زينب أحمد رأفت السجينى
- الفنانة د/ زينب السجينى معروفة بحساسيتها الفنية وشاعريتها فى التعبير عن الطفولة والأنوثة وتجمع فى أعمالها خلاصة خبرات مركزة فى دراسة الفن المصرى القديم وتصميماته الجدارية المدهشة بالإضافة إلى تعبيرها الشخصى عن موضوعها المحبب، وفى أعمالها تتضح الحنكة التقنية والبراءة التعبيرية حيث تستخدم إتجاهات الخطوط التى تمثل الأذرع والسيقان اليافعة لتحديد مسارات العين على سطح اللوحة، وهى فنانة قديرة فى التعامل مع الخلطات اللونية وملامس السطوح كما أن لها منهجها المتميز فى تكوين الصور وتركيبات العناصر .
د. مصطفى الرزاز
معرض زينب السجينى .. لوحات مسكونة بالوشوشات
* وجوه البنات مسكونة بالحكايات .. تداعب صحبها بالتأمل, ولعبها بالكسوف.. البنات تعشق الوشوشات .. والتعبير بالإشارات .. والتأمل .. أحلامهن أغنيات رقيقة .. يقلن كل شئ على مسطح اللوحة .
- تفتح زينب السجينى جميع النوافذ والشرفات, وتقوم بتكبير المفردات متجاوزة الواقع.. مهتمة بتفاصيل البنايات والخطوط, لتؤكد على واقعية المكان المتداخل مع خيالات التراكيب والأفكار ، تصور البنات والنسوة أثناء ممارستهن حياتهن العادية والتلقائية.. وهى تحدد شخوصها بخطوط ومساحات لونية صريحة إلا أنها تختزل الهيئة البشرية لتبدو وكأنها ملامح إنسانية خاصة بالفنانة تترجم ما بداخلها من حب وبراءة داخل بناتها ونسائها .
- إنها حالة تعبيرية إيضا.. تجسد من خلالها فكرة التقارب والتلاحم بين البشر العادين فى مجتمع يسوده التأخى والتعاون كما تراه أو تتمنى أن تراه .
- إنها تجسد المعنى فى ملامح الأشخاص ثم تنتقل إلى المحيط الذى يعيشون فيه لتحقيق المعادل البصرى والجمالي للفكرة من خلال علاقة الأشكال بالمكان .
- وهى تهتم بالتفاصيل وإن بدت مفراداتها بسيطة فتعاشيق الأخشاب مدروسة وبعناية عالية, تفاصيل المبانى وإن بدت خالية ورغم ما قد تراه بسيطاً فى الشخوص, إلا أنها أثبتت فدرتها العالية غب تضفير الحقيقى بالمغامض, والطبيعى بالمصطنع .. والتركز على إجواء حميمة ساحرة تنقلك إلى عالم الذكريات داخل حدود اللوحة وخارجها لتوسيع مجال الرؤية فى خيالك وبصيرتك أيضاً .
- قد يبدو للمشاهد العادى وللوهلة الأولى أن جميع الملامح واحدة, وقد يحيل ذلك إلى ما يراه من ملاح صينية أو يابانية مثلاً.. وقد يضيف ما يراه إلى مجتمع آخر له مواصفات مشتركة أيضاً .. أنا أتفق معه أيضاً ولكن هذا المجتمع الآخر هو مجتمع الفنانة الذى تراه في خيالها, فيه اختلافات متبادلة فى الإنفعالات والروح وفى الفرح والحزن إنها ملامح تخص عالمها وفى نفس الوقت لم تفصلها عن المكان, وأقصد بالمكان هنا الحياة التى نعيشها وتعيشها الفنانة, من هنا جاء التضفير بين الحقيقى والغامض ورغم بساطة التشكيل إلا أنه ملئ بالمعانى الواقعية والرمزية, فالألوان مثلاً تعبر عن معان رمزية, فملابس البنات البيضاء وأيضا البرتقالية, تؤكد على الجوانب الروحية.. فاللون هنا يمثل صوتاً لمعنى الحب والصفاء ولم تغفل الفنانة الجانب التقنى أثناء اختزالها واختصارها التشكيل والتلوين . لقد أكملت بتجسيد المعانى التى أفروتها الذاكرة للواقع والخيال لتقوم بالتعبير عنها من خلال تضافر ثنائى آخر وهو الوعى والخيال .
- الفنانة زينب السجينى من مواليد 1930 وقد حصلت على جائزة التصوير الأولى من صالون القاهرة 1968 عن لوحة مأساة القدس, وجائزة التصوير الأولى فى بينالى القاهرة الدولى الرابع عام 1994, ولها مقتنيات لدى الهيئات والأشخاص بمصر والخارج .
الناقد د/ سامى البلشى
الإذاعة والتليفزيون 7 /2/ 2009
بنات زينب السجينى بين الواقع والحلم : فراشات فى أردية من نور
- يختلف الحصاد الإبداعى النهائى بكل ضروبه تبعاً للرؤية الفلسفية الكونية على الصعيدين العقلى والروحى، حيث تتمايز صياغة المبدعين للواقع الإنسانى المعاش، إعتماداً على تباين الجغرافيا التى ينتمون إليها عن مثيلاتها فى البقاع الأرضية الأخرى، والتى تمثل مصباً لروافد زمانية ومكانية وعقائدية مغايرة، بمايؤكد خصوصية المشهد ومنابعه التراثية حسياً وحدسياً .
- وتبدأ جدلية الإشتباك مع ذلك الواقع من الجنوح صوب استنساخ مفرداته، وحتى مغادرته إلى عوالم غير مرئية، مروراً بالمنطقة الرابضة بين الصورة والتصور، حيث يتجلى فيها الصراع مع قوة أسر المرئى، عبر محاولات حثيثة لإعادة إنتاجه.. وفى ذلك النطاق ترتحل عملية الخلق من الإنتباه إلى الغفوة، ومن اليقظة إلى الحلم، بشكل ترددى غير منتظم، مما يؤدى إلى طباعة البصمة الإبداعية على وجهى الحائط الفاصل بين البث والتلقى .
