حامد عبد الله
ـ لا أظن أن فنانا مصرياً استطاع أن يسيطر على مراحل فنه المختلفة مرحلة بعد مرحلة بأستاذية والهام لايخطىء على تنوع هذه المراحل والتصاقها فى آن مثلما ما فعل حامد عبد الله
ـ فى مرحلته الأولى التشخيصية كانت القامات الصرحية للإنسان بشموخها وسموها توحى وتستشرف ـ وكأنما تتنبأ ـ بمرحلته الأخيرة الحروفية على تباين بل تناقض التقنية بين المرحلتين ، فى كلتا المرحلتين ما يتجاوز مجرد المحكاة الواقعية أو نقل الظاهر المرئى إلى دور يجليه الفنان ـ بوسيلتين متغايرتين ولكن بينهما صلة عميقة ومضمرة هى النزوع الى تبسيط الظاهرة المرئية واختزالها إلى جوهرها وليس الوقوف على عرضها فى لوحات مثل فى القهوة ( 1938 ) أو الدلوكة ( 1941 ) أو الخزف ( 1947 ) أو الصيادون فى بورسعيد ( 1948 ) وحتى فى لوحات البورترية الصريحة ـ مثل تحية حليم ( 1941 ) والمفكر ( 1935 ) وهى بورترية ذاتى للفنان نفسه مبكراً جداً رسمها عندما كان فى الثامنة عشر تتبدى هذه السمات الرئيسية : التخلى عن العرضى الظاهر من أجل الغوص الى العميق المضمر الجوهرى ولكن فيها كذلك ما استمر الفنان مفتوناً به حتى النهاية : الشموخ التشكيلى السابق الذى يتجاوز الأرضى المسلم به إلى نوع من الصرحية المعمارية وأبرز مثال على ذلك لوحته الرائعة الأمل ( 1946 ) حيث ترتفع قامة الفلاح ـ أو ابن البلد ـ فى ثوبه الأبيض وذراعاه مرفوعتان إلى السماء بقوة وكبرياء
ـ فى المرحلة الوسطى نجد عنده إيحاءات فولكلورية أو بدائية ولا يسقط ـ فى الكاريكاتير قط الرفاق ( 1955 ) شم النسيم (1954 ) ضمير الأرض ( 1952 ) السلطة ( 1954 ) أو فلاح وفلاحة ( 1958 ) يقتصر الفنان هنا على الخطوط الخارجية التى تكاد تكون بدائية ـ أو طفولية لكنها تنم بقوة وبساطة عن فكرة وحسه بل توحى أحياناً بروح من السخرية والمرح والمعابثة أليس ـ فى الفن عنصر اللعب الأساسى الذى هو فى نهاية التحليل جد صراح أكثر ما يكون جدية دون أن يفقد مع ذلك خاصية الانطلاق والحرية والدعابه التى هى من صميم اللعب
ـ هناك بالطبع تداخل وتزاوج بين منجزات هاتين المرحلتين فليس فى الفن قط نقاء معملى مطهر من لوثاث التمازج والشوائب بل لعل هذا التداخل نفسه ينفى عن الفن خصيصه اصطناع الأحكام وافتعال الإتقان الكامل الذى نجده فى التكنولوجيا على سبيل المثال أو فى تجارب المختبرات .
وفى هذا التشويه الجميل ـ إن صح هذا التعبير وهو صحيح تكمن معاينة الفنان للظاهرة المرئية الواقعية واللعب معها بروح من الانطلاق وسعيا الى ازاحة الأقنعة الجامدة البورجوازية التى كان حامد عبد الله يقتها
ـ انظر فى هذا السياق استخدامه للورق المكرمش FRISSE لكى يرسم عليه شم النسيم والتى سوف تستخرج خطوطها الأساسية من قبل ` ستوبن جلاس ` فى نيويورك لتنفذ على الكريستال ولا يخطىء البصر هنا ملامح فولكورية مصرية ـ توشك أن تكون شعبية فرعونية فى آن كما توشك أن تقارب مايسمى عادة بالفن الفطرى أو الخام وهل ثمة فن فطرى أو خام قط أليس الفن خارقا من الإلهام والعمد والصنعة التى يمكن حقا أن تكون فطرة ثانية ولكنها ثانية اى نتيجة تكوين ودراية وحساسية وخبرة طويلة
ـ فى 1959 نجد له لوحة فذة هى ( الفلاحين ) وهو نقش بارز على الجبس فيه صدوع وشروخ أفقية ورأسية ومتعرجة إن كان الشق العرضى والأفقى هو الغالب مما يوحى بتأثير الحجر المتراكب أو الطوابق المتتالية وفى الوقت نفسة تنحو القامتان المصورتان بالنقش البارز للفلاح والفلاحة منحى فية تجريدية أو مايشبهها أو على الأصح فيه أختزال للتفاصيل وانتصار على المكونات الرئيسية للقامة والرأس والثديين والأذرع وهكذا ولكنها تستشرف على نحو باهر مرحلة الحروفية التى سوف تأتى سراعا ( بعد سنتين على وجة التحديد ) والتى سوف يبدع فيها الفنان حامد عبد الله أعمالا غير مسبوقة ولعل شيئا أخر فى هذا السياق لم يلحق بها فى تحويل الحروف أو الكلمات العربية إلى كائنات تشكيلية لها قوامها الخاص على محورين أساسيين : محور تعبيرى ومحور بنائى أو هندسى .
ادوار الخراط
فنان قلبه فى الوطن وجسده فى الغربة
الكثير من أبناء هذا الجيل من الفنانين التشكيليين ، لم تتم معرفتهم بالفنان المصرى المتميز حامد عبد الله ولا يعلمون مدى تجذرة الفنى عالميا، ومدى احتفاء النقاد العالميين بأعماله التى نالت تقديراً وجوائز عينية ومالية لا حصر لها .
عاش حامد عبدالله بعيدا عن الوطن بجسدة وقلبة ينبض للوطن وهو يواكب تطور الأحداث السياسية فى مصر .. تعتصرة الهزائم يسجلها فى أعمالة الفنية وتتخلله تلك الأفراح الشعبية التى جاد بها الرب ثم كتب على مصر ألا تكتمل .. أو قد تبتر كليا .. مما جعل هذا الفنان يعيش فى رحلة لانهائية من الشجن خفف علية من خلالها زوجته الدنماركية التى تحمل قلبا رءوما لحامد وأولادهما ، ولدين وبنت والأن الاحفاد .
قدم أولادة الثلاثة هدية متواضعة لأبيهم يستحقها عن جدارة .. كتابا يضم أعماله الغريزة بين ضفتية الانيقتين، الكتاب من ثلاثمائة صفحة ، يقدم قصة حياة الفنان فى الفن والإدارة استغرق عمل هذا الكتاب حوالى السنوات الخمس ، حرصوا على تقديمة بثلاث لغات ` العربية والفرنسية والانجليزية ` يضمها الكتاب أما اللافت للنظر أن الصور الشخصية لحامد عبدالله تظهر جانبا ينعكس على فن وهو الدقة والاناقة الفائقة فى اختيار ملابسه ، يذكرك بممثلى السينما وأحد نجومها فى أربعينات القرن الماضى .
التكوين
حامد عبدالله الابن البكر لعائلة متواضعة من فلاحى مصر الكادحين .. ولد سنة 1917 ووافقته المنية سنة 1985 . جاء جده من الصعيد ، قرية صغيرة اسمها ` العوامية ` بجانب ` سوهاج ` فى مطلع القرن العشرين .. احتذى النيل فى جريانه ومشى صعودا وراء لقمة العيش استقر على قطعة ارض زراعية فى منيل الروضة بجانب مقياس النيل وعليها تكونت أسرة حامد عبدالله على البراح تفتحت عيناه ، نيل يجرى تحت قدميه لون أخضر لا يمده بصر سماء مراوغة من شموس وسحب تاخد أشكالا تحتاج تخميناته الضاربة فى الخيال والتأمل ، ثم ألق النجوم المشاكسة فى ليل تعلقة فى اللانهائى يقطع علية أبوه رحلة التأمل .. ويذهب إلى الكتاب .. حفظ القران .. وتعلم الكتابه وأحب الخط العربى يرسمه أكثر من معانية . الأب الذى لا يقرأ ولا يكتب ، تنازل عن مساعدة ابن له فى الزراعة وألحقة بمدرسة الفنون التطبيقية . حامد لم يكن فى انتظار المواظبين على الدراسة ، فهو فى الاساس يرسم بشكل مستمر ، وأول رسومة البورترية إذ كان يهوى رسم الوجوه وكان يرسم من حوله ثم أكتشف مقهى فى منيل الروضة وجد فيه ضالته من غابه من الوجوه المصرية الخالصة يرسمها فى لحظة التغيير الطازج .
فى المدرسة ثار على مدرسة وقال له : أنا لا أحضر لأرسم قله وقبقابا طيلة العام ، فقام الأستاذ برفدة . وأظب الفتى ذو السابعة عشر عاما على الذهاب إلى المقهى وانكب على الرسم فى خطوط قوية ساخنة راسخة كانت اسكتشاته ورسومه تتنبىء بمولد فنان عظيم أثنى على رسومه أحد زبائن المقهى شخص مصرى من أصول يونانية يدعى ` يانا كاكيس ` تاجر اسفنج ينتمى إلى الحزب الشيوعى ودعاه الى بيتة ، على الحوائط أعمال لفنانين عالميين وكان الجريكو أحدهم ، قدم هذا اليونانى العون الثقافى والسياسى ووجهه إلى المكتبة الوطنية حتى ينهل منها هذا الفنان جميع المناحى الثقافية .
فى سنة 1935 رسم صورة لوجه والده باللون البنى فقط ، يظهر النضج والليونة والقوة والطزاجة فى خطوط تمدد شخصياته .
الحب والفن
فى سنة 1938 تجرأ حامد عبدالله وعرض أعماله وكتب عنه الناقد جابرييل بكتور فى أحد معارضة الخاصة قائلا : لابد وأن حامد عبد الله يذكر بما قاله ألفونس دودييد بأن الحياة تختصر إلى توليف خطوط وأشكال وألوان ، كان هناك بعض وجوه من الحارة وأصدقاء المقهى ومشاهد متنوعة من مصر ، اللوحات كانت لها أسماء من البيئة ` المقهى ، العائلة ، الوليكا ` وكان كثير من الحضور من حى المنيل بالجلاليب الجديدة تتناسب مع جلال الحدث مع حشد كبير من الزوار .
تقدم هذا الصبى فى فنة ودرس فى بعض المراسم الخاصة وقابل تحية حليم الفنانة التشكيلية المعروفة ، وكانت قصة الحب التى ضربت الآفاق فى ذاك الحين ، عرضا أعمالهما فى طول مصر وعرضها ، وأقام أتيلية فى أرض والده ` خيمة ` وكان يتردد عليها كلوباترا شمان ومنير كنعان ، وبالمناسبة هذا الأخير طرق نفس الطريق الذى طرقة حامد عبالله باستخدام الخامات المختلفة والمفردات التى كانت تعتبر فى ذالك الحين نوعا من الأغتراب إذ استخدما الرمال زالمسامير والأخشاب أما حامد عبالله فقد تميز باستخدام الورق اليابانى الرقيق فى كثير من لوحاته مما جعل أعماله نغوص فى ملامس تجريبية شهد لها النجاح فى أنحاء العالم وكان ذلك فى فترة متأخرة من حياته بالخارج .
قال عنه وزير الثقافة بدر الدين أبو غازى : بفضل جهوده الشخصية وكفاحة الدائم ,أوجد حامد عبد الله مدرسة فنية مصرية جديدة لها قوانينها وشخصيتها المميزة .
تزوج الفنان بتميمة سليم سنة 1945 وعاشا فى الاسكندرية يرسمان .. ويعرضان أعمالهما إلى اليوم الذى حاول فية حامد أن يجلس على لوحة تحية ويصلح فيها خطأ فى التو صممت تحية على الطلاق بعد سنة واحدة من الزواج .
وعادا ثانية إلى الوئام سنة 1949 وسافرا معا الى باريس .. وبدأ حامد عبدالله فى عرض لوحاته فى عدة صالات عالمية للفن فى باريس وخارجها كان الزوجان لا يكفان عن الرسم والإنتاج الغزير والعرض فى المعارض المختلفة فى مصر .
برغم ان حامد عبدالله فى طور تطوره الفنى المستمر وولوجه الى عوالم ومذاهب الفن المختلفة كان متمسكا أبدا ببصمته الخاصة التى طبع عليها منذ الصغر تجلى التراث الشرقى فى حس مرهف خلاق حريصا على أصولية وجذور تخللت مسامة وفى آن اتسم بتلك الصرحية التجريدية التى خبر توظيفها فى حنكة ومرونة يحسد عليها .
فى سنة 1956 سافر حامد عبدالله إلى الدنمارك لعرض بعض أعماله وهناك تزوج بالممرضة كرستين بلاش الدنماركية التى شاركته الحياة فى سنة 85 قامت بتمريضة من مرض سرطان البلعوم فى المستشفى التى تعمل بها حتى وفاته .
ونعود الى سنة 1956 حين تم الطلاق البائن بين تخية حليم وحامد عبدالله بعد علمها بزواجه وقرر المكوث فى كوبنهاجن بدايه انطلاقة العالمى ثم انتقل إلى باريس موطنة الثانى .
الصوفية فى أعمال عبدالله
استمر حامد عبدالله فى ولعة بالخط العربى فى مجمل مسيرته الفنية التى بدأت فى الدنمارك ومنها انطلق للعرض فى انحاء العالم كانت صالات العرض تتسابق لعرض أعماله ، لما تحوى من توليفة قد لايجيدها الفنان الغربى وهى الذكاء الفطرى فى الفن المصرى القديم الذى يدمج البساطة مع الصرحية والزخارف أو الخطوط الموحية بحس الوجود والعدم ، وقد تفوق حامد عبد الله فى هذا المضمار .
إذ حين زرت السيدة زوجته منذ خمس سنوات فى فيلا صغيرة فى ضواحى باريس دلفت إلى حديقة صغيرة ثم إلى ضوء دافىء ينبعث من الابجورات يدثر الحجرة بلون الشفق
امرأة ينضح وجهها بطيبة أكيدة ودفء مخلص .. تقول ماتعنى : حامد كان قوى الإرادة لدية جلد أحب المغامرة بكل ابعادها فى العمل والحياة بصخبها .. أحب المرأة والجمال ، يعمل لمدة 14 ساعة فى اليوم ، واصطحبنى إلى الدور العلوى حيث رأيت أعمالة للمرة الأولى وقد بهرنى ثراؤها وتنوعها وغرازتها وعمقها الفكرى والفلسفى . له خاصية متفردة فى وضعية المفرد .. الواحد .. وضعية كتله راسخة محكمة البناء والتكوين متفردة الخامة تحمل قوة الوجود ، سرعان مايصل إلى المتلقى فى فرض الموضوع ` كتله كتابية ` تجريدية ` هذة الكتلة تسبح وتسبح أيضا فى فضاء اللوحة فى توازن عبقرى .. ييكب فيه روحا تسمو ، بلا رجاء للمتلقى بل تسرى ناعمة فارضة ألقها الخاص التصوفى الذى يعكس صوفية عبدالله .. التى تتلخص فى الإرادة .. إذ حين اقترب من الموت قال لزوجته: ` لن يهزمنى الموت ` .
حياة ثرية مثل حياة حامد عبدالله لا تستوعبها مساحة بل كتاب يسرد فنا وحياة.
نجوى صالح
2014 جريدة القاهرة
الرسام عبد الله قصة غير معروفة
هل تعرف حامد عبدالله ؟
ربما !
لكن الاكثر شيوعا عدم معرفة الرجل ، وعلى الخصوص بين الاجيال الشابه من الفنانين والمتابعين للحركة الفنية فى مصر فالرجل ` 1917 ـ 1985 ` الذى يعد أبرز فنانى الجيل الثانى فى الحركة التشكيلية المصرية الحديثة ، تضاءل وجودة فى الذاكرة المصرية لسبب ما ، ربما لأنه غادر مصر فى 1956 للدنمارك وبعدها إلى فرنسا ؟ هل سبب ذلك معارضته لقمع عبد الناصر ثم لسياسات السادات ؟ .. ربما أيضا ربما يرجع ذلك للإهمال الذى ينهش ذاكرتنا باستمرار ، والذى جعل ادارات متحف الفن المصرى الحديث المتعاقبة تحتفى بثلاثين عملا للفنان الكبير بوضعها فى قبو المتحف منذ أن أهداها الفنان فى أواخر حياته للمتحف ؟ بالتأكيد تحالفت تلك الاسباب جميعا فى اخفاء الرجل عن عيوننا كل هذه الفترة .
الأن يعود حامد عبد الله على استحياء مرة أخرى ، إذ قامت اسرة الفنان الراحل بإخراج كتاب ` عين الروح - الرسام حامد عبدالله ` بالعربية والفرنسية والانجليزية يضم أعماله ومسيرة حياته قامت بإعداده الناقدة اللبنانية رلى الزين ، ونجحت الأسرة وأصدقاء الفنان الراحل فى اقناع إدارة المتحف بإخراج الأعمال المدفونة فى قبو المتحف لعرضها على الجمهور المصرى فى معرض مقام بقاعة ` أبعاد ` ـ ينتهى المعرض فى الاول من مارس - كما قامت السفارة الفرنسية بالقاهرة بعرض جدارية من أعمال عبد الله خلال الأسبوع الماضى ، ثم انتقلت الجدارية الى المركز الثقافى الفرنسى فى الاسكندرية بعدها بأيام . المعرض المقام الآن من المفترض أن يتبعه معرض آخر فى بيروت هذه الايام ، استعدادا لإقامة معرض كبير لحامد عبد الله فى نهاية هذا العام، يتم فيه جلب أعمال لم تعرض للجمهور المصرى من فرنسا، على سبيل استعادة الرجل .
نحاول فى بستان هذا العدد التعرف -على المحطات التى مر بها عبد الله من المنيل الى جاليرهات وسط القاهرة فى الاربعينات ثم إلى كوبنهاجن وبعد ذلك الى باريس . نحاول معرفة الرجل .. ربما تأخر الوقت، ولكنه حتما لم يفت بعد .
