حسنى محمد البنانى
حسنى البنّانى والانطباعية المصرية
- كان المصور يوسف كامل - شيخ الاتجاهات الانطباعى فى التصوير المصرى منذ العشرينات - يردد دائما: لقد ولدت أنطباعيا وسوف أظل انطباعيا!
- أما تلميذه النجيب وزوج أبنته المصور حسنى البنانى، الذى رحل عن عالمنا أوائل يونيو 1988 عن 77 عاما، فقد حققها عمليا ولو لم يقلها بالألفاظ ... لقد عاش ومات وفيا لشيخه واستاذه بمدرسة الفنون الجميلة العليا يوسف كامل بعد التحاقه بها عام 1937 بعامين، وقت أن عاد `كامل` من بعثته فى روما للتدريس بالقاهرة عام 1929. ولم يتأثر البنانى من بين تراث الانطباعية إلا بأسلوب أستاذة.
- وهو أسلوب ارتبط ارتباطا حميما بالموضوع الشعبى، وبالمكان والضوء والظلال، من خلال الواقع المرئى للطبيعة المصرية والحياة اليومية فى المناطق الريفية والشعبية. فقدم دائما أجمل ما فيها وأبسط ما فيها بعيداً عن تعقيدات الشكل، وتأملات العقل، وفلسفات الفن، وترك لنا صورا غنائية لا تنسى لسوق القرية وأضرحة الأولياء، والعمل فى الحقل والاسرة الريفية، تنصح جميعا بالروح المصرية الصحيحة، ولا تأخذ من الانطباعية الأوربية إلا طزاجة اللون، وهشاشة الكتلة، وطلاقة اللمسات.
- وإذا كانت الانطباعية المصرية قد ارتبطت دائما باسم يوسف كامل، فلم يكن فى الحقيقة فارسها الوحيد، بل يمكن القول أن معظم أبناء الجيل الأول من الرواد قد بدأوا رحلتهم الابداعية انطباعيين، ولهم فى الانطباعية أساليب واجتهادات قيمة، مثل محمد ناجى ومحمود سعيد وراغب عياد وأحمد صبرى ومحمد حسن وسيف وأدهم وانلى ( فيما بعد ... لكن كلا منهم قد تجاوزها إلى مرحلة أو مراحل أخرى. أما يوسف كامل فلعله الوحيد من جيل الرواد الذى اعتنق الانطباعية كعقيدة لا تتزعزع ولا تتغير، واستلم الراية من بعده على هذا الطريق - عبر الجيلين الثانى والثالث - بضعة فنانين، كل بأسلوبه الخاص، لعل أبرزهم شفيق رزق وزينب عبده (فى التصوير بالألوان المائية) وكامل مصطفى وحسنى البنانى وصبرى راغب وموريس فريد (فى الألوان الزيتية) ومحمد صبرى (فى ألوان الطباشير).
- ومن الحق أن نقول إن انطباعية يوسف كامل كانت أبعد ما تكون عن أسس المدرسة التى سميت فى فرنسا بهذا الاسم منذ أواخر القرن الماضى، على يد كلود مونيه وسيزلى وسورا وغيرهم، بتحليلها للضوء فى الطبيعة إلى الألوان الاساسية.
- واستفادتها بقانون الانعكاس الضوئى، واعتبارها المشهد الطبيعى ما هو إلا `شكل` قابل للتحليل وإعادة البناء مع تغيرات هذا الشكل فى ساعات النهار المتعاقبة، وعدم اعتدادها بثقل الأجرام وتجسيدها وتكثيف ظلالها، لأن الأهم من ذلك هو الاستجابة الفورية لتجليات وتحولات الضوء واللون، وخلق نسيج عفوى طازج متلألئ، لا يكترث بالموضوع أو المضمون فى العمل الفنى، بل يهمه الإبهار البصرى والمتعة الحسية...
- ولا عجب أن صارت الانطباعية هى المعطف الذى خرجت منه أغلب المدارس الشكلية فى الفن الحديث، مثل التجريدية والتكعيبية و `الأوب آرث` أو الفن الضوئى.
- أما يوسف كامل وعياد فقد تتلمذ فى مدرسة الانطباعية الايطالية على يد` أنطونيو كالكانيادور` و `أمبرتو كرومالدى`. وهى نوع الأكاديمية المهجنة بلون طازج وضوء ساطع ولمسة مرتعشة وعفوية طليقة.. وبهذه الميول التقى `كامل ` بالطبيعة المصرية - بعد عودته من البعثة 1929- فى الأحياء الشعبية والضواحى الريفية، وقد استطاع بذلك الأسلوب المتألق بضوء الشمس الساطعة وظلال الأجسام الكثيفة المشبعة بما حولها من ألوان، كما استطاع - بما يختزنه من أصالة ابن حى باب الشعرية وبما يحمله من تقاليد عريقة - أن يفلت من أكاديمية فن المستشرقين.