- وربما لو دققنا ملياً فى أعمال الفنانة الكبيرة زينب السجينى ( 1930) ، سنجد أنها تفترش أرض الواقع دائماً، كى تستل منه الخيوط التى تغزل بها مسطحها التصويرى، ورغم هذا فهى ترتكن إلى نزعة مجازية نسبية، تدفعها لإلقاء عبائتها الخيالية على المفردات المرئية المحسوسة، وهو مايؤهلها لبناء عالمها الخاص داخل مجال مغناطيسى يمارس فعل الجذب الكلى الخاطف للمشاهد بصرياً ووجدانياً،على جسر من الألفة العقلية لعناصر الرؤية، سعياً للكشف عما وراءها.. وأعتقد أن تلك المساحة التى تلعب فيها الفنانة بفرشاتها منذ زمن طويل، هى ماتمكننا من الإصطلاح على منجزها ب `الواقعية السحرية `، حيث تستخدم فيها الواقع كمنصة إطلاق لمنطاد الخيال الذى يسرع فى العودة إلى نقطة البدء، ليشرع فى المروق ثانية نحو آفاق الحلم اليقظ .. وقد ظلت زينب السجينى مخلصة لهذا النمط الأدائى فى جل مشوارها الفنى، حتى وصلت إلى حالة من التوحد مع مفرداتها عند قمة المنحنى التعبيرى؛ فأصبحت لوحاتها لاتخطئها العيون، ولاتضل الأفئدة طريقا إليها، وقت عبورها على الصراط الواصل بين الذاتين الفردية والجمعية، لذا فإن عروضها الأخيرة تعد امتداداً لمنهجها الإبداعى النامى رأسياً، على محورى الخامة الوسيطة وعناصر التكوين، حيث تستخدم عادة الألوان الزيتية والإكريليكية على التوال، فى إطار ارتكانها الدائم إلى معطيات الواقع المرئى، من خلال الأمكنة المتنوعة التى تحولها إلى أبسطة وبرية، تنثر عليها مفرداتها المعهودة، من الطيور والأسماك والدواب والأشجار والمراكب والأثاث والبحار والأنهار والكثبان الرملية، وغيرها من مكونات الطبيعة الجامدة والحية، إضافة إلى الأنثى كأهم ركائز المشهد لديها، والتى تدفع بها غالباً إلى بؤرة الصورة، ثم تحيطها ببقية العناصر، بعد الإنتقال من الخاطر إلى الفكرة التى تدخل بها مباشرة حيز التنفيذ، حيث تطل من نافذة الواقع على فضاء الخيال، وتبدأ فى نسج الإثنين معاً على سطحها التصويرى كاللحمة والسداه .. وقد تلتقط مشهدها بشكل عكسى، بادئة من البناء الثانوى حتى تزرع إناثها فيه كأجنة فى رحم الصورة.. واللافت للنظر أن بنات زينب السجينى يحملن سمتاً شكلياً منسجماً، وكأنهن ينتسبن إلى سلالة عائلية واحدة ترفض التزاوج مع أخرى، برغبة من الفنانة نفسها، بما يكشف عن محرك نسوى خلف كواليس المشهد، تستثمر به فطرتى الأمومة والطفولة بداخلها فى آن، لذا نلحظ التفاوت العمرى فى بناتها، حيث يبدأ من البكارة الطفولية وحتى النضج الأنثوى الذى لايخل أيضاً من مسحات البراءة، وربما يشير هذا إلى حضورالعامل الذاتى عند زينب داخل الصورة،فى حركة ترددية مستترة، تحاول من خلالها استحضار عذوبة ينابيع النشأة الأولى، كى تكسب المشهد مذاقاً عفوياً طازجاً .. فإذا تأملنا ملامح بناتها، سنجد أن قاسماً جينياً مشتركاً يجمعهن خلف هيئة وراثية متطابقة، ويبدو هذا فى أجسادهن السمراء النحيلة، ووجوههن المصرية الأفريقية ذات الشفائف الغليظة والأنوف المفلطحة والعيون اللوزية، والمتوجة بشعور مجعدة تتدلى على رقاب منتفخة، تعلو صدور طفولية ضامرة، وأخرى نسائية ناهدة، وثالثة تهم بالنتوء من وراء فساتين بيضاء بارقة؛ فظهرن جميعاً كفراشات فى أردية من نور .
- وعند هذه النقطة المحورية على منحنى الأداء، تتجلى ميول زينب لتصوير جنتها الخاصة على الأرض،عبر معاودة إنتاج مرئياتها فى ثوب مغاير للواقع، رغم متانة ارتباطها به.. ومقارب للحلم مع أنه لم يدركه بعد، وهى البحيرة الدافئة التى تسبح فيها مفردات `الواقعية السحرية ` بين ضفتى الحقيقة والخيال، بقدرات مهارية من الفنانة على تضفير السردى بالبصرى، والحكائى بالتصويرى، موشكة على الإقتراب من أجواء `ألف ليلة وليلة ` التى ألهمت كثيراً من مبدعى ذلك التيار شرقى الأصول.. ففى عمل `بنات فى الشرفات ` تسمية الأعمال من وحى الكاتب - تحشد الفنانة مجموعة من إناثها فى تراكيب أحادية وثنائية وثلاثية، داخل شرفات معمار خشبى قديم يطل على شاطىء مائى يرسو عليه قارب خشبى من نفس نسيج البناء المعمارى الذى يسبح فى فضاء نورانى يشبه ومضات الحلم، وهنا نلمس تصعيداً درامياً إضافياً فى ثنايا المشهد، عبر الأردية البيضاء للبنات، والزهد اللونى المعهود فى أداء زينب التصويرى، حيث يسيطر على التكوين الترابى والأخضر والأزرق والأبيض، بما يتيح الفرصة لدوران الموسيقى الداخلية للعمل، وتناغمها مع مثيلتها الخارجية، ومن هنا يصدر رنين `الواقعية السحرية `عبر مداعبة الوتر المشدود بين وتدين، أحدهما مرشوق فى صدر المرئى المحسوس، والآخر مغروس فى بطن الحلم الإرادى المسكون بذلك البناء الرأسى المتواتر، والذى تكرر كلياً وجزئياً فى عملى `أحاديث البنات ` ، ` العصفور العاشق ` .
- وبتكوين أفقى فى عمل ` سمكة على المائدة ` تلملم الفنانة بناتها جلوساً حول مائدة خشبية، تتوسطها سمكة فى طبق أخضر، إنصبت عليها كل العيون بين دهشة ووجوم.. بين ترقب واشتهاء، والعمل غارق أيضاً فى سيل من الأبيض المنير، بما يدفع به إلى أحشاء الحلم، منطلقاً من حيز مكانى محدود، وبتركيز على السمكة كبطل للمشهد يكشف عن ترميز شعبى مزدوج، يجمع بين الخير والخصوبة، سيما مع الحضور الأنثوى الطاغى، ممتزجاً بمعادل خفى من البراءة الطفولية، وهو ما يرتحل بالصورة إلى مساحة مغايرة من ` الواقعية السحرية الشعبية ` ثم ترسّخ الفنانة لهذا الفكر البصرى فى عمل ` الشبكة ` لثلاث من البنات يتنازعن شبكة صيد على شاطىء البحر، بينما ظهر عند المستوى الثانى للمشهد بنتان فى حضن قارب، أما الأفق فقد بدا بين ذراعيه مركب شراعى تتقاذفه الريح، والعمل كذلك يتحرك بندولياً بين الواقعى والرمزى.. بين الأسطورى والشعبى ثم تتكرر نفس الآلية فى عمل `فرحة الصيد` الذى تبدو فيه ثلاث بنات على الشاطىء، إحداهن تمسك بسمكة وعلى وجهها بهجة القنص، بينما اعتلت الفرحة الحذرة وجهى الإثنتين الأخريتين، وقد ظهرن جميعاً بفساتيهن البيضاء المنيرة، كلحام مألوف لدى زينب بين الواقع والحلم.. بين اللذة القصصية والمتعة البصرية .
