سعيد محمد العدوى رمضان
( توطئة ( الفن .. العقيدة .. والمصير
- لست أكتب هنا ما أكتب عن ` سعيد العدوى ` قاصداً التصنيف أو التقرير ذلك أن فكرة التصنيف التى يعمد إليها كثيرون ممن يكتبون عن فنان بعينه تقتضى إطلاق أحكام ( يقينية ) كثيرا ما تكون غير صائبة وأحيانا ما تكون ظالمة وغالبا ما تنطوى على نوع من ( المبايعة ) الكاذبة .
- وهكذا .. فلقد آثرت أن أتناول الحديث عن ` سعيد العدوى ` مشيراً إلى خريطة المضمار الذى نسير عليه ونحن ( جزء منه ) وهو مضمار يحكم منعطفاته علينا ويجعل تصوراتنا وأحكامنا محدودة بحدوده ومطبوعة بطابعة.. وعلى هذا المضمار أيضاً ظهر `سعيد العدوى ` مثل شجرة أطلقت أوراقها للريح .. وماتت ( واقفة ) .
- والحديث عن `سعيد العدوى ` يأتى - فى سياق هذا النص - ضمن ( التوجهات ) الثقافية والفكرية التى ذهب إليها الفنانون فى مسيرتهم فوق هذا المضمار من جيله وممن سبقوه وممن جاءوا بعده. وعلى هذه الركيزة وعلى نفس المضمار يبرز موقع سعيد العدوى .. ذلك على نحو ما يلى :
- أولا : فنانون ذهبوا فى توجهاتهم نحو خصوصية الثقافة وارتباطها الوثيق بماضى حضارى وماضى سردى وهؤلاء يشغلون أحد جانبى المضمار .
- ثانيا : فنانون ذهبوا فى توجهاتهم نحو وحدة الثقافة العالمية ووحدة الروح الإنسانية وهؤلاء يشغلون الجانب المقابل من المضمار .
- ثالثا : فنانون ذهبوا فى توجهاتهم عبر النوعية الأستطرادية خوضا فى إشكاليات ما بعد الحداثة وهؤلاء يشغلون موقع الوسط من المضمار ويمثلون ريادة (فاعلة) تتعامل مع كل من جانبى المضمار بتبادلية ( الجرف والترسيب ) فى مجرى النهر الواحد تحذف وتضيف ـ دون وساطة ـ وتدعم الأساس الفكرى بميزان التطور ومن هؤلاء كانت جماعة التجريبيين السكندرية ومن مؤسسيها سعيد العدوى ولعلنى لجأت ـ عامدا ـ الى طرح هذا النسق فى الحديث عن سعيد العدوى للأسباب الآتية :
- واحد : الرغبة فى البعد عن التنميط والقولبة وإثارة الجدل حول مشروعية دمغ الفنان بأختام سابقة التجهيز . ذلك أن كل الفنانين مختلفون فى فرضياتهم ورؤاهم وتقنياتهم ولإيمانى الراسخ بأن الفنان ( مرواغ فذ ) فى الإفصاح عن مقاصده وهذه ميزة تفرديه تحسب له .
- اثنان : أن تناول تجربة الفنان بالاطمئنان إلى ( وصفة فى الفن ) هو مدخل ( استبدادى) يلجأ إليه كل من يرغب فى الكتابة إلى تحويل إيديولوجيته إلى ذائقة جمالية .
- ثلاثة : الرغبة فى تناول تجربة `سعيد العدوى ` بقوانين سعيد العدوى نفسه لا بقوانين مسبقة ومغلقة وذلك من منطلق الدخول ( البرىء ) إلى الاقتراح الفنى الذى تطرحه تجربته الثرية .
- وسواء وقفنا مع التجربة أو عارضناها ـ فنحن فى الحالين معا ـ من داخل المضمار وليس من خارجه والاختلاف يكون بالميل نحو أحد مواقع المضمار فحسب.
بين الأشاعرة والمعتزلة
- أثبتت التجارب الفنية لأعضاء جماعة التجريبيين السكندرية ( سعيد العدوى ـ محمود عبد الله ـ مصطفى عبد المعطى ) قدرات متنوعة ومتفوقة فى تبادل الصراع المحورى بين الفن والأحداث ـ المعاصرة وقتها ـ فى إطار من الرمزية المنظمة لدلالات تجربتهم كما بدا ذلك واضحا فيما بين معرضهم الأول فى العام 1965 وحتى معرضهم الأخير فى العام 1970 الذى شاركوا به ضمن طرح الدكتور/ثروت عكاشة : ` إعادة البناء الثقافى ` فى فترة ما بعد مأساة 67 .
- وقد اتسم زمن التجريبيين بتصاعد الخطابات الأيديولوجية التى وجدت تبريراتها فى الشروط ` السياسية والثقافية ` التى كان يعيشها المجتمع المصرى برمته ـ وقت ذلك إضافة إلى إحساس عارم بالثورة على القيم المستهلكة والبنيات التقليدية وقد اختطت هذه الجماعة لنفسها ( موقفا ) مضادا بإقصاء `التعاليم الأكاديمية `ورفض امتدادها إلى نصوص التجربة الفنية الخاصة وفروضها كما قامت بضرب مناهج ` التأثيرية والواقعية `فى عقر دارها على الرغم من مداهنة المرتزقة ` للواقع الاشتراكى وقتها ` .
- وبقدر ما كان لهذه الجماعة من مكونات فكرية مؤسسة على منهج التجريب ترمى إلى ` تغيير الواقع الفنى بهدف تطوير المجتمع ` إلا أن مأزقها الحقيقى هو أنها أسست لنفسه ( حضورا مشهودا ) ولم تصنع لنفسها ( امتدادا ) إلا فى التجارب الإبداعية لمريديها إلا أن التيار الرجعى فى الحركة السكندرية ـ لم يتوقف بعد غياب التجريبيين عند العام 1970.. حيث بلغ حد التنكيل بمريديهم .
- وعلى الرغم من أن أعضاء هذه الجماعة قد تلقوا دروسهم على أيدى أساتذة كبار مثل عبد الله جوهر وحامد ندا وماهر رائف إلا أن محدودية هذه العلاقة جعلتها قريبة الشبه بعلاقة : أرسطو ` بتلميذه ` الإسكندر ` ومن ثم يجوز لى أن أتساءل هل كانت توجيهات `أرسطو ` وتعاليمه هى التى غرست فى نفس ` الإسكندر ` ذلك الفضول الفاتح لإمبراطوريته الممتدة مابين الهند وإفريقيا ؟!
- والخلاصة أن الطرح الفنى لجماعة التجريبيين ـ فى ذلك الوقت ـ كان يعد طرحا إشكاليا واستثنائيا ، بتلك الأفكار المتولدة عن ضمير الفترة والذاكرة الجمعية للأحداث اليومية والتغيرات المستمرة التى طرأت على المجتمع ومن هذه الروح الوليدة عمد التجريبيون فى أعمالهم إلى التركيز على أولوية استنباط ( الفكرة ) فى توليد الموضوع الفنى . وعلى الرغم من أنهم لم يتمكنوا من إلغاء القيمة الانفعالية والعاطفية باستثناء التجربة العقلانية المطلقة لمحمود عبد الله منهم إلا أنهم أنتجواـ فى مجمل تجربتهم ـ أعمالا يمكن أن نطلق عليها أعمالا طليعية تمثل رأس الحرية فى الحركة السكندرية ـ وقتها .
- والذين يعتبرون الآن أن التجريب كان أيديولوجية طفيلية عاشت على معارضة التعاليم المدرسية وإذا أردنا مطامحهم الحالية ـ بالنظر إلى ما يقدمونه الآن ـ فلا يمكن أن تقوم لهم قائمة إذا قورنوا بالتجريبيين لأن ما يقدمونه الآن إنما يقوم على أرض من الثقافة سادتها فلسفة التجريبيين أنفسهم .
