إبراهيم الدسوقى… الأسلوب المختلف
- منذ بدأت اتجاهات الحداثة الغربية فى السيطرة على توجهات الفنانين المصريين خلال العقود الماضية، توارت الأساليب الفنية التى تعتمد على الرؤى الواقعية، التى نظر إليها على أنها بقايا عالم ثقافى إنتهى عهده ولن تقوم له قائمة. وكالقطيع اندفع الفنانون الشبان نحو التعلق بأذيال الصياغات التى أرست وجودها فى الفن الغربى المعاصر ، وأعادوا بطريقة أو بأخرى تقديم أشكال وأساليب تمت تجربتها وتقديمها فى المحافل الفنية الغربية، كما تم الترويج والدعاية لها فى وسائل النشر والإعلام على أنه النموذج الوحيد الذى يجب إحتذاؤه والإقتداء به فى التعبير الفنى المعاصر فى أى مكان من العالم، وهكذا فرضت بعض الطرق فى التأليف والإنشاء واللعب بعناصر التشكيل سطوتها على كل من يرغب فى أن ينتمى إلى عالم الحداثة أو ما بعد الحداثة.
- وإبراهيم الدسوقى واحد من بين عدد قليل من الفنانين المصريين كان لديه الثقة فى ذاته وإمكانياته الفنية مما يجعله رافضاً لاتباع الصور والأشكال المحفوظة، محاولاً شق طريق مختلف لتقديم رؤيته الشخصية المستقلة والمغايرة لما هو شائع ومنتشر، وحتى لو جاء إبداعه قائماً على ما هو مرفوض من وجهة النظر الفنية السائدة .
- ولقد إعتمد إبراهيم الدسوقى فى أسلوبه على أسس يجب على كل من يشتغل بفن التصوير الإلمام بها ومعرفة دقائقها والتدرب عليها والتفوق فيها قبل أن يواجه قماش الرسم ويلج عالم الإبداع التشكيلى . تلك الأسس التى منحت فنه فيما بعد الرسوخ وأضفت عليه قيمة فنية جادة ورصينة . ومما يدعوا للأسف أن تلك الأسس والبديهيات الفنية قلما يدركها الذين يمارسون فن التصوير ، ونادراً ما يلتفت إليها الدارسون والنقاد، كما لا يلتف إليها جمهور المتذوقين، فهى تستلزم حساسية وخبرة فنية عالية وثقافة بصرية نفتقدها فى الوسط الفنى التشكيلى .
- فعنصر اللون مثلاً وطريقة تركيبه، ومدى كثافته، وقدر عمقه، ودرجة شفافيته، واستخدام طبقاته المتعددة التى تمنح الثراء للعمل، والإنتقال بمهارة ما بين درجات النور والعتمة، وأسلوب التحليل واختصار الشكل، واستخدام الخطوط التى تتأرجح ما بين القوة والعنف أو الرقة والعذوبة ولمسات الفرشاة التى تضعها أصابع مدربة قادرة على العزف وملء المساحات اللونية بمهارة وحذق . كل تلك ملامح الأسلوب الفنى لإبراهيم الدسوقى، ذلك الأسلوب الذى ينمو بهدوء وبشكل طبيعى متدرج بعيداً على الإفتعال والزيف . فهو يوظف قدراته الأكاديمية فى نقل الواقع بأسلوب مختلف، فى نفس الوقت الذى يضع فيه يده على معالم ذاتية يقوم بتخليقها وتأكيدها من خلال تجارب متواصلة. وهو على الرغم من اعتماده على أشكال الواقع مجافياً عالم الخيال والفانتازيا إلا أنه فى تناوله ومعالجته لأشكاله الواقعية يضفى عليها تعبيراً متميزاً تدركه الروح ولا تخطئه العين ، وهو يتوصل إلى ذلك بالهدوء والسكينة التى يمنحها لأشكاله، وبالدرجات اللونية المتآلفة والتى يسيطر عليها، فتشيع فى أرجاء لوحاته جواً من الصمت الداعى للتأمل متسامياً بها فوق النظرة الواقعية المحدودة .
- تلك معالم أساسية فى تجربة الدسوقى الذى يتناول الواقع فى ثوب جديد، ولن تجد لهذه التجربة مثيلا فى تجارب الفنانين الآخرين فهى حصيلة خبرته الذاتية وكفاحه من أجل تجسيدها مستقلة ومختلفة، وهى بتلك الخصوصية التى تميزها تعتبر إضافة جادة وإثراء للتجارب والرؤى الفنية الأصيلة المطروحة على ساحة الإبداع الفنى المصرى المعاصر .