- وفى مواضع أخرى يبرز عنصر الحركة محورياً فى بناء الصورة، مثلما بدا فى عمل `الإسكوتر` لبنتين تمتطيان تلك العجلة الشعبية الشائعة على طريق مدثر بتعاشيق من النخيل الذى بدا متماهياً مع شعر البنتين المجعد، والمفرود على الجانبين كالسعف، وقد اكتسب العمل حركية إضافية من خلال حيوية البنتين، واندفاعهما للأمام بعيون شاخصة وجسدين متوهجين، وهو ما أماط اللثام عن طاقة المشهد الجسدية، والمنصهرة مع نظيرتها الروحية المتجلية فى بريق الردائين الأبيضين، كنور كاشف لستور الحلم .
- وعلى نفس المنوال الحركى يأتى عمل `الصديقتان ` الذى تبدو فيه بنتان تعتليان ظهرى بقرتين فى حالة سباق داخل حقل يسوده الأخضر، بينما لاح فى عمق الصورة بنتان واقفتان بين العشب كزهرتين يانعتين ، والعمل هنا يبرز العلاقة البريئة بين البقرة والأنثى على الصراط الإيهامى الفاصل بين الواقع والخيال، وربما نستطيع هنا أيضاً إستجلاء الفوران الأنثوى الساكن فى رحم المشهد، متمثلاً فى اقتران البنتين بالبقرتين داخل حيز المروق الحركى السريع، وهو ما يمثل معادلاً بيولوجياً لفحولة افتراضية داخل مخيلة الفنانة أثناء زمن الفعل الإبداعى .
- وعلى صعيد تعبيرى مختلف تهبط زينب السجينى بانفعالاتها الشعورية إلى درجة شبه منتظمة كموج النهر فى عمل `سكينة `، حيث تلك الطفلة الجالسة فى وضع القرفصاء، بردائها البرتقالى وشعرها الخشن وجسدها النحيف وعينيها الساهمتين، وكأنها فى لحظة استحضار للحلم اليقظ على الفراش الذاتى للفنانة، من خزان طفولتها البكر، وهو ما يتكرر بشكل مركب فى عمل ` العروسة والعصفور` الذى تبدو فيه بنتان جالستان على أريكة خشبية، وعلى حجر إحداهما لعبة طفولية فى هيئة عروسة، بينما علا رأس الأخرى عصفور واقف على عارضة الأريكة، والعناصر كلها بدت ملتحفة بستارة خلفية من الزرع الأخضر، جعلت العمل فى مجمله يمثل حالة من استعذاب ينابيع الطفولة الأولى، عبر شعور نفسى مزدوج، يتجسد فى حوار داخلى بين الذات والبدن، وهو ما تنسجه زينب خارجياً على توالها من خلال تلك الثنائية الأنثوية المتمثلة فى البنتين اللتين ظهرتا كتوأم متطابق الشكل تقريباً، وقد لعب اللون الأخضر هنا دوراً فاعلاً فى بلورة مشاعر الفنانة تجاه ذاتها، لتبدو وكأنها تبحث فى بنائها التصويرى على صفائها الإنسانى، برفقة عصفورها وعروستها وخضرتها وردائها الأبيض، متجهة صوب المنطقة الرخوة الكامنة بين كفى الواقع والخيال .
وقد أكدت هذا فى عملى `قبلة على خدى`، ` عصفور فى صدرى ` .
- وربما تنطلق الفنانة من هذا المتكأ النفسى نحو إقامة معبر بين طفولتها وأمومتها، وهو ما يبدو فى عمل `الغريزة المقدسة` الذى تظهر فيه أم تحمل إبنتها من وضع جانبى مائل، فى جو لونى أصفر منير، على أرض مطرزة بالنبت الأخضر، والعمل فى تركيبته الشكلية والضمنية يشى بصلة دفينة بين الرافد والمصب.. بين فطرة الطفولة وغريزة الأمومة، على بساط واقعى مختزل، يسمح للمتلقى بإطلاق بالون الخيال لاستبصار كنائن النفس، عبر اشتباك كلى مباغت مع نسيج الصورة.. وتظل الفنانة الكبيرة زينب السجينى تركض بشفافية طفولتها وراء دفء أنوثتها، من خلال بناتها البريئات النزقات اللائى يقترن فى مشاهد تصويرية أخرى بالخيول والقطط والحمام والعصافير، ويتسلقن الأشجار وأسطح المنازل، بحثاً عن ملامح الجنة الموءودة فى بطن واقع مأزوم، يسعين لتطهيره بأرديتهن البيضاء التى تبوح ببراءة جمعية فياضة، حتى صرن كفراشات فى أردية من نور .