طلاقة الحافظ المستظهر
-على الرغم من أن ` سعيد العدوى ` كان متشددا ، ملتزما مع نفسه، ومع الآخرين ، إلا أنه كان إنسانا طيبا يمتاز عقله بالفطنة، وتلمع عاطفته بحماسة الأطفال الأبرياء. وعلينا أن نفهم هذين النقيضين فى شخصيته إذا أردنا أن نحصل على صورة عادلة عن أفكاره وإبداعاته.. ولقد أخطأ كثيرون ممن التفوا حوله وتقربوا إليه فى إدراك هذا التناقض فقد كان ( الراعى ) الذى ترك مزماره فوق العشب، وكان الرسام المناضل الذى (حرث) أرض التجريب (بقوة البدائيين).
- لم تزد سنوات الإبداع الحقيقة فى حياة `العدوى` على عشر سنوات، وكانت السنوات الثلاث الأخيرة منها سنوات (ثبات على العهد) تمثلت فيها الرمزية إلى الحد الذى دفعة لأن يتوحد معها .
- لقد ذهبت أعمال `سعيد ` إلى مرحلة لم يبلغها فنان آخر ـ من الناحية العددية ـ فى اتجاه تجريب ذاتى صامت.. وواصل إنتاجه الغزير على المساحة الزمنية القصيرة من عمره الفنى بأعمال يساوى كل منها سعيد `سعيد العدوى ` بأكمله وربما كان يخشى على عناصره من خطر التحلل والنسيان أو التحور، مما دفعه إلى منحها هيئتها البطولية، ولكن نوعا فريدا من البطولة هو الذى أعطى لعناصره صفة البقاء المؤثر والذاهل ولعل خشيته على عناصره ـ من جانب آخر ـ قد دفعه إلى العمد إلى تكرارها وهو تكرار أشبه ما يكون بالتماثل مع وحدات الزمن .
- وحين لجأ إلى نظم عناصره فى (صفوف) فإنه عند المسافات الفارقة بين هذه الصفوف كان يتوقف ليعثر على نفسه من جديد) ولاشك فى أنه بالتركيز والمراجعة كان يكتسب وعيا (بوجوده) ، ولكنه وجود منسحق تحت وطأة الملاحظة المرهقة والمعاينة المجهدة والمراقبة المذهولة المفجوعة بالجانب الآخر من الكون على أن الحوار الدائر بين عناصره حوار (غير تشخيصى ) والحديث بين أبطاله ليس أكثر من إرسالات تشبه دقات الطبول والأفواه (مزمومة ) لا تستطيع البوح بأسرار المأساة الحقيقية إلا أن الدماء تسيل من الذاكرة بغزارة لتقودنا إلى مشهد ( فداء ) يهز المشاعر لكنه مشهد منكفئ على الماضى ابتداء من عملية شحذ الخطوط على الورق، وحتى الانتهاء بصنع المشهد كاملا على أن كل مشهد يتطلب قدرا كبيرا من الانتباه، حيث تبقى العين فى محاور تتسع وتضيق وفقا لمرونة العناصر وصلابتها . لقد أسفرت تجربة `العدوى ` عن العديد من المريدين والناقلين والعابثين بأعماله ولكن من الصعب أن نجد أحدا يضارعه فى عمق الإلتفاتة وحرقتها .. لقد كان `العدوى` صريحا فى ملامسته لحقائق الحياة الحارة وهكذا لم تكن ثمة أسوار أو عوائق تحول بينه وبين الالتحام بشخوصه وعناصره إلى حد المناجاة التى بدت فيها عناصره وكأنها تهمس بأذنه الداخلية .
ضمير الغائب
- ولو كانت قد امتدت حياة `سعيد العدوى` لكان من الجائز أن تبوح بالمكنونات الدلالية بها ولكان من السهل علينا أن نتوغل مباشرة فى مملكته السامقة والبعيدة إنها مملكة من ممالك الروح الأبدية ونحن لا نستطيع الاقتراب منها إلا فى صيغة مقاربة. فقد استعمل العدوى ضميرا موازيا لصوته الداخلى وطالما اقترب هذا الصوت من لانهائية الروح .
- ومن هنا فإن الضمير الذى استخدمه `العدوى ` فى صياغة أعماله ليس ضميرا المتكلم وهو ـ إذن ـ ليس مؤشرا حاسما يحدد علاقته بعناصر العمل .
- لقد قدم ` العدوى `رؤيته من خلال شخصية ( الراوى ) الذى يعرف (أكثر من) شخوصه. ولا يعنيه أن يشرح لاحد كيفية وصوله إلى هذه المعرفة، فهو قد استطاع برؤيته (فوق الطبيعية المتجاوزة ) أن يخترق كل الحواجز الممكنة بينه وبين العناصر التى ( لا تخفى عنه سرا ) ولا تعرف عن مصيرها شيئا . وربما كان لنا أن نتوقع أن تكشف تجربة ` سعيد العدوى `عن الجنس الإبداعى الذى تنتمى إليه ولكن على العكس كنا نراها تنمو وتتطور ثم تذوب وتختفى تحت وطأة خطواته الواسعة على طريق السفر نحو الموت .
- ويمكن القول بأن `سعيد العدوى ` صاغ أغنيته بنفسه ولنفسه مع انها قد تكون محيرة لغير المطلع على الأوليات ، ألا أنها أبلغت رسالته وقد يقال ـ بالطبع ـ ان ( العدوى ) بإخراسه صوته عامدا فانه قد نجح فى التبليغ ولو أردنا الغوص إلى الأعمق فى فعل الإنكار هذا، لقلنا انه اختار الاستشهاد ليمنحه مغزى خالدا .
- وهكذا فقد توفر للإنجازات التى حققها `سعيد العدوى` منطقا جماليا لا يتحقق الا على مستوى التركيب والتوليف القائم على مبدأ خرق اللغة المألوفة وهو منطق يميز بين مستويين : مستوى إرسالى إخبارى تواصلى يحمل مضمون العمل ومستوى رمزى إشارى يهدف إلى بناء نسق جمالى .
- وسواء اعتقدنا بصحة ما جاء بآراء ` سعيد ` ـ التى احتوتها مذكراته ـ أم لم نعتقد فالأمر فى عقله كان جحيما خالصا، بلغ حد ازدراء المادة والغريزة ولعله كان يبحث عن الأرض الموعودة قبل أن تزوى فتوته .
- إن الذين كانوا بحاجة إليه .. والذين كانوا يبغضونه هم الذين وهبوا فنه وسيرته هذا المعنى الكبير .
- لقد نفض ` العدوى ` يديه ببساطة إذ لم يكن متهيئا لتحمل مسئولية رسالته.. عارفاً انه لن يقبل بقيمة سطحية .