` كلا ياسيدتى العزيزة ، ليست لى مرجعية فنية .. كان والدى فقيرين وكانا يطمحان أن أصبح حرفيا ماهرا ، وبما أننى كنت منعزلا غالبا وحالما دوما ، قررا إلحاقى بقسم الحديد المشغول فى معهد الفنون التطبيقية المجانى بالجيزة. فى الواقع ، كنت أكثر التلاميذ فشلا فى الرسم ، كان المدرس يطلب منا رسم عصفور ، يرسمة أولا بالحبر الصينى ، ويطلب منها تقليده، كان بشعا للغاية ، وأنا لم أكن أحب موضوعة ولا طريقه معالجته . كنت أكره تقليد طريقته فى الرسم ولهذا أصبحت كسولا . فأبعدنى هذا الرجل الطيب إلى أقاصى القاعة لمعاقبتى وأمرنى برسم القباقيب والشباشب لأيام وأيام. لم يرد بخاطره البته أننى كنت سعيد جداً فى الشبب بدلا من التقليد الخانع لرسومه . من مقابلة فى Egypte Journal مايو 1949 .
أبصر حامد عبد الله النور فى القاهرة 1917 ، لعائلة من الفلاحين سكنت منذ مطلع القرن العشرين ضواحى القاهرة .. تلقى حامد تعليمه الأولى فى الكتاتيب حيث تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن . ومنذ ذلك الحين لفت حامد الانتباه الى براعته فى كتابة الخط ، ثم مارس الرسم فى سنوات شبابة الأول .
يلتقى عبد الله فى مقهى حى المنيل مع ياناكاكيس المصرى اليونانى ، تاجر السفنج والمناضل الشيوعى الذى أنتبه للشاب ولبراعته الفنية ولاحظ اختلافة عن بقية رواد المقهى . ومنذ ذلك الحين انعقدت أواصر صداقة أعطت لحامد فرصة الانفتاح على المجالين السياسى والثقافى . أدهشته صور أعمال جريكو التى اكتشفها فى بيت ياناكاكيس ودفعته ليعمق معرفته بالفن . كان يقرأ بغزارة عن فنانين من مراحل مختلفة كما أنه اكتشف بشغف تقاليد مصر وتراثها الثقافى . وفى ذات الوقت ظل يرسم أقراباءه بطريقته الخاصة .
فى عام 1938 وعندما كان فى سن الواحد والعشرين أخذ قرارا شجاعا بعرض بعض أعمالة على لجنة تحكيم صالون القاهرة . كتب جابريل بكتور هاوى الفن ومؤسس مجلة ` صور ` : رأينا لأول مرة فى صالون القاهرة حضور وفد من سكان حى المنيل بجلالبيهم الجديدة التى تتناسب وجلاله الحدث . جاءوا ليشاهدوا صورهم معلقة ومعروضة أمام حشد كبير من الزوار .
` أشتريت منى وزارة المعارف لوحتين ، كما دعانى طه حسين للتدريس فرفضت لأنى فضلت الحفاظ على استقلالى ، فأنا لم أكن أحب المدارس وأكره برامجها وطرقها التربوية `
بدأ عبد الله أسفاره الأولى فى مصر وخاصة فى النوبة وأسوان باحثا عن أكتشاف الأوجه المختلفة لبلده يقول حامد ` استطعت توفير بعض المال للقيام برحلة إلى الصعيد ويالانبهار ! ستة أشهر من النور ، ستة أشهر من التواصل مع سادة العالم : الفراعنة `
فى 1941 نظمت جمعية أصدقاء الثقافة الفرنسية معرضة الخاص الأول فى صالة ` حورس ` فى القاهرة . وشهدت الفترة التالية عملا دءوبا من الشباب الذى أقام العديد من المعارض الفردية فى القاهرة والاسكندرية وبورسعيد والاسماعيلية .
فى 1943 كتب الناقد جون بالمر فى ` جازيت مصر ` عن أحد المعارض الجماعية التى شارك فيها حامد عبد الله :
` أما بالنسبة لحامد عبد الله يصعب على أن أفى هذا الفنان الشاب حقه وذلك من عدة نواح ، فهو لا يحب البهرجة ولا ينتمى إلى مدرسة فنية محددة . ينفر من التشاطر ومن الصبغة التجارية لصالات العرض القاهرية . لا يعتمد فى عمله على الحيل وهو غير مدع وغير متثاقف كأصحاب الياقات الحمراء والأرجوانية الذين ينظرون بتعال الى جمهور متأخر عشرين عاما عن زمنه فهو ليس أكثر من فنان متواضع ولكنه واسع الخيال وشديد الحساسية ويمتلك قدرة ومهارة ليوصل أشكالة وما يختلج فى ذاته للاخرين ، وهو لا ينتمى الى تيار فنى محدد ، يرسم بالضبط كما يستطيع أن يفعل . والذى يستطيع ان يفعلة يؤهلة حتما لأن يكون ذائع الصيت` .
فى 1943 أفتتح مع تحية حليم تلميذته ` ثم زوجته الاولى لاحقا ` مرسم حامد عبد الله` فى وسط المدينة فى شارع ` مارييت ` استقبل مرسمة العديد من الفنانين من بينهم جاذبية سرى ومنير كنعان وانجى اقلاطون والملكة فريدة زوجة الملك فاروق الأول .
بعد ذلك حصل الشاب ببعض الاعتراف ففى عام 1949 أكد الناقد بدر الدين أبو غازى وزير الثقافة لاحقا قائلا: بفضل جهوده الخاصة وكفاحة الدائم أوجد حامد عبد الله مدرسة فنية مصرية جديدة لها قوانينهاوشخصيتها المميزة ` .
فى 1950 عرض جاليرى` برنهايم للشباب` فى باريس أعمال حامد عبد الله استقبل المعرض بحفاوة بالغة ، وتحدث ناقد بالجيل الجديد ` روبيرت فرينات عن نضج حامد عبد الله ورسوخة قائلاً : بما يجعل كثيرين من الفنانين الذين فى مثل سنك 33 عاما -يحسدونك على ذلك النضج ` .
فى عام 1952 ، كان من الطبيعى أن تحمل رياح الثورة ، حامد عبد الله الى المشاركة بمصرنة الحركة الثقافية فقام بإبعاد سيدات المجتمع البرجوازى والأميرات اللواتى كن يتعلمن الفن تحت أستاذيته ليفرغ تماماً للثورة الجديدة . فى بمرسم القاهرة ` ابتدأ بعقد مؤتمرات ولقاءات ناطقة باللغة العربية للمرة الأولى وقام بتنظيم معارض لفنانين مصريين عمل بجهد لتحسين وضعية فنانى بلدة ولكن لم يطل به الوقت كثيراً لكى يصاب بالإحباط من عبد الناصر وبيروقراطية الدولة . وحملت أعمال من تلك الفترة عناوين مثل بالاستبداد ` أو بالسجناء ` كما كتب مؤنس عبد الله : بصدم حامد عبدالله من القمع العنيف ولم يسامح عبد الناصر أبداً على إرسال الدبابات لمواجهة العمال المضربين فى كفر الدوار وكذلك الحكم بالإعدام شنقا للعاملين المضربين خميس والبقرى ` .
فى عام 1956 قام حامد عبد الله بجولة فى عدد من بلدان العالم ، عرضت أعماله فى مدن أوروبية كباريس وأمستردام وروتردام وكوبنهاجن .. وفى معارض جماعية فى نيويورك وسيول . وهو نفس العام الذى شهد انضمام بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى حملة اجتياح السويس . ومن مكان إقامته فى باريس شاهد حامد عبد الله الحملة الإعلامية الشعواء ضد عبد الناصر والتى تم فيها مقارنته بهتلر فى النشرات السينمائية لتلك الفترة . لم يكن باستطاعته كرجل حقيقى أن يكون متناقضاً مع نفسة . إذ رغم سخطه على النظام فقد دافع عن عبد الناصر بشراسة . ولكنه رغم مشاعرة الوطنية الجياشة ظل بعيداً عن وطنه مصر . واختار لاحقاً الإقامة فى الدنمارك مع كرستن بلاش . ممرضة دنماركية شابه كان قد التقاها لتوه فى باريس ثم تزوجها بعد أن طلق تحية حليم .
وسرعان ما انخرط فى الحياة الفنية الدنماركية وأجرى بعض المقابلات مع الصحافة المحلية . وعن سؤال متعلق بوضع الفنانين فى مصر أجاب : ` إنه سيئ كما فى كل مكان . إذ إن الناس لا يملكون المال لشراء الأعمال الفنية فبالنسبة لى كنت أعطى دروساً فى الرسم وكان من بين طلابى سويديون ونرويجيون شجعونى على زيادة البلاد الاسكندنافية .أعتقد أن الفن يخلق علاقات صداقة ` .
منذ البداية نظمت لأعماله معارض فردية فى عدة مدن دنماركية .أحدها كان فى سكيف حيث كتبت الجريدة المحلية :` كيف وصل الفنان حامد عبد الله إلى الدنمارك ؟ فقط الآلهة تعرف ذلك ولكن من حسن الحظ أنه هنا لأنه من النادر جداً أن تتوفر لنا الفرصة لكى نعجب بفن يأتينا من الجهة الاخرى للمتوسط إن ما نشاهدة هنا هو فن خالص فى اختيارة لمواضيعة يتناغم حامد عبد الله مع شئ ما ذو أصالة مصرية الفنان منشغل بمواضيعة الحميمة ولكن المستوى الذى يرفعها إليه يجعلها ذات صبغة كونية وهذا ما يسمح للوحات بان ترتقى إلى ماهو أكثر من صورة أو رؤيا ` .
وانطلاقاً من الدنمارك تابع حامد عبد الله سفره ومعارضة فى مختلف العواصم الأوروبية .
وبمناسبة معرضه فى باليرمو ، تمخضت تلك الرحلة إلى صقيلة عن بدء حامد عبد الله بالعمل على إنجاز مجموعة جديدة من اللوحات باسم ` وجوه ` مستلهمة من الرسوم الجدارية المكتشفة فى كنيسة بلاتين .
تلك كانت البداية لما أطلق علية الفنان اسم ` ارتجالات خطية ` أى عندما بدأ بإدخال الخط العربى إلى لوحاته وبنى منطلقاً من بحث فى الوجه ابتكارة لـ ` كلمة شكل ` لكن بحث حامد عبد الله فى أماكن العبادة الإسلامية ودراساته المعمقة للأشكال التى تزينها كانت قد بدأت قبل ذلك .. تتذكر زوجته كرستن بانه كان يشترى كميات كبيرة من الكتب عن الفن الإسلامى وكان يهتم بشكل خاص بالفخار .
ظل عمله حول ` كلمة شكل ` يتطور الى أن أخذ انتاجه الفنى ابتداء من العام 1958 ، يصب فى منحى هذا البحث يتحدث ادوارد خراط عن ` تيار الحروفية ` عند حامد عبد الله قائلا :
` لا أظن أن فنانا مصريا استطاع أن يسيطر على مراحل فنة المختلفة ، مرحلة بعد مرحلة ، بأستاذية وبالهام يخطئ ، على تنوع المراحل واتساقها فى آن ، مثل مافعل حامد عبد الله . كان طموحه الفنى هو أن يعبر الهوة بين بالمعنى اللفظى الدقيق للكلمة وبين ` التجسيد ` التشكيلى لهذا المعنى -بغض النظر عن الحروف التى تكون الكلمة العربية .
رغم نجاح أعماله ومعارضة وأنشطته
المتعددة قرر حامد عبدالله أن يغادر الدنمارك عام 1966 وفى مقابلة مع إحدى الصحف الدنماركية قبل ذلك بعده سنوات قال موضحا : ` كنت أطمح ومازلت أن يكون عملى بطريقة ما جسرا بين عالمينا وأن يساعد على خلق تفاهم مشترك .. إقامتى فى الدنمارك ساعدتنى الى ان اعرف الى أى مدى كنت عربياً `
بعد عشرة أعوام أمضاها فى تلك البلاد شعر بمحدوديتها ورغب بالاقتراب أكثر من مركز الحياة الفنية العالمية . انتهى به الامر لينتقل مع عائلته إلى باريس حيث كان محاطاً أكثر بأصدقائة العرب والمصريين ` وهذا ما أدلت به زوجته كرستين التى أضافت :
فى بيتنا حيث كان لحامد مرسمة كنا نستقبل دائما أصدقاء من الذين يمرون بباريس أو أخرون من المقيمين ومن هذا المنطلق كان يبدو أقل عزلة `
تابع حامد عبدالله نشطاته فى مختلف البلاد كما فى سوريا حيث نظم معرضا استعداديا له عام 1967 فى المتحف الوطنى بدمشق . وفى محاضرة حول أعماله شارك فيها الفنان السورى فاتح المدرس والمؤرخ عفيف بهنسى وكتب عنه الكاتب والصحافى ميشيل كيلو فى مجلة ` المعرفة ` الدمشقية :
` لقد قدم حامد عبد الله فنا عربيا متطوراً مدروسا يمثل محاولة لتمهيد الطريق ، طريق العالمية أمام الفن العربى ، وقد نجح فى المحاولة ، وإن تكن الطريق أمام عالمية الفن العربى ، ماتزال طويلة وشاقة `
ولكن فى حزيران عام 1967 عندما تم الإذلال بسبب الهزيمة العربية أمام إسرائيل كان حامد عبد الله شديد الاضطراب بل أنه أنهار تماما يتذكر ابنه سمير عبد الله :
` عرضت وسائل الاعلام الغربية صورا لمئات الاحذية العائدة لجنود مصريين متروكة فى الصحراء ـ تبين لاحقا بانها كانت صورا ملفقة -ولهذا السبب منع أبى عنا التليفزيون فى البيت وهكذا حرمنا من الشاشة الصغيرة لمدة عشر سنوات ، وعندما اكتشف ان أصحاب صالات عرض وفنانين دعموا اسرائيل أثناء الصراع العربى الإسرائيلى انقطع كليا عن تجار الفن . كان يحنق بدون توقف ضد الدكتاتوريين البيرقراطيين العاجزين الذين يقودون العالم العربى وكان يعلن حقداً شرسا ضد الأمريكان وحلفائهم `
بعد ذلك بثلاثة أعوام أصابه حدث آخر فى الصميم إنه وفاة جمال عبد الناصر فى العالم 1970ويتذكر سمير عبدالله ان والده جمع أولاده فى غرفة الجلوس لدى سماعه الخبر وقرأ معهم الفاتحة ترحما على روح الرئيس . وظهر كما لو أن حنينه إلى بلده أصبح أكثر قوة بعد تلك الخسارة ، فعاد حامد عبد الله إلى مصر زائرا عام 1971 وعمل فى تلك الفترة بدون كلل :
` كان يبدو كما لو أن حامد عبدالله يقاوم جسديا ضد الاكتئاب فقد كان يرسم اكثر من عشرة أعمال فى اليوم الواحد . سنوات السبعينيات كانت الأكثر خصوبة فى حياة الفنان ` كما قال سمير
كان حتى وهو بعيد فى فرنسا تطاله مجريات الأحداث التى تقع فى بلادة . فمعاهد كامب ديفيد عام 1978 وما تبعها من عزل مصر عن العالم العربى أحزنت حامد عبد الله كثيرا وهو الذى كان داعما سياسيا للقضية الفلسطينية .
استعادت أعماله فى تلك الفترة عناوين سابقة مثل بالاستسلام و ` العار ` شارك فى تلك السنة فى بالمعرض العالمى من أجل فلسطين ` الذى أقيم فى بيروت ثم عرض عام 1980 فى متحف الفن الحديث فى طهران منضما الى مجموعة فنانين آخرين أقاموا معرضا جماعيا تحت عنوان بالمعرض الفنى للمقاومة الفلسطينية ` وفى عام 1982 شارك فى معرض جماعى فى مقر اليونيسكو فى باريس لدعم صمود المقاومة فى وجه الاجتياح الإسرائيلى .
على الصعيد العام كان حامد عبد الله يرفض الاعتراف بالهزيمة ويبحث عن كسر العزلة ، جال فى العواصم العربية بين عامى 1979 و 1983 قبل أن يهئ لعودته الى مصر . ولكنه وجد فى بلده مجتمعنا خاملا ومحتجزا ، فثار على حالة البؤس التى غرق فيها شعبه . كان يعرف حجم المسؤلية التى تقع على عاتق النظام وكذلك كل الفئات السياسية وخصوصا اليساريين ومعهم المثقفين .. ورغم ذلك عزم على الاقامة فى مصر كان يبدو حائرا هذا ما أفاد به ابنه سمير .
ظهرت فى تلك المرحلة آثار التغيير جليا فى أعماله بل وقد أخذت بعدا آخر ، إذ قل فيها العنف وازداد الصفاء والشفافية . وقد كتب ادوارد الخراط عن أعمال تلك المرحلة الأخيرة قائلا .
` تشى باتساق فريد ، بين الألم والوداعة ، بين المكابدة ولوعات العذاب وبين المقدرة على تصفية هذه اللواعج وتنقيتها وتقبلها ـ وتجاوزها ـ بل تجاوزها من دون إنكارها . وفى أعماله الأخيرة كذلك عودة الى أصول صرحية تظل ماثلة فى عمله كله ، مع تجريد ظل حامد عبد الله طول حياته يناوشه ويغازله ويهفو لغوايته من دون أن يسلم لها قيادة تماما ، بل يناوئها ويقاومها من دون أن ينفيها ` .
يتذكر عدلى رزق الله لهفة حامد وهو يتحدث عن الفن وعن مشاريعه لإعطاء دروس فى الفن للفنانين المصريين الشباب كما كان يفعل فى سنوات الاربعينيات والخمسينيات ويحكى عدلى رزق الله عن لقاء ضمه مع حامد عبد الله بحضور الفنان زهران سلامة فى مقهى فى بولاق . أخرج أوراقة وبدأ يرسم الرجال والنساء بأستاذية بهرتنا . عندما ملت على صديقى زهران هامسا ` لقد عاد حامدنا `
هذه العودة المأمولة لم تتحقق ، إذ أن حامد عبدالله أصيب بسرطان فى البلعوم وكان مضطرا للاسشفاء فى فرنسا . وقد توفى فى آخر يوم لعام 1985 فى مستشفى بلان فى باريس وهو المستشفى الذى كانت تعمل فية زوجته .