محمد كمال
مجلة إبداع 2011
زينب فى الثورة
- إعتدنا دائماً من خلال قرائتنا للثورات العالمية أنها كالزلزال الذى يرجرج الوجدان الشعبى، قبل أن يهز العقل الجمعى، ليحذف منه بعض قناعاته ويضيف أخرى.. وفى هذا السياق قد تتصادم المفاهيم الراسخة لأجيال سابقة مع عنفوان الشباب الراغب فى التغيير السريع، دون انتظار للتبدل التدريجى.. وقد بادرتنى تلك الأفكار أثناء زيارتى لمعرض الفنانة الكبيرة د . زينب السجينى الذى أقامته مؤخراً بقاعة الزمالك للفن بالقاهرة، بالتزامن مع رحيل عام 2011 وقدوم عام 2012 بكل أحلامه وآماله العريضة المغلفة ببشرى الحرية والعدالة الإجتماعية .. وقبل القاعة بأمتار كنت أسأل نفسى.. ماذا ستقدم هذه المبدعة الرقيقة فى حضرة هذه الثورة المجيدة التى سالت فى سبيلها دماء طاهرة، وهانت من أجلها أرواح عفية ؟ وعندما دخلت وبدأت الإنخراط فى الفرجة، وجدتها مازالت تحت معطف ثورتها الوجدانية التى فجرت من خلالها أنهاراً من الحنان المتدفق والأمومة الفياضة والأنوثة السيالة، وهى الملامح الإبداعية والإنسانية التى ميزتها بين أبناء وبنات جيلها عبر مشوارها الفنى الطويل، حيث رأيتها مستمرة فى حشد بناتها متشابهات الملامح داخل تصاويرها، واللائى ظهرن وكأنهن من عائلة واحدة، وقد اندمجت من خلالهن فى مداعبة عرائسها الشعبية، وملاطفة عصافيرها البهيجة، ومؤانسة قططها الأليفة، واحتضان ماعزها الوديعة، وعناق أبقارها الحنونة، واستعطاف أسماكها الخيرة، واستنبات زهورها النضرة، وملاعبة طائراتها الورقية، وذلك فى معية موائدها المستديرة وأرائكها المرصوصة وأكوابها الموضوعة.. ورغم أن زينب السجينى لم تغب عن بناتها لحظة واحدة على مدار عمرها الإبداعى والإنسانى، إلا أننى شعرت هذه المرة بارتباكها الشعورى الناتج عن دوران رحى الثورة، إذ باتت لهفانة للإنتقال من واقعيتها السحرية إلى واقعيتها الثورية، وهو مابدا فى كلمتها المدونة فى كتالوج المعرض، والتى ألمحت فيها إلى تأجيل العرض الكائن تحت مسمى ` أنا وعروستى` من ديسمبر 2010 إلى الآن حتى تتضح الأمور ، ورغم سعادتها بثورة الشباب فى 25 يناير، إلا أنها لاحظت أن الأحداث أخذت مساراً مغايراً لما نتمنى، بما جعلها تتحرك فى دائرة من القلق والتوجسات الطاردة لأى فكر إبداعى.. وقد ختمت كلمتها المكثفة بهتاف `عاشت مصر حرة ` والذى يتأرجح بين الهمس والأنين، وهو مالم نألفه فى هذه الفراشة الناعمة.. وعلى الفور أدركت أنها فى مأزق وجدانى، فهاتفتها من القاعة وهنأتها على عرضها الذى بدا كعادتها مثل حديقة للزهور الإنسانية والإبداعية فى آن، فشكرتنى ولكنها سرعان ماأعلنت عن خجلها المفرط من إقامة معرضها بهذا التوقيت الحساس، فى ظل كتائب من الشهداء وأنهار من الدماء ووطن على المحك، فقلت لها أنت أيضاً فى ميدان الثورة ببناتك الثائرات دائماً على قيود الإستبداد، وعصافيرك التواقة للحرية، وأسماكك النازعة للخير، وزهورك الحبلى بأجنة الجمال، فقالت لى .. وهل هذا يكفى؟ فقلت لها.. لقد كنت ومازلت فارسة فى ساحة الثورة على القبح والكراهية، برايات من الحب والعطف والإحتواء، فقالت لى.. أعتقد أنك بلطفك تطمئننى بعدما أدركتنى الشيخوخة، ولم أعد قادرة على مجاراة الشباب فى حمأتهم ! فقلت لها هم يحتاجونك ياحاملة القناديل لتنيرى لهم الطريق، فلا معنى لثورة لاتوقر مبدعيها ومفكريها الكبار، ولاخير فى شباب لاينحنون أمام منجز آبائهم بعد أن يرتوون منه.. وهنا ردت على بأسى وألم وقالت.. أشعر أنهم لايريدون الكبار بين صفوفهم ! فقلت لها دون تردد.. إنه غبار الثورة التى سيهبط مع نجاحها، قبل أن تستوى كل القيم الأخلاقية والإبداعية كما نتمناها جميعاً، ولكنك لابد أن تعلمى الآن أنك فى نسيج الثورة، ثم واصلت كلامى .. وجودنا الآن كمثقفين ومبدعين فى قلب المشهد هو بمثابة سور من الأشجار التى تحمى الثورة من العواصف والرياح، فقالت فى بهجة عهدتها فيها.. كلامك يحرضنى على مواصلة العمل، فقلت لها مداعباً.. لاتنسى أن زينب فى الثورة؛ فضحكت من قلبها وودعتنى ببشاشتها المزهرة، لأجد نفسى فى نهاية جولتى أمام لوحتها اللافتة `مصر ` التى أنجزتها بعد ثورة يناير، حيث إحدى فتياتها المصريات بشعرها الخشن المتهدل على كتفيها حتى ثدييها الناهدين بحذر، وعينيها اللوزيتين، وردائها الأبيض المنير الذى يكشف عن ذراعيها المتعانقين، وصدرها المكتنز، ورقبتها الغليظة التى طوقت بسلسلة معدنية تدلى منها الصليب بينما حملت الهلال على رأسها، وقبضت بكفيها على وثيقة ملفوفة.. وهنا وجدت روح زينب السجينى تسكن هذه الفتاه كرمز لمصر التى طالما احتضنت كل الأديان والأعراق والأجناس، مرسخة بوثيقتها للرباط مع الأرض والتاريخ والناس الطيبين، وهو ماجعلنى أوقن بعد انصرافى من قاعة العرض أن زينب كانت ومازالت فى الثورة .
محمد كمال
عمودى الأسبوعى (ضى النهار) جريدة نهضة مصر - صفحة فنون جميلة -الخميس 5/ 1/ 2012
معرض الفنانة .. زينب السجينى
- الفنانة `زينب السجينى` هى من الفنانات القلائل التى تتميز بمفهوم الحضارة المصرية القديمة والحديثة هذا علاوة على مفهومها لاغوار الفن الحديث وهى ليست من الفنانات اللواتى تمارسن التقليد عن الفن المصرى القديم والجديد بل هى تملك شخصية متميزة لمفهوم حضارة مصر الحديثة .
- والفنانة ` زينب السجينى ` هى فنانة عرفتها الحركة المصرية الحديثة أى منذ نصف قرن من الزمن وهى فنانة جادة ولها أبعاد مصرية منذ نشأتها عرفت الحارة المصرية القديمة وما هى لوازمها منذ عصر الستينات ولذلك أعتبرها من الفنانات القلائل التى تعبر عن روح الحارة فى مصر فى لعب الأطفال وبراءتهم الفكرية والفنانة ` زينب السجينى ` لا تمثل حركة الجيل الصاعد من أبناء مصر فى عصر الستينات فقط وهو عصر التطور بالحضارة المصرية القديمة والجديدة ولم تر فى أطفال ذلك الجيل براءته الفكرية فقط بل رأت عناد أمه وعناد أجيال مصر العظيمة من جيل الستينات إلى الأجيال الحديثة التى تصاعدت فى ثورتهم الحديثة من جيل الشباب فى ميدان التحرير .
- لقد كانت الفنانة `زينب السجينى ` لما رأته من أجيال مصر فى الحارة المصرية القديمة هو هذا الجيل الذى تصاعد على هذا الزمن الذى لا رجعة فيه من لعبة الحجلة إلى لعبة التحرير الذى اعطانا الأمل كما اعطتنا الفنانة ` زينب السجينى` فى لعبة الأطفال المحبوبين لديها إلى جيل ثورة الشباب الذى ازال الغبن عن أعين المصريين ووضع ابتسامة الطفل المصرى اليوم فى ثمار ` ميدان التحرير ` رمزاً للعفة والخروج من جدران الزيف والضغينة إلى حرية مصر فى ثورتها الجديدة التى اعترف بها العالم قاطبة .