د . صبرى منصور
أغسطس 2002
الحقيقة فى منتهاها بين الواقع.. والخيال
- من الواجب التمييز بين الأشكال الزائفة ذات النزعة الجمالية السطحية.. وبين الأشكال الأصلية النادرة التى تضيف أشكال إبداعية جديدة للوجود حتى صار من الصعب على الكثيرين التمييز بين الشكلين .. لامتلاء الساحة الفنية عن آخرها هنا والخارج، بالعديد من الأعمال السطحية الغير ناضجة أو المحاكية بصورة ضحلة للاتجاهات والأساليب المتزايدة فى أواخر القرن العشرين .
- وصف أفلاطون الفنانين الحقيقيين بأنهم أولئك الذين ينشئون حقيقة جديدة لم تحدث من قبل .. واستطيع القول .. هؤلاء الذين يوسعون الإدراك والوعى الإنسانى. وبالنسبة للفنانين التشكيليين تعتبر إبداعاتهم هى أسمى ظهور جوهرى ، أصيل، منجز، لتحقيق وجودهم فى الحياة .
- فإذا نظرنا إلى تاريخ الفن عبر العصور، نجد هناك خلافاً وصراعاً مستمراً بين فن التصوير التقريرى أو الواقعى والتشخيصى.. وفن التصوير الإيهامى التخيلى أو الرومانسى .. مع أنهما يسيران جنباً إلى جنب بشكل متواز، هذا له فلسفته وأساتذته ونقاده ومريديه .. وذاك له بالمثل أيضاً .
- وبالرغم من سيادة فن التصوير الرومانسى التخيلى على التشخيصية الواقعية منذ حلول الحداثة فى أواخر القرن التاسع عشر.. لم يستطع أى اتجاه أو أسلوب تخيلى معين السيطرة مدة طويلة على الأذهان كما كان الحال فى أوائل القرن العشرين، حيث ظهرت الاتجاهات والأساليب لتتبع بعضها بعضاً كالأمواج المتلاطمة والدوافع المتصارعة.. والتقاليد الاختيارية البديلة الحامية مع الاتقاد المطرد والإيمان الراسخ .
- إلا أننا نرى منذ أربعينيات القرن العشرين ، الفنان البريطانى فرانسيس بيكون Francis Bacon عام ( 1909 ـ 1992) قد حافظ على طموحه برسوخ وثبات فى إبداع شخوص واقعية مبتكرة بأجساد واضحة بذاتها من غير حاجة إلى برهان، مفعمة بالنشاط كى تظهر منطلقة.. والتى فسرها بعض النقاد بأنها نتيجة نظامه العصبى القلق والغير مستقر . وكانت صور بيكون لها تأثير شخصى جدير بالذكر على بعض الفنانين فى بريطانيا من بينهم الفنان ليون كوسوف Leon kossoff عام ( 1926- ) والفنانين الألمانيين الأصل بريطانيا الجنسية لوسيان فرويد Lucian freud عام ( 1922- ) وفرانك آورباخ Frank Auerbach عام (1931- ) لنرى كل فنان منهما يمتلك ثروة فيزيائية
- من فن التصوير فى تجسيد الموضوع وتحقيقه بشكل مباشر، ومغاير للكائن البشرى المرسوم من الواقع فى أحوال كثيرة.. هؤلاء الفنانون أطلق عليهم إبراهيم الدسوقى فى رسالته للماجستير .. مدرسة لندن .
- وكان للناقد ومؤرخ الفن ارفينج ساندلر Irving Sandler صاحب مصطلح (الإدراك الحسى للواقعية) Perceptual realism أهمية كبيرة فى تأكيد دور هؤلاء الفنانين التشخيصيين والحث على دراسة مصورين واقعيين فى بلدان أخرى.. اضرب المثل بالفنان الأمريكى فيليب بيرلشتين Philip Pearlstein عام (1924) المتميز بوضوح أشكاله ودقة التفاصيل .. وبالتس Baltus عام ( 1908 ـ 2001) الفرنسى الجنسية الرومانى الأصل المتميز بتصويره للمراهقات .. وكان الجو العام لموضوعاته متوافقاً مع الفن الراديكالى الذى يحدث تغييرات متطرفة فى الفكر والعادات السائدة .. والفنانة البرتغالية المولد بولا ريجو Paula Rego عام (1935) البريطانية الجنسية.. والتى تتمتع شخوصها بالفتنة والسحر بالرغم من التشاؤم .. والقوة الغالبة على أعمالها التى تنقل المشاهد إلى عالم سرمدى يعيد التوق إلى الماضى .
