكل ميكانيكي يشبه الإنسان الآلى، ترسم على صدره أشكال حيوانية، في تكوين درامى تتداخل فيه الألوان الخضراء والسوداء على خلفية زرقاء. مع الجو الأسطورى الميتافيزيقى الذى انتهجه منذ مطلع مشواره الفنى. أما هذا الشكل الميكانيكى الآلى فى رسومه الأخيرة - التى أبدعها سنة 1985 في أحجام صغيرة نسبيا - فيبدو أنه يسترجع بها طفولته الباكرة أيام كان يهوى جمع النفايات والخردة وهو فى سن الرابعة في بيتهم بالقلعة. كان يقتنى الأسلاك والصواميل والحديد وأدوات الكهرباء. وكم كان سعيدا حين حصل على فانوس عربة حنطور قديم. ليتوسط مقتنياته على الأرفف التي أعدها لهذا الغرض. أما الموضوعات الشعبية فغني عن القول أنها انعكاس للبيئة التى شب وترعرع فيها فى حى القلعة والسيدة زينب حتى تخرج فى الفنون الجميلة. وإذا كان تخلى عنها فى السبعينيات فقد لازمته منذ يفاعته. ففى عام 1943 وهو طالب بمدرسة الحلمية الثانوية. أعلنت وزارة الصحة عن مسابقة للملصقات فاز فيها بلوحة تمثل بائع البطيخ بالقلعة تحف به أسراب الذباب، وهو مشهد لا يرى إلا فى أعماق البيئات الشعبية.
- ذكرنا فى مناسبات سابقة أن الموهبة لا تكفى لكى تصبح فنانا. ينبغى أن تتوافر له عوامل خارجية وربما عدة مصادفات تساعد على صقل تلك الموهبة وإظهارها وتمهد الطريق أمامها لتنبت وتورق وتزهر وتثمر. وإلا ضاعت واندثرت. ومن الظروف المواتية لفناننا وهو فتى أنه ألتقى فى المدرسة الثانوية بمدرس لغة عربية ذواقة وجهه إلى جمعية الرسم بالمدرسة والمدرس المشرف عليها الذى كلفه بنقل أعمال كبار الرسامين العالميين. ومدرس الرسم حسين يوسف أمين الذى أسس جماعة الفن المعاصر بعد ذلك. دربه على رسم الصواميل والسلاسل بالقلم الرصاص وتبين جمال تكويناتها، والرفاق الطليعيين الذين ألتقوا بين ليلة وأخرى فى مرسمه بمنزل الأسرة بشارعه التلول بالسيدة. وقد لعب أكثرهم دوراً مرموقاً فى الحركة الثقافية فيما بعد. نذكر من بينهم: سمير رافع، كامل زهيرى، حسن التلمسانى وعبد الهادى الجزار بطبيعة الحال.
- تضافرت هذه العوامل لتفسح الطريق أمام الموهبة الصاعدة، لتثرى ثقافتنا المحلية بعطائها.
-.. ولا ينبغى أن تمر الفرصة دون التنوية بدون الرائد المنسى `حسن يوسف أمين` الذي لم يبصم تلاميذه بطابع واحد كما كان الحال مع `أحمد صبرى` و`يوسف كامل ` فى مدرسة الفنون الجميلة كل واحد من الشباب السبعة أعضاء الجماعة كانت له شخصيته المنفردة، وإن كانوا جميعاً غير تقليديين. وكان يضطلع بنفقات العمل من الألف إلى الياء: من أوراق وألوان وقماش وموديلات وندوات وافتتاحات معارض وطباعة دعوات وكتالوجات. فضلاً على مكتبة زاخرة بالمراجع يعيرها للأعضاء. كما استقطب اثنين من النقاد المرموقين آنذاك هما: البلجيكى `الكونت فيليب دارسكوت` - الذى كانت له ممتلكات فى ضاحية مصر الجديدة والذى نشر فى بلاده كتاباً عن `الجماعة`، ذكر فيه `حامد ندا` وقابل بين لوحاته وكتاب `الأيام` للعميد طه حسين. من حيث تصوير العادات الشعبية بأسلوب تراجيدي. ثم الناقد المصري `حبيب عازر` الذى نشر كتيبا بالفرنسية فى مصر عن جماعة الفن المعاصر. الأمر الذى آخر دخول `ندا` و`الجزار` دائرة الضوء على الصعيد المحلى وبخاصة وأن حركة النقد العربية لم تكن قد تبلورت بعد.
- هذا الجو الثقافي الرفيع انعكس على الفتى `حامد` من أربعين عاما. فقرأ فى التطور وعلم النفس والفلسفة بفروعها المادية والمثالية. وصادف ذلك المناخ هوى فى نفسه. إذ كان لايزال طالبا فى القسم الأدبى فى الثانوية العامة، لم يتخلف قط عن لقاءات `الجماعة` والإسهام فى معارضها حتى توقف نشاطها سنة 1955.