إسماعيل عبد الله
سعيد العدوى .. الأصل والصورة
- فى فجر 3 سبتمبر العام 1938 ولد سعيد العدوى بحى بحرى بالإسكندرية، وهو أحد مؤسسى جماعة التجريبيين ، وكان أحد خريجى الدفعة الاولى من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عند إنشائها العام 1957 بتقدير إمتياز ، يقول الفنان سعيد العدوى ` إننى أسعى لبناء الصورة بقوانين بناء السجادة الشرقية . الرسم عمل فنى متكامل يحمل كل إمكانيات العمل الفنى وليس مسودة لعمل آخر . الخط العربى هو أصدق دليل لمزاجنا وذوقنا وأبعاد حضارتنا العربية ، أى حرف من حروفه هو تلخيص لمنهج فكرنا. عناصرى تفوح منها رائحة الماضى السحيق : الأشياء القديمة - العربات الكارو - رسوم الأطفال - السجاد الشرقى القديم - نحت الحضارات الشرقية - عالم الموشحات - صلاة الجمعة - عربات الحنطور -العمارة البدائية - حلقات الذكر والحواة والمشعوزون - أعمال فللينى وفسكونتى وبازولينى - الأقصر - والأضرحة... الأحجام التى تأخذ فى الصغر كلما أوغلت فى البُعد ..` هذه الكلمات تكشف عمق شخصيته ورؤيته الفنية التى يتعاظم فيها التعبير الإنسانى البليغ.. ويجنح الفنان نحو تأصيل عملية التفكير فى الفن وتأصيل فنه الراقى القائم على معايير إنسانية وحضارية تمثل أساساً للفن الأصيل، وأعماله المتعددة التقنيات سواء كانت رسماً أو رسماً ملوناً أو رسماً محفوراً ومطبوعاً.. وبجوانبها المتعددة قابلة للنمو والإتساع والحركة تبرز فيها الأسس والفلسفات التى تقوم عليها ، وعندما نتجول بصرياً وحسياً وذهنياً بين مفردات وعناصر فنه نكتشف عالماً خيالياً من حيث البناء الجغرافى والفراغى لها ونتلمس روحها الكامنة فيها .. وإعتمد الفنان على قدرته الإبتكارية الفذَّة فى إختزال العناصر الحية أو المادية على حدٍ سواء ومدى قدرته على التحوير والتحول فى إيجاد صياغة جديدة غير مسبوقة لعناصره التى تنطلق فى الأساس من طبيعة وشخصية العناصر بعيداً عن التفاصيل المباشرة، فرسومه الملونة شرائح شفافة من الألوان التى تستمد طاقتها من مشاعره وأحاسيسه الروحية.. وتعكس لوحاته المحفورة والمطبوعة تألقه فى وضع طبقات اللون الشفاف الناطق بجمال المعنى الداخلى لمنظومته المتسعة الفكرة وبتفرد وبعظمة فنان استطاع السيطرة على تقنيات الطباعة التى غالباً يفشل كثيرُُ من الفنانين الطباعين فى فهمها وتحقيق معادلتها الصعبة، ويأتى العدوى برسومه ليكون صاحب صياغة جديدة نحو تأصيل فن أو تقنية إعتبرها الكثيرون لا تعادل من حيث القيمة لوحة ملونة أو تمثالاً منحوتاً.. واستطاع بقدراته الإبداعية أن يحول الخط والمساحة والفراغ من خلال الأبيض والأسود إلى عمل فنى قائمٍ بذاته متجاوزاً الحدود المتعارف عليها فالخط ومساحات الأسود المهشرة والتى تصدمنا بصرياً من الأبيض مباشرة إلى الأسود وتقاطعاتها المتوالية فى الشكل أدت إلى إيجاد إيقاع موسيقى حاد .. يقول الفنان (عصمت داوستاشى 1943) تحت عنوان `أسطورة الموت المبكر` ولا تنتهى تساؤلات العدوى ، وحساسيته المفرطة لكل ما يحيط به، إلاَّ صباح 13 أكتوبر 1973، حين حاولوا إيقاظه من النوم، فوجدوه قد رحل فى هدوء، إلى سلام الموت ورحابة الأبدية. كأنه اختار هذا الموت المبكر،فى هذا التوقيت الذى يواكب إنتصارات أكتوبر 1973، مضحياً بكل إرهاصات المستقبل، وقد قرر أن يتجاوز كل شىء ، زواجه بعد 16 يوماً ، كان قد تحدد، كان يحلم بأن يأخذ زوجته معه فى بعثته الدراسية إلى إيطاليا ...` وقد أثَّر العدوى فى مجموعة من الفنانين المعاصرين والذين يعيشون فى عالمه مُنقبين فى مملكته التى لم تحدها فواصل وهمية بل كانت أكثر إتساعاً وعمقاً لا يستطيع أى فنان ملامسة دوافعها الإنسانية والروحية، ومن المثيرات الجديرة بالإشارة إرتباط سعيد العدوى بعالم الموت فكانت الأضرحة والجنازات تشغل مساحة واسعة فى تفكيره ورسومه وإزدادت حدَّة عندما رحل والده وأصبح هو العائل الوحيد للأسرة على المستويين المادى والمعنوى فالموت أصبح موضوعاً راسخاً فى داخله وزادها عمقاً ودمعاً رحيل (جمال عبد الناصر) فأبدع لوحة ليس لها نظير فى التعبير الفنى وكانت لجنازة الزعيم رسمها العام 1971 حبر على ورق أبيض بمقاس 38 × 55 سم واللوحة عظيمة البناء التراكمى الأفقى تذكرنا من حيث البناء -بلوحة معركة قادش -بمعبد أبو سنبل تتلاحم فيها مصفوفات فئات الشعب كمنمنمات متجاورة ومتزاحمة ومنسوجة من قلب إلى قلب ومن روح إلى روح وتعلوها الأبواق وأعلام الوداع وصدى الأبواق التى تخرج من أجساد الشعب المصرى رمزاً وترديداً لخفقات ملايين القلوب وتعبيراً عن الصراخ وسلام الوداع، يذكرنا العدوى بمقولته ` إننى أسعى لبناء الصورة بقوانين بناء السجادة الشرقية `. فالسدّة واللحمة هى قانون تماسك وإتجاه الأنسجة .. والحس الشرقى فى البناء التشكيلى يعتمد على قياسات عمومية الفراغ كوحدة جامعة للأجزاء، وسعيد العدوى صاحب الخمسة والثلاثين عاماً منهم 11 عاماً إبداعاً، يعتبر فى مصاف الفنانين الأفذاذ الذين وهبهم القدر موهبة متوهجة وإبداعاً أصيلاً زاخراً بمفردات الحياة والموت معاً فقد ترك تراثاً فنياً سيظل مجالاً للبحث المستمر وعالماً مليئاً بالأسرار .
أ.د. احمد نوار
جريدة الأخبار - 2003
- فى حى بحرى بالإسكندرية - كان ميلاده - بدروبه وطرقاته وبيوته وكائناته المظلمة وصياديه ، ووجوه شخوصه وحيواناتها التى نراها فى لوحاته ، وقد أضفى هذا الميلاد هذه الأجواء المفعمة بالصمت والسكون والظلمة والأبدية التى تغمر لوحاته ، كل هذه الكائنات متراصة متلاحمة ومتجاوزة فى سكون ، وفى زمان لا نهائى نراها فى اللوحات .
- لقد استطاع العدوى أن يشق لنفسه أسلوبا فريدا متميزا، فهل أثرت الإسكندرية بشواطئها وبحرها الهادر حينا، والهادئ حينا آخر ، وشخوص صياديها وحركاتهم فى تلك الأزقة ، وهذا الحس الشعبى وظلمه البحر الساكن مع ضوء قوارب الصيد فى ظلمات الليل الساجى ، هل أثرت الإسكندرية برمالها وصخورها التى يرتطم بها البحر بقوة فى ليالى الشتاء الباردة، هل كان له أثر على سعيد العدوى حين اختار مشروع تخرجه عن البحر والصيادين .
- لقد جنح الفنان إلى هذه العوالم المدهشة ، تحاورنا، تهمس إلينا، كائنات فى لحظات صمت وعزلة ساكنة، وكأنه اتنزعها من واقعها، هذا العالم المبهم الغامض لتسرى فى أوصاله هذه التكوينات المغمورة باللون الأسود لون الليل والظلمة .
- ويقول عنه ` إسماعيل عبد الله ` فى الكتيب التذكارى لبينالى الإسكندرية العشرون لدول حوض البحر المتوسط حيث كان العدوى من ضيوف الشرف .. ` كان الرسام المناضل الذى حرث أرض التجريب بقوة البدائيين - لم تزد سنوات الإبداع الحقيقية فى حياة العدوى عن عشر سنوات، وكانت السنوات الثلاث الخيرة منها، تمثلت فيها الرمزية إلى حد الذى دفعه لأن يتوحد معها لقد ذهبت أعمال العدوى إلى مرحلة - لم يبلغها فنان آخر - من الناحية العددية فى اتجاه تجريب ذاتى صامت، لقد أسفرت تجربة العدوى عن العيد من المريدين والناقلين والعابثين بأعماله، ولكن من الصعب أن نجد أحدا يضارعه، لقد كان العدوى صريحا فى ملامسته لحقائق الحياة الحارة ` .