- وفى النصف الثانى من القرن العشرين نشأت العديد من الإتجاهات الواقعية من أهمها ( الواقعية المثاليةSuper Realism) أو( الواقعية المفرطةHyper Realism) و(الواقعية الفوتوغرافية Photo Realism) و(الواقعية الجدلية Polemical Realism) والعودة للماضى و( الواقعية القبيحةUgly Realism) و( فن الكامب Camp Art).
- واعتقد أن بعض هذه الاتجاهات الواقعية فى الفن سوف تستمر طويلاً فى القرن الحادى والعشرين .. كما ستدخل عليها تعديلات حسب تقاليد المجتمع الجديد الاقتصادية والفكرية والاجتماعية.. كل ذلك بغرض لأم الثغرة التى أحدثها الفن التخيلى فى القرن العشرين.. بين الفن والحياة.. أو الفن الآخر.. والعثور على الواقعية آياً كانت فى الحياة من خلال الفن .
- كان من الضرورى تلك المقدمة حتى نضع أيدينا .. ونتلمس فن إبراهيم الدسوقى الواقعى وانحيازه التام للتشخيصية المؤمن بها والباحث فيها بعمق .. بدليل نيله درجة الماجستير عن بحثه المستفيض فى الواقعية البريطانية ومدرسة لندن .
- ولد إبراهيم وحيداً لأب فنان دارس جدير بالاحترام.. يرسم الواقع من حوله فى صمت دون إلتماس جاه أو ساعياً خلف دعاية كاذبة.. ومن أم لعبت دوراً كبيراً فى مجال الرسم السريع فى الصحافة وبعد التقاعد تفرغت تماماً للتصوير.. كأنهما راهبان فى صومعة الفن . نشأ إبراهيم فى هذه البيئة الفنية، يتعلم الرسم وأجاده قبل أن يخط حرفاً أبجديا ً، تعلق بالأصباغ الموجودة حوله حيث عكف والديه على رعايته وتنمية موهبته منذ طفولته. ولمس أساتذته فى مدرسته الفرنسية ( دى لاسال College De La Salle) بالظاهر، موهبته المبكرة .. ينتظرون ما.
- يخطه ويلونه من لوحات ليعلقونها فى أهم الأماكن بالمدرسة.. وفى الدراسة الثانوية فاز بجائزة مسابقة بنك ( بارى با Paris – bas) الفرنسى السنوية عدة مرات.. هذا بالإضافة إلى دراسته للأدب الفرنسى لمدة ثلاث سنوات متتالية بالمركز الفرنسى بحى المنيرة بالقاهرة .
- وبعد إنتهاء دراسته الثانوية عام 1987إلتحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة .. حيث تفوق فيها طوال سنوات دراسته الخمس ليتخرج ويحصل على البكالوريوس بأعلى الدرجات ويصبح معيداً فى قسم التصوير عن جدارة .. ولكن العمل الروتينى وقواعده الصارمة لم تسمح له بالوقت الكافى للإبداع فطلب التفرغ الفنى عام 2000 من وزارة الثقافة ليقوم بالاندفاع النشط نحو إنجاز العديد من اللوحات الفنية .
- ولنا أن نتصور الوقت الطويل التى تمكث فيه لوحة واحدة بالألوان الزيتية مساحتها 100× 100 سم بين يديه .. حوالى ثلاثون يوماً غير دراسته لها بألوان الباستيل عدة مرات حتى يستقر على أفضلها فى نظره ليبدأ فى إختيار المقاس المناسب الغير تقليدى .. مستخدماً أرقى أنواع التوال .. وأنقى الألوان الزيتية وأكثرها قيمة فنية حتى تستمر لوحاته أكثر نضارة وازدهاراً ، أطول مدة ممكنة.. ويبقى بريقاً ناصعاً دون تأثير العوامل الجوية والزمن الذان يكسوان اللوحات الرديئة الألوان بغمامة من الدكانة والأكسدة مع طمس للتفاصيل .