يعود عدلى رزق الله للشهادة المريرة التى أدلى بها الفنان جورج البهجورى الذى يعتبر نفسة أيضا تلميذا لحامد عبد الله :
كنا نمر أمام المستشفى وعندها أخبرنى جورج كيف أن حامد عبد الله ضم يدية صارخا ` لن تهزمنى ` كان يحدث الموت وكان هذا قبل رحيله بيوم واحد `
محمد فرج
جريدة أخبار الأدب - 2014
- كان من أجرأ المتمردين على الأكاديمية والجمود فى حركة الفن المصرى، ولم يكن فى ذلك سليلا لا صحاب ` الفن والحرية ` بل كان موازيا لهم، ان لم يكن سابقا عليهم (حيث تتوفر لدينا أعمال ثورية ناضجة من انتاجه تحمل تاريخ 1933 وكانت سنة آنذاك 16عاما). ولعل حسة المبكر بالتفرد والاستقلال هو ما حال دون ارتباطه بأية جماعة، وقد علم نفسه بنفسه فى مدرسة الطبيعة والبيئة الشعبية والزراعية منذ صباه، متأثرا- إلى حد ما - بالفنان راغب عياد والمدرسة التعبيرية الاوربية، حتى أصبح بمقدوره أن ينشئ مرسما لتعليم الهواة فى الاربعينات، والتحقت به فنانات أصبحت لهن فيما بعد مكانتهن الكبيرة، مثل تحية حليم وانجى افلاطون وزينب عبد الحميد وصفية حلمى حسين .. وكان لتعاليمة أكبر الآثر- فنيا وفكريا- فى ارتباطهن بالواقع وتعبيرهن عن أفكار اجتماعية وسياسية بصيغ جديدة تستمد نبضها من جماليات البيئة المصرية والتراث الفرعونى والقبطى، جنبا إلى جنب مع وتائر الفن العالمى الحديث.
- وبالنسبة لتجربته الشخصية فقد سارت فى هذا الطريق إلى أقصى مداه وأصبح ملتزما بقضايا الوطن والمجتمع، صائغا لغته التشكيلية المتجددة من معطيات البيئة والتراث، سيما من رسوم النسيج القبطى، بما فيها من فطرة وتعبير وتحوير لنسب الاجسام، وبما فيها من تجاوز للمنظور الهندسى، مما جعلها تتعايش مع اتجاهات الفن الحديث ، محتفظة فى ذات الوقت بروح شرقية.
- وقد ظل عبدلله أحد رواد الحداثة الفنية بمصر حتى عام 1957 حين غادرها إلى أوربا واستقر بها اكثر من عشرين عاما، وحتى خلال فترة وجوده بالخارج واصل رسالته التجديدية مرتبطا بالتراث( من خلال حروف الكتابة العربية التى يعد أحد أوائل الفنانين العرب فى توظيفها فى لوحات عصرية تحمل فى نفس الوقت مضامين سياسية واجتماعية) ومغرما أيضا باستكشاف خامات جديدة للوحة تحقق ملامس متنوعة غير تقليدية، فأضاف إلى سطح اللوحة قطعا من الخيش والجوت والفيبر جلاس والورق المكرمش.. الخ ، كما استخدم وسائط لونية غريبة مثل القار ومشتقات البلاستك، متطلعا إلى أن يحصل من خلالها على سطوح مجعدة ومشققة وبارزة وغائرة ، تساعد فى تكثيف الشحنة التعبيرية الدرامية بقدر ما تثرى الرؤية الجمالية.
- وبقدر ما أتقن فى بداياته الفنية التصوير على اسس المدرسة الانطباعية وبقدر ما أجاد التعبير العفوى ومعالجة الشكل وفق منطق الفطرة الشعبية، وبقدر ما آمن بتوظيف الفن لخدمة اهداف اجتماعية وسياسية وعمل على تحقيق تلك الرسالة بانتاجه، فان ولعة الشديد بالتجريب التقنى والعلاقات البصرية بصياغاتها الغربية المتأثرة إلى حد بعيد باتجاهات الفن الغربى، قد حدد امكانات التفاعل بين أعماله وبين المجتمع إلى درجه كبيرة ، وجعلها أكثر تأثيرا فى المشتغلين بالفن التشكيلى كمحرك فى اتجاه الحداثه ، كما كان لاغترابه الطويل عن مصر دور أساسى فى افتقاد التواصل بينه المجتمع المصرى خلال عقدين صاخبين بالصراعات والتغيرات الاجتماعية والسياسية.
بقلم :عز الدين نجيب
من كتاب التوجه الإجتماعى للفنان المصرى المعاصر
- ولد حامد عبدالله فى القاهرة عام 1917 ، وتوفى فى باريس عام 1985 ، درس فى معهد الفنون والزخارف الذى أسسه الفنان محمد حسن، وفى تخصص الحديد المطروق، وعمل فى تدريس الفنون للهواة بالقاهرة منذ عام 1942، وتزوج من الفنانة تحية حليم وسافر إلى فرنسا، وفى عام 1956 هاجر الى الدنمارك ثم إلى باريس عام 1967 ، ولم يعد للوطن الا فى السنوات الأخيرة من حياته.
- كانت لدراسة حامد عبدالله الصناعية من ناحية، ولزيارته المطوله الى أسوان والنوبة من ناحية أخرى، الفضل فى تحديد اتجاهه الفنى الذى اعتمد على المزاوجة بين متناقضين، الحرفية والفطرة، فلجأ تاره إلى الحروفية العربية كموضوع للتشكيل، وتارة أخرى إلى الرسوم التشخيصية البدائية المستلهمة من جداريات النوبة ورسوم الأطفال، وسواء استخدام اتجاه تسطيح العناصر، أو تجسيمها فإن تلك العناصر تبدو وكأنها قد قصت من شرائح الصاج، أو طرقت لتلتف وتتلوى، ومن ناحية أخرى فقد لجا الفنان كثيراً إلى تمثيل ملامس السطوح الإيهامية ، التى تشبه الصفيح المجعد والمؤكسد، ويرسم على أجزاء مختارة منها حروفا بفرشاة عريضة، تسحب اللون كالخيوط المتوازية المجدولة بجرأة وتمكن فوق أرضية تمهيدية، وفى أحوال أخرى اختار الفنان استخدام درجات متوازنة من ألوان هادئة مخلوطة على مساحات مسطحة فى تشكيلات تتسم بالفطرية والحكمة فى آن واحد مع تحديدات من خطوط افعوانية ملونة. وقد ابتكر لنفسه مجموعات لونية بالغة الخصوصية والتميز.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
حامد عبد الله 00 والتبقيعية
- لأول مرة تشهد القاهرة معرضين هامين لفنان واحد وفى أسبوع واحد .. أحدهما فى قاعة العرض بالمركز الثقافى السوفيتى ، والآخر فى جمعية محبى الفنون الجميلة .
- والفنان صاحب المعرض هو ` حامد عبد الله ` الذى فوجئ جمهور المعارض بمعرضيه اللذين لم ينالا حقهما من الدعاية والتعريف .. وكانت المفاجأة أكبر بالنسبة للجيل الجديد من الشباب الذين لم يسمعوا أو يعرفوا شيئاً عن هذا الفنان ، وأنه واحد من رواد الحركة الفنية من جيل الرعيل الثانى ، وذلك لتغيبه عن مصر منذ أكثر من عشرين عاماً قضاها مهاجراً فى باريس ، متفرغاً للفن وحده ، عاملاً باسم مصر التى ظلت طوال مدة تغيبه عنها محور إبداعه .
- والذين يعرفون ` حامد عبد الله ` يذكرون كيف تطورت حياته الفنيه خلال رحلته الطويلة فى دنيا الإبداع ، وهو اليوم يطالعنا بآخر مراحله التى يقدم نماذج منها تحت عنوان ` الطلسمان ` والتى تنتمى إلى مذهب ` التبقيعية ` أو ما يسمى ` بالتاشيزم ` وهى إحدى التفريعات المنبثقة من اللاموضوعية أو التجريدية . أو التعبير المطلق .الأخرس . إذا جاز هذا التعبير .. لأنها لا تعتمد فى مقوماتها على المرئيات المألوفة للعين ، كما أنها لا تبنى هياكلها على الموضوعات الأدبية . وإنما تعتمد على الإشارات التشكيلية القائمة على الأشكال المجردة وما توحى به البقع الجزافية واللمسات العشوائية، وكثافتها وملامسها ونسيجها ، وما ينتج عنها من مختلف الإيحاءات الموقظة للمشاعر دون إملاء معنى محدد أو الإيحاء بموضوع معين .
- وهدف التبقيعية ليس هدفاً جمالياً أو زخرفياً أو هندسياً بقصد إطراب البصر وإمتاع العين بقدر ما هو تعبير يخاطب الوجدان رأسياً .. ويهز الفكر دون وساطة من أى نوع
وما من شك أن ` حامد عبد الله ` يعتبر أحد أركان التبقيعية الثلاثة فى مصر . هو والفنان ` صلاح طاهر ` والمرحوم الفنان ` فؤاد كامل ` .. فالبرغم من تباعد كل منهم عن الآخرين مكاناً وزماناً ، إلا أن الإطار الفكرى الذى يضم ثلاثتهم يجعلهم مادة طيبة للمقارنة والدراسة ، والتحليل ، لعلنا نستطيع من خلال هذا التحليل التوصل إلى مزيد من تذوق ثمار هذه اللغة الخرساء التى يستعصى على الكثيرين فهمها ، ولو أنها لا تحول دون تسرب مؤثراتها النفسية إلى الأعماق .
- وبالرغم من القفزة الهائلة التى باعدت بين الفنان ` صلاح طاهر ` وبين التشخيصية التى لا يزال يعاوده الحنين إليها ويمارسها من خلال الصور الشخصية ` البورتريه ` إلا أنه استطاع أن يعقد تحالفا بين الموضوعية واللاموضوعية فيما يشبه الشخوص الطيفية التى تتمخض عنها لمساته الجريئة وشطحات فرشاته الواثقة التى تنزلق فوق سطح اللوحة فى عصبية فائرة وديناميكية متمردة ، تحتضنها خلفيات هندسية أشبه بالعمائر بقوالبها الهندسية الصارمة أحيانا ، أو ما يشبه الكائنات العضوية برخاوتها وطراوتها وهلاميتها أحيانا أخرى .. محققا بذلك تزاوجاً يصنع قنطرة بين شاطئين متباعدين. يحصر الرؤية داخل إطار يضم ذلك الهجين المتأرجح بين دنيا الواقع وشطحات الخيال، متخذاً موقفاً وسطاً غير متطرف فى يمينيته ولا متمادياً فى يساريته أو لا معقوليته . بل يظل محتفظاً بخيط رفيع يربطه بدنيا الواقع فيما يمكن أن نسميه التجريدية الواقعية . أو التبقيعية التشخيصية .
- وتختلف تبقيعية ` فؤاد كامل ` تماما من حيث أبجديتها وكلماتها وعناصرها وتراكيب جملها عن تبقيعية ` صلاح طاهر ` فهى وإن كانت تتبع نفس المنهج من حيث عشوائيتها وتلقائيتها ، إلا أنها تنتمى إلى عالم آخر غير عالم ` صلاح طاهر ` فهى لا تستعير من الكائنات الأرضية أشباحها أو أطيافها ، وإنما تنطلق بعيدا فى فضاء خارجى ليلى شاسع تغمره زرقه داكنة ، وتتفجر فى أعماقه الأجرام والكواكب التى حكم عليها بالفناء ، أو تلم شتاتها فى تجمعات سديمية عملاقة . أو تعانى مخاضاً هائلاً وهى فى سبيلها إلى ولادة كوكب جديد ..
- وليس من السهل أن يحلق الخيال فى آفاق بهذه الدرجة من التفجر والغليان دون أن يتعرض للاحتراق الكامل . أو أن يغوص فى بحور اللهب والمنصهرات والأبخرة اللافحة، وأن يعانى أزمات التمزق والتشقق والتحولات الكونية فى أعلى درجات العنف والضراوة .. ولكنه العالم الذى اختاره ` فؤاد كامل ` ليغمس فيه فرشاته ` النوويه ` ويلمس بطرفها سطح اللوحة فتحدث دوياً هائلاً يصم الآذان وضوءا يبهر الأبصار .. وكأنه يعزف بصخبها لحن ` الكونية ` الذى يتذبذب بين التجمع والتحلل وبين الهدم والبناء .
- أما إذا رغبنا فى تذوق تبقيعية ` حامد عبد الله ` فينبغى أن نعود بذاكرتنا إلى أعماله السابقة فى الخمسينيات وما قبلها . لنرى كيف كانت متصلة بالبيئة المصرية لدرجة الالتصاق ، وحتى أنه عاد عندما غادر مصر إلى الخارج حمل معه ولاءه وحبه لبيئته وهو فى قلب باريس ، فراح فى كل مكان يذهب إليه يقدم الكادحين من أخوته وأبناء عمومته الفلاحين ويقول . هذه هى مصر !!!
- ولكن مصر كبرت مع الأيام ، وحولتها الأيام إلى فكرة لا صورة ، فخلعت الرداء التشخيصى والإنسانى بعد أن ضاق ولم يعد قادراً على احتواء مكانتها الكبيرة فى نفسه ، فراح يبحث عن رمز آخر ، فوجده فى رمز الرمز .. فى الكلمة ..!!
- وللكلمة حروف ومقاطع يتألف منها الهيكل الذى يتقمصه المعنى .. والحروف رموز لمخارج صوتية مصطلح عليها ، ولكن كل هذا لايدخل فى حسبان الفنان الذى يتعامل مع الشكل وحده دون أى اعتبار آخر . إنه يجرد الكلمة من معناها الأدبى ويجعل من شكلها منطلقا ينطلق منه إلى مجاهل الإبداع والخلق دون تقيد بحرفية معنى الكلمة ، ولا بقاعدتها الخطية ، وإنما يحولها إلى مؤشر يهتدى به فى متاهات الفراغ البكر ، وإلى شحنة انفعالية جبارة تدفع يده الصاروخية حاملة معها زادها من الألوان والعجائن مسترشدة بها فى مسارها الفلكى وهى تقتحم فضاء اللوحة .. وفى هذه الانطلاقة الجامحة تمكن المتعة ، متعة المغامرة فى فضاء مجهول ..
- إن شيئاً ما عظيماً وجليلاً يحدث من هذا التفاعل والتلاحم بين ومضة الفكرة وسلبية اللاشئ .. من التفاعل الاحتكاكى بين الأداة والسطح . بين الحركة والسكون ، بين اليد المنطلقة بأقصى سرعة والسطح الساكن كالعدم . وهنا يبرز رد الفعل بكل عواقبه من تشققات وتقلصات وتضاريس وتسلخات . وفى الطريق تتكون أنسجتة ، وتترسب بعض العوادم والفضلات . وتنبثق ركامات من الأبخرة ، وتتعثر بعض الخطوات ، وينشأ مع ذلك الصراع علاقة ساخنة جداً مع الخلفية السلبية كالعلاقة بين الوعاء والماء الذى يغلى ويفور فى داخله .
- ولقد قيل ` فى البدء كانت الكلمة ` .. و`حامد عبد الله ` يريد أن يكون رسم الكلمة أسرع من منطوقها . وربما أسرع من الخاطر الذى أوحى بها . وهذا هو سر السرعة الفاتقة التى تسابق بها يده خاطره ، والتى يريد أن تكون التلبيه موازية للأمر بلا زمانية بينهما . وفى هذه السرعة يكمن سر الكلمتين الأزليتين .. ` كن فيكون ` ..!
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
أشجار تشكيلية باسقة وحياة لا تختلف عن اللوحة
- في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1985 عاد حامد عبد الله أبو مؤنس وسمير وانيسة من زوجته الدنماركية الجميلة كرستين التى تعرف عليها فى المستشفى مند زمن بعيد بعد أنفصاله عن الفنانة تحية حليم التى رفضت الإقامة معه فى باريس فترة طويلة وعادت بعد ستة أشهر إلى القاهرة تاركه بصمة مهمة فى أعمال عبد الله وأخذت منه بصمات عدة وتعلمت أشياء كثيرة من زوجها ومعلمها الأشهر الذي عاد الي منزله بعد عناء من رحلة علاجه بمستشفي منربناس من داء السرطان اللعين .دق جرس تليفون عبد الله وإذا بصوت جورج بهجوري `حمد لله علي سلامتك يا عم حامد أنا كنت جاي وجايب معى مني زعلوك لزياراتك`.
- حامد عبد الله بروح المصري الصعيدي يرد علي بهجوريِ انت تجيب معك مني زعلوك دي مني ست لكن تجيب معاها عشرة رجال مثلك وتنتهى المكالمة مع الضحك الذي يغلف غرفة الفنان المحترم سيد اللون ورائد التجديد وحامل رأية الفكر والفسلفه الحرة عمدة المصرين بباريس وسيد الكرم رمز الحكمة القوة المعارضة والشموخ فى هذا الزمن من عمر المحترف المصرى والعربي.
- وبعد أسبوع تقريباً من عودة الفنان لمنزله جلست مني زعلوك رحمها الله تدير قرص التليفون تبلغ الفنانين العرب تهاني رأس السنة وتدعوهم لقضائه فى رحاب منزل حامد عبد الله ، يوافق الجميع ويتصلون بالتليفون قبل الذهاب ليلاً لمنزل عبد الله التليفون يرن مرات عديدة ثم يأتى صوت مؤنس حامد عبد الله في حزن شديد` صعب عليكم يا أصدقاء أبي قضاء رأس هنا في منزلنا لقد رحل أبى أختار يوم الميلاد ليحتفل علي طريقته الخاصة ` يغلف الحزن قلوب العرب في باريس والفرنسيين.
- ستظل الأشجار واقفة
- حامد عبد الله هو سيد اللون ومعلم الأجيال هو أكاديمية الفنون التى واجهت كلية فنون الزمالك هو الرائد الذي خرج من عباءة الكثيرين من تحية حليم والنجدى وغيرهم هو مدرسة الأفنجارد والتاريخ المشرف والرمز المشرق.في أحد الأيام وصل حامد عبد الله خطاب من هيئة اليونسكو يخبره بإختياره رئيساً للجنة الفنون التشكيلية في المنظمة مزق الخطاب وصمت بعد أن عرف إن هناك عضواً من عصابات الإحتلال داخل اللجنة رافضاً التفاوض أو مشاركة عدو فى شئ وقائلا عبارته الشهيرة مواقف الرجل المحترم تحسب عليه من البداية وليس فى المحطات التالية هذا موقف حامد عبد الله الكبير الذى تسرب السرطان إلى دمه يوم توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
- النشأة
- ولد حامد عبد الله في عام 1917 بحي منيل الروضة وتعود أسرته إلي أصول عريقة في صعيد مصر حضر والده و والدته إلي المنيل تلك الأرض الواسعة علي ضفاف نيل مصر قبل أن تتحول إلي واحدة من أكبر أحياء القاهرة الاَن ، درس في مدرسة الصنايع قسم زخرفة الحديد بدأ يرسم الطبيعة كما هي دون حذف أو إضافة لكنه كان يرسم بوعي تقني أبهر من حوله فهو يرسم ما يريد لا ما يفرض عليه المنظر كما كان يفعل المعلم الكبير سيزان أبو الحداثه الاوروبية لكن عبد الله كان يرسم بسهولة شديدة ما يرغب في إيصاله إلي الملتقي.