- وهى رمز الحرية التى عرفها الطفل فى ` مرجيحة الزفة ` فى أعمال الفنانة ` زينب السجينى` التى مازالت أعمالها من اطار الطفولة البريئة حتى ثمره هذا النضال الانسانى الذى وضعته الفنانة فى كثرة اعمالها التصويرية المعلقة على حوائط العزة والكرامة كما وضعها الفنان ` جمال السجينى ` فى كل أعماله النحاسية المطروقة التى تمثل جيل الخمسينات حتى يومنا هذا وشعرت أن من واجبى أن أذكر الفنان ` جمال السجينى ` لما كان له من كبير الاثر فى حياتى عندما عرفته وعاشرته وهو مثال مصر العظيم كما أصبحت الفنانة ` زينب السجينى ` هى فنانة هذا العصر فى جيل الخمسينيات إلى جيل الستينات تعيد لنا الأمل المتحرر من عبودية البشر تعيش الفنانة ` زينب السجينى ` ملحمة فنية بين أنامل طفولتها المتيقظة حول تعبيراتها التى دفعتها إلى مراحل النمو والتعبير الجاد الذى يعيش فى أحضان الطبيعة المصرية المعبرة عن قدرة الإنسان المصرى فى التعبير عن كينونته الفكرية التى لازمت الفنانة منذ سنين طويلة منذ عصرها القديم أو كما يقال عنها عصر الفراعنة واريد هنا أن أوضح كلمة `فرعونية ` هى كلمة قد وضعها فنانو المحاور القديمة لأن كلمة `فرعون` هى كلمة مأخوذة عن تبادلات كلامية عن أفواه بعض القبائل النازحة إلى أرض مصر ونهرها العظيم ` نيل مصر ` الذى عرفه التاريخ القديم وكانت هذه الكلمة هى ` الفراعنة ` وبذلك أصبحت كلمة ` الفراعنة ` هى المصطلح المعمول به من وقتها وجرت العادة على استخدام هذا اللفظ فى معيارنا عندما نتكلم عن ` مصر القديمة `هى البديلة ` بالفراعنة ` نسبة إلى هذا المسمى الذى لا معنى له غير الاساءة، لأن كلمة `فرعون `هى كلمة متعالية وأخذت على مجرى الحياة العامة والخاصة ` بالفراعنة ` وهى غير معلومة من حيث المنطق اللغوى لها وتم تداولها دون مرجعية أو عرفاً وما زالت حتى يومنا هذا.
- الفنانة ` زينب السجينى ` تتمثل فى معرضها هذا بين كلتا الكلمتين وهما كلمة لغة الشكل واللغة الأخرى اللغوية وهى الحروفية أو الاجرموية اللغوية التى نشأت نتيجة للتعامل بها فكلتاهما لها ` شكل لغة الشكل` هى مكونة من أشكال حروفية أو حروف تقام عليها معنى المقصود بها هو التعبير عن شئ موجود أمام العين .
- والفنانة ` زينب السجينى ` ليست من هؤلاء الفنانين الذين ينظرون للفنون القديمة بل هم أطفال مثل كل الاطفال الآخرين الذين نراهم فى الشارع المصرى ما عدا شيئاً واحداً هو ` السمة التى يمتلكونها ` وهى النظرة البريئة التى تمثل الطفل المصرى وهو فى حالة خاصة جدا بعيدا عن النظرة الطبيعية فهم أصحاب ملامح جديدة بين النظرة الميتافيزيقية المليئة بحب الوطن أو بمعنى آخر حبهم للحياة الشعبية التى أمنت بها الفنانة ` زينب السجينى ` فى أكثر أعمالها .
- فهى لماحة لحياة مصر الشعبية اذا صح هذا القول وهى فنانة عاشت قديما فى مثل هذه الشوارع القديمة أو ما يقال عنها البيئة الشعبية فكثيراً من تأثرها هى من الحياة المصرية القديمة وهى لم تكن مخلدة لهذا الارث القديم بل هى تعدته إلى روح أخرى قد تكون فنية متأصلة بحياة الإنسان المصرى مثلها كمثل الفنان ` جمال السجينى ` الذى عبر عن هذه الثقافة فى ملامحه الجديدة التى توفرت فى الحياة المصرية القديمة المعروفة بالاحياء الشعبية والتى تمثل الأحياء المصرية القديمة ذات الطابع الخاص والعام .
- وبذلك خرجت الفنانة ` زينب السجينى` من صومعتها الفريدة فى نوعها معبرة عن حياة البشر والميزة عندها انها قد خرجت من الحياة العامة إلى حياة الأطفال الابرياء التى يهدر بها الشعب المصرى ولذلك فهى تربعت على عرش الحرية الطفولية لتعبر عن هذا الجيل الذى سجلته الفنانة ` زينب السجينى` فى عصور التقدمى العلمى لمصر وانا هنا لا ابالغ فى حقيقة الفنانة ` زينب السجينى ابنه اخ الفنان ` جمال السجينى` الذى كان من أهم أصدقائى فى جيل الاربعينيات وكنت وثيق الصلة به فى هذه الفترة المهمة من حياة المرحوم ` جمال السجينى` وحياة الفنانة ` زينب السجينى `.
د / صالح رضا
القاهرة - 27 /12 /2011
بساطة التكوين وبهجة الألوان فى فرحة العيد
-فى العيد يكون للأولاد والبنات فى الريف والأحياء الشعبية ألعابهم الخاصة التى يبتكرون من وجودها مصدرا للسعادة مهما بدت بسيطة يبلغون بها غاية السعادة.. وهى سعادة مركبة لأنه مسبقا قد منحهم العيد سعادة بقدومه بعد طول انتظار وما بقى إلا لتأكيد صورة السعادة بمظهرها الخارجى من حرية الانطلاق وفى اللوحات أمامنا لم ترسم الفنانة الكبيرة زينب السجينى فرحة البنات وألعابهن فى الأعياد أو المناسبات فقط بل جعلت لوحاتها مساحة فرحة لانطلاق الفتيات بألعابهن البسيطة فى تكوينات فنية شديدة البساطة كبساطة البنات الصغيرات وألعابهن من عجلة خشبية أو طوق مطاطى أو كرة أو عروسة قماش أو نزهه فى مركب فى النيل أو تسابق لتسلق أشجار الفاكهة والارتفاع لأعلى.. إن فى لوحات زينب السجينى يمكننا إدراك فلسفة خاصة لمعنى السعادة والتى فى معظمها هى سعادة مجانية ينالها الأطفال وتهبها لهم الحياة كعربون تعارف.. وهناك سعادة أخرى ندفع ثمنها غاليا ونحن كبار ولا تكتمل.. لذلك سعادة الأطفال هى الأكثر متعة وبلا مقابل .. ويمكننا إدراك قدر هذه السعادة فى اللوحات أمامنا فى بهجة ألوانها وفى بساطة تكوينها وفى حيوية الخط واتساع مساحة الرؤية فى رحابه.. وقد اعتمدت الفنانة الألوان الساخنة فى لوحاتها خاصة الأصفر والبرتقالى ليتناسب وسخونة الانطلاق .. مثلما نرى فى لعبة الطوق يجذب انتباهنا اللون الساخن لفستان الفتاة .. ونشاهد اتساع المشهد الريفى فى الخلفية.. وفى لوحة طلوع الشجرة يجذب انتباهنا الفتاة الصغيرة الجالسة أسفل الشجرة مكتفية باللعب بعروستها القماش ..