- ومضى يرتاد سبلاً جديدة فى بناء الحركة التشكيلية المصرية، وفى أعماقه آثار لا تمحى لتعاليم الرائد الراحل، الذى نسيه الجميع لأنه لم يكن أستاذا فى كلية فنية في عام 1951 أبدع `حامد ندا` مجموعة لوحات، نال بها درجة الدبلوم من مدرسة الفنون الجميلة العليا، بها موضوع `الشعوذة` حتى يعبر عن مظاهر الأيديولوجية الشعبية التى عاشها طوال السنوات السابقة وحتى يجمع بين الاتجاه الأكاديمى الذى تفرضه المدرسة، ونزعاته الفنية الذاتية فحفلت لوحاته بمظاهر السحر والدروشة والزار. وامتلأت الملابس والجدران بالرسوم الرمزية. وزخارف الوشم على الأيدى الغليظة مع العناية بالتشريح والظل والنور وإقحام العناصر الغربية.. مما أصفى على اللوحات طابعاً سيريالياً ظل يصاحبه حتى الآن بعد أن انتقل إلى تشكيلاته الحديثة التى لا يعتمد فيها على أفكار مسبقة. بلا عنوان أو موضوع يدفعه شعور مبهم إلى قماش اللوحة فيضع عليها عنصراً ما: امرأة وقطة أو ساعة حائط وعصفورا. وغالبا ما يتصور نفسه متقمصا شكل قط أو عصفور. ديك أو حصان.. ثم تتوالى العناصر بلا علاقات منطقية مع واقع الحال. إنما هي صور أقرب إلى الكوابيس تتسم بالشاعرية والطرافة.. والرهبة أيضا. تجسيد لخيالات ذاتية مستقرة فى أعماقه قد لا يتبينها قبل أن تبدو لعينيه على القماش. ثمة علاقة بين عناصره والطبيعة لكنها تفتقد المنطق كائنات غريبة وأن كانت ذات صبغة بشرية أو حيوانية. حتى الأشياء غريبة بدونها. فقد نلتقى بمقعد مسنده يرتفع إلى أضعاف ما ينبغى أن يكون. قاعدته فارغة كالطوق. يقف على حافتها عصوفر. نستطيع أن نلتمس تفسيرا لمثل هذه التكوينات اللامعقولة فى ضوء أفكار: سيجموند فرويد `عن العقل الباطن` وبخاصة فى لوحته الشهيرة التى يصور فيها فتاة عارية على ظهر حصان يسابق الريح. أو الأخرى التى تصور الحصان يراقص الفتاة أو الثورة والفتاة. أو الديك والفتاة. كل هذه التكوينات يحجم الفنان عن تفسيرها، لها مدلولات عاطفية إنسانية. وهي فى هذا الإطار تنأي عن الصفة المحلية وموضوعات يعبر عنها بحرية وصدق عبر لوحاته المثيرة. وهو بذلك يعود من حيث بدأ. إلى `السيريالية`.. ولكن فى المستوى الفردى والمشاعر الذاتية. قد يتأمل القماش الفارغ لأيام وأيام ثم يستيقظ قبيل الفجر ليخط رموزه ويجسد أحلامه. هذه الذاتية وهذا الصدق فى التعبير عنها. وتلك الخبرة الطويلة والمعارف الموسوعية، هى التى تهز مشاعر المتلقى وتخاطب أعماقه الفطرية النقية، وتدفع بالصور دفعا إلى مخيلته. إنها لوحات تشبه الكتابات السحرية.. تثير الهواجس فى نفس المتلقى وتستنفر الأفكار....
الناقد : د./ مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول )
حامد ندا وإعادة اكتشاف التراث
حامد ندا وإعادة اكتشاف التراث
- اكتشف ` حامد ندا ` ( 1924 - 1990 ) حقيقة الجمال المتمثلة فى قوة التعبير ، ومهما بدت الصور مجردة وغير تشخيصية ، فإن الصفات الإنسانية هى التى سوف تمنحها جمالها . وبواسطة أساليب ` التشبيه والاستعارة ` يمكن أن تكتسب الأشياء العادية صفات جمالية . ولم يكن الفنان مهتماً بفانتازيا خياله وتسجيل الصور التى تصادفه فى الواقع مثلما يراه ، ولاتعنيه مسائل إتقان مهارات المحاكاة والإيحاء بالعمق الفراغى ، باستعمال حيل المنظور ، أو بتجسيم هيئات الصور التى يرسمها باستخدام الظل والنور ، وإنما انشغل بكيفية التعبير عن أفكاره بطريقة غير تقليدية ، دون الالتزام بالقواعد والأعراف التى تفرضها الأكاديمية ، بل بالاعتماد على أسلوبه الشخصى وعلى خياله وذاته . وبأسلوبه المتفرد أنجز `ندا ` صوراً مدهشة ، ذات حيوية ساحرة . وقد جذبته فكرة التنقيب فى تراث الفن المصرى القديم ؛ حيث أعاد اكتشاف رسوم أوانى الفخار التى تعود إلى حقبة ماقبل الأسرات ، فى منطقة ` نقادة` بصعيد مصر ، فنهل من رموزها استعاراته ومجازاته الصورية ، مما منح تصويره للموضوعات العصرية ثراء وروعة جمالية .