- وجاء البنانى ليسير على درب استاذه، بأسلوب أكثر عامية إن جاز التعبير، لكنه ليس بنفس القدر من خصوصية البيئة والبعد عن الطابع الاستشراقى.. إن البنانى - بطبيعته ومنشئه كأحد أبناء الطبقات الشعبية بحى باب الشعرية بالقاهرة - كان نموذجا لابن البلد يحكمه منطق الفطرة والحدس والنزعة العملية والتعبير العفوى دون انشغال بالقضايا والأسئلة الصعبة.. بالرغم من انه درس الفن بايطاليا بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ومن أنه عمل بها أستاذا لمدة أربعين عاما، فإنه لم يتعامل بجدية مع المدارس الفنية الحديثة ولم تربطه - فيما أعلم- رابطة بأوساط المثقفين أو رجال الفكر، على عكس أبناء الجيل الذى سبقه، بل كان يجد نفسه دائما وسط زحام البسطاء، فلم يمارس الشعور بالوحدة.
- ومن ثم لم يعرف التأمل أو الهمس أو الغموض أو الإيجاز فى فنه، بل كان جهير النبرة، شغوفا بالتفاصيل، تموج لوحاته بزحام وضجيج، موضوعه هو الحياة اليومية المتدفقة، فى القرية أو القاهرة القديمة، على شواطئ الترع أو فى أحياء الأزهر والغورية والجمالية، له عين لاقطة لملامح الوجوه والأماكن، خاصة العمارة الاسلامية أو المشربيات العربية، والأزياء الشعبية بين جلاليب أولاد البلد و `الملاية اللف` لبنات البلد.
- ومثلما كان `رينوار`، كان البنانى شديد الإحساس بجسم المرأة وبشرتها الخمرية التى تضج تحتها الدماء، عبر عنها فى العديد من لوحاتها دون أن يعمد إلى تعريتها، وكان يرى فى المرأة الشعبية منتهى الإثارة والحيوية، وكان ما تخفيه من جسدها - بملاءتها اللف المحبوكة- وما تخفيه من وجهها - بالحجاب أو اليشمك- أكثر إغراء من الأجزاء المكشوفة، وقد تفنن فى اختفاء السحر على نظرات عينيها الجارحة اللحظ، سواء فى اتساعهما الجرئ أو اسبالهما المتظاهر بالخفر والحياء، ولم يكن يعنيه فى ذلك أن يحاكى الواقع، بل أن يضفى عليه إحساسه الداخلى بالتفاؤل والإقبال على الحياة، وأن يدعو الجميع إلى مشاركته نفس الاحساس، ولو أدى إلى قيامه بوضع الحلوى والبريق على سطح هذا الواقع، ليبدو فى ثوب مثالى كما يحلم به... فهكذا كان يرى دور الفن!
- كان أستاذا لى بكلية الفنون الجميلة، وكنت يوما من عام 1961 أرسم دراسة ` لموديل` وسط زملائى بالسنة قبل النهائية، وكنت أحاول تأكيد طابع السكون المقهور فى الجسم المترهل الأسمر، مع البؤس البادى على ملامح المرأة الفقيرة الصابرة، التى اضطرت لقبول هذا العمل لقاء قروش زهيدة، وقد أستدعى ذلك استخدامى للألوان والخطوط الداكنة والظلال الثقيلة، فى وضع أمتثال وضياع للمرأة.. وقرب انتهائى من اللوحة -بعد أسبوع من بدايتها- جاء الأستاذ البنانى ليتفقد أعمالنا.. وحين وقف أمام لوحتى يحدثنى عن ملمس الجسم البشرى وعن الإحساس بالدماء والانوثة فيه.. قلت له إن هذه السيدة لا تملك دماء أو أنوثة.. فقال: إنهما موجودان تحت الجلد، وعليك أن تكشفهما.. هكذا.. وتناول - دون تردد- الفرشاه وبالتة الألوان، وبلمسات قليلة مقتدرة اكتسى جسم المرأة فى لوحتى بألوان دافئة مختلطة بألوان خضراء وزرقاء، مع إضاءة ساطعة، وسرعان ما جرت فيه الدماء واستدارت أعضاؤه وتفجرت بالأنوثة.... وبقدر ما أصبح جسما جميلا مبهرا، فقد أصبح لا يمت بصلة إلى المرأة الشاحبة السمرة التى تعانى من الانيميا مجللة بالمهانة وسط أنظار الرجال والفتيات من الطلبة...
- وشعرت بأن اللوحة أمامى أصبحت مثل `تورته` رخيصة مبهرجة الألوان.. مما ألغى بعنف إحساسى الذى حاولت التعبير عنه فى اللوحة.. ووجدتنى -دون أن أدرى- أتناول الفرشاة وأطمس فى عصبية هوجاء كل ما أضافه الأستاذ، وأغادر الأتيلية وسط الصمت المذهول.