- وفى تفرغه يعمل طوال الإسبوع من الصباح الباكر حتى المساء ما عدا أيام الجمعة.. لنراه وهو منكب على لوحاته وأمامه النموذج أو الموديل التى يختار لها الثياب والتصميم واللون الملائم لموضوعه حتى يكتمل العمل.. لا يبخل عليه بالخامة أو الوقت الطويل إذا لزم الأمر.
- وإذا رغب فى رسم الطبيعة الصامتة من وقت لآخر يختار الموضوع ويبحث عن مفرداته حتى ولو كلفه الأمر الذهاب إلى أقصى مصر يبحث وينقب .. ففى لوحته (الأبستر) ذهب إلى الأقصر ليختار الأوانى والقدور المصنوعة من حجارة الأبستر.. الملائمة بألوانها وأشكالها ومكوناتها الطبيعية من تجزيعات مختلفة ليرسمها متجمعة مع بعضها من زوايا مختلفة فى لوحات طويلة ومربعة .
- أننا نستطيع الحكم على هذه الإبداعات من واقع صورة عن الأوانى الألابستر .. الملائمة لشتى الاستعمالات بين الحياة والموت، هذه الأوانى التى أنجزها المصرى القديم بأنواعها المتعددة وبأشكالها الطقسية.. لتذكرنا بالقدور (الكانوبية) التى كانت تحفظ فيها أحشاء المومياوات بعد التحنيط .
- احتفى بإبراهيم الدسوقى كفنان محترف عندما عرضت لوحاته على الجمهور عام 1992 فى معرض الربيع الحادى والعشرين الخاص بجمعية خريجى الفنون الجميلة.. ليعرض بعد ذلك فى صالون الشباب وصالون الخريف للقطع الصغيرة والمعرض القومى وبعض المعارض الأخرى ويفوز ببعض الجوائز التى تؤكد على اتجاهه والاستمرار فيه دون انحراف .
- وفى مشواره الفنى درس أسس التصميم ومفردات التكوين.. والظل والنور ودرجات الألوان الضوئية والظلية والملمس ودسامة اللون .. والتكامل والتوازن .. والترديد والنسب.. وتطبيقها بنفس التأثيرات التى سبق إدراكها من أجل الأغراض الانفعالية والذهنية أو كليهما معاً .
- وطبق إبراهيم فى لوحاته المشاعر الحسية.. دون التفكير فيما يقوم بإنجازه لتصير نماذجه مستوعبة تماماً فى ذهنه .. وأصبحت يداه تتجاوب أوتوماتيكياً مع النطق اللاشعورى كمؤلف الموسيقى المندفع إلى فكرة موسيقية معينة ، مع نغم طبيعى منسجم .. لنراه يندفع إلى خلق تكوينات من الخطوط والألوان والأشكال والملمس وغيرها ، كما يفكر فى معانى تصميماته بعقله وحسه معا ً.
- فكل لوحة ينجزها إبراهيم تضرب مثلاً على تقدمه وتطوره المستمر وخصوصاً فى تشكيل لوحاته التشخيصية، فهو يقوم بوضع ألوانه، وفى بعض الأحيان يكشطها أو يحكها .. وبعد ذلك يعيد إنشائها من جديد حتى تتوازى وتتماثل وتنسجم فى الشكل العام ونسيج اللوحة ، وتركيبها وبنيتها ودسامتها ، ودرجات الضوء والظل ، وبإحساسه الرهيف بالموضوع الذى يقدمه إلينا .
- لنشاهد فى البورتريه الذى أنجزه لوالدته الفنانة عطيات سيد عام 1995 وهى تقرأ، تأكيد الفنان على كل الخطوط باللوحة وعلى كل المساحات اللونية المضيئة فى الأمام والداكنة فى الخلف مع تميز الشعر بالضوء الفضى .. لتخرج اللوحة أكثر واقعية بتفاصيلها الدقيقة الخاصة بالوجه والكتاب الممسوك بيديها، أما الشعر فقد إهتم به بشكل خاص مما جعلنا نشعر بكل خصلة فى شعرها وكل خلجة فى ملامحها.