- وبالتعمق فى دراسة الرسوم التراثية المسجلة على سطوح أوانى ` نقادة ` اكتشف ` ندا ` أهمية التحليل وإعادة التأليف لعناصر عمله الفنى ، مع الاستعانة بأساليب التحريف والتحوير والاختزال ، حتى توصل لمعالجات فنية مدهشة ، تتميز بطلاقة التعبير وبجمال الأسلوب ، وتضمن لعناصر الصور حرية الحركة فى فرغها ، وسهولة اختيار الأشكال الملائمة والأكثر بساطة ، والألوان المشرقة والصافية ، بفضل السماح للخيال بأن يعمل بحرية ، وللذاكرة الصورية بأن تنطلق فى فراغ أرحب . وتؤكد التحريفات والتحويرات فى الخطوط والألوان ، على حيوية الأشكال وإيقاعها بانسيابية وجمال ، فتبقى الفكرة على تألقها ، حتى يتسع التعبير للقيم العاطفية . هكذا استوعب الفنان مبدأ الرسم بسهولة وبساطة ، كلما انصبت العناية فى الصورة الفنية على الفضاء المحيط ، أكثر من العناية بالشكل ذاته .
- وبأسلوب الفنان المتميز اختزل ` حامد ندا` فى رسم لوحته ` موسيقى نحاسية ` (1986) التفاصيل غير الجوهرية ، حتى استخلص هيئات شبه مقولبة لأشكال البشر والطيور والآلات الموسيقية . فمع تتبع الخطوط يلاحظ أنها ترسم الفضاءات فى نفس وقت رسم الشخوص ، مما ينتج عنه علاقات ` متعارضة / متكاملة ` (سالبة / موجبة ) . حيث يستدعى الفنان الصور من ذاكرته ، لتأتى مختلطة بشعوره ، وبأفكاره ومواقفه تجاه الحياة . وبذلك يصبح التعبير أكثر بلاغة وأكثر جمالاً ، وقد اكتسب حركة وحيوية . ويستمتع المشاهد ب`الاستعارة ` عندما تعزز اكتشاف التشابه بين شيئين غير متماثلين ، بينهما صفة مشتركة، فتقوى الإحساس بالواقع . ومن الأساليب التى تدعم الصيغ البلاغية كشكل جميل ، صفاء الألوان ، واختزال مناطق الظلال ، مع التأكيد على رشاقة الخطوط .
- ويصبح ` التخيل ` هنا مسئولاً عن تحويل الشكل الواقعى إلى صيغة بلاغية ملائمة للرسم .وتبعاً للصيغة البلاغية الجميلة فى تلك اللوحة ، تلاءمت تصورات الفنان مع الأشكال ، ومع حركات النسوة اللاتى ترقصن ، وأيضا مع صور الأبواق النحاسية والديكة . وبالاستعانة بأساليب الاختزال والتحريف والتبسيط تتحقق ملاءمة الأشكال للرسم مع تجنب الزوايا المقلقة ، حتى كادت الصور تتحول إلى مايشبه العلامات . وفى الحقيقة أن أفضل الصور تتكون فى الذاكرة ، وما يحفظ فى الذاكرة يصعب محوه ، مما يؤكد على دور الخيال فى العمل الفنى .
- كذلك اعتمد ` ندا ` فى رسم لوحته ` رقص جنون ` (1989) على استدعاء التصورات المختزنة فى لاشعوره ، ويتخذ لها صوراً من أشخاص مقلوبة أو مبتورة أو محورة ، تتأرجح وتتشقلب . ومع الاستعانة بالأساليب ` الاستعارية ` تبزغ الصور العجيبة والمبهمة ، بعد أن تحولت إلى مايشبه الخواطر . ومع ذلك فليس كل ماهو مرسوم يتصل مباشرة بموضوع اللوحة ، بل يمثل مجازاً لما يتخفى وراء المعنى . أما مايغيب عن العين فيمكن أن يستحضر بالتصور . والمعنى الماورائى للرسم هو ` الصمت ` و` الاستسلام للقدرية ` و` للشيطانية `. وتتميز اللوحة بجمالية الاحتفال بالطابع ` الأنثوى ` المتمثل فى القافية الخطوطية والاتجاهات المنحنية ، وفى إزاحة الرغبات المكبوتة لاشعورياً فى شكل تفاصيل صغيرة ، تحول الشبق الغريزى إلى سرد لجزئيات ، ويرجع سر الجاذبية هنا و` السحر ` فى جانب منه ، إلى الغموض المحير الذى صنعته المعانى المجازية المختفية وراء صخب الرقص الجنونى .
بقلم : د./ محسن عطية
من كتاب طليعة التجديد فى الفن المصرى الحديث- سلسلة ذاكرة الفنون(مارس 2016)
|