- في هذه الفترة بدأت الجماعات المتمردة علي الفنون الكلاسيكية تنتشر في مصر إبان الحرب العالمية الثانية ومنها جماعات المحاولون و الفنانون الشرقيون وجماعة الفن والحرية والسرياليون كان هذا الجيل ينحت طريقه أو طريق تمرده فى صخر الحياة بفكرة الطليعى ، فحامد عبد الله ولد في جيل يضم رمسيس يونان وكامل التلمساني وفؤاد كامل و سمير رافع بالإضافة إلي إنجي أفلاطون جيل سعى أبنائه لحمل راية التجديد و إدخال المذاهب الحديثة الي المحترف المصري محترف الكبار والرواد فى هدا الزمن ولقد نجحوا في خلق مدرسة ذات ملامح محلية بحته هنا نجد فناناً مثل سمير رافع يحتل دوراً مهماً قبل عبد الهادي الجزار وحامد ندا.
- الفطرية
- أما الفنان حامد عبد الله فقد ذهب إلي قناة أخري ليحفر طريقاً خاص به وهو الإعتماد علي الفطرية مع وعي بالأداة التقنية ومساحة الفطرة ليست بمفهوم السذاجة لكن بمفهوم البراءة والنقاء في تطوير المشهد البصري وتحديث اللون دون اللجوء لإرهاق الأساليب الأكاديمية وهنا أخذ أسلوبه يتبلور ويتضح لوحة بعد أخري اعتمد عبدالله علي الأجواء العامة المحيطة به الفلاحون،الأهل ،حوار المقاهي الشعبية فالموهبة عند حامد عبدالله سهلت له أشياء عديدة وكأنه كان يرسم الفلاحين وأحاديثهم ألم الوطن وأوجاع البسطاء كان منحازاً للبسطاء يصورعيونهم وهم يهمسون بالحروف بينهم وهم يتالمؤن من وهم يحلمون بالثورة صور عبد الله الأمل فى أدائهم الحركى والبساطة فى خبزهم اليومى.
- حامد عبد الله فنان مؤسس لفكرة المرحلة هنا خلال المراحل نكتشف عالمه وجغرافيا المكان الذي رسم فيه ملامح أبطال لوحاته من خلال التدقيق أكثر سوف نكتشف التاريخ أيضا فقد أرخ بالفن مراحل تاريخية عديدة من مراحل الفلاحين في المنيل ثم فيضان النيل علي مصر النوبة مرحلة الثورة بناء السد العالي الهزيمة العسكرية لمصر 1967 الانتصار في اكتوبر1973 ثم كامب ديفيد والهزيمة السياسية للسلام المصرى من وجهة نظره ونظرنا ثم مرحلة الحروفية .
- فنان يرسم داخله العامر بالطهر والنقاء
- حامد عبدالله لم يكن يكتب التاريخ كمؤرخ راصد لمجرد مراحل تاريخية يغيب عنها الإبداع لكنه عبر بصدق حقيقي عن كل اللحظات التي تواجد فيها علي أرض الواقع فعجائن لوحاته مخلوطة بطمى الوطن وأحجار الثورة والحرية عبرعن هموم وأفراح أهله رابطاً الجوهر الداخلي بالمظهرالخارجي فى اللوحة مبسطاً العناصر ومجردها إلى حد اللون الرقيق لون أحياناً وإلى تكثيف المشهد اللونى على البصيرة أحياناً أخرى مؤكداً علي عنصر الزمن في العمل الفني ، لوحات عبدالله هي لحظات ميلاد جديدة في اَفاق اللوحة العربية ولم يتعرض لها النقاد كثيراً بعد رحليه للأسف مثلاً لو أخدنا العنصرالزمني فى أعمال هذا الرائد فقد كان عند حامد عبدالله شئ جديد حيث كان الفنانون الأخرون فى ذاك الوقت يرسمون لكن على الملتقي أن يقرأ بنفسه تاريخ صنع العمل لاتوجد هوية للحظة أوالمرحلة دون النظر نحو تاريخ إنتاج اللوحة أما اللوحة عندعبدالله تحتفل بالتكامل النسبي في العناصر المحيطة بها يجعلنا نتعرف علي محور الزمن ومرحلة الرسم بمجر النظر إلى اللون وطريقة تعامله مع السطح وخربشات الورق فسطوح لوحات عبدالله هى وطن للمشاعر وأرضية للحلم والغوص بعيداً فى سفر طويل للقراءة والتأمل.
- نجم يسطع فى المكان
- شارك حامد عبدالله في الحركة التشكيلية منذ عام 1938 حيث عرض لوحاته في صالون القاهرة السنوي الذي تقيمه جمعية محبي الفنون الجميلة ثم سافر إلي أسوان والنوبة وهناك أقام لمدة ستة شهور متواصلة في الإبداع والإنتاج صوراً خلال هذه الفترة مجموعات لوحات النوبة وهي إضافة تاريخية هامة لجغرافيا النوبة قبل الثورة أو بناء السد العالي وتجدر الأشارة إلي ضرورة أن يكون هناك متحف لفنون النوبة يضم فلكلور هذة المنطقة الهامة مع رسوم فناني مصر الذين مروا عليها وهم كثر هذة أمنية أخرى ضمن طابور الأمانى فى عصر سرقه اللوحات وممارسة أغتصاب حقوق البصر المصرى .
- في عام 1942 أفتتح حامد عبدالله معهد تعليم فنون اللوحة التصويرية وهذه الفكرة كانت موجودة من قبل في الإسكندرية لكن مدرسة أو معهد حامد عبد الله هي أول مدرسة خاصة في القاهرة وكانت أول تلميذة للفنان هي المبدعة تحية حليم التي كان يطلق عليها لقب أم الفنانين المصرين ومن ثم الفنانة صفية حلمي المهندس وغيرهم وأستمر المعهد يفتتح أبوابه للطلبة لتعليم تقنيات وفنون التصوير الزيتي ومهارة الرسم بالأقلام.
- أثر تحية حليم فى أعمال عبد الله
- تزوج حامد عبد الله طالبته تحية حليم عام 1944 وأستمر يعملان لأربع سنوات قبل أن يقررا السفر إلي الإسكندرية وفى باريس عام 1956 أنفصل حامد عن تحية حليم نهائياً وهنا نعود لنقطة ما تركته تحية من أثر على حامد عبد الله الذى بدء يرسم أسم تحية حليم ويدخل الحرف العربى ويوظفه فى اللوحه كعنصر جمالى يتشابك مع المشاعر الحسية ويتقاطع مع الهوس والالم والحزن الداخلى فى لوحات تحية أكتشف عبدالله الرغبة فى التصوف من خلال فكرة الأختصار فى الحرف واللون وتوظيف طهر وألم الداخل وجع البعاد فى جماليات الصورة التشكيلية كحالة حسية رائعة ،في عام 1949 كان حامد عبدالله قد شارك في معرض مصر ضمن قاعات متحف اللوفر خارج المتحف الأساسي وعدة معارض دولية ومحلية لكن معرضه في المركز المصري بباريس عام 1951 والقاهرة 1952 أثار اهتماماً كبيراًمن قبل نقاد فرنسا وفي عام 1956 اقام معرضاً شاملاً لاعماله خلال 33سنة بقاعة المعارض التي كانت تابعة لجمعية محبي الفنون الجميلة وكان هذا المعرض حداً فاصلاً في رحلة حامد عبد الله.
- من نيل القاهرة إلى قطار الضواحى فى باريس
- فى القاهرة كان شباك منزل أبو عبدالله فى منيل الروضة يفتح على النيل وخيال الفلاحين على صباح مصر النادى المعطر بموسيقى لحن أصوات البائعين الفول الطازه ،العيش رائحة مصر وطمي الزرع الأخضر فالنظر من شباك منزل أبو عبدالله وهذا أسم منزل أسرة حامد عبدالله إلى اليوم كان يثرى ويغنى بالأمل شباك يفتح نافذته على غد الحلم والثورة هنا شرب الفنان المعلم من نيل مصر فمن أول شريط هذا النهر أنحدرت أسرته من أقصى الصعيدأما فى باريس فسكن فى منزل بمدينة `سان كلود `على شريط القطار يفتح شباك نافدته على صوت القطار وصمته زاحفا فى هدوء على المحطة تناقض عجيب يفتح نافدة على ثلج الجمد فى برد وحر باريس لا أصوات ولا غناء ولا لحن العابرين ولا صوت المؤذنين لكن هدوء ومناخ يجعله يسترد ويعيد منتج إبداعى خزن داخله هذا التوازى بين هدوء المكان وأحياناً ذكرى الوطن خلق حالة الأشتباك الإبداعى داخله جعل حامد عبدالله يسترد عافيةالوانه ويلتحف بخياله ليعيد رسم الأرض حتى جفافهاغياب النيل وعودته الفرح الحب كلها مجسدة فى لوحات عبدالله حتى المشاعر والهوس هذه هى لوحات الفنان فى معرضه في عام 1956حيث أقام معرضاً شاملاً لأعماله خلال 33سنة بقاعة المعارض التي كانت تابعة لجمعية محبي الفنون الجميلة وكان هذا المعرض حداً فاصلاً في رحلة حامد عبدالله حيث قرر بعده السفر الي كوبنهاجن بالدنمارك, فى الارض المنحدرة أرض الثلج المر عاش هذا الصعيدى الصلد عشر سنوات وتعرف هناك علي فنانى جماعة الكوبرا التي كانت تنتشر في أوروبا خاصاً فى الدول المنخفضة في هذة الفترة ورفض أو أنسحب من الجماعة لدواعي أنها لاتتفق مع هوية الفنان لأن معظم المؤسسين من فنانى يهود أوروبا.
- حامد عبدالله رمز الوطن وملح الأرض
- فكما أكد عبد الله أنه لايريد أن يدخل فى مزايدات فى هذة الفترة الحرجة من عمر مصر السياسى أنسحب وفضل أن لا ينضم وهو أصلا فى بلدة كان خارج السرب حر طليق لم يدخل أو يلهث وراء أى جماعة من جماعات الفن المؤسسة اَنذاك هو أصلا مؤسس الأكاديمية الحرة للفنون فى مواجهة أكاديمية الدولة والنظام هو العصفور الذى يغرد على أشجار لايملكها أحد فى حديقة هو أبن الأرض وملحها هو الصبار النبات وعشبها الأخضر فى أعمال عبدالله نلمح اَثار الوطن ونشم رائحة التربة .
- كان حامد عبد الله دائب الحركة فقد عرض في باريس ،أمستردام ، سوريا ،نيويورك ،اليابان ،تايوان ،الهند كولومبو، طهران ،العراق وبعد ذلك قرر الإقامة في باريس عام 1967 مع زوجته كرستين وأبنائه سمير مخرج سينمائي حاز علي جائزة أولي من المهرجان معهد العالم العربي عام 2000 ومؤنس وهو الأبن الأكبر ويعمل صحفياً ورث عن أبيه الثورة والتمرد وأنيسة عازفة بيانو فى عام 1967 كان غريباً علي الفنان حيث أستقر في البلد التى أحبها لكن تأتي هزيمة 1967 العسكرية علي مصر يرفض حامد عبدالله مثل كل المثقفين هذه الهزيمة وتتجلي مرحلة الحروفية في أعماله والحروفية هنا تعبرية وليست حروفية خطية فهو لم يكتب خط بأي شكل من أشكاله لكنه طوع الخط إلي فكر تعبيري رسم الحرف مدموجاً مع الأرض والبشر أو مستخرجاً الحرف من باطن أشكالة عالج حامد عبدالله الحرف العربي علي أرضية ذات تقنيات عالية الأداء اللوحة مشققة مثل الأرض الجرداء ورمادية اللون حيث أدمج الفنان الألوان الزيتية مع الوان الأكرليك ليخلق عجينة لونية أو تراكيب من طبقية اللون الخاص به ثم دخل من هذة المرحلة إلي أخري بعد الأنتصار العسكري في 1973 حيث بدأ يدمج الالوان الأكرليكية مع الورق بعد طحنة في شكل عجائن جديدة على سطح اللوحة وبدأت الألوان تعود إلي المراحل الأولي من شبابه حيث بدأ الأحمر الأصفر يزحف بقوة مع الأزرق النيلى وعاد الحب للوحة وبدأ عنتر يعانق عبلة في تلك اللوحات بدأ الفلاحون والحدادين وأبناء الأحياء الشعبية يعودون لكن بشكل أكثر أختزلاً في اللوحة ذات البناء المعماري المميز وبدأت الحروفية مثل قوة تعبيرية ذات أساس وعمق فكرى وجدانى تغيرت أسماء اللوحات إلي `الحب` ومن نفس الكلمة يرسم رجلاً يصارع امرأة فتتحول الكلمة إلي ليلة عرس وتتحول اللوحة إلي حالة فرح عام للوطن وأقام بهذه المجموعة معرضاً بالمركز المصري في باريس عام 1975 `الحب والأرادة و الأنتصار و القوة و الحرية ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة `عبارات تأتي كرسم مباشر مثير وتستمر رحلة الحرف عنده حتي العام 1976 حيث ينغلق علي نفسه إلي حزن شديد بتأثير الأحداث السياسية بزيارة السادات إلي إسرائيل فيصاب بالسرطان وظل يحمل لوحاته ويسافر الي تونس ،بغداد ، دمشق ، المغرب لا يشعر أحدا بأحزانه لانه يخفيها خلف كبرياء الفنان وتحت معطفه الأسود كان رجلاً شامخ كريم وهنا يقول حامد عبدالله بنفسه الفنان المعاصر عليه إلا يخضع للتراث أو يكون عبداً له بل عليه أن يتناول بالنقد المعرفي والفن الاسلامي والفرعوني هما مجالاً خصبا للمبدع الذي يستوعبه أنظر إلى لوحاته جوجان الذي نقل لوحة فرعونية بدقة شديدة لكنها ملونة بعالم جوجان ضروري التعامل مع التراث لكن مع العلم بأننا في عصر الكواكب وغزو الفضاء فلأبد من أن نكون في مستوي العصر .
رحم الله حامد عبد الله رمز الوطن وخبز الكرامة وثورة الفلاحين صوت الأرض ورحيق عطر شمس الوطن .
بقلم الناقد : عبد الرازق عكاشة
جريدة المدن 23 -2 -2014
أعمال حامد عبدالله فى بيروت.. يوميات مصر والحداثة
- آن أوان للاحتفاء بالتشكيلي المصري حامد عبدالله (1917-1985)، ونفض الغبار عن أحد الرواد الذين لم ينالوا حق قدرهم حتى اليوم. هذا ما تشير إليه الفعاليات الفنية المختلفة التي عقدت في مصر، خلال الأيام الماضية، والمزمع عقدها في الخارج أيضاً، وبينها غاليري `أجيال` في بيروت الذي يستضيف أعمال حامد عبدالله من 25 شباط/فبراير الجاري وحتى 15 آذار/مارس المقبل.
- أدركت أسرة الفنان الراحل، قبيل الذكرى المئوية لميلاده، حجم الإرث الفني وقيمته، الذي خلفه وراءه ويتجاوز الـ1400 عمل، لاقت اعتراف البلدان الاوروبية، خصوصاً في باريس حيث أقام 20 عاماً في منفاه الاختياري حتى وفاته، لكنها أعمال لا تزال مجهولة بين الأجيال الجديدة، بل ومن جمهور مواطنيه بشكل عام. هكذا، حرصت أسرة الفنان، بمعاونة الخبير الفني كريم فرنسيس، أن تنطلق أولى المحطات من أرض مولده، فكانت أولى هذه الفعاليات معرضاً فنياً في متحف الفن الحديث بالقاهرة، يجمع 27 لوحة هي من مقتنيات المتحف القابعة في مخازنه، والتي رأت النور أخيراً في معرض يستمر حتى الأول من مارس، فضلاً عن إصدار كتاب مونوغرافي مصور، بالعربية والفرنسية والانجليزية، يسرد حياة الفنان ومراحله الفنية ويجمع كتاباته وقصاصات صحف والنقد الفني الذي تناوله، وحررته الكاتبة رولا الزين. وإلى جانب الإعداد لمعرض استعادي ضخم يقام في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في القاهرة، يشارك كريم فرنسيس فى `سوق دبى الفنى ` بمجموعة من لوحات عبدالله.
- فعلى مستوى سوق الفن العالمى، يثمن فرنسيس أعمال عبدالله، ويقارن قيمتها بأعمال كل من عبد الهادي الجزار وحامد ندا. أما على الصعيد الفني، فيؤكد الفنان ناصر السومي، صديق عبدالله الذي شاركه في العديد من المعارض العربية من أجل نصرة القضية الفلسطينية، على الدور الريادي للفنان: `أعتبر حامد عبدالله فناناً رائداً، لأنه كان دائم التجديد في مراحله الفنية المختلفة، و إذا ما قارنّاه بمعاصريه، ليس فقط من العرب بل من الفرنسيين أيضاً، لما وجدنا من استطاع مثله أن يحافظ على نفس هذا الوهج ويحفظ روح التجريب والمغامرة الفنية على مدى خمسين عاماً كاملة `.
- فنان الحداثة بامتياز
انشغل حامد عبدالله منذ بداياته بقيم الحداثة في تناوله للحياة اليومية، في شوارع ومقاهي حي المنيل بالقاهرة. ولم يكن ذلك غريباً عليه، وهو ابن عائلة من الفلاحين، تلقى تعليمه الأول في الكتاتيب، والتحق بقسم الحديد المشغول بكلية الفنون التطبيقية ليصبح حرفياً ماهراً كما أراد له والداه. ثم انكفأ إلى الرسم بكثافة، وشهد المقهى الشعبي بمنيل الروضة العديد من رسومه التي انطبعت بالموروث الفرعوني والقبطي والإسلامي. ورغم حداثة سنه آنذاك (20 - 22 سنة)، أكدت أعماله المائية في تلك الفترة (1937- 1939) أنه كان متقدماً على ما كان معروفا في مصر في تلك الفترة، كما كتبت رولا الزين فى كتاب `الرسام عبد الله`، إذ كان يبحث ويجرب لكي يتمكن من الذهاب بعيداً وليتحرر من عقبات الفن التقليدي.