- ولكنه عند تصوير البورتريه الخاص بزوجته الفنانة هند عدنان 1999 والذى عرض فى المعرض القومى السادس والعشرين تحت عنوان ( فى المصيف) . نجده قد اختزل الكثير من الألوان ومال إلى الألوان الهادئة بدرجاتها المختلفة المتقاربة بمقدرة عالية.. وهى جالسة بإستقامة على أحد المقاعد الحجرية المميزة لقرية حسن فتحى، لدرجة أن تكوين اللوحة وخطوطها قد مالت إلى البساطة المتناهية مع تأكيده على الملامح ولون البشرة الملفوح بشمس الإسكندرية وكأنها إحدى ملكات الفراعنة .. وقد تخلى عن الظلال سوى ما رسمه فى ثنايات الرداء وتضاريس الحجارة الطبيعية .
- وفى لوحة (الحجاب) التى أنجزها عام 2001، نراه استن لنفسه أسلوباً جديداً مختلفا ً. فكان للإحساس والمشاعر الداخلية الدور الرئيسى . وبالرغم من إظهاره لملامح الموديل بجدارة ، إلا أن العامل النفسى كان الإيحاء التعبيرى للعمل متمثلاً فى إرتدائها للإيشارب الذى أظهر جزءاً من شعرها الأسود الداكن .. وفى نظرتها المسبلة إلى أسفل .. وفى الرداء الأبيض الملامس لجسدها الذى لا يظهر منه سوى مثلث صغير فوق صدرها ومثلث آخر بالقرب من وسطها.. بينما حركة يدها اليمنى المقبوضه بشدة على لا شئ سوى الإحساس القوى بالكبت .. وهو ما أراد الفنان التعبير عنه فى الصورة .
- كما وضع ألوانه فى لوحة (الحجاب) بدسامة وكثافة وتباين صريح نوعاً ما، فى النموذج الإنسانى بألوانه المائلة للدرجات البنفسجية القاتمة حتى يظهر أطراف الجسد والبشرة فى تناغم مع الرداء . واللون الأزرق الداكن وأضوائه الداخلية فى الأريكة الجالسة عليها.. غير القطع الأفقى الصريح من أعلى وأسفل اللوحة .. وتأكيده للظلال الساقطة بفعل إضاءة مرسمه الثابتة.
- وفى مغامرة بعيداً عن المرسم والإضاءة الموجهة ، استطاع إبراهيم الدسوقى تسجيل أهرامات الجيزة على صفحات تواله الأبيض ، مقترباً جدا (Close -up) لأحد جوانب هرم خوفو ، واضعاً عدداً من العلامات والإشارات التى أصبحت رموزاً لأشكال الحجارة الضخمة المتراصة بحنكة وعناية بجانب ، وفوق بعضها، مشيراً إلى المسافة الطويلة التى تزيد عن خمسة آلاف سنة من عمر بناء الهرم ؛ موحياً بفعل الزمن بتضاريس كل جزئية من تلك الحجارة، وما بينها من تاريخ، مستحضراً روح العصر القديم، وذلك بتجسيد وتحديد للمساحات ذات الأشكال الطاغية بألوانها المتداخلة والتى تؤكد صلابة المشهد ، وقدرته المسيطرة على المشاهد فى العصر الحاضر .
- إن إزدياد وتعاظم أعماله الفنية عن طريق الإضافة والحذف أعطى للوحاته كثافة ودسامة وسمكاً أفضل ، مرادف للأداء ، ومن الممكن أن تكون فى بعض الأحوال .. نوع من المغامرة كما فعل فى لوحاته عن (الجرائد) المكدسة فى أكوام .. والتى لاقت إعجاب كثير من النقاد والفنانين عند عرضها فى المعرض القومى السابع والعشرين .. لبعدها عن النماذج الحية التى يركن إليها ويفضل الإستعانة بها .. لنجد فيها كل ضربة فرشاة محسوبة بدقة ، والتى تستحضر فى ذهنه فعل الإنسان المتناهى من فكر وفن وخبر داخلها وتعبيرها عن السياسة والاقتصاد والأحداث حول الكون .
- من ضمن خصائص إبراهيم الهامة ، الصدق فى التعبير مهما كلفه ذلك من عناء ومشقة .. وفعل الإرادة . يحب الاستغراق أوقات طويلة فى إنجاز لوحاته دون ملل، لذلك تشبه ألوانه الزيتية الخالدة طراوه ولدانة البشرة الإنسانية .. وهكذا نرى لوحاته المتميزة واضحة الشكل ودقيقة فى تفاصيلها ، مضللة للمشاهد فى بعض الأحيان مثل فنانى الواقعية الفوتوغرافية .