- ونرى المشاركة فى ممارسة اللعب فى لوحة الزلاقة الخشبية لفتاة تقودها والأخرى تجلس فوق المقود الخشبى .. فى اللوحات ممارسة اللعب نراه جماعيا وبمشاركة تتقاسم الفرحة وسعادة بساطة تلقى الحياة .
فاطمة على
أخر ساعة - 9 / 11/ 2011
براءة الجسد فى أفراح زينب السجينى
*أفراح وأشجان... ملامح الفتيات تفصح عما بداخلنا نحن رغم بساطة التفاصيل.. ملامح تعبر عن كل شئ، وأن كانت تتحرك فى مسارات مختلفة..فى جميع الأحوال فإن البراءة هى الصفة الغالبة لكل شخوص الفنانة زينب السجينى التى تناولت لقطات من أفراح العيد، وصاغتها بأسلوبها الذى تنفرد به، وتجذب المشاهد بوجدانه وبصره فى حالة من الوجد والتفاعل الحوارى بين العالمين الفكرى والفنى اللذين أنتجتهما بفرشاتها..
- زاوجت الفنانة زينب السجينى بين الفكر والفن لتربط وبشكل تلقائى بين الحلم والواقع، وتقرب بين ما يدور فى خيالها ومفرداتها، لتتوحد مع ما تراه بالمكان الذى تريد لبناتها التواجد فيه.. بناتها الساحرات اللاتى تعتبرهن الأهم فى أى مشهد تختاره، واللاتى دائما تصورهن بملامح تحمل قدرا من الطفولة، وتسيطر عليها البراءة، وتصدر للمشاهد حالة من الراحة والألفة.
- كلما شاهدت بنات السجينى أشعر بأنها ترتبط معهن بقرابة، ولا تجد صعوبة فى تسكينهن باللوحات،فالطريق لا يحتاج لاقتحام مساحة الأبيض لتنفيذ لوحاتها كعادة الفنانين، إنه دخول آمن هادئ تمهده لها براءة بناتها اللآتى يمرحن على جسد اللوحة، وتتابعهن الفنانة بخيالها، وما إن تجد اللقطة المناسبة حتى تحتويها بلمسات حانية تحرص على أن تستمر فى حالة المداعبة بفرشاتها حتى لا تزعج عناصرها فتكتمل بنسيج فنى يلفه الحلم والدراما، وبألوان بسيطة تتبادل بين الأخضر والأزرق والبرتقالى والأبيض .
-عند مشاهدة اللوحة عند السجينى تشعر للوهلة الأولى بالبساطة فى أكثر من اتجاه، كبساطة التلوين، واختيار الموضوع، لكن عندما تقف أمام العمل الفنى فسرعان ما تشعر بأنها البساطة المعقدة، أو السهل الممتنع الذى لا تحققه إلا فنانة بقامة زينب السجينى، تعرف كيف تعزف بفرشاتهاعلى جسد اللوحة..وموضع النغمات من خلال درجاتها اللونية وتحكمها فى مصدر الضوء المتصل بمفاتيح داخل روحها تنير وتطفئ بإحساسها المتدفق، الذى يعلو ويهبط لكن بدرجات منتظمة، أحيانا لتأكيد الكتلة، وأحيانا الحركة، وأحيانا أخرى الإيقاع.
- تداعب السجينى بأشجانها وأفراحها طفلتين تلعبان بدراجة ` الاسكوتر ` فتعفيهما من قانون الجاذبية الأرضية لتشعرك وكأنهما تسبحان فى الفراغ، وفى حالة من التوازن والثبات الذى تحققه البنت الجالسة فوق طارة العجلة تقابل هذا الثبات الحركة القوية التى تؤكدها الفتاة الأخرى من خلال حركة ساقيها وشعرها الطائر للخلف نتيجة سرعة الدفع .
-فى لوحة أخرى تحررت السجينى من قانون الجاذبية الأرضية أيضا، حيث قامت بتصوير فتاة تتصدر المشهد، وهى تدور طوقا، فى حين تقف أخريات بأطواقهن يتابعنها، وكلهن يبدون وكأنهن يسبحن فى فلك اللوحة، وكأنه عالم عائم فى فراغ على حلم الفنانة يدور بدوران الطوق، ويتسع الدوران مع حركة الفتاة، ويتسع ثانية ليصل إلى البيوت التى تصنع قوسا ينتهى بدائرة `الطوق الثانى` الثابت فى يد الفتاة الواقفة والتى تسلمه للطوق الأول، لتعود من جديد حركة الدوران من المكان الذى بدأت منه .
- ولات احتفاء زينب السجينى بالألعاب الشعبية التى تتوحد مع براءة ناسها الطيبين يتوقف.. فبساطة مفردات اللعبة تتلاقى مع بساطة ملامح البنات فى تكوينات فنية بسيطة، مع تأكيد عنصر الحركة فى حوارات الجسد بالجسد، والجسد باللعبة الخشبية أو الأطواق المطاطية المستعملة .
- ولا تكتفى الفنانة بالحكايات الحركية للجسد، لكن العيون لها نصيب كبير فى الحكى وتأكيد الفكرة، وكذلك الألوان بدرجاتها وشفافيتها وبساطتها أيضا.
إنه لأمر بسيط ومعقد فى آن واحد.. فعلى الرغم من كل هذه البساطة التى ذكرتها فإن مفرداتها تحمل كل المعانى، وتبوح بأسرار نفسية وفلسفية وفنية متوافرة بحق فى لوحات الفنانة التى أحبت عالمها فأحبها وأغدق عليها من كنوزه، فبدت وكأنها واحدة من بناتها اللاتى يمرحن فى مساحات لوحاتها... وهذا شعور ينتابنى كلما التقيت بالفنانة.
د. سامى البلشى
الإذاعة والتليفزيون - 25/ 8/ 2012
ملامح من شجن الأتوثة وأحوالها
- كانت الأميرة بسمة سميحة حسين ابنة السلطان حسين كامل الذى تولى حكم مصر فى الفترة ما بين عامى 1914 و 1917، هى أول امرأة ` مصرية ` تشارك بأعمالها فى معرض بالقاهرة عام 1922.