- ففي كلٍّ من مراحله المختلفة، كان التجريب هو طوطم الفنان، وبالتالي التميز، سواء في مراحله التشخيصية أو في ميله نحو التجريد في مراحله الأخيرة. فامتازت المائيات، التي بدأها منذ ثلاثينات القرن الماضي، بألوانها المضيئة التي تعكس البيئة والمناخ في مصر، من خلال مشاهد من الحياة اليومية للبسطاء. فقدم مجموعات لونية جديدة تماماً على الجمهور الغربي. وفي لقاء إذاعي أثناء زيارته لباريس، وحين سألته الصحافة عن هذه الصورة المختلفة التي يطرحها عن بلده، كان ردّه: `ألواني تتناسب مع طبيعتي كمصري، فالرسامون الغربيون لديهم اعتقاد خاطيء بأن الشرق يوحي بألوان حارة كالأصفر والبرتقالي الخ. بينما الأبيض هو الذي يسيطر على لوحة الألوان المصرية، ويعود السبب في ذلك إلى أن النور الباهر الذي تتميز به مصر يضعف من كثافة الألوان وحدّتها. ومن وجهة نظر أخرى لا توجد عندنا ظاهرة التضاد اللوني الشديد ذاك لأن الضوء القوي ينعكس على الظل فيضيء الظل`.
- وحين شرع الفنان في عمل جداريات، بدءاً من الأربعينات، تميز عمله بالتركيب وبالجرأة في استخدام المساحات اللونية الكبيرة، وبعد عودته إلى مصر إثر جولة أوروبية في 1951، اتسمت لوحاته التشخيصية بالفورم الأقرب إلى الكتلة النحتية في تناوله لنماذج شعبية مثلما هو الحال في لوحات `زلطة` أو `أمومة` أو `محادثة`، حيث ظهرت الخطوط السوداء الحادة التي تبرز القوة في التعبير. وكتب عنه الناقد الشهير إيميه آزار: `استمر عبد الله في تفريغ الأشكال حتى يقدم نبرة الطبقة الاجتماعية المعدمة -لكن الواعية- في حقيقتها المريرة، مثلما يظهر في لوحة (زلطة) التي تتميز بتعبيرية قوية وموجزة في آن واحد`.
الحروف كصور وأجساد
ثم تأتي مرحلة ارتجالات الخط التجريدي، والتي عكف عليها الفنان وكان رائداً فيها أيضاً، فتعامل مع الحروف العربية في علاقتها بالفورم الانساني وليس بمفهوم الخط العربي وقواعده، أو، كما يفسر هذه `الحروفية` الناقد بدر الدين أبو غازي في الكتاب: انشغل حامد عبدالله بالحرف العربي وجدّد في تمثيله، مؤسِّساً عالماً تشكيلياً لا علاقة له بالزخرف أو الزينة، لكنه اتخذ من الحرف الغاية والوسيلة، يعيد بناءه من جديد ليس بصفته رمزاً، بل بصفته المشتركة حرف - فورم أو حرف - صورة، أي أن الحروف تفقد وجودها الصوتي لتصبح أجساداً مستقلة تعبر عن المضمون والمعنى.
- وتجلّى هذا التوجه في أعمال حامد عبدالله، لا سيما تلك اللوحة التي عرضت للمرة الأولى في سفارة فرنسا بالقاهرة وفي المعهد الفرنسي للثقافة والتعاون بالاسكندرية الأسبوع الماضي، والتي تحمل عنوان `الغيبوبة`. وهي اللوحة التي تعكس أيضا الروح الحداثية الوثابة لدى عبدالله. فمساحة العمل هي 14 متر عرضاً وبطول متر واحد، وهو أشبه بالعمل المركب أو التجهيز في الفراغ الذي انتشر في مصر بعد عقد من وفاة الفنان، يتألف من مربعات منفصلة متصلة تكوّن لوحات تعرض في سرداب أقرب إلى المتاهة، وتعبّر باقتدار عن فلسفة الحروفية التعبيرية لدى الفنان. يعبّد السرداب بكلمات مثل: البلادة، الجمود، الجدب، القهر، المجاعة.. والتي عكست حالة الغضب والقهر التي انتابت الفنان في زيارته الأخيرة لمصر قبل وفاته.
- يشرح ابنه، سمير عبدالله، المخرج صاحب الشريط التسجيلي `الحصار`، الأجواء التي أفضت إلى هذا العمل، فيقول أنه في الفترة `ما بين 1979 و1983 وكان قد عقد العزم على العودة إلى مصر، لكنه في آخر زياراته فوجيء بمجتمع خامل متحجر، وباستبداد سياسي، خصوصاً بعد معاهدة كامب ديفيد، فثار على حالة البؤس التي غرق فيها الشعب`. ويعزو سمير، إلى هذه الزيارة الأخيرة، حالة الاكتئاب التي تمكنت من والده وأودت به إلى المرض والرحيل.
- هو هذا التماهي بين المعنى والشكل الذي ظل حامد عبد الله يبحث بينهما في الخط التجريدي، البحث عن الجوهر أوعن عيون الكلام التي تغنى بها الشيخ إمام مع أحمد فؤاد نجم، حين `مات البصر في العيون والبصاير/ وغاب الطريق في الخطوط والدواير/ يا ساير يا داير يا ابو المفهومية/ مافيش لك دليل غير عيون الكلام`. وحين أراد محبو عبد الله أن يجدوا عنواناً فرنسياً للكتاب لم يجدوا أفضل من `عيون الوعي`، أو أمارات هذا الفنان الحداثي الذي تناول الطبيعة، لا كما تراها عيناه، بل كما يراها وعيه.
بقلم : دينا قابيل
23- 2 -2014
قاعة أفق تحتضن `طلسم` الفنان الراحل حامد عبد الله
- آن أوان للاحتفاء بالفنان التشكيلى المصرى `حامد عبد الله` (1917-1985) ونفض الغبار عن أحد الرواد الذين لم ينالوا حق قدرهم حتى اليوم. فقد قامت قاعة أفق بالتعاون مع `كريم فرنسيس` بإقامة أول معرض استيعادى يتضمن بعض من أعماله خلال فترة حياته.
لا أظن أن فنانا مصريا استطاع أن يسيطر على مراحل فنه المختلفة مرحلة بعد مرحلة بأستاذية وإلهام لا يخطئ على تنوع هذه المراحل والتصاقها فى آن مثل ما فعل حامد عبد الله..
- المرحلة الأولى.. التشخيصية
فى مرحلته الأولى التشخيصية كانت القامات الصرحية للإنسان بشموخها وسموها توحى وتستشرف ـ وكأنما تتنبأ ـ بمرحلته الأخيرة الحروفية على تباين بل تناقض التقنية بين المرحلتين، فى كلتا المرحلتين ما يتجاوز مجرد المحاكاة الواقعية أو نقل الظاهر المرئى إلى دور يجليه الفنان بوسيلتين متغايرتين لكن بينهما صلة عميقة ومضمرة هى النزوع إلى تبسيط الظاهرة المرئية واختزالها إلى جوهرها وليس الوقوف على عرضها فى لوحات مثل `فى القهوة` (1938)، أو `الدلوكة` (1941)، أو `الخزف` (1947)، أو` الصيادون فى بورسعيد` (1948) وحتى فى لوحات البورتريه الصريحة ـ مثل `تحية حليم` (1941)، و`المفكر` (1935)، وهى بورترية ذاتى للفنان نفسه مبكرا جدا رسمها عندما كان فى الثامنة عشرة تتبدى هذه السمات الرئيسية: التخلى عن العرضى الظاهر من أجل الغوص فى العميق المضمر الجوهري، لكن فيها كذلك ما استمر الفنان مفتونا به حتى النهاية: الشموخ التشكيلى السابق الذى يتجاوز الأرضى المسلم به إلى نوع من الصرحية المعمارية وأبرز مثال على ذلك لوحته الرائعة `الأمل` (1946)، حيث ترتفع قامة الفلاح ـ أو ابن البلد ـ فى ثوبه الأبيض وذراعيه مرفوعتين إلى السماء بقوة وكبرياء..
- المرحلة الوسطى.. طفولية.. بدائية.. فلكلورية..
فى المرحلة الوسطى نجد عنده إيحاءات فلكلورية أو بدائية، مثل، `شم النسيم` (1954)، `ضمير الأرض` (1952)، `السلطة` (1954)، أو `فلاح وفلاحة` (1958)، يقتصر الفنان هنا على الخطوط الخارجية التى تكاد تكون بدائية ـ أو طفولية لكنها تنم بقوة وبساطة عن فكرة وحسه بل توحى أحيانا بروح من السخرية والمرح والمعابثة أليس فى الفن عنصر اللعب الأساسى الذى هو فى نهاية التحليل جد صراح أكثر ما يكون جدية دون أن يفقد مع ذلك خاصية الانطلاق والحرية والدعابة التى هى من صميم اللعب.. هناك بالطبع تداخل وتزاوج بين منجزات هاتين المرحلتين.
- المرحلة الأخيرة.. الحروفية
مرحلة الحروفية التى أبدع فيها الفنان `حامد عبد الله` أعمالا غير مسبوقة ولعل شيئا آخر فى هذا السياق لم يلحق بها فى تحويل الحروف أو الكلمات العربية إلى كائنات تشكيلية لها قوامها الخاص على محورين أساسيين: محور تعبيرى ومحور بنائى أو هندسي.
- النشأة
ولد `حامد عبد الله` فى عام 1917 بحى منيل الروضة وتعود أسرته إلى أصول عريقة فى صعيد مصر حضر والده ووالدته إلى المنيل تلك الأرض الواسعة على ضفاف نيل مصر قبل أن تتحول إلى واحدة من أكبر أحياء القاهرة الآن، بدأ يرسم الطبيعة كما هى دون حذف أو إضافة لكنه كان يرسم بوعى تقنى أبهر من حوله فهو يرسم ما يريد لا ما يفرض عليه المنظر كما كان يفعل `سيزان` أبو الحداثة الأوروبية لكن `عبد الله` كان يرسم بسهولة شديدة ما يرغب فى إيصاله إلى الملتقي.
- فى هذه الفترة بدأت الجماعات المتمردة على الفنون الكلاسيكية تنتشر فى مصر إبان الحرب العالمية الثانية ومنها جماعات `المحاولون` و`الفنانون الشرقيون` و`جماعة الفن والحرية` و`السرياليون` كان هذا الجيل ينحت طريقه أو طريق تمرده فى صخر الحياة بفكره الطليعي، فـ`حامد عبد الله` ولد فى جيل يضم `رمسيس يونان` و`كامل التلمساني` و`فؤاد كامل` و`سمير رافع` بالإضافة إلى `إنجى أفلاطون` جيل سعى أبناؤه لحمل راية التجديد فى هدا الزمن ولقد نجحوا فى خلق مدرسة ذات ملامح محلية بحتة.
- الفطرية
أخذ `حامد عبد الله` يحفر طريقا خاصا به وهو الاعتماد على الفطرية مع وعى بالأداة التقنية ومساحة الفطرة ليست بمفهوم السذاجة لكن بمفهوم البراءة والنقاء فى تطوير المشهد البصرى وتحديث اللون دون اللجوء لإرهاق الأساليب الأكاديمية وهنا أخذ أسلوبه يتبلور ويتضح لوحة بعد أخرى. اعتمد `عبد الله` على الأجواء العامة المحيطة به: الفلاحون، الأهل، حوار المقاهى الشعبية. فالموهبة عند `عبد الله` سهلت له أشياء عديدة وكأنه يرسم الفلاحين وأحاديثهم وألم الوطن وأوجاع البسطاء كان منحازا للبسطاء.. فقد صور `عبد الله` آداءهم الحركى والبساطة فى خبزهم اليومي.. `حامد عبد الله` فنان مؤسس لفكرة المرحلة هنا خلال المراحل نكتشف عالمه وجغرافية المكان الذى رسم فيه ملامح أبطال لوحاته من خلال التدقيق أكثر سوف نكتشف التاريخ أيضا فقد أرخ بالفن مراحل تاريخية عديدة من مراحل الفلاحين فى المنيل، ثم فيضان النيل على مصر النوبة، مرحلة الثورة، بناء السد العالي، الهزيمة العسكرية لمصر 1967، الانتصار فى أكتوبر1973، ثم كامب ديفيد.. ثم مرحلة الحروفية.
فى عام 1942 افتتح `حامد عبد الله` معهد تعليم فنون اللوحة التصويرية وهذه الفكرة كانت موجودة من قبل فى الإسكندرية لكن مدرسة أو معهد `حامد عبد الله` هى أول مدرسة خاصة فى القاهرة وكانت أول تلميذة للفنان هى المبدعة `تحية حليم` التى كان يطلق عليها لقب أم الفنانين المصريين ومن ثم الفنانة `صفية حلمي`.. وغيرهم واستمر المعهد يفتح أبوابه للطلبة لتعليم تقنيات وفنون التصوير الزيتى ومهارة الرسم بالأقلام.
- أثر تحية حليم فى أعمال عبد الله
تزوج `حامد عبد الله` طالبته ` تحية حليم` عام 1944 واستمرا يعملان لأربع سنوات قبل أن يقررا السفر إلى الإسكندرية وفى باريس عام 1956 انفصل ` عبد الله `عن تحية حليم` نهائيا وهنا نعود لنقطة ما تركته ` تحية ` من أثر على ` حامد عبد الله` الذى بدأ يرسم اسم `تحية حليم` ويدخل الحرف العربى ويوظفه فى اللوحة كعنصر جمالى يتشابك مع المشاعر الحسية ويتقاطع مع الهوس والألم والحزن الداخلى فى لوحات `تحية` اكتشف `عبد الله` الرغبة فى التصوف من خلال فكرة الاختصار فى الحرف واللون وتوظيف طهر وألم الداخل وجع البعاد فى جماليات الصورة التشكيلية كحالة حسية رائعة، فى عام 1949 كان `عبد الله` قد شارك فى معرض مصر ضمن قاعات متحف اللوفر خارج المتحف الأساسى وعدة معارض دولية ومحلية لكن معرضه فى المركز المصرى بباريس عام 1951 والقاهرة 1952 أثار اهتماما كبيرا من قبل نقاد فرنسا وفى عام 1956 أقام معرضا شاملا لأعماله خلال 33 سنة بقاعة المعارض التى كانت تابعة لجمعية محبى الفنون الجميلة وكان هذا المعرض حدا فاصلا فى رحلة `حامد عبد الله`.
كان `حامد عبد الله ` دائب الحركة ، فقد عرض فى باريس، أمستردام، سوريا، نيويورك، اليابان، تايوان، الهند، كولومبو، طهران، العراق.. وبعد ذلك قرر الإقامة فى باريس بعد هزيمة 1967، حيث بدأت تتجلى مرحلة الحروفية فى أعماله والحروفية هنا تعبيرية وليست حروفية خطية فهو لم يكتب خطر بأى شكل من أشكاله لكنه طوع الخط إلى فكر تعبيرى، رسم الحرف مدموجا مع الأرض والبشر أو مستخرجا الحرف من باطن أشكاله، عالج الحرف العربى على أرضية ذات تقنيات عالية الأداء. اللوحة مشققة مثل الأرض الجرداء ورمادية اللون حيث أدمج الفنان الألوان الزيتية مع ألوان الأكريلك ليخلق عجينة لونية أو تراكيب من طبقات اللون الخاص به ثم دخل من هذه المرحلة إلى أخرى بعد حرب أكتوبر فى 1973، حيث بدأ يدمج الألوان الأكريليكية مع الورق بعد طحن فى شكل عجائن جديدة على سطح اللوحة وبدأت الألوان تعود إلى المراحل الأولى من شبابه، حيث بدأ الأحمر والأصفر يزحف بقوة مع الأزرق النيلى وبدأ الفلاحون والحدادون وأبناء الأحياء الشعبية يعودون لكن بشكل أكثر اختزالا فى اللوحة ذات البناء المعمارى المميز وبدأت الحروفية مثل قوة تعبيرية ذات أساس وعمق فكرى وجدانى تغيرت أسماء اللوحات إلى ` الحب` ومن نفس الكلمة يرسم رجلا يصارع امرأة فتتحول الكلمة إلى ليلة عرس وتتحول اللوحة إلى حالة فرح عام للوطن وأقام بهذه المجموعة معرضا بالمركز المصرى فى باريس عام 1975 ` الحب والإرادة والانتصار والقوة والحرية ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ` عبارات تأتى كرسم مباشر مثير وتستمر رحلة الحرف عنده حتى عام 1976، حيث ينغلق على نفسه فى حزن شديد بتأثير الأحداث السياسية بزيارة السادات إلى إسرائيل فيصاب بالسرطان وظل يحمل لوحاته ويسافر إلى تونس، بغداد، دمشق، المغرب لا يشعر أحدا بأحزانه لأنه يخفيها خلف كبرياء الفنان وتحت معطفه الأسود، كان رجلا شامخا كريما.
` حامد عبد الله ` فنان رائد، لأنه كان دائم التجديد فى مراحله الفنية المختلفة، وإذا ما قارنّاه بمعاصريه، لما وجدنا من استطاع مثله أن يحافظ على نفس هذا الوهج ويحفظ روح التجريب والمغامرة الفنية على مدى حياته.
فنان الحداثة
انشغل ` حامد عبد الله` منذ بداياته بقيم الحداثة فى تناوله للحياة اليومية، فى شوارع ومقاهى حى المنيل بالقاهرة. ولم يكن ذلك غريبا عليه، شهد المقهى الشعبى بمنيل الروضة العديد من رسومه التى انطبعت بالموروث الفرعونى والقبطى والإسلامى ورغم حداثة سنه آنذاك (20 - 22 سنة) فقد أكدت أعماله المائية فى تلك الفترة (1937 - 1939) أنه كان متقدما على ما كان معروفا فى مصر فى تلك الفترة، كما كتبت `رولا الزين` فى كتاب `الرسام عبد الله`، إذ كان يبحث ويجرب لكى يتمكن من الذهاب بعيدا وليتحرر من عقبات الفن التقليدي.
ففى كلٍّ من مراحله المختلفة، كان دائم التجريب، سواء فى مراحله التشخيصية أو فى ميله نحو التجريد فى مراحله الأخيرة. فامتازت المائيات، التى بدأها منذ ثلاثينات القرن الماضي، بألوانها المضيئة التى تعكس البيئة والمناخ فى مصر، من خلال مشاهد من الحياة اليومية للبسطاء. فقدم مجموعات لونية جديدة تماما على الجمهور الغربي.