ماجد سعد الدين
جريدة القاهرة - 2010
سعيد العدوى .. رسام الحزن والجنازات
- بعد أحداث أستاد بورسعيد التى أبكت مصر والعالم.. والتى هدفها أجهاض ثورة الشعب المصرى..فتم قتل 71 من شباب ألتراس ومشجعى النادى الأهلى مع سبق الإصرار والترصد فى ذكرى موقعة الجمل كأنتقام رهيب لم يشهد العالم مثله من قبل.. لحظتها وأنا أبكى لما حدث للشعب المصرى المقتول والقاتل.. وقد أصبحت الدنيا سوداء.. ظهرت أمام عينى رسوم سعيد العدوى الحزينة تواسينى..فقد كان هو الآخر فنان ثورى واعد حورب كثيرا ومات مقهورا وعبر فى رسومه بالأبيض والأسود عن التراث الحزين للشعب المصرى الذى يعشق الحزن ويلحنه ويغنيه.. ويكتبه ويلقيه.. ويرسمه ويعطيه العدوى رسم الجنازات والنائحات والباكيات وكأنه يستدعى كتاب الموتى وجداريات الأجداد لحياتنا البائسة .
- نام العدوى حزينا بعد آن تم اختطاف بعثته التعليمية منه.. وحين أيقظوه فى الصباح كان قد رحل ومعه الخمسة والثلاثين عاما التى عاشاها بيننا إلى بعثة الخلود.. تركنا نحتفل بدموعنا بانتصار أكتوبر 73 الذى حولوه إلى هزيمة واستسلام ..وترك لنا مرثيته فى رسومه الرائعة التى أصبحت علامة فارقة فى فن الرسم المصرى الحديث والتى فتحت أفاقا واسعة لنهضة هذا الفن الذى كاد أن يتلاشى من قاموس الإبداع التشكيلى .
-هذه الأيام أشاهد سعيد العدوى وهو يرسم الجرافيتى على جدران مصر مع شبابها الثورى فقد كان أحدهم فى زمن لم نكن تجرؤ فيه على الحلم بالثورة ... ولمن لا يعرف سعيد العدوى الفنان السكندرى عضو جماعة التجريبين التى شكلها مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطى برعاية أستاذهم حامد ندا.. بعد تخرجه فى قسم الطباعة (الجرافيك ) فى الدفعة الأولى لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962. تلك الجماعة التى فتحت لنا نحن شباب تلك الفترة افاقا رحبه للأبداع.. وقتها كونت أنا جماعة التحول.. وتكونت جماعات فنية أخرى.. كلها تلاشت مع موت عبد الناصر الذى رسم العدوى جنازته فى واحدة من أروع رسومه وأخلدها.. فمن لا يعرف العدوى عليه من الان آن يعرفه.
- لقد شاءت الأقدار آن استلم مرسم سعيد العدوى بأتيلييه الإسكندرية ليكون مرسمى وكلما دخلته أسلم عليه وأقول معه ما نقشه على جدران المرسم وما زال موجودا ( يسقط كل شئ لا أحبه ) .
عصمت داوستاشى
أخبار الأدب - 12 / 2 /2012
سعيد العدوي : ينبوع العلامات ولوحته جنازة الرئيس
- نتطلع اليوم إلى أحد أعمال الفنان التشكيلي ســعيد العــدوى ، ذلك المبدع الذي توهج في سماء الفن التشكيلي بقوة وسطوع ثم رحل فجأة تاركاً لنا دهشةً وشجناً عميقين ، ذلك الحفار الجرافيكي صانع الأيقونات وينبوع العلامات ، بث روحه في الكون وحفر أسراره على جدران الوعي ونقش لغة كثيفة عميقة بواحة لا ينضب معينها أبداً .
- ولد العدوي بحى بحرى بالإسكندرية فجر 3 سبتمبر 1938، وتوفى الساعة الثامنة من صباح 13 أكتوبر 1973. وكان رحمه الله قد التحق بأول دفعة دخلت كلية الفنون الجميلة عند انشائها 1957 وتخرج بتقدير امتياز `تخصص حفر وطباعة` عام 1962 حيث كان مشروع تخرجه `الصيادين والبحر` ، كما أسس مع محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطى جماعة التجريبيين واقامت أول معارضها عام 1965، وبدأت فكرة تكوين جماعة فنية عام 1958. حصل العدوي رحمه الله على درجة الماجستير فى فن الحفر عن الخط العربى 1972. كما حصل على تفرغ لمدة عامين فى الاتحاد الاشتراكى العربى 66 - 1967. وفي فبراير 1973 كان المعرض الأول الخاص للفنان قبل وفاته بثمانية شهور بقاعة المركز الثقافى التشكيلى بالقاهرة. ولقد نظمت معارض لأعماله بعد وفاته في القاهرة والإسكندرية ، له مقتنيــات بمتحف الفن الحديث بالقاهرة ومتحف الفن الحديث بالإسكندرية ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ومتحف كلية الفنون بالإسكندرية ومتحف معهد العالم العربى بباريس ومجموعة البنك الأهلى ومجموعة الأهرام ومجموعات خاصة بمصر والخارج ومجموعات الجاليرهات والمؤسسات الخاصة وأسرته رحمه الله .
- ونتناول اليوم بالتحليل لوحته المسماة الجنازة والتي نفذها رحمه الله بالحبر الهندي على الورق وتاريخ إنتاجها في عام 1971 وأبعادها 35 سم × 50 سم حيث نرى في مكونات بناء هذه اللوحة وحدات علامية هجينة خلقها سعيد العدوي ورشقها متراصة حول مستطيل أسود عليه ثلاث قباب ، تطالعنا شواهد لقبر مكتوب عليه الشهادة . هذه الوحدات الأيقونية هي مزيج أسطوري كثيف بين شخوص تأتينا سابحة عبر التراث المصري القديم والتراث الإسلامي والشعبي حيث تماس الكائنات ومزج المخلوقات وتهجين الطبيعة البشرية بالطبيعة الحيوانية وصفاتها المقدسة الفذة هي عرائس المولد المزدانة بالعطر والحلاوة هي فرسان الفن الشعبي التي ترسم على الجدران أو السجاد والكليم .
- يشكل سعيد العدوي بأسلوبه في ترتيب وصوغ كائناته الباكية مساراً دواراً كرسم العين ومنحنىً متوتراً تترقرق معه النبضات كحبات الدموع .. تكويناً بؤرياً متماسكاً تسبح معه العيون فتتراءى لها عين حورس محيطة بالنعش وشواهد القبور تحتضن المتوفى المفقود ، تودع الراحل الجميل ونرى سعيد العدوي وهو يسكنه إنسان العين .. حبة العين .. مهجة الفؤاد .. تلك التي ركبها من فسيفسائه الكثيفة التي تشكلت من علاماته المبينة ، تلك العين التي فقدها حورس في صراعه مع ست ، تلك العين التي أصيب فيها أبو زيد الهلالي سلامة وهو يجابه الشر وفي تيار البشر الدافق حول أنات الفقد الأليم ترفرف راية سوداء وسط الزحام ، خضم من البشر يتحلقون حول الراحل ، آلات نحاسية تدق ضربات القدر المحتوم ، وتعلن نبأ اليتم الكسير ..أنتم تودعون أباكم إلى مثواه وتتركون ها هنا تجابهون آلام مخاض جديد ، يلف سعيد العدوي تكوينات تقترب من تلخيص الزخرف ، اتزنت بها اللوحة وتعادلت الكتل البيضاء الوامضة بالنبضات الدوارة حول بؤرة التكوين ، مع البناء بالحبر الهندي لتلك الكائنات ، مفردات اللغة البصرية التي ابتكرها سعيد العدوى وكساها غلالات وطبقات وترسبات من رموز أسطورية وشعبية وبدائية ، ثم يتعمد العدوى تحوير ومفارقة المظهر المتعارف عليه للأشياء - حتى التراثية - وتطويعها لرؤاه الفطرية الفلسفية البديعة .