- بعد ذلك بسنوات قليلة، بدأت المرأة المصرية تقاسم الرجال بهجة الرسم والتلوين بعد أن وقفوا معاً- الرجال والنساء- فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى أثناء الثورة المصرية الكبرى عام 1919 ، حيث نزعت المرأة عن نفسها حجاب التخلف والجهل وغرقت فى خضم الحياة العامة بتعقيداتها المختلفة ، وتعد السيدات: تحية حليم (1919) ، جاذبية سرى (1924) ، وإنجى أفلاطون (1924-1989) من أوائل الفنانات اللاتى قدرن هجر المنظومة القيمية المنحطة التى تصنع المرأة فى قاع المجتمع ، والانتماء إلى سحر الألوان وألق الرسم .
- وسرعان ما انضم إليهن جيل نسائى تال ، فتنته الفنون الجميلة ، وانخرط فى صراع مع الواقع الاجتماعى/ الثقافى ليفرض موهبته ، ووجوده وقد ساعدته التحولات الكبرى فى المجتمع منذ عام 1952 على ممارسة الفعل الإيجابى.
- ولعل الفنانة د. زينب السيجينى (1934) من أكثر بنات جيلها اشتغالا وإخلاصاً فى الفن ، حيث منحته رحيق حياتها ، ووهبها هو التواجد المرموق فى واقعنا الفنى منذ 40 عاما.
- يجب أن نلفت الانتباه ، قبل أى شىء إلى أن الرائد الثانى لفن النحت الحديث جمال السجينى (1917-1977) هو عم الفنانة ، والذى كان له أكبر الأثر على حياتها وفنها، برغم أنها لم تمارس النحت على الإطلاق، وقنعت عن طيب خاطر- بالرسم والألوان . قالت لى:` جمال السجينى هو الذى ربانى.. كنت الصبى بتاعة.. والموديل الذى يستلهمه ، أقوام برش التماثيل التى ينجزها.. وأحضر له الأدوات المطلوبة.. وأظل أراقبه طوال فترة العمل`.
- لا جدال فى أن هذا التلاحم مع قامة كبيرة مثل السجينى قد وفر للفتاة زينب فرصة الإطلاع على العمل الفنى منذ نشأته كفكرة فى وجدان الفنان، حتى ينتصب كامل الأستواء أمام الجمهور. لذا لا عجب ولا غرابة فى أن بطلة مقالنا قد أدركت معايير هامة أهملها كثير من فنانى هذه الأيام ، مثل الجدية والدأب والمثابرة ، والحذف والإضافة والقلق المشروع حتى يكتمل العمل الفنى، بالإضافة طبعاً إلى تلك النبرة الإجتماعية العالية التى تحتفى بالبسطاء، والتى حافظ على شعلتها مشتعلة دوماً جمال السجينى.
- لقد جاءت منحوتات ومسبوكات وميداليات هذا الرائد العظيم جزءا من - وتعبيرا عن - واقع اجتماعى صاخب وحالم، وهو واقع الخمسينات والستينات حيث اهتم بالعمال والفلاحين، مما كان له أكبر الأثر فى انتماءات زينب الاجتماعية ، وأن كانت ابنه الأخ قد تخفت من صدى النبرة الدعائية العالية التى لازمت عمها، وأثرت أن تقدم عزفاً شجيا وهامسا.
- ففى لوحة ` السيول` مثلا تدهشنا هذه اللقطة التى تصور الأم وهى مرتكنة على باب جهة اليسار ، وقد التصقت بها بناتها الأربع فى موجه انهمار السيول التى نهبت نصف اللوحة الأيمن تقريباً.
- إن هذا التكوين الجرىء والفريد نادر فى تاريخ الفن بشكل عام والذى جعل الأجساد والأطراف تتداخل وتتشابك وتلتحم وتتكوم مع بعضها فى مواجهة كارثة طبيعية تدمر بيت هذه الأسرة البائسة أطاحت زينب السجينى فى هذا العمل بانضباط النسب التشريعية المنسجمة، وصنعت عدة مبالغات فى الأنف والشفاه لكل البنات مما زاد من أجواء الهلع والحزن المنتشرة على وجوهنا. أما أذرع كل شخوص اللوحة ، فقد بدت كما لو كانت قد تخلصت من العظام التى تهب شكل الذراع قواماً متماسكاً، ربما كى تفاقم الشعور بالانهيار والرخاوة التى لا يمكن أن تصد غضب الطبيعة المفاجئ.
- فى هذه اللوحة ، كما فى معظم لوحاتها ، تقتصر زينب السجينى فى استخدام الألوان ويبدو أنها تنفر من استخدام الألوان ببذخ، إذا بأقل الألوان الزيتية الممكنة تشكل عالمها العامر بالإيحاءات والدلالات، لقد سيطر الأصفر الممزوج أحياناً بلمسات من الأخضر على الأجزاء الظاهرة من اللحم البشرى، مما أكد الشعور بالمصيبة ، بينما قنعت باللون البنى والرماديات لتغطى بهما البقاى من سطح اللوحة مثل الشعر المجعد بسبب البلل، أما حركة لمسات الفرشاة القصيرة المائلة، فجاءت ناجحة جداً فى تجسيد كيف تتدفق السيول كسهام حادة فى جسد المرأة وبناتها
- المرأة أولاً ... وأخيراً
- حسب علمنا لا يوجد فنان تشكيلى حتى الآن لم يستطع أن ينفلت من أسر جسد المرأة وكنوزه الخفية والظاهرة ، لكن العجيب أن زينب السجينى، ورغم كونها امرأة ، لم تنفلت هى الأخرى من نفوذ بنات جنسها، وراحت ترسمهم فى كل اللوحات، بعد أن نبذت الجنس الآخر ، حيث ينعدم وجود الرجل تماماً فى لوحاتها !!
- أخبرتنى بحماس: ` لم يكن غياب الرجل أمراً مقصوراً، أو شيئا قدرته بذهنى، لكنى أنحاز للمرأة لأنها مظلومة دائماً ، وتحمل أعباء كثيرة .. من العمل والزواج ، ومتابعة شؤون الأطفال والأسرة ... إلخ.