جداريات
وحين شرع الفنان فى عمل جداريات، بدءًا من الأربعينات، تميز عمله بالتركيب وبالجرأة فى استخدام المساحات اللونية الكبيرة، وبعد عودته إلى مصر إثر جولة أوروبية فى 1951، اتسمت لوحاته التشخيصية بالفورم الأقرب إلى الكتلة النحتية فى تناوله لنماذج شعبية مثلما هو الحال فى لوحات `زلطة` أو `أمومة` أو `محادثة`، حيث ظهرت الخطوط السوداء الحادة التى تبرز القوة فى التعبير. وكتب عنه الناقد الشهير `إيميه آزار`: `استمر عبد الله فى تفريغ الأشكال حتى يقدم نبرة الطبقة الاجتماعية المعدمة -لكن الواعية- فى حقيقتها المريرة، مثلما يظهر فى لوحة `زلطة` التى تتميز بتعبيرية قوية وموجزة فى آن واحد`.
الحروف كصور وأجساد
ثم تأتى مرحلة ارتجالات الخط التجريدي، والتى عكف عليها الفنان وكان رائدا فيها أيضا، فتعامل مع الحروف العربية فى علاقتها بالفورم الإنسانى وليس بمفهوم الخط العربى وقواعده، أو، كما يفسر هذه `الحروفية` الناقد `بدر الدين أبو غازي`: انشغل حامد عبد الله بالحرف العربى وجدّد فى تمثيله، مؤسِّسا عالما تشكيليا لا علاقة له بالزخرف أو الزينة، لكنه اتخذ من الحرف الغاية والوسيلة، يعيد بناءه من جديد ليس بصفته رمزا، بل بصفته المشتركة حرف - فورم أو حرف - صورة، أى أن الحروف تفقد وجودها الصوتى لتصبح أجسادا مستقلة تعبر عن المضمون والمعنى.
يذكر أن معرضه المقام أخيراً بقاعة أفق تم افتتاحه يوم 19يناير واستمر إلى 8 فبراير 2016.
بقلم د./ إيناس حسنى
جريدة القاهرة : 17-2-2016
- زارني `طائر البوح` مراراً مصطحباً عن يمينه حامد عبدالله. راوغته مراراً دون جدوى فكان عليّ أن أبوح وأكتب عن فنان له مكان خاص ومكانة عالية في قلبي وفي حركة الفن العربي الحديث.
- بدأت عيوني تتفتح على أعمال حامد عبدالله في الخمسينات حين كنت طالباً غضاً أدرس الفن بكلية الفنون الجميلة في القاهرة. كان لإسم حامد عبدالله ولأعماله وقع خاص على أفئدة شباب يبحث عن الفن ولا يجد في الكليات إلا دروساً أكاديمية تتبع مناهج الأكاديميات الإيطالية والفرنسية بقصور التابعين وضيق أفقهم. ثائر على الأكاديمية والأكاديميين. فن مصري لرسام متمكن وموهبة شديدة الخصوبة والخصوصية أيضاً. كانت سنوات الخمسينات سنوات خصوبة عارمة في الفن التشكيلي المصري، حيث فرسان السوريالية التي استقطبت أهم مواهب تلك الفترة الثرية من محمود سعيد إلى الجزار وحامد ندا ثم فؤاد كامل وآخرين كثر لست في مجال حصرهم جماعات الفن مثل الفن والحرية والفن للجميع. تجمعات للفنانين، لكن حامد عبدالله وكمال خليفة تفردا بشخصيتها الفنية التي لا تصلح للانضمام إلى أي جماعة أو تجمع. فهناك دائماً `آحاد`، أو ما يقول عنهم صديقي الشاعر السماح عبدالله `الواحدون` وأنا `واحد` منهم.
- أرحل إلى باريس حاملاً معي إعجابي وانبهاري بأعمال حامد عبدالله التي تحققت في الأربعينات والخمسينات من هذا القرن. لم أبحث عن الرجل حينذاك فقد كنت مازلت مشروع فنان يحس أنه لم ينضج بعد ليستحق الالتقاء بالفنان المحبوب. أقمت معرضي الأول ولم أغامر بدعوة الفنان الأثير إلى قلبي خوفاً ووجلاً. يمر عامان لأقيم معرضي الثاني بعد نجاح كان قد تحقق في العرض الباريسي الأول. وأفكر في دعوة حامد عبدالله. يتصادف أنني كنت في خلاف مبدئي مع المسؤولين عن العرض بالمركز الثقافي المصري آنذاك. يأتيني فنان كبير مصري لينصحني بعدم التمسك بما رأه حقاً. أتعجب!!، بعد هذا اللقاء بساعة يأتيني صوت على الهاتف قائلاً: أنا حامد عبدالله. وأرحب بالفنان قائلا: جاءت لحظة دعوتك إلى معرضي. يقاطعني الرجل بعربية فصحى كان لا يحيد عنها في حواراته اليومية العادية - أعتقد أن هذا ملمح مهم لمعرفة شخصيته وانتمائه وحسه القومي. يقول لي حامد عبدالله على الهاتف أنت رجل والرجال قليل. موقفك صحيح ومبدئي. أنا معك. سنصبح أصدقاء نلتقي بمعرضك.
- وقامت بيننا صداقة دامت واستمرت منذ يومها الأول بحميمية واحترام وحب. أقترب من الفنان ليزداد إعجابي بفنه والفنان الرجل أيضاً. وأبحت في أوراقه لأعرفه فأقوله لكم في كلمات أنا أعرف منذ البداية قصورها. فهذا فنان يستحق منا بحوثاً أكاديمية علمية توثق وتحلل وتلقي الضوء وتستنبط الدروس المستفادة. لكنني سأكتب انحياز فنان لفنان أحبه وأحب أعماله وهذا كل ما أستطيع، ولعل به بعض الفائدة.
- ولد حامد عبدالله في العاشر من آب آغسطس 1917 بمدينة القاهرة. ابن اسرة صعيدية نزحت من الجنوب لتعمل مراكبية على نيل المنيل وهو أحد الاحياء الشعبية العريقة. يدرس حامد عبدالله ما بين 1931م الى 1935 تشكيل الحديد بمدرسة الفنون التطبيقية. لاحظوا اختيار الخامة الصعبة التي تلائم صلابة الرجل. تفسر لنا هذه الدراسة استخدام حامد عبدالله للخط الاسود الرصين المحيط بكل اعمال سنوات الاربعينات والخمسينات التي عبرت عن وجوه وشخوص مصرية شعبية. كان المقهى وابن البلد والفلاح هم شخوص اعماله في تلك الفترة. تذكروا أننا في الاربعينات تحوطنا تأثيرية ناعمة استوردها يوسف كامل، ومخملية رصينة استوردها احمد صبري، ونظرة استشراقية فلكلورية من فنانين اجانب عاشوا في مصر وتتلمذ الكثير على ايديهم.
- يعشق حامد عبدالله الرسم وظل حتى آخر ايامه مخلصاً له عاشقاً يتفرغ للفن. فأنا أرى فيه أول `المتفرغين` ويبدأ أول رحلة فنية له عام 1939 - عام ولادتي - وينتهي عام 1942 من التعرف على أرض مصر من الجنوب الى الشمال حتى الواحات في الصحراء. كان قد زارها واصطحب من تلك الرحلات معرفة عينية بشعب مصر رجالاً نساء. آلاف الرسوم وعشرات اللوحات حققها الفنان آنذاك.
- يفتتح حامد عبدالله أول محترف لفنان مصري يدرس الفن مزاحماً الخواجات الطلاينة والفرنسيين. تتجمع في مدرسته نساء الطبقة البرجوازية العليا وبعض أميرات البيت المالك حتى الملكة فريدة. من الفنانين الذين درسوا على يديه الفنانة إنجي افلاطون وصفية حلمي حسين، وقد أكدت صفية لي ما قاله حامد رغم ان انجي - رحمها الله - انكرت انها كانت تلميذته. يلتقي بتحية حلمي وتتلمذ على يديه. يحبها وتحبه. تتزوج إبنة كبير ياوران الملك فؤاد ابن الفلاح رغم اعتراض الاسرة. على شاطئ الاسكندرية تقدم له إحدى اعمالها وكانت تحية قد سارت في الفن خطوات، ويشير المعلم وترفض الفنانة نصائح أستاذها لأول مرة. ولا يرضى الفنان الصلب باعتراض تلميذته، وتصر تحية حليم على الانفصال. يمر عام على الانفصال ويموت والد تحية حليم فتعود الى حامد، وأسألها لماذا. تبتسم بنعومة آثرة قائلة: إنه الرجل في حياتي. يقوم الزوجان برحلات الى اوروبا، تحية تتلمذ وحامد يحاور المنتج الغربي ويناقش ويأخذ موقفاً نقدياً سلباً وايجاباً وهذا كان حديث تحية حليم لتوثيق ما أخبركم به.
- لحامد عبدالله همومه السياسية النضالية. يقول مؤنس حامد عبدالله في كتاب صدر بباريس عن حامد عبدالله أنه شارك في النضال ضد الانكليز ولا يذكر لنا تفاصيل ذلك. ويذكر مؤنس ايضاً ان حامد عبدالله لم يسامح عبدالناصر أبداً حين ارسل القوات العسكرية الى العمال المضربين في كفر الدوار واعتقل البقري وخميس، وكانت هذه الحادثة أحد أسباب خيبة أمله في الثورة ورحل الى الغرب ليجد نفسه منغمساً في الدفاع عن الثورة ومصر والمصريين ضد ضحالة معلومات الشعوب الاوروبية وانحيازاتهم التي تتسم بعدم الموضوعية بل تصل الى حد العنصرية احياناً.
- يحقق حامد عبدالله نجاحاً في عروض بقاعات العرض الخاصة بالعواصم الاوروبية التي عرض بها وهي كثيرة. باريس ولندن وامستردام وروتردام وكوبنهاغن وواشنطن ونيويورك، هذا بالاضافة الى بعض البلاد العربية خاصة سورية - وتتوالى اعمال الفنان، ويعتبر حامد من أوائل الفنانين العرب اللذين قد استخدموا الحروف العربية في لوحاتهم. وتتميز لوحات حامد الحروفية بأنها لم تسقط في هوة تحويل الحروف الى نغمات موسيقية شكلية فرغت طقس الكتابة العربية وتقاليدها الرصينة من قيمها التشكيلية وحولتها - تلك اللوحات التي سقطت في هوة الزخرفية - الى اشكال تجريدية تدغدغ الذوق الاستشراقي الغربي. الكلمة عند حامد عبدالله تتحول حروفها الى شخوص شرسة ومعبرة. فلوحة مثل `انهض` أو `الخائن` أو `الهزيمة`، ولو اخترنا لوحة `الهزيمة` مثلاً فقد لا تستطيع احتمالها إن كنت مصرياً. تحولت الكلمة الى رجل راكع في وضع مهين يدعو الى امتطائه. إنها تثير فيك احساساً عنيفاً برفض الهزيمة والعراك معها بل ومحاولة الخروج منها حينئذ تتلقاك لوحة انهض بتحريضيتها السافرة المباشرة. هذه المجموعة تستحق بحثاً منفرداً تقوم به رسالة دكتوراه بدلاً من الموضوعات المستهلكة.
- سطوح اعمال حامد عبدالله منذ بداية اعماله تدعونا الى تأملها والوقوف عند جمالية السطح الفنية. بعض لوحاته وصل فيها الى تشققات نراها في ارض مصر العطشى الى الماء احياناً.
لا محاكاة أو شبهتها بل هو تحقق وبحث فني. مجموعات اللوحات التي تمثل صخوراً تجريدية وأغلبها في الأسود والابيض بحث آخر فني.
- أعترف لكم بالرغم من ان التحقق الفني في كل اعمال حامد عبدالله كان لافتا للنظر، ولا يخفي على العين أبداً ويشاركني الرأي إدوار الخراط حين قال: `لا اظن أن فناناً مصرياً استطاع ان يسيطر على مراحل فنه المختلفة، مرحلة بعد مرحلة، بأستاذية وإلهام لا يخطيء على تنوع هذه المراحل، واتساقها في آن مثل ما فعل حامد عبدالله`.
بالرغم من اتفاقي إلا أنني أجد نفسي منغمساً في وله خاص بأعماله الأولى حيث رسوم الانسان المصري المسيطر على وجدان الفنان، وحيث محاولات نقل الشخصية المصرية بحب وود من ناحية وبأستاذية واقتدار وبحث فني لا يجارى ولا يبارى باغت به الحركة التشكيلية المصرية في الاربعينات والخمسينات والذي أثر على أعمال فنانين كثر أذكر منهم أعمال الفنانة جاذبية سري. حين رسمات أنا نفسي مجموعة شهادات الغضب أهديتها الى حامد عبدالله لأنني وجدت بها شيئاً ما يربطني بأعمال تلك المرحلة الاثيرة الى قلبي في أعمال الفنان. الخطوط السوداء الصريحة التي تجوب اللوحة رصينة قوية شامخة وحنونة رقيقة في آن واحد. كيف هذا هو إعجاز حامد عبدالله. تتحاور تلك الخطوط السوداء التي تأخذ مساحة كبيرة من سطح اللوحة بألوان صريحة حيث الاحمر والاصفر والازرق بكل نصوعهم وضوئيتهم الصريحة تحكمها وترشدها وتعطيها الخطوط السوداء حياة خاصة فتنبض الألوان بالحياة. وأرى ان شراسة وسطوة حامد عبدالله تتوازى مع سطوة وشراسة بيكاسو وجويا. تناطحهما وتباريهما ولا تقل عنهما بأي حال من الاحوال.
- يثور السؤال في وجداني دائماً:
كيف استطاع حامد عبدالله الذي عاش قرابة الثلاثين عاماً في الغرب الاحتفاظ بهويته. برحلاته الأولى للإطلاع والحوار مبررة لدى. سفره الغاضب مبرر لدي. لكن ان يبقى كل هذه الاعوام ليس مبرراً وأعتقد أن حامد الفنان خسر الكثير بالبقاء في الغرب كل تلك السنوات وخسر الفن وخسرنا نحن من جراء ذلك.
حينما أبلغت حامد أنني عائد إلى أرض الوطن عام 1980 لم يصدق أولاً، وعندما أريته البطاقات اغرورقت عيناه بالدموع واحتضني ووصلتني الرسالة وخفضت عيني خجلاً من أن أرى حامد عبدالله الصلب معبراً عن عواطفه هكذا، وفي موقف ضعف.
وبدأ حامد عبدالله رحلة العودة إلى أرض الوطن مرة ثانية عام 1983. جاء وفي ذهنه شباب الفنانين بل والفنانين انفسهم. تصور أن دور `المعلم` الذي كان يمارسه في الاربعينات والخمسينات أصبح ضرورة له في هذا العمر بعد أن جاوز عمر الستين. أشفقت عليه حباً حين كنت اراه شارحاً ومعلماً لقلوب لا ترى وآذان لا تسمع. كنت أقف بجواره صامتاً خجلاً لا استطيع وقف حماسه. لقد تغير المناخ وأصبحنا نطبل ونزمر للشباب على حق أحيانا وعلى غير حق في أغلب الاحوال.
وبدأ حامد عبدالله الرسم على المقهى مرة ثانية. جلسنا معه أنا والفنان زهران سلامة على مقهى ببولاق فأخرج أوراقه وبدأ يرسم الرجال والنساء بأستاذية بهرتنا. ملت على صديقي زهران هامساً لقد عاد `حامدنا`.
حاولت ان يقيم له اتيليه القاهرة عرضاً لأعماله فأشاروا عليّ بأن يقدم طلباً ويدفع إيجاراً... وضحكت باكيا أو العكس، وكان هذا من يتاجرون بإسمه الآن.
- قالت عنه المخلصة تحية حليم: عندما جاءني يا عدلي وضع رأسه على كتفي وبكى.
ويصر الرجل على العودة ويقيم شهوراً طويلة بموقف دون كيشوتي نبيل. وفرحنا لعودته واستبشرنا خيراً، لكن المرض اللعين هاجمه وحاول مصارعته. يقول لي جورج البهجوري الذي يعتبر نفسه قد تتلمذ على رسم حامد عبدالله وكنا نمر أمام المستشفى ان حامد عبدالله ضم يديه صارخاً لن تهزمني. كان يحدث المرض وكان هذا قبل رحيله بيوم واحد. واغرورقت عيناي بالدموع. ومات في باريس.
حامد عبدالله احد ابناء مصر البررة، ولا تجود الطبيعة بمثل تلك الموهبة إلا نادراً، وفي العالم المتقدم يحتفون بتلك المواهب وانجازاتهم احياءً أو أمواتاً. حتى لو أخطأوا في تقدير المواهبة يستدركون اخطاءهم ولو بعد الموت وليكن لأعمال حامد عبدالله بعض حظ ونصيب أعمال فنان غوغ. ماذا لو أقمنا متاحف فردية لمثل هؤلاء الآحاد وأنا رأيت بعيني مدى دأب وإخلاص زوجته السيدة الدانمركية الأصل الفرنسية الجنسية، وكيف أنها تعطي كل وقتها لأرشفة والحفاظ على تراث حامد عبدالله انتظاراً ليوم أرجو ألا يطول انتظاره.
متحف لحامد عبدالله ايها القادرون على ذلك.
بقلم الفنان / عدلى رزق الله
جريدة الحياة اللندنية : 21- 11 -1998
الفنان حامد عبد الله ... رائد الحروفيّين العَرب
- بدأ الفنان حامد عبد الله الرسم بالأسلوب الطبيعى. أى نقل الطبيعة كما هى إلى لوحاته دون حذف أو إضافة قدر المستطاع،. لكنه تميز فى البداية أنه كان يرسم بسهولة ويسر، ويبذل جهدا محدودا فى إتقان عمله، كانت أصابع يديه قادرة على تحقيق ما يمليه عليها عقله، فكان يرسم ما يريد، وليس فقط ما يستطيع..
- ثم انتقل إلى الأسلوب التأثيرى الذى يهتم بتسجيل تأثر الفنان بالمشهد الطبيعى، طبقا للأضواء والانعكاسات فى لحظة معينة من النهار أو الليل.
- وكان معاصرا للجماعات المتمردة على الأشكال التقليدية فى الفن، والتى ظهرت فى مصر قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها: جماعات `المحاولون`، و`الفنانون الشرقيون الجدد`، و`الفن والحرية` و`الفن المعاصر`.. فهو من نفس الجيل الذى يضم: رمسيس يونان، وكامل التلمسانى، وفؤاد كامل.. الذين أدخلوا المذاهب الحديثة - وعلى رأسها السريالية- إلى الفن المصرى.