- يودع سعيد العدوي ذلك المحبوب الذي كان ... ذلك المثال : كان خبز الجائعين وري العطاش ... كان طمي الأراضي العفية ... كان السر الساطع في أصلاب الرجال ... كان أنشودة النماء وبذرة البركة ... كان أوزوريس مقطع الأوصال مسلوب العافية آآآآآه يا ويل الأرض .... ياااا ويل الأرض ... تجوبها ريشة العدوي ... وتقطعها وتهزها تزلزلها كي تنطق بمكانه .. كي تتشقق وتتفجر وتنبت وتبوح من جديد ... لملمته تكوينات سعيد العدوي رحمه الله من حيث تشظى وضيعه الأوغاد نظمت ذراته الحبيبة في حجر إيزيس الجميلة وأسكنته في أحراش الدلتا وعقدت عليه سبع لفافات مقدسة مغسولة من نبع الفؤاد ... تبثه الروح والدم حتى يصحو وتطهرغربته بالدموع ... تردد اسمه آلاف آلاف المرات لينتبه ويأتي من جديد .. تستجمع بؤرة العين المصرية التي كرسها العدوي مجرى لدمعات الطهر البديع .. نبعاً من وميض ..كوناً من أمل وخصب وليد .. تُرى يا إخوتي هل يصحو ؟ هل يأتي ؟ هل حقاً سيولد ؟ هل رأينا شمساً ومفتاح حياة ومخاض جديد ؟
هبة عزت الهوارى
جريدة نهضة مصر - 24 - 5 - 2012
أريد أن أذكر أن الرسم فن مستقل بذاته، يحمل كل إمكانات العمل الفنى.. وليس مسودة لعمل آخر.
إن اقتناع الفنان (سعيد العدوى) الأكيد بمعطيات فن الرسم اللامحدودة، جعلت منه رساما موهوبا وسخي العطاء فى هذا المجال بالرغم من أنه معروف كمصور وحفار فى المقام الأول بحكم دراسته لفن الحفر، وقد يكون السبب وراء هذا الاقتناع، أن تكنيك الحفر يتطلب عاده إعداد الخامات ومعالجتها بعدة مواد وأحماض ثم تنفيذ الطبع على مراحل، الأمر الذى يستغرق فترة طويلة نسبيا، فضلا عن عدم إمكان تطويعه بسهولة لإمكان الحذف والإضافة، وفى حالة إمكان ذلك يكون الناتج حلا وسطا قد لا يرضى عنه الفنان تماما، لكن (سعيد العدوى)، بتكوينه العاطفي، كان يفضل دائما أن يتمكن من نقل شحنته الحية وهى ما زالت نضرة إلى السطح الذى يتعامل معه مباشرة، بحيث يرى ملامح رؤيته الفنية تتحقق فى جلسة واحدة متصلة، لذا نجد أن أعماله المصممة للحفر والمنفذة بالحبر الصينى أو القلم الجاف اكثر بكثير من المحقق فعلا بالطباعة أو بخامات التصوير.. إذ يجوز لو امتد به العمر لكان قد استفاد منها فى أعماله فى الحفر أو التصوير. من هنا يمكن القول: (إن رسوم العدوى المنفذة بالريشة والحبر فقط، تتضمن معظم خبراته ورؤاه الفنية التى حصلها وجمعها من مصادر مختلفة وشكل منها، وصاغ بها عالمه الخاص تلك هى: الأشياء القديمة، العربات الكارو ورسوم الأطفال، السجاد الشر قي، العمارة البدائية - حلقات الذكر والحواة والمشعوذين - الأضرحة - تجمعات الموالد والأسواق والأعياد والشواطئ وسجاد الحرانية والخط العربي - الحشرات والنباتات - رسوم ما قبل التاريخ - المخطوطات الإسلامية والقبطية، سيرك المولد والمسارح الشعبية - نزوات ميرو - تخطيط الغيطان - الضوء، بما فى ذلك الأحداث التى هبت على مصر وهزت كيانها الاجتماعي فى 1967.
وبتأمل مفردات (العدوى) من خلال التفاصيل التى حفلت بها رسومه تجدك أمام أشكال يقول عنها بيكار: (متشحة بغموض طلسمي مثير من عالم آخر، عالم ما بين الواقع والخيال لم تطأه قدماك من قبل تحوطك فيه كائنات ذات تحريفات عنيفة تشبة الاميبا كل ما فيها أطراف مخيفة تتقلص وتتفاقم، تتجمع وتنتشر، فهي وليدة انفعال باطني حاد.. حتى البشر مشوهون بلا عيون ولا ملامح.. تشعر أنك أمام فنان يحلم، وهو فى حلمه يغنى دهشا بلا انضباط وبلا منطق، فقط تبدو الدقة فى ترابط تلك الأشكال الغريبة وتألقها فى الوحدة الشكلية للعمل).. كانت البداية عند (العدوى) تبدأ من نقطة وتنتهي إلى خط وبين النقطة والخط تتدافع الأفكار، وتتداعى الصور، وتتشكل العناصر ثم تتراص إلى جوار بعضها البعض وفوق بعضها لتشغل مساحة اللوحة كلها دون خطة أو إعداد مسبق فقط، يبدأ من تصور عام يمليه عليه طبيعة الموضوع.. والموضوع عنده - كما يقول العدوى - مجرد مثير جمالي أو مبرر للرسم أحدد من خلاله العناصر التى سوف أتعامل معها لشغل مساحة السطح مثل موضوع المقابر.. المولد.. المسجد.. المسرح.. السيرك الشعبي.. فأنا أذهب إلى هذه الأماكن وبالتالي فإن هذه الأماكن تفرض على الأدوات والعناصر التى سأتعامل معها.. فمثلا حينما أعالج موضوعا مثل المسرح فهو يفرض على معالجة تختلف عن تناولها للسوق إذن فالمحاكاة ليست عنصرا واردا فى تجربته الفنية.. فهو كان يرسم ما عرفه عن وعى وليس ما يراه، كان عالمه يمتلئ بالمبالغة والتهويل والخيال، تماما كما كان يفعل الحكاء الشعبي، أو نساج الأكلمة، كان يعتمد على - الموتيف - الشعبي فى تكاثره وتوالده على سطح اللوحة دون خطة مسبقة، كما أشرنا، إنه يبدأ من نقطة ليتم التوالد تلقائيا ليشغل نسيج اللوحة بأكملها حتى تبدو - كالأرابيسك - وفى ذلك يقترب من روح الفنان الشرقي التى تبدو اللوحة أمامه بعدين اثنين يتم ملؤها بالوحدات التى تتوالد وتتكرر لشغل الفراغ إن هذا التوجه الجمالي عند (العدوى) كما يرى عز الدين نجيب: (لم يكن إلا أن يكون فى إطار من الحرية المطلقة التى يمنحها لنفسه، وهذا يسمح بالتنوع من عمل إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى دون أن يسجن رؤيته الفنية فى إطار خاص محدود، حتى يصبح قالبا دالا عليه لم يكن يبحث عن القالب لأنه كان يتحقق على كل لوحة.. بمستويات جمالية وتعبيرية وتقنية عالية). ويتضح ذلك فى لوحات مثل: (الجنازة، والسيرك، والمسرح، والمولد.. التى تتقاسمها المساحات المتكافئة من الأبيض والأسود.. وما ينتج عنها من إيقاع منتظم ورتيب أحيانا للعناصر السيلوتية - هذا الإيقاع الناتج من معايشة حميمة للروح الشعبية المصرية بكل ما تتمثلها من حزن، وفرح، وتهكم...
د. رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر
وفاء الأصدقاء
- يقال إن عهد الوفاء قد مضى وولى . وهذا التشاؤم لا مبرر له .. فما زالت أرضنا تجود بالقيم مثلما تجود بالخير .. وما زال نهرنا الخالد يفيض بالحب مثلما يفيض بالماء والطمى..