- فى لوحة ` البنت وأمها ` - تسمية اللوحة من عندنا- نلمح هذا التعاطف الرقيق مع المرأة، التى تشع نظراتها برغبة فى السلام مع النفس ، بينما تربت بيدها على الجسد الهش لابنتها، تلعب الأذرع والأطراف دوراً حيوياً فى مجمل أعمال الفنانة ، ربما يعود ذلك إلى دراستها الأكاديمية فى كلية الفنون الجميلة، حيث حصلت على درجة الماجستير فى ` قيم التكوين الزخرفى فى التصوير المصرى القديم `، وقامت بدراسة نماذج كثيرة من فنون الأسرات المصرية القديمة . لذا نجد هذا الاستلهام لدور الذراع واليد فى التكوين، حيث أن أعمال القدماء احتفت كثيراً بهذين كثيراً بهذين العنصرين، لقد شكلت أذرع الطفلة المرفوعة لأعلى عنصر الحركة الرئيسى فى هذا العمل الشجى، حيث وشت بالرغبة فى أن تتجاوب معها أمها وتحملها !! استفادة زينب السيجينى من علاقتها بعمها، حيث جسدت بألوان الزيت كتلة نقية أشبه بالعمل النحتى، حتى إن لمسات الفرشاة أو ضربات سكين الألوان التى استخدمتها صنعت هذا السطح الخشن، بالضبط كما يفعل أزميل النحات فى الحجر!! والأعجب أن هذه اللوحة تعطى الإيحاء بإمكانية الدوران حولها، مثلما يفعل المتلقى عند التعامل مع عمل نحتى ثلاثى الأبعاد !! خاصة وأنها أعتمت الخلفية، حتى لا تعرف العين عن رؤية هذه المرأة وابنتها !
- ولا تنشغل زينب كثيراً باتباع القوانين الأكاديمية المستقرة فى فن التصوير، فها هى تنصرف عن تحقيق ` الفورم` وفقاً لهذه القوانين، وتكتفى بالظل القاتم عند الحدود الخارجية للعناصر، وزيادة فى نثر رذاد الألفة والوئام فى المشهد رسمت عصفوراً صغيراً ناصع البياض استراح على كتف المرأة .
- الجيوكانده المصرية
- تمتلك الفنانة الكبيرة زينب السجينى جرأة كبيرة فى إزاحة الكثير من الأعراف والتقاليد المستقرة فى عالم الفنون الجميلة ، فمثلاً، اتفق ضمنياً على أن مساحة سطح اللوحة مربعة أو مستطيلة بنسبة 2 عرض : 3 طوال تقريباً أو شابة ، ولكن زينب تنجز لوحات بمساحة تصل إلى نسبة 1 : 5 تقريباً، حيث تظهر هذه الأعمال غريبة عن السياق العام الذى تنفذ فيها اللوحات، كذلك تمتاز زينب بقدرة خاصة من أن ترسم أعمالأ ضخمة جداً يتجاوز طول الضلع فيها 120 سم ، أو لوحات لا يتعدى طول ضلعها أكثر من 15 سم ، وفى كلا الحالتين تقدم لنا عملأ مكتملاً الأركان ، وافى الشروط .
- وهكذا يمكن لنا أن نستمتع بلوحة ` الجيوكانده المصرية ` - بالمناسبة هى التى أطلقت عليها هذا الأسم- التى جاءت فى مساحة طولية بشكل ملحوظ ، حيث تجلس امرأة على مقعد صغير ممسكة بعصفوراً أبيض، هنا - وبعكس اللوحة الاسبقة- توصد لون الجسد الأحمر مع الملابس، وإن اختلفت الدرجة، وهنا استطال الجذع على حساب النصف الأسفل، دلالة على الشموخ رغم الحزن الذى يطل من العينين الواسعتين، ويبقى أن زينب السجينى لا تلتقت كثيراً إلى مناطق الإثارة فى جسد المرأة ، حتى لا تغرق فى مستنقع الابتذال، فالصدر ملموم وبدون الاحتقاء بالاستدارة، أما منطقة العفة ، فقد حجبها ذلك العصفور النقى ، فى إشارة ربما إلى الطهارة .
- وكعادة الفنانة، لم تول أى إهتمام بالمكان فالخلفية عبارة عن مساحة خشنة الملمس من البنى واشتقاقاته بدرجة أكبر من ملمس المرأة ، وقد افتقد المقعد الخشبى حضوره بسبب إصرار زينب على التركيز على امرأتها الحزينة، حتى لا تذهب العين وراء أى عنصر أخر، خاصة وأنها استلهمت البناء التحتى الذى يبجل الأناقة الخاصة بالكتلة ككل ، ويتخلص من الشوائب والتفاصيل.
- لقد مرت زينب السجينى بتجربة مروعة قبل سنوات ، عندما سقطت ابنتها من الدور الخامس وعمرها لا يتجاوز العامين والنصف. ولا تدخل القدر ، لتحول الأمر إلى فيجعة مزمنة ، وهذا أدى انقاذ حياة طفلتها إلى الولع بالبنات والأطفال.
- فعند تأمل لوحة ` بنت تجلس على كرسى ، يتاكد، لدينا مدى إحساس الفنانة بالطفلة، حيث أوضحت مدى هشاشتها بالقياس إلى ذلك الكرسى الذى يحتويها، وفى سبيل تحقيق ،هذا الهدف ، حطمت المنظور، أو استخدمت أكثر من منظور، دون أن يشعر المشاهد بأى اضطراب بصرى .
- عاشت زينب السجينى صباها الأول فى أحياء القاهرة العتيقة مثل الحسين والظاهر والجمالية وامتلأ بعدها بأبهة المساجد المملوكية ، وعظمة المنازل العثمانية التى تزينها دلع المشربيات، وأتمت شغفها بالحصول على درجة الدكتوراه فى` أسس تصميم المنمنمة الإسلامية فى المدرسة العربية `.
- وقد لاح الافتتان بالفنون الإسلامية قليلاً من أعمالها، مثل لوحة ` شرفة البنات` ، والتى ركزت فيها على شكل الزخارف الإسلامية المصنوعة من الحديد والتى تزين شكل الشرفة أو البلكونة، لقد جاء هذا التصميم مائلاً بشكل ملحوظ، مع استخدام ألوان غير مطروقة غالباً من القاموس اللونى للفنانة مثل الأزرق، الذى غطى مساحة المستطيل خلف البنات، لا جدال من أن الحوار الدائر بين الطفلة و العصفور ، قد منح اللوحة عذوبة وطلاوة، وخاصة وأن البنتين الأخيرتين تتابعان هذا الحوار الهامشى بهدوء.
- زينب السجينى فنانة حالمة، ذات خيال منهمر وموهبة متقدة، اختارت حزن المرأة ورقة الطفلة لتجسدهما على سطح لوحاتها، استفادات من فنون الأولية، وصالحت مدارس الفن الحديث ، فأبدعت أعمالأ متينة التصميم، سلسلة الإيقاع. أعادت زينب السجينى لقيمة ` الموضوع ` فى العمل الفنى كبرياءه المجروح ، بعد أن سادت فى الآونة الأخيرة أعمالاً تحتفى بنفايات الورش!! لاحت أعمال زينب السجينى كقصيدة رقراقة تخاصم النثر التشكيلى الرخيص المنتشر هذه الأيام.
-عند مشاهدة امرأة زينب السجينى الملتاعة تطل من لوحاتها، أتذكر قول شاعر الهند الأشهر طاغور: ` وشعرت أن دموعها قد تعلمت على المدى لغة الابتسام`. وليس عندى كلام بعد طاغور.
بقلم : ناصر عراق
من كتاب ملامح وأحوال
|