- ورغم أنه لم ينضم إلى هذه الجماعات إلا أنه تطور بفنه فى الاتجاهات الجديدة، فأدخل الفطرية والبراءة فى رسمه، محاولا الاقتراب من جيوية رسوم الأطفال وقوة تعبيرها، لقد أدخل أحد الأشكال التعبيرية فى الرسم، وأصبح علما على هذا الأسلوب.
- ثم اتجه الى حروف اللغة العربية وكلماتها لتكون موضوعا لرسومه. وتنقل بين مختلف الموضوعات وتتابعت المراحل أو الموجات فى أعماله. واحتفل منذ شهور بمرور نصف قرن على ابتداء نشاطه الفنى، فأقام معرضا بالقاهرة ضم نماذج من أعماله على طول تاريخه الفنى.
- 50 سنة من الفن
- ولد الفنان حامد عبد الله بالقاهرة عام 1917، وهو لا يعرف متى تعلم الرسم والتلوين، فقد بدأ ممارسة الفن منذ طفولته. وكان مسسكن والده بحى `المنيل` فى `جزيرة الروضة` محاطا بالحقول الخضراء على الجانبين. رسم المشاهد الريفية التى أحاطت به، ووجوه الفلاحين والفلاحات فى أعماله الأولى، كما عمل هو نفسه فى فلاحة الأرض التى كان والده يزرعها حول مسكنه.
- والتحق عام 1931 بمدرسة الصناعات الزخرفية، ثم مدرسة الفنون التطبيقية، حيث درس فن تشكيل الحديد الزخرفى، وأتم دراسته عام 1935، لكنه لم يعمل بالفن التطبيقى الذى تعلمه، وإنما انغمس فى الفنون الجميلة، وبدأ مشاركته الإيجابية فى النشاط الفنى عام 1938، عندما عرض لوحاته فى صالون القاهرة السنوى الذى تقيمة جمعية محبى الفنون الجميلة، ثم سافر إلى أسوان والنوبة عام 1939، حيث أقام هناك لمدة ستة أشهر، قدم بعدها أول معرض خاص لأعماله بالقاهرة سنة 1940.
- وقد أفتتح عام 1942 معهده لتعليم الفنون (اتيليه خاص) وكان من تلميذاته فى هذا المعهد الفنانتان: `تحية حليم` و`صفية حلمى حسين`. واستمر هذا المعهد حتى عام 1948. وتزوج الفنان من تلميذته الفنانة `تحية حليم` عام 1944، وأقاما بالإسكندرية لمدة عام واحد، ثم انفصلا لمدة عام، عادا بعده ليواصلا المسيرة سويا لمدة عشر سنوات، انتهت بانفصالهما النهائى عام 1956، ليشق كل منهما طريقه المستقل، فى الحياة والفن.
- وقد عرض حامد عبد الله أعماله خلال الأربعينيات فى القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية وبور توفيق. كما شارك فى عدد من المعارض الخارجية بالولايات المتحدة وإيطاليا.
- وفى عام 1948 شارك فى معرض جماعة `الفن المصرى الحديث` بالقاهرة والذى كان له أثر كبير فى الحركة الثقافية. وفى نفس العام شارك أيضا فى معرض `مصر- فرنسا` الذى أقيم بمتحف اللوفر بباريس. وفى العام التالى 1949أقام معرضه الخاص بالإسكندرية، ثم انتقل به إلى متحف الفن الحديث بالقاهرة. ثم سافر مع زوجته إلى باريس وحمل معروضاته معه، وهناك عرضها فى قاعة `برنهايم جين` عام 1950، وهى نفس القاعة التى أقام فيها المثال الرائد `محمود مختار` معرضه الشامل عام 1930.
- وانتقل الفنان إلى لندن مع زوجته حيث أقاما معرضا مشتركا لأعمالهما فى قاعة المعهد المصرى عام 1951 ثم انتقلت أعمالهما لتعرض فى بلجيكا والسويد.
- وعاد الفنان حامد عبد الله إلى القاهرة عام 1952 حيث أقام عدة معارض خاصة بالقاهرة والإسكندرية مواصلا نشاطه، إلى أن سافر إلى أوربا لبضعة أشهر عام 1955 شارك خلالها فى معرض جماعى `بسان باولو` بالبرازيل.
- وفى عام 1956 أقام معرضا شاملا لأعماله خلال 23سنة بقاعة المعارض التى كانت تابعة لجمعية محبى الفنون الجميلة بأرض المعارض بالجزيرة. (مقر نقابة الفنانين التشكيليين الآن)، ثم سافر إلى كوبنهاجن التى أقام بها عشر سنوات.
- وخلال سنوات إقامته فى كوبنهاجن أقام معارضه الخاصة، وشارك فى العديد من المعارض الجماعية بكل من باريس، وامستردام، وروتردام، وكوبنهاجن، وواشنطن، ونيويورك، وسيول بكوريا، وطوكيو، وتايوان، ومانيلا، وتايلاند، وبكين، وجاكرتا، وسايجون، ورانجوان، وكلكتا، ونيودلهى، وبومباى، ومِدْرَاس، وكولومبو، وكراتشى، وكركوك، وبغداد، وطهران.
- ثم انتقل الفنان إلى باريس عام 1967 ليقيم فى ضاحية `وادى الذهب` على مشارف العاصمة الفرنسية، وكان قد أقام معرضا منفردا بعنوان `الكلمة الخلاقة` فى الدنمارك انتقل به إلى دمشق وبروكسل، ثم بيروت، وشارك بعدد من لوحات هذا المعرض فى عدة معارض جماعية فى باريس.
- واصل الفنان نشاطه بإقامة المعارض الخاصة والمشاركة، فى المعارض الفنية فى كوبنهاجن، وروتردام، ومعرض اليونسكو بباريس، ثم فى أصفهان، وأنقرة، وأزمير، واستامبول، وبيروت. وفى عدة مدن بالدنمارك، وألمانيا الغربية، والسويد، كما شارك فى معرض طليعى بمدينة كوبنهاجن لجماعة `الديسمبريين`.
- وفى عام 1975 أقام معرضا خاصا فى المركز الثقافى المصرى بباريس، كما عرض فى القاهرة عام 1976 بجمعية محبى الفنون الجميلة. وواصل نشاطه فى باريس حتى بلغ عدد المعارض التى أقامها وشارك فيها أكثر من مائة معرض كان آخرها عام 1984 بالمركز الثقافى المصرى بالزمالك.
- وتنتشر أعمال الفنان فى المجموعات الخاصة بكل أنحاء العالم وفى متاحف: الفن الحديث بالقاهرة، والفنون الجميلة بالإسكندرية، كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية والمتحف الوطنى فى دمشق، ووزارة الثقافة فى سوريا وكوبنهاجن، والمكتبة العامة فى نيويورك... وغيرها.
- رائد الحروفيين العرب
- كتب الدكتور عفيف بهنسى فى تقديمه لمعرض الفنان حامد عبد الله فى دمشق يقول: `الفنان الأصيل يحمل حقيبة ترحاله قبل هويته، يبرزها بكل زهو فيما وراء أرضه وشعبه، وهو فى ذلك خلاصة جيل وسفير تاريخ`
` كذلك كان حامد عبد الله.. الفنان الذى يهتف له هواة الفن فى أوربا، وقد عرفوا الشرق العربى من خلال لوحاته، من خلال `طلاسمه` أو `إشارته` أو `لمحاته` أو `كلماته الخالقة`، ورأوا كل ذلك فى بنيات لونية حية، هى خليط من دم عربى ورمال صحراوية....`
-` فى كل بيت من بيوت الفن، وفى كل متحف من متاحفه، يوجد عمل فنى من عالم عبد الله، تكون هناك إشارة توضح اتجاه طريق الفن العربى اليوم، ونحن بأشد الحاجة إلى رواد الطريق، بأشد الحاجة إلى ثائرين فى الفن يزيلون غبار الرجعية عن وجه العبقرية العربية`.
- ورغم تعدد المراحل فى حياة الفنان، وتنوع اهتماماته، فستظل الإضافة الحقيقية له هى استخدامه الجمالى والفنى لحروف وكلمات اللغة العربية.. فهو من أوائل الذين قدموا الأبجدية العربية فى لوحاتهم، إن لم يكن أولهم. إنه رائد ومتفوق فى هذا الاتجاه الذى تناوله بطريقة غير مسبوقة.
-`قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذى يوسوس فى صدور الناس. من الجنة والناس`. صدق الله العظيم
- يعتبر الفنان أن هذه السورة تتضمن قمة التكامل بين الشكل والمعنى وحتى عند ترجمة كلماتها إلى الإنجليزية فإن الترجمة تتضمن عددا مقاربا من حروف السين، والشين، والواو، التى يوحى نطقها بالوسوسة، والتحرك فى الظلام.
- وفى سبيل تحقيق مثل هذا التكامل بين الشكل والمضمون وبين اللفظ والمعنى، اتجه الفنان إلى الكلمات العربية يستخدمها فى رسم لوحاته معبرا عن معنى الكلمة ومضمونها، بحركة الحروف فى لوحات: `أحزان` و`الحرية` و`الثورة` و`خناقة` و`المهزوم`.. وغيرها.
- ومضى الفنان فى أعماله الحروفية محققا نوعا من الإيقاع الشكلى فى حروف الكلمات، عند رسمها وتلوينها بصورة تعطى للمشاهد تعبيرا قويا عن المعنى، حتى إذا لم يكن المشاهد يعرف الكتابة العربية.
- وخرج الفنان بالكلمات عن شكلها التقليدى وحولها إلى `طلاسم سحرية`، ليس فيها الاستخدام التقليدى الزخرفى عند الخطاطين الدارسين لأصول الخط العربى الأكاديمية. وإنما تحولت الكلمات إلى ذريعة تشكيلية لإقامة عمل تصويرى متكامل الأركان من الناحيتين الشكلية والتعبيرية.
- إن الألوان هى ميدان الرسام، فهى التى تثبت قدراته وتمكنه من فنه التصويرى، والألوان عند حامد عبد الله تبدو وكأنها خبطات عشوائية من فرشاة غمست فى ألوان سميكة مختلفة، وكأنها انطلقت بغير تدبير سابق، خارجة من اللاوعى مباشرة إلى اللوحة دون تدخل من المنطق أو العقل، فتبدو خاضعة لتنظيم حسّى عاطفى بعيد عن التنظيم الهندسى فى الفن الاسلامى، ويؤكد هذا الاحساس بالعشوائية تلك التشققات التى تذكرنا بفعل الطبيعة أو الزمن. وقد تحركت حروف الكلمات على خلفية هادئة نسبيا. ولكنها دسمة الشكل، ثرية السطح، غنية الملمس.
- وهكذا حقق حامد عبد الله أعلى درجة من درجات ديناميكية الشكل فى الخطوط والألوان، معتمدا على خبرته فى فنون الرسم، تلك الخبرة التى تصل إلى نصف قرن، مع الاحتكاك والتفاعل مع حركة الفن الأوربى طول عشرين عاما.
- التواصل الانسانى
- وأعمال الفنان تعطى انطباعا مبهجا من الناحية الشكلية بسبب الحركة والديناميكية فى الشكل، والاقتصار على سكون اللوحة ذات الأضلاع الأربعة. ويزداد استمتاعنا بها كلما تأملناها فترة أطول، واكتشفنا الشخوص التى تمثل الجانب الإنسانى فيها، فالحروف تتخذ شكلا آدميا فى حركات وأوضاع تعبر عن المعانى المكتوبة. يرى فيها المشاهد نفسه، وهى أوضاع لها دلالتها ومعناها، ويبدأ المعنى فى التسرب إلى المتفرج، هذا `مهزوم`، وهذه `راحة`، وتلك `التسوية`، وهنا `أحزان`.
- عند هذه المرحلة من المشاهدة نكشف الطلاسم عن أسرارها، وتبرز حروف الكلمة واضحة مقروءة، وتستوقفك كل لوحة بضع دقائق لتضاف إلى فرحتك بالأعمال فرحة ثالثة هى: فرحة الاكتشاف.. والحل.
- إن الفنان `حامد عبد الله` يرغم المشاهد على التوقف أمام كل لوحة من لوحاته بضع دقائق على أقل تقدير، فى عصر يلهث فيه الناس لملاحقة الحياة، ولا يجدون متسعا لتأمل الأعمال الفنية.
- إنه صاحب فكر فنى جديد، فى زمن لا مكان فيه لمن يكررون أنفسهم، أو ينقلون عن الآخرين، وعندما يستطيع فنان أن يجمع بين إبهاج العين بطرافة الشكل وحيويته، واجتذاب العاطفة الإنسانية واستمالتها، ثم شغل الفكر بما يمتع الذهن ويحركه نحو فرحة الانتصار على الطلاسم والأسرار، فهو يستحق مكانته العالمية.
- يقول الفنان حامد عبد الله: `الفنان المعاصر عليه ألا يخضع للتراث، أو يكون عبد له، بل عليه أن يتناوله بالنقد، والفن الفرعونى والإسلامى هو مجال خصب للفنان الذى يستوعب ويتمثل كل التجارب الحديثة فى الفن، وعليه أن يتناول هذا التراث الفنى تناولا انتقاديا من وجهة النظر المعاصرة، فنحن فى عصر غزو الكواكب، ولابد أن يكون عملنا الفنى فى مستوى هذا العصر`.
- ويُضيف: `فى الشعر العربى القديم يمكن أن نرجع الإيقاع إلى الإيقاع الخطوى للجمل عندما يخب فى سيره، هذا الإيقاع يؤدى إلى التماثل والزخرفة والقافية، وفى شعر الطنطرانى الذى يؤكد هذا الزخرف بشكل واضح: يا خلى البال قد بلبلت بالبلبال بال بالنوى زلزلتنى والعقل فى الزلزال زال.
- أما إيقاع العصر الحاضر فهو أقرب إلى الزجزاج وهو ما نحسه فى الشعر الحديث`.
- رأى النقاد فى فنه
- ولقد كان الناقد الراحل بدر الدين أبو غازى من المتحمسين لفن حامد عبد الله وكتب عنه عام 1949 فى مجلة `الفصول` عندما كان عمر الفنان 32 سنة، قال عنه: إنه ` درس معنويات البيئة المصرية والأحاسيس المضطربة فى نفس الشعب، وادرك أحزانه وأمانيه وفلسفته، ودرس صورة البيئة المادية المحسوسة ومظاهرها المختلفة، والتقى التفاعل النفسى الداخلى مع التفاعل الخارجى فى لوحاته، فبدا فى أعماله سرّ الشعب ولغزه`.
- أما الناقد مختار العطار فيقول عنه: `حامد عبد الله مفكر متحضر، لا يفرق بين الإبداع الفنى وقضايا الإنسان، يعرف أن الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة.. وهو يضيف إلى التعبير بعدا صوفيا يدركه المتلقى الذواقة الذى يتخذ موقفا جماليا صرفا منزها عن الغرض`.
- بقى أن نعرف أن مصر وقضايا بلادنا العربية، لها حضور دائم فى حياة الفنان الذى يحرص على جنسيته المصرية هو وأولاده، ويدافع عنها فى الهزيمة والنصر، ويتحمل حيثما كان - سواء فى الدانمارك أو فرنسا - دوره الإعلامى عن مصر كسفير لبلادنا، بغير أوراق اعتماد، وفى الحدود المتاحة له!!
بقلم : صبحى الشارونى
مجلة: إبداع (العدد 11) نوفمبر 1984
معنويات البيئة المصرية ( حامد عبد الله 1917- 1985)
- لا يعرف ` حامد عبدالله` متى تعلم الرسم والتلوين كما لا تعرف السمكة متى تعلمت. السباحة شب منذ طفولته الغضة لا يفارق الفرش والألوان والأوراق. لم يكد يبلغ العام السادس عشر سنة 1932 حتى كان يبدع لوحات مثيرة تضرب جذورها في أعماق ريف ` المنيل` صورها فى مروج ` جزيرة الروضة` حيث ساعد والده فى فلاحة الأرض. كان ` المنيل` مفروشاً بالحقول الخضراء على الجانبين آنذاك، تتخللها بيوت السادة متناثرة هنا وهناك. أما مساكن الفلاحين فكانت تتوسطها ` قهوة المعلم سيد` التى كثيرا ما ظهرت بزبائنها في رسوم، ` حامد` الباكرة. كذلك الفلاحون والفلاحات وسائر أنواع الماشية والمحاصيل والنخيل.
- ذلك الجو الصافى .. والهدوء الشامل.. والجمال الفطرى الذى بسط أجنحته على ربوع الجزيرة فى الزمن الغائب، كان مهد فناننا ومدرسته التى تفجرت فيها مواهبه وأصبح هذا العملاق الذى رأيناه بيننا، بعد غيبة طويلة وهجرة اختيارية إلى أوروبا منذ عام 1956، 1917 ــــ 1985 .
- لم تكن أول مرة يسافر فيها حامد عبدالله إلى أوروبا. إنما هى المرة التى هاجر فيها ليحيا على الجانب الآخر من المتوسط . أقام قبل ذلك ثلاث سنوات ` 1949/ 1951` بعد زواجه من تلميذته الرسامة الشهيرة ` تحية حليم` حيث عرض لوحته فى باريس ولندن ووضع ` البوما` رسمه وطبعه على الحجر ` ليتوجراف`. كانت رحلة استطلاع أتبعها بالهجرة بعد أربع سنوات قضاها فى أرض الوطن `1952/1956` حفلت بالنشاط الإبداعى الطليعى.
- صديقه ورفيق عمره ` بدر الدين أبو غازى ` يضعه ضمن الجيل الثالث فى حركة الفنون الجميلة المصرية .
- إلا أننا نرى أنه فى طليعة الجيل الثانى بعد مجموعة :` محمود مختارـــ يوسف كامل ـــ أحمد صبرى ـــ راغب عياد ـــ محمد ناجى ـــ محمود سعيد`. لا ينبع تصنيفنا من تتابع ` العقود الزمنية` إنما نستمده من ` التغيير` فى نوعية الحركة الفنية وأسلوبها ومضمونها وأشكالها فحامد عبدالله من الجيل الذى أنتظمه: كامل التلمسانى ورمسيس يونان وفتحى البكرى وراتب صديق وفؤاد كامل، لكنه لم ينخرط ضمن أى من الجماعات الفنية الثورية التى ظهرت فى مطلع الأربعينات. أعتملت فى صدره المشاعر وضجت فى رأسه الأفكار واستخدم خامات جديدة وأساليب مبتكرة فى التعبير عن مضامين عامة تختلف عن الموضوعات الرمزية الفلسفية السيريالية لجماعة ` الفن والحرية` التى عاصرها كما اختلف عن الموضوعات التقليدية التى حفلت بها لوحات وتماثيل الجيل الاول، ممثلة فى النماذج الأرستقراطية للرسام ` أحمد صبرى` وفلاحات الرسام ` يوسف كامل` اللاتى تصلح صورهن الطريفة لتزيين صالونات السادة.