- وأروع مثال لما يتميز به شعبنا من صفات العرفان والوفاء النبيل ذلك الكتاب الشائق الذى أصدره نفر من أصدقاء الفنان السكندرى الشاب ` سعيد العدوى ` الذى أنطفأت شعلته وهو يخطو أولى خطوات العطاء والنجاح منذ ثلاث سنوات .. لكى تبقى سيرته وصورته منطبعتين فى وجدان محبيه ومريديه.
- فهم الذين كتبوا أو استكتبوا مادته .. وهم الذين قاموا باخراجه وهم الذين انفقوا عليه من جيوبهم الخاصة دون أن يطرقوا أبواب الحكومة أو الهيئات ليظهر بهذا المظهر المتكامل دون إسراف..
- ولست أغالى حين أقول إن هذا الكتاب الذى تنضح كل كلمة فيه بمشاعر الحب والتقدير والعرفان يعتبر من أروع ما قرأت فى كتب السيرة التحليلية .. فالذين كتبوا مادته فنانون ونقاد لا يحترفون الكلمة ولكن يحترمون الكلمة .. ولذا جاء الكتاب صورة صادقة لصدق المشاعر وجاءت نبراته النابضة ترديدا أمينا لعمق المأساة التى يستشعرها هؤلاء الفنانون لفقدان صاحبهم الذى كان ينتظر منه أن يضيف الكثير من قيم الأصالة إلى حصيلتنا الفنية فى فترة الصحو والبحث عن الذات .
- لقد وجدت الكلمة الواعية المجربة فرصتها لتعريف القارىء العربى بالقيم التشكيلية والإنسانية التى فى أعمال الفنان الراحل عندما راحت تصف بالتحليل الذكى الدقيق والعميق العديد من اللوحات ولقد جاءت فكرة ظهور الكتاب بالقاهرة فكرة ذكية لتعريف الجمهور القاهرى بالفنان السكندرى الشهير .. الذى كان ينظر إلى ما حوله نظرة انبهار وكأنه طفل بالغ السذاجة والصفاء جاء إلى الدنيا معصوب العينين ، ثم تفتحتا فجأة على عوالم زاخرة بالرؤى والمشاهد المثيرة ، فاستشكل عليه الأمر ، ولم يعد يدرى كيف يتعامل مع الأشياء من حوله ، ولا بأى منطق ولغة يخاطبها وقد تكدست أمام عينيه وتزاحمت فى عنق زجاجة بالغ الضيق ، واختلطت الأمور فى دوامة المتناقضات ، فلم يعد يدرى هل هو يعيش الواقع أم الحلم .. الحقيقة أم الخيال ؟؟
- وإزاء هذه الحقيقة امتزج واقعه بأحلامه ، وأسفر عن عالم أسطورى تسكنه كائنات خرافية لا تنتمى إلى هذا الكوكب . ولا تمت لهذا الإنسان الذى يطل علينا بأقنعته لكرنفالية التى تخفى حقيقته ..
- وهناك ما يؤكد أن الطفل يرى الأشياء على خلاف ما يراها الإنسان الناضج .. وأن واقعه الطفولى يتمثل فى هذه ` الفنتازيات ` التى يسقطها بجرأة نادرة وبصراحة كاملة من خلال الوسائط التى بين يديه ..إنها النظرة المنبهرة العطشى المتلهفة الفضولية النقية التى تستحوذ على مشاعر الصغار عندما تحتويهم كرنفالات الحياة فى دنيا العجائب . وهى نفس النظرة التى صاحبت الفنان الشهيد الذى كان مثل رجل الكهف الذى انتقل.
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
سعيد العدوى فى ذكرى ربع قرن على رحيله
- تطورت العملية الفنية عند `سعيد العدوى ` عبر تجاربه الإبداعية فى فنون التصوير والرسم والحفر ، وتواصلت حلقات البحث فى هذه المجالات الثلاث تحت قوس تجربة إبداعية ثرية وخالصة.
- شغلت هذه التجربة عند ` العدوى ` مساحة من الزمن بطول خمسة عشر عاما بدءاً من العام 57 / 1958 ، وحتى رحيله فى الثالث عشر من أكتوبر من العام 1973 متزامنة يوما بيوم مع سنوات يفاعته ونضجه الفكرى المبكر - ذلك أن ` سعيد العدوى ` كان قد بدأ دراسته الأكاديمية الصارمة على أيدى أساتذة من الفنانين المصريين الجادين ، وله من العمر مابين التسعة عشر والعشرين عاماً ... ورحل تاركاً أرصدته الإبداعية الفائضة ، عند الخامس والثلاثين من عمره .
- ولست - هنا - واحداً من مناصرى أولئك الذين يرصدون للتجارب الإبداعية من عند انتهاء أصحابها من دراستهم الأكاديمية ، على الأقل فيما هو متصل بتجربة ` العدوى ` الذى ظهرت فى أعماله - إبان سنوات دراسته - علامات دالة على نبوغه وقدرته فى إعادة صياغة الواقع ، والطبيعة ، والظرف الاجتماعى ، وتأويلها إلى رؤى لواقع فنى ذاتى ، ومفردات تشكيلية خاصة ، والتى بقيت - أى هذه العلامات - ضمن أرصدته الأبجدية المتفردة ، وتسجلت دلالتها فى كثير من أعماله ومواقفه الفكرية على مساحة عمره الفنى القصير .
- لم يتوقف `سعيد العدوى` منذ أن عرفته فى العام 1958 - ليوم واحد عن مواصلة عمله الفنى ، سواء كان ذلك بالبحث والاطلاع ، أو بمراقبة مايحدث من حوله بغرض تحديد المسافة منه أو معه ، أو مشاهدته الدقيقة للطبيعة بهدف دراستها وتفهم عناصرها وتراكيبها ، أو بعقد الحوار - لاالجدل - مع زملائه ، وبين طلابه للكشف عن شواغلهم ، وبحثه بينهم ومعهم عن خطابه الفكرى والجمالى ... أو معايشته تلك المعايشة الفريدة فى نوعها بصدق وشغف ولهفة وتعاطف ، مع أفراد ومجموعات بعينها من فئات الشعب المصرى المكدودة والكادحة فى قلب الأحياء السكندرية العتيقة وحواريها وأزقتها الرطبة ، متعاملا مع الظرف الاجتماعى لكل منهم ولأى منهم : صيادون وعمال حرفيون ... باعة جائلون ... مجموعات هائمة زاحفة متراصة متلاصقة داخل أزقة ودهاليز ` سوق المغاربة ` وزنقة الستات` ... رجال جالسون رابضون فى صمت مشدوهة أفواههم يتكئون على مناضد `مقهى النجعاوى` بطول النهار أو بطول السهر ... نسوة زاحفات بأطفالهن المشاة العالقين بأثواب الأمهات ، أو رَضع محمولون على الأكتاف ومحضونون بصدور الأمهات الذاهبات إلى ` سوق الحقانية ` و `حلقة السمك ` قاصدات للشراء بأقل القروش أكثر الحاجات ... أو قاصدات للتسول وجمع الزكاة والصدقات ... متسكعون زرافات وفرادى على الأرصفة بين عربات اليد المرصوصة فى صفوف محملة بالبضائع وبين واجهات المحال التجارية التى تعرض أعلافها وبقولها وملابسها الشعبية مع أعمدة ` البسطرمة ` المتدلية من خيوط ` الدوبار ` ... وشهر رمضان عند ` سعيد العدوى` كان هو العمر بطوله مدفع الإفطار ... آذان المغرب ... وصلاة العشاء ... تراتيل القرآن وصلوات التراويح ... صفوف المصلين ... أنوار المآذن وقباب المساجد ... المرسى أو العباس وجامع البوصيرى ... المنشية الجديدة ، أقمشة سوق سوريا المبرقشة ... وسعاية ` الشيكو بيكو ` واللهو السكندرى الشعبى ... بهلوانات ولاعبوا ` سيرك الحلو ` ... الحاوى ولاعبو ` الثلاث ورقات ` ... نصابون ينتشرون وسط الجموع ... محتالون ومخبرون بحثا عن الرزق ولقمة العيش ... جنازات ونعوش وعويل النائحات ... بحرى والأنفوشى ... الشباك ومراكب الصيد .