- وتأتى إنجازاته الفنية عادة ، من الحافز الباعث للموضوع مباشرة ، أو من الشخوص الإنسانية المداوم على إبداعها .. ففى لوحتيه (مواربة وإلتواء)، نجده تواصل مع الموضوع من خلال الإرتعاشات والذبذبات المصاحبة لكل ضربة فرشاة ، خشنة أو ناعمة، عريضة أو دقيقة، بشعيراتها السمور (Sable Hair) اللينة ؛ والإحساس الطبيعى الملموس والمحسوس للحركة .. كما يأتى السكون والهدوء مع الأضواء المريحة للعين والدافنة لأعضاء جسد مغلف بالثياب الناعمة شبه الشفافة ، والكسرات والطيات التى يبدعها الفنان بحساسية ورقة، وخصوصاً عند استخدام الأبيض المغلف بدرجات الفاتح والغامق التى لا تحصى بفعل الضوء ، وانعكاسات الألوان المصاحبة، وهمس خطوطه، ومساحته البيضاء والشفافة، الغير مرئية للمشاهد، والمشعة بالنور من أدق الأماكن الخفية وراء الجسد وثناياه . وهنا يذكرنى بلوحات الفنان الروسى ( كازمير ماليفتش Kasimir Malevich) عام (1878 – 1935) فى مجموعته عن الأبيض على الأبيض .
- ونرى فى لوحته المستطيلة العملاقة 130×310 سم ( السبوع ) والتى أنجزها بمناسبة ميلاد ابنته عالية ( والمستوحاه من لوحة للدسوقى فهمى عام 1979) ؛ سبع فتيات متشابهات ، يمثلن الربات الحتحورات السبع ، اللائى يقررن مصير الأطفال حديثى الولادة ، حيث تقدم كل ربة دورها الخاص أثناء يوم إلتقائها بالمولود .. ومن هنا جاء لنا نحن المصريون عادة الإحتفال ( بسبوع ) الطفل والسائد حتى الآن فى كل مدينة ونجع .
- لنرى ابراهيم وقد صور فتاة شابة واحدة تلبس رداءً أحمر فى سبعة أوضاع مختلفة ، فى تكوين من أعلى شبيه بالقوس الهندسى المنتظم ، المنحنى إلى أسفل ، والمعبر عن جلال وعظمة الموقف. وقد إستطاع هذا القوس الوهمى جعل عين المشاهد تميل وترتفع حسب حركة أطراف النماذج واتجاهات جلوسها ووقوفها ، وتشكيل شعورها ، لتوظيف الخطوط الرمزية كوسيلة للتعميم ، لتنقل إلينا الحقيقة فى منتهاها .
- وكان للدسوقى فهمى والد الفنان تأثيراً مباشراً فى تكوين إبراهيم ، لاشتغاله بعد تفرغه من كلية الفنون الجميلة – قسم التصوير عام 1963 (بالهيئة المصرية للآثار ، المجلس الأعلى للآثار حالياً ) وولعه الشديد بالمصريات وفنونها مما كان له الفضل على ابنه الذى نشأ بين المخطوطات والكتب والنصوص المصرية القديمة والتى أتاحت له المعرفة الوفيرة والدراسة المستفيضة والبحث فى أسرارها، حتى صارت لوحاته تنبض بنبض التراث العظيم بدون إنفعال أو تصنع .
- ولذلك نجد لوحاته جميعها قد إتسمت بالهوية المصرية الأصيلة، مع الانطلاق للمثالية الواقعية العصرية، وبالتالى ترسخت داخلها الأصالة والمعاصرة بأسلوب حديث ، مع إجادته للفعل المنتهى بأفضل الأشكال وأنضجها، وتطورها بقدر ما تعمق داخلها . وبما عرف عنه بقوة الإرادة، والعزيمة والإصرار .
- ففى كل لوحة يخطها بالألوان الزيتية أو بألوان الباستيل، يتسم بالجديد دائماً. والمستقبل القريب سوف يشهد مزيد من توطيد لمقدرته ولموهبته الفنية فى حقل الفنون الجميلة باتجاهه الواقعى المثالى المتميز الذى يتساوى مع كبار فنانى الواقعية.
الناقد / محمد حمزة