- لكى نتذوق أعمال ` حامد عبدالله ` علينا أن نتتبع خطاه ونضجه وتجربته عبر السنين منذ ولد فى مروج المنيل وحقوله سنه 1917حتى بلغ هذه الدرجة الرفيعة من القدرة على الإبداع المنطوى على معرفه عريضة وثقافة متقدمة أشاد بهما كبار النقاد فى مصر وأوربا. فكلما عرفنا شيئا عن الفنان كانت لدينا الفرصة لنمسك بمفتاح قصائد شعره وموسيقاه ولوحاته وقصصه. فالناقد الكامل هو كاتب تاريخ حياة من ينتقدهم ـــ هذا هو المنهج النقدى الأمثل الذى نادى به ` سانت بيف` فقضى على نظرية تحليل `جمال` العمل الفنى التى يلجأ إليها ` التجريديون العبثيون` فيدخلون المتلقى فى متاهات الإصطلاحات والطلاسم ويخفون عجزهم وتواضع مواهبهم ينبغى أن نعود دائما إلى الإنسان ــ الفنان ــ لأن الشىء الذى عاشه هو مصدر وحيه وحياته هى مصدر الشكل والفكرة!
- فى يوليو 1949 كتب ` بدر الدين أبو غازى` فى مجلة الفصول عن : حامد عبدالله ` 32 سنة` : يقول: درس معنويات البيئة المصرية والأحاسيس المضطربة فى نفس الشعب.. وأدرك أحزانه وأمانيه وفلسفته.. ودرس صورة البيئة المادية المحسوسة ومظاهرها الطبيعية المختلفة. والتقى التفاعل النفسى الداخلى مع التفاعل الخارجى فى لوحاته فبدا فى أعماله سر الشعب ولغزه!. وحين عرض لوحاته فى ` كوبنهاجن` فى ` الدنمارك` عقب الهجرة مباشرة علق واحد من أكبر النقاد قائلا:` عبدالله يرتبط بالمصريين القدماء بطريقة غريبة. لكنه فى نفس الوقت رسام حديث على درجة عالية من الأهمية. يذكرنا بأن مصر شىء أكبر من مجرد كونها قناة السويس`. ثم نقل المعرض إلى باريس فكتب الناقد ` فالدمار جورج` فى نفس الفترة ` 1956:` أعمال حامد عبدالله تحدد نقطة البدء لمدرسة مصرية جديدة استوعبت ينابيع الغرب اللاتينى، ولكنها مع ذلك تحتفظ بجوهر شخصيتها وتحمل رسالة فنية أصلية.. وكل الدلائل تشير إلى ذلك وتدعو إلى التنبؤ به.. حين أقام ` حامد عبدالله ` معرضه الشامل فى القاهرة فى أكتوبر`1983`، كانت الفرصة نادرة أمام فنانينا الشبان الذين غرقوا فى ` الانفتاح الفنى الأمى` الذى خلط تمارين التربية الفنية بالمنتجات التطبيقية بالفنون الجميلة ووضع غير الفنانين موضع النجوم. كانت فرصتهم لمشاهدة ` العمق والأصالة المصرية ` التى لفتت وما زالت تلفت أنظار أوروبا. عرض نماذج من إبداعه عبر نصف قرن من الزمان ` 1933/1983` لم يكن التغيير لمجرد التغيير بين أول إبداعه وآخره بعكس ما نراه اليوم بين الرسامين الذين يبدلون جلودهم كل عامين أو ثلاثة. قليل من التغيير فى الشكل والموضوع. لكن الفلسفة إزدادت عمقا ورحابة، والمهارة إزدادت دقة وإحكاماً والمعالجة الجمالية إزدادت يسرا وطلاقة تغير إلى أعلى وإلى الإمام فى نفس` الإتجاه الإنسانى` الذى تبلور فى ذهنه منذ عام 1983، حين كان يعكف على قراءة مجلتى` الثقافة والرسالة ` ولا ينقطع عن مناقشة موضوعاتها مع الفتى بدر` فى الليالى المقمرة على كوبرى قصر النيل . قبل أن يصبح ` حامد` رائدا لفن الرسم المصرى المعاصر و ` بدر ` رائد النقد الفنى فى الشرق الأوسط.
- لوحة ` السوق ` فى المعرض الأخير تتسم بأهمية خاصة. صورها سنه 1933 على ورق بالألوان المائية والجواش` 20 x 30سم `. عرضها أول مرة فى ` صالون القاهرة` الذى كان يقام سنويا فى رقم 107 شارع قصر العينى. أمامها تم اللقاء التاريخى مع ناقدنا الراحل. كان لقاء فكريا وروحيا وثقافيا دامت عراه حتى بلغ كل منهما القمة التى كان يتطلع إليها. تبين الناقد الكبير ما ينطوى عليه أسلوب ` حامد` من إنسانية فياضة وعاطفة قوية وتعتبير شجاع وإسقاط فورى للإنفعال، ومعالجة فنية تكشف عن عمق الحياة المصرية الشعبية حيث تعيش المأساة. نفس الأبعاد وجدها أبو غازى فى لوحات: ` الملاية اللف` و` التعميرة` و ` دعاء`.. فكان اللقاء الذى لم يفرقه سوى الموت!
- لو استقرأنا موضوعات ` حامد عبد الله ` خلال نصف قرن من الزمان، أمكننا أن نلقى ضوءاً على عالمه الروحى والعقلى الذى يحيا فيه ، والأساليب الفنية التى يصوغ بها مضامينه الإنسانية. بدأ إبداعه سنة 1932 كفنان معترف به لكن أول معارضه الفردية كان سنة1941 فى ` جاليرى حورس` بالقاهرة. بعد دراسة مقتضبة بقسم الحديد والزخرفى بمدرسة الفنون التطبيقية ` 1931/ 1935`. ثم رحلة إستطلاعية إلى الوجه القبلى فى الأقصر وأسوان وبلاد النوبة ` 1939/1940`. عاد بعدها لينشئ` ستوديو` لتعليم الرسم ويقضى عاًما كاملاً كمستمع فى أقسام مدرسة الفنون الجميلة العليا.
- أتاح لنا عرضه الأخير لأعماله فى نصف قرن ` 1933/1983` أن نقتفى خطاه بكثير من الدقة. وأفسح أمامنا الوقت لنعقد المقارنة والمقابلة، ونتبين التغير فى بداياته الأولى قبل أن يصبح ` سمة ` إبداعية فى لوحاته. وكفانا مئونة التصنيف المرحلى بأن قسم أعماله إلى ثلاث مجموعات:
1- إشارات مصرية ` 1933/ 1953` 2- كلمة الخلق ` 1953/1961` ــ3 ــ تقلصات ` 1977/ 1982`. ساعده على تصنيف أعماله وتسميتها أنه درس منهجا كاملاً لتاريخ الفلسفة قبل أن يبلغ العشرين من عمره. وما يتحلى به من معارف متنوعة وقدرات نقدية عالية.
- تضم` الإشارات المصرية` لوحات صورها فى مطلع حياته عالج بها موضوعات شعبية إجتماعية ذات نكهه سياسية أحيانا. من بينها ` العائلة`ــ 1953. ثلاثة أشخاص فى كتلة واحدة ـــ 96/70 سم. رسمها بألوان مخلوطة. زيت وتمبرا أعدها بنفسه من مح البيض والخل والماء والورنيش ومسحوق اللون بنسب معينة على ورق زبدة رقيق نصف شفاف. يرسم لوحاته عادة بهذه الطريقة ثم يلصق الورق على القماش أو الكرتون أو الخشب. يستفيد من ` الكرمشة` التى تصيب الصورة أثناء اللصق أو النقل فى إضافة ` ملامس` خاصة تساعد التعبير المطلوب وتخلع على التكوين إحساس` الباتيك`.
- كما لاحظ أحد النقاد الفرنسيين. وعن طريق الورق الخفيف إستطاع أن يطير بلوحاته الكبيرة إلى أوروبا. وهو لا يبدأ إبداعه بتخطيط مسبق بل يعتمل المعنى فى عقله وصدره مددا تتفاوت طولا وقصرا حتى يضيق بالهواجس والأفكار ولا يجد خلاصة إلا فى التخطيط والتلوين. وخط بعد خط ولون فى أثر لون ويثور الخيال وتتداعى الأفكار فتتشكل اللوحة رويداً رويداً ويحسم العقل الواعى الأمر بإحكام التصميم والتكوين والقيم الإستطيقية التى تبرز المضمون مع الحفاظ على ` النضارة والفطرية والإسقاط الفورى` ــ تلك العوامل التى تعتبر حجر الزاوية فى أى عمل إبداعى صادق وهى التى تخلع على إبداع فناننا هذه الحيوية الفياضة.
- حامد عبدالله مفكر متحضر لا يفرق بين الإبداع الفنى وقضايا الإنسان. يعرف أن الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة لوحة : اليد العليا`40x 50 سم ــ 1953` نموذج جيد لمدخلة الإجتماعى إلى عالم الرسم والتلوين. صور فيها أربعة أشخاص فى جسد واحد ترتفع أيديهم القوية فوق الرءوس. يد الشعب هى العليا. هو الباقى والأفراد يموتون. ألوان الأزرق البحرى والبنى الطوبى بما يتخللها من خطوط سوداء تمنحناً إحساساً بالزجاج المعشق بالرصاص الأمر الذى يضيف إلى التعبير بعداً صوفياً يدركه المتلقى الذواقة الذى يتخذ موقفا جماليا صرفا منزها عن الغرض لا يعتبر حامد عبدالله رساماً ملونا مثل` عبد العزيز درويش` وحسن البنانى` الإنطباعيين بوجه عام. تعتمد تعبيراته المثيرة على ` الفورم` والملمس والتكوين والايقاع والعنصر المقروء` فحين رسم كلمة` الهون` فى لوحة ــ 20/35 سم 1953ـــ صورها على هيئة شخص راكع مهزوم، بمفهوم واضح لإرتباط الشكل بالمضمون. لو يقتبس أسلوباً جاهزاً كما يفعل معظم فنانينا، بل إبتكر صياغات خاصة من خلال تجاربه وقراءاته الواسعة واحتكاكاته الإجتماعية. حتى أنه ـــ بعد نجاح معرضه الأول سنه 1941ــ إشتهر بلقب ` ميتر` ــ بمعنى ` أستاذ` بالفرنسية ـــ وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين ربيعا وتابعه رائدنا الراحل ` بدر الدين أبو غازي` بالنقد والتفسير، قبل أن يضع مؤلفه العمدة عن خاله: المثال محمود مختار. من يومها وفناننا الموهوب ينسج خياله بالخطوط والألوان والملامس والفراغات.. والحيز والقالب.. والعناصر المقروءة التى تشكل خلال العملية الإبداعية وتكتسب حيوية وحركة ومضمونا إجتماعيا. تدور أفكاره فى فلك إنسانى ولا تسقط فى هوة التجريد واللامعنى. متخذة قوالب متغايرة بين مرحلة وأخرى. فالحروف الهجائية العربية التى انتشرت فى أعمال فنانينا منذ الستينات، ظهرت فى لوحاته أثناء إقامته فى ` كوبنهاجن` و ` باريس` سنة 1956. وشاهدناها في عرض خاص حين زار القاهرة فى يناير 1972. وبدأت فكرتها سنة 1953 قبل هجرته بثلاث سنوات، حين رسم جميع الحروف في تشكيلات ذات معنى ومغزى.
-يستطيع المتتبع لتطور` الصنعة الفنية` و` الصياغة` عند حامد عبدالله أن يكتشف العلاقة الحميمة بين إبداعه الأخير وأرائه الياكرة فى` تأثير البعد النفسى على الفورم أو الشكل وتأثير المناخ ــ إشعاع الضوء وقوته على عناصر التشكيل` و` الاسترشاد بالحلول الفنية التى إبتكرها المصرى القديم وفى مقدمتها التسطيح. توصل ` حامد` إلى هذه الأفكار منذ أعوام طويلة وسجلتها `مجلة الكاتب` ــ عدد مايو1946ــ من خلال حديث أجرته معه السيدة/ أمينة طه حسين ــ مما يكشف عن استناده الأصيل إلى تراث بلادنا بالإضافة إلى التراث الإنسانى العالمى ـــ كما لاحظ النقاد الفرنسيون. من هنا اكتسبت لوحاته أهمية خاصة فى حركتنا الفنية المعاصرة وفى بعض الأوساط الأوروبية. ولو توفرت لها وسائل الأعلام الكافية لكان له شأن آخر. ولقد أدرك رفيق عمره ` أبو غازى` هذه الحقيقة فأعد كتابا كاملاً عن حياته وأعماله. لكنه رحل وترك أصوله فى درج مكتبه لا ترى النور.
- مجموعة لوحات ` كلمة الخلق` ـــ التى تقع ضمنها صورة ` الهوان` ــ تشكيلات لكلمات منتقاة من اللغة العربية صاغها فناننا بأسلوب تعبيرى موضعى إجتماعى مبتكر. منها أيضا لوحات: ` مهزوم` و` حوقلة` و` أملاق` و` ود`. واضحة المعنى للمتلقى الذى لا يعرف اللغة العربية أو يصعب علية تفسير معالم الكلمة. وإذا كان علينا أن نصف هذه اللوحات فى بطاقة معينة، يمكن إدراجها فى باب ` التجريد التعبيرى` وهو جد مختلف عن ` التجريد العبثى` غير المسئول. وإطلاق عنوان ` كلمة الخلق` على هذه المجموعة راجع إلى أن الكلمة المكتوبة تخلق الشكل المرئى. كما لا يخفى الإيحاء الدينى الكامن فى هذا العنوان.
- مجموعة ` التقلصات` تمثل الجزء الثالث والأخير فى` المعرض الشامل` لفناننا الكبير. وهى موضوعات ` شبه تجريدية` تذكرنا بالصخور الناعمة وأعمدة الأملاح المتحجرة المتساقطة من أسقف الكهوف. تتخذ أحيانا أشكال الطيور فى مختلف الأوضاع.
- كتب عنه ` بدر الدين أبو غازى` فى مجلة الفصول عدد يناير 1951: ` أخرج فى إنتاجه علائم مدرسة قوية ناشئة. إستطاع بعد دراسة عميقة للطبيعة المصرية ونظرة باحثة فى أصول الفن الفرعونى أن يحدد ويبتكر فى الصياغة الفنية، وأن يكسب فنه المتانة والأستقرار والدوام تلك الأصول الخالدة لمصر القديمة مع عدم الإخلال بالقيم التصويرية فى النور واللون`.
- وكتبت جريدة ` لومند` الفرنسية أثناء إقامته فى أوروبا تقول: ` يستطيع حامد عبدالله أن يظهر سحر الشرق الأوسط فى أعماله الفنية ذات الألوان المقنعة.. الشبيهة بأميرات من بلاد نائية . تجذبنا إليها بقوة رسمها` .
- ربما يشير ناقد جريدة ` لوموند` بعبارة ` الألوان المقنعة` إلى إستخدام الفنان لألوان ` التمبرا` التى لا تكون صارخة كألوان الزيت. تخلع على اللوحة هدوءا شاعرياً كـأنها عذراء شرقية تتأمل المتلقى من خلف خمارها الشفيف. إلا أن حامد عبدالله يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. فهو فنان تعبيرى يحمل لوحاته فلسفة وشعرا يكسوها بتشكيلات الرقش ` الأرابسك` ــ أى الخطوط السوداء المتصلة في نغم شجى واحد. لا يلجأ إلى التظليل المتدرج ` سفوماتو` أو التظليل الحاد ` كياروسكورو`. إنما هو طراز فريد يصعب تقليده يعتمد في بروز عناصره على سمك الورق الخفيف المتكسر أثناء اللصق كما أسلفنا الإشارة. لا تكمن تعبيريته فى التفاصيل بل فى الشكل الكلى للصورة. لا يجد الملتقى فى بادئ الأمر عناصر يكون منها مدركا موضوعيا. فالوحدات رمزية متداخلة تقرأ دفعة واحدة على مهل حتى تعكس الأحساس التعبيرى الذى أراده الفنان وأسقطه على قماشه. الألوان تتشابك بالخطوط السوداء ولا تخفى العجلة والأنفعال والمباشرة والتعبير عفو الخاطر.
- تفسيرات ` حامد عبدالله` لإبداعه أعمال أدبية بدورها قد لا نتفق مع مدلولها بالنسبة لصياغاته التصويرية. فهو أديب وقارئ ممتاز يعبر عن وجهة نظره أحيانا كناقد. لكنه ` يقول` بالخطوط والألوان ما` لا يقول` بالكلمات. وعلينا ـــ نحن النقاد ـــ أن نتولى عنه تفسير` المقولات المرسومة`.
- الشكل التعبيرى عنده يختلف عنه عند ` راغب عياد` الذى استلهم الرسوم الجدارية وتصميمات التصفيف وإيقاع سيقان الماشية وإغفال المنظور. `تعبيرية` حامد تتسم بالخشونة والعفوية وقوة الإنفعال.. يختلف بها أيضا عن التعبيريين الجدد: فاروق شحاته ووجدي حبشى.
- لوحة ` المقهى` ـــ من مجموعة ` إشارات مصرية` ــــ لا تختلف كثيرا عن سلسلة لوحات ` العائلة ` من حيث ` القلب ` و ` التكوين` . مشغولة كالسجادة لا نتبين ` الأمامية` من ` الخلفية `. وهى ` سمة ` ترجع بجذورها إلى بعض مدارس التصوير الإسلامى من القرن الخامس عشر. وهذا الدمج التصويرى عامل جوهرى فى ` الإحساس الشامل ` الذى يغمر المتلقى حين يلتقى بلوحات الفنان ويشده إليها. وهذا الطابع يتفق مع أحدث نظريات ` الحداثة` فى الفن، التى تنادى بالحفاظ على مواصفات `الصورة` من حيث إنها ذات بعدين ولا ينبغى أن تتضمن بعدا ثالثا.
- تعلم من ` الفن الشعبى` ومن` رسوم الأطفال على الجدران` ألا يتفلسف فى رسمه لا ينزع إلى التذويق والتفسير. ويستهدف ` التعبير الناقد` وليس التعبير المتفلسف.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|