- وإذا قلنا بأن عناصر ومؤلفات تلك الجموع فى المشهد الاجتماعى عند ` سعيد ` قد احتوتها بكليتها وتفصيلها أعمالها ، خاصة تلك المشهودة له فى فن الرسم ؛ وإذا قلنا بأن العدوى - على هذا الجانب - كان مدفوعا بصدق مشاعره الفياضة إلى التلاحم مع مشاهد هذه الفئات والمجاميع البشرية ومعايشة ظرفها الاجتماعى ، فإننا وعلى الجانب الآخر - نستطيع أن نقرر بأن ` العدوى ` لم يكن صاحب توجة نحو الواقعية فى الفن ، ولا هو قريب من حالات النزوع إلى التعبيرية الوصفية للموضوع الاجتماعى ... بل ولم يكن واحدا من التشكيليين المصريين الذين كانوا يهدفون إلى إعلان المضمون الأدبى لمحتوى أعمالهم إبان مرحلة الخطاب السياسى القومى لسنوات الستينيات .
- كما أن الباحث فى أعمال ` العدوى ` يكتشف فى يسر أن الرمز فيها لم يظهر إلا لذاته كأحد عناصر توليف الصورة ، ولم يوظف لغير أغراضه الجمالية فيها ولا لغير دلالته التراثية كما هو مرصود له فى تاريخ ` الفولكلور ` المصرى المستدعى من أغوار الأزمنة الحضارية القديمة .
ثم - على جانب ثالث - ومن مدخل المحاولة لفهم التركيب النفسى ` لسعيد العدوى ` ... فإن معايشته لمشاهد الزحام الشعبى ` بالحقائية` و` سوق المغاربة ` و ` شارع فرنسا القديم ` و ` زاوية الأعرج ` و `الأنفوشى ` من حى بحرى العريق ، ماكانت هذه المعايشة إلا نوعا من استدعاء الماضى بطهره وخصوبته وخياله ،حيث ولد فناننا بهذا الحى وزرعت فى نفسه وذاكرته الأولى البذور الطيبة لحب الناس ، ونما نبته فى زمن الطفولة والصبا الأول بينهم ... ومما يؤكد ذلك أن ` سعيدا` كان دائم النزوح إلى حى بحرى - خاصة وقت المساء وبطول شهر رمضان - يتجول بين أزقته وحواريه ، وأن رحلته الدائبة من ` الإبراهيمية ` بالرمل حيث يقطن وهو شاب إلى `بحرى ` ماكانت إلا معادلا عنده للسفر إلى الماضى يستلهم من مشاهده مايؤجج طاقاته الإبداعية ويشحذ من شحناته فى تجربة الفن.
- وماكان المشهد الشعبى بعناصره ومفرداته إلا ليستكمل سعيد به نفسه `
- ... وواصل إنتاجه العزيز على المساحة الزمنية القصيرة من عمره الفنى بأعمال يساوى كل منها سعيد العدوى بأكمله `.
- كانت مسطحات فن التصوير هى الحقل التجريبى الهائل الذى كان ` سعيد العدوى ` يجد فيه متسعاً لحريته فى الهدم والتغيير والتحوير ثم إعادة البناء ، ووضع فروضه وتوليفاته ، ثم إعادة صياغتها فى الحذف بالطرح من الكلية التركيبية للصورة ، ثم الجمع إليها بالإضافة الخالصة والتلخيص البليغ.
- كما كانت مسطحات التصوير - من جانب آخر - هى المستقبل المطيع والمحايد لإمكان تواصل محاولات البحث عن صيغ تقنية جديدة فى صناعة الصورة ، تضيف إلى نصها الجمالى ...` فنجد العدوى` على قماشات التصوير يوظف أدواته من الفراجين ووسائطه من عجائن الألوان الزيتية والصبغات وأحبار الطباعة والبويات السائلة سريعة الجفاف ، بينما تحملت مسطحات التصوير الصلبة عنده ` كالسيلوتكس ` و`الأبلكاج ` و` الخشب الحبيبى ` إعماله لأدوات الحفر وأدوات القطع الحادة فى قسوة فعل طاقاته الانفعالية غير المحدودة ، بهدف خلق تنويعات من الأنسجة والملامس تخدم الأغراض الجمالية فى العمل الفنى .
- ذلك إضافة إلى أن هذه المسطحات الصلبة قد وجد فيها ` سعيد ` خاصية تكنولوجية فى قبول عجائنه البارزة المكونة من خليط الاسبيداج وأكسيد الزنك والغراء ونشارة الأخشاب والمواد البلاستيكية السائلة.
- ومن ثم فلا تبتعد - فى كثير أو قليل - عن الحقيقة التى تقول ` العدوى ` قد أفاد كثيرا من توظيفه لتقنيات التصوير وتطويعه لها فى الإنشاء والتأسيس التقنى للصورة فى مجالى الرسم والحفر على حد سواء .. بل وأكثر من ذلك فإن المكتشفات الجمالية المستخلصة من أنسجة التصوير قد وجدت لنفسها كيانا وتحقيقا أكثر منطقية فى أعماله على المسطحات الورقية فى الرسم والحفر .
- وقد يجد البعض من المهتمين بالبحث فى تقنيات الصورة المطبوعة -فى ذلك - تعارضا مع ماقد أصطلح عليه فى مفاهيم قراءة الأعمال التشكيلية فى مرحلة مابعد الحربر العالمية الثانية .. ومؤدى الخلاف عند هؤلاء يرمى إلى أن التقنيات الجرافية فى فن الحفر هى التى ألقت بتأثيرها على فن التصوير بالأنسجة والملامس البصرية المبهرة وليس العكس - فيما نشير إليه فى تجربة العدوى - بل إن فن الرسم فى مفهوم هؤلاء الباحثين بقى أسيرا لأنسجة فن الحفر المصنوعة بإعمال المعدة الصلبة والسوائل الكاوية على المسطحات الطباعية المعدنية ، ونحن فيما نقصد إليه فى تجربة ` العدوى ` تقول أيضا بالعكس .
- وليس فيما نقول عن تجربة ` العدوى ` على المستوى التقنى والبحثى التجريبى مايدعو إلى الغرابة أو مايدفع المتلقى إلى الدهشة .. ذلك أنه - العدوى - كان عضوا بجماعة التجريبيين السكندرية التى رصدت لها ستينيات القرن العشرين كأول جماعة اعتنقت التجريب منهجا للممارسة الفنية منذ العام 1958 وهم - أعضاؤها - لايزالون بعد طلابا فى مرحلة تلقى الدرس الأكاديمى بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية الناشئة وقتها ، على أيدى أساتذة أجلاء مثل أحمد عثمان وعبد الله جوهر وجمال السجينى وحامد ندا وماهر رائف وآخرين مثل سيف وأدهم وانلى ومحمود موسى ومحمد هجرس وسعد الخادم ود. حسن ظاظا وهم اللذين أجزلوا العطاء بسخاء ثرى مخلص منطلقين فى وفاء إلى صنع جيل جديد من الفنانين السكندريين ينشأ وينمو منتميا إلى ماآمنت ونادت به ثورة 23 يوليو 1952 من مبادىء الانتماء إلى الوطن ... إلا أن التجريبيين السكندريين - وقتها - قد التزموا بالخطاب السياسى القومى للثورة المصرية - والتحموا به ، بينما اختلفوا مع النصوص التعليمية التى أقرها عليهم جيل الأساتذة .
- ومن هنا بدأت رحلة التجريب فى الفكر التشكيلى المصرى .
بقلم الفنان : محمود عبد الله
مجلة : إبداع ( 15-12-2000 )
حضور طاغى لرائد الفطرية التجريدية سعيد العدوى
-- معرضه الاستيعادى بقصر عائشة فهمى.
- تم افتتاح معرض الفنان الراحل سعيد العدوي بمجمع الفنون قصر عائشة فهمي بالزمالك يوم الثلاثاء الموافق 17 أكتوبر 2023، يضم المعرض 182 عملا لذا يعد المعرض فريد من نوعه لغزارة وتنوع الأعمال، ويأتي المعرض الإستيعادى بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيل الفنان، ولد الفنان سعيد العدوى عام 1938 بحى بحرى بالإسكندرية ورحل عام 1973 التحق بأول دفعة بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عند إنشائها 1957م، وتخرج عام 1962 تخصص حفر وطباعة، حصل على درجة الماجستير في فن الحفر عن الخط العربى عام 1972 قبل رحيله تاركاً ميراثاً متفرداً وثرياً وملهماً.
- وذلك خلال سنوات من الإبداع الحقيقة فى حياة الفنان تقدر بحوالى عشر سنوات، اتجه الفنان في الثلاث سنوات الأخيرة من رحلته الفنية إلى الرمزية للحد الذى جعلة يتوحد معها بشكل ملحوظ وقوى .
- تأتى اعمال الفنان من خلال معرضة لتؤكد على الغزارة العددية متخذتا اتجاها مباشر نحو التجريب والتجريد مجسدتنا طابعا ذاتيا صامتا لينتج ويثرى الفن التشكيلى المصرى بهذا الإنتاج الفني الغزير على المساحة الزمنية القصيرة التى عاشها.
- وبمطالعة الاعمال المعروضة نلحظ ان الفنان اعتمد على قدراته الابتكارية الفريدة فى اختزال العناصر والموتيفات الحية أو المادية على حد سواء ومدى قدرته الخاصة الهائلة فى إعادة صياغتها بصورة مبدعة وظهورها للنور على مسطح أعماله متخذا طرق ومعالجات تشكيلية متنوعه ومتعددة تعكس هويته الفنية ووجهات نظرة معتمدا على التحوير والتحول والاختزال متخذا الرمزية احيانا للوصول الى وضع الحلول التشكيلية لصياغه أعماله و إيجاد صياغة جديدة غير مسبوقة لعناصره التى تنطلق فى الأساس من بيئته السكندرية التى عايشها وسعى باجتهاد لتجسيدها فى العديد من أعماله مثل لوحته المسماة المقابر التى رسمها عام 1971 مما جعلة ينحى العناصر والتفاصيل المباشرة بعيداً عن رسوم لوحاته الملونة مستخدما معالجات لونية خاصة ذات طبيعة شفافة متخذا من الألوان طاقتها موظفا إياها داخل أعماله بحكمة واقتدار شديدين إلى جانب مشاعره وأحاسيسه الروحية التى تؤثر بشكل واضح فى أعماله حيث يلاحظ المتلقى لأعماله أن لوحاته المحفورة والمطبوعة تجسد وتعكس أيضا تألقه فى وضع طبقات اللون الشفاف الناطق بجمال المعنى الداخلي لمنظومته الحسية والمجسدة من خلال أعمال فنية تتسم باتساع وعمق الفكرة وبتفرد وعظمة فنان استطاع السيطرة على تقنيات الطباعة متخذا أسلوب خاص كما فى لوحة المسجد التى رسمها عام1970 وهو ما يميزه عن غيرة ويجعله صاحب بصمة خاصة فى أعمال تجتذب المتلقى وتدفعه لتأمل أعماله ورؤيتها من منظور فلسفى يرى الفنان أنها رسالة موجهة للمتلقى، وقد استطاع بقدراته الإبداعية أن يحول الخط والمساحة والفراغ من خلال الأبيض والأسود إلى عمل فنى قائم بذاته متجاوزا الحدود المتعارف عليها، فالخط ومساحات الأسود المشهرة والتى تصدمنا بصرياً مع الأبيض مباشرة إلى الأسود وتقاطعاتها المتوالية فى الشكل أدت إلى إيجاد إيقاع موسيقى حاد يوكد على رؤية وشخصية بالغه الخصوصية والتعمق وتعكس ارتباط الفنان بعالم الموت فكانت الأضرحة والجنازات تشغل مساحة واسعة فى تفكيره ورسومه ،وازدادت حدة ذلك عندما رحل والده وأصبح هو العائل الوحيد للأسرة على المستويين المادى والمعنوى فالموت أصبح موضوعا راسخا فى داخله مما أضفى علية زهدا شديد العمق والتأمل ، تسبب فى ان يشق لنفسه أسلوبا متميزا وفريدا اختص به الفنان وهوا ما ظهر بشكل ملحوظ فى اعماله المعروضة .
- يعد العدوى من طليعة الفنانين العرب اللذين عالجوا الموروث في إبداعهم الفني حيث كشف الفنان عما في هذا الفن من طاقة تعبيرية وانفعالية وعناصر ورموز وقيم فكرية ويعد الفنان من طليعة فنانينا المستلهمين للتراث في إبداعاتهم التشكيلية، المستخدمين له استخداماً عصرياً واعياً، ليس بمجرد النقل والتقليد بل بالتطوير والإضافة ،وذلك سواء من ناحية المفردات والصياغات أو من ناحية التقنية وقد توصل من معالجته لأشكاله التراثية إلي تخليق أشكال جديدة تختلط لتولد عالما فريدا، يعد أسلوب الفنان تجريدا رمزياً ، حيث يغلب عليه الطابع التجريدى وقد كشف عما في أعماله عن طاقة تجريدية وانفعالية هائلة، بالإضافة إلي عمق تأثيرها في نفسية المشاهد الذي ينظر إليها متعاطفاً ومتأثرا وأحيانا منحازا لها، تميزت الصياغات التصميمية للعنصر الآدمي عند الفنان بأخذها اتجاهاً فكرياً فلسفياً في صياغاته الرمزية لهذه العناصر بجانب مخالفتها للواقع المرئي حيث لجأت المعالجات التشكيلية للعنصر الآدمي معبرة عن الحركة الحيوية في صياغاتها لتأتي ثرية بالمساحات والخطوط المدروسة ، والحركة في أجزاء اللوحة بشكل إيقاعي منتظم في بعض الأحيان وغير منتظم في البعض الأخــــــر وهو ما يظهر بوضوح فى لوحة `فتاة صعيدية` المرسومة عام 1969، صياغات الفنان تجسد الحيوية والجاذبية والغموض، حيث تميزت المعالجات التشكيلية للعناصر بالمبالغة والتجريد ، كما ميز صياغاته الفنية أسلوب التسطيح حيث اعتمد علي درجات داكنة من لون واحد، كما تتطرق إلي التأكيد علي التفاصيل الداخلية للعنصر وتميزت العناصر الآدمية في صياغاته بشكل الرأس المستطيل أحيانا والشكل الهندسى وشبه الهندسى والعيون الواسعة وتحويل تفاصيل الجسم إلي خطوط وعناصر هندسية.
- كما اهتم بخط الأرض، بل اعتمد علي فطرة التوزيع المنتظم لصياغاته داخل العمل، والتكرار الذي أكد على الحركة الراقصة في الجو السحري الذي يعبر عنه حيث تمثل العلاقات المتبادلة بين الصياغات التصميمية في بعض الأحيان علاقة تماس أو تكرار أو تراكب أو تداخل، يعبر بها الفنان عن التجمعات المختلفة للعناصر الآدمية في أعماله، كما تميزت الصياغات التصميمية لعنصر الحيوان مثل السمكة ،الطائر، الحيوانات الخرافية حيث قام الفنان برسمها بخيال أسطوري رمزى تجريدى محمل بالطابع الفطرى وعلي خلفيات من أشكال متنوعه مستعيناً بالتسطيح والتزيين لإبراز هذه الصياغات بشكل مستحدث من قبل الفنان بالاستعانة بأسلوب التبسيط والاختزال وهذا ما تم طرحه من خلال لوحاته المعروضة بمعرضة الاستيعادى والذى يمثل حضور طاغى للعدوى على الرغم من رحيله وتوقف انتاجه الفنى منذ سبعينيات القرن الماضى .
د./ أمجد عبد السلام عيد
جريدة القاهرة أكتوبر 2023
|