- توقعت - كما توقع الجميع - إحالتى لمجلس التأديب، أو على الأقل رسوبى فى مادة الأستاذ البنانى.. وإذا به - بعد أن أعدت لوحتى إلى ما كانت عليه تقريبا قبل تدخله فيها - يستدعينى إلى مكتب الأستاذة، لأفاجأ بأن لوحتى قد منحت تسعين درجة من مائه، ويقول لى : إياك أن تظن أننى اقتنعت بأسلوبك، لقد انسحبت من لجنه الأستاذة عند التحكيم على مشروعك، حتى لا تظن أنى خصم لك، وحتى أثبت لك أنك حر فى اختيارك أسلوبك الخاص.
- وبقدر ما شعرت ساعتها بالإكبار لهذا الاستاذ، شعرت بمدى حماقتى لجرح هيبته بتلك الطريقة الخشنة، لكننا - لحسن الحظ - كسبنا بعد ذلك علاقة إنسانية عميقة واحتراما متبادلا، بالرغم من اختلاف وجهات النظر.
- وكان للبنانى كلف خاص برسم الحيوانات، من ماعز وجاموس وأبقار وحمير، إلى جانب الطيور الداجنه، وهى ترعى بألفة ومودة وتسعى جنبا إلى جنب مع الانسان وتشاركه كوخه، أو وهى تتجمع أمام الدور الطينية الخفيضة المجللة بأكوام الحطب، فتضفى على الحياة الريفية تلك السكينة والوداعة والرضا، خاصة وأنه كان يغلل لوحاته بغلالة زرقاء مائلة إلى لون البنفسج ... الأمر الذى عرضه للاتهام بأنه فنان سياحى يرسم على طريقة أغنية ` ما أحلاها عيشة الفلاح` .. والحقيقة أنه فنان يكره القبح فى الواقع ويسعى إلى تجميله بمفهومه المثالى مستعينا بخياله!
- ولأنه كان يؤمن - بفطرته السليمة - بأن الفن للحياة ويجب أن يوجد حيثما توجد الحاجة إليه، ولأنه عرف الوسيله لتوظيف موهبته الانطباعية فى هذا الاتجاه، فقد توجه إلى مجالات للرسم خارج لوحة البرواز والصالون، إلى التصوير الجدارى فى الأماكن الجماهرية... لقد ارتبط اسمه بفترة المد الجمالى فى الستينات وأوائل السبعينات، حين كانت الدولة تحرص على تزيين مبانى المنشآت العامة بأعمال الفنانين فى مساحات وأحجام هائلة، بألوان `الفريسك` على سطوح الملاط المكون من الجير والرمل، كما كان التصوير الجدارى فى عصر النهضة الأوروبية... وهكذا رسم البنانى الجدران الرئيسية لعدة محطات للسكك الحديدية والمترو، مثل بورسعيد وحلوان وسنترال ميدان الأوبرا بالقاهرة ومجمع المحاكم بشارع الجلاء بالقاهرة وكان ذلك مدعاه لأن يتجه اتجاها تاريخيا قوميا فى موضوعاته، حيث استوحى بطولات التاريخ المصرى والعربى وروح النضال فيه، كما استوحى فى لوحة سنترال ميدان الأوبرا عصر العلم والاتصالات التكنولوجية الحديثة، واتسم أسلوبه بالصرحية والبنائية الراسخة التى كانت تفتقدها أعماله التزيينيه الصغيرة، وتخلص إلى حد كبير من الوصفية المباشرة والأكاديمية الجامدة... وهنا صار الاهتمام عنده منصبا على التكوين وترابطه العضوى، قبل إبهار الألوان ومهارة التفاصيل.
- ولا شك أن تلك الأعمال الجدارية الضخمة بمختلف أنحاء مصر للبنانى وغيره من فنانى جيله، مثل عبد العزيزدرويش وأمين صبح ومحمد عزيز وكامل مصطفى وجمال السجينى وصلاح عبد الكريم ( وكلهم رحلوا عن عالمنا .. تلك الأعمال كانت كفيلة - فى حالة استمرارها كتيار - بإرساء حجر الأساس لمدرسة قومية جديدة فى الفن المصرى الحديث، وكانت كفيلة أيضا بالمساهمة فى خلق قاعدة ذوقية للفن بين الجماهير، وكسب قطاعات واسعة من المواطنين العاديين إلى هذا المجال، نتيجة للاتصال الحميم بين هذه اللوحات وبين حركة الناس اليومية، ونتيجة لتعبيرها عن نبض حياتهم واهتماماتهم، مما كان سيدعو الفنانين إلى أن تكون أبحاثهم الأسلوبية فى لغة الشكل مرتبطة باستجابات الناس، ساعية للارتقاء بها تدريجيا نحو الحداثة، على عكس ما هو قائم حاليا، حيث تتوجه الحركة الفنية إلى الجماهير توجها فوقيا، من منطق الاتجاهات الفنية الحديثة والمغتربة.. فتنتهى الصلة بينهم إلى القطيعة التامة... وربما كانت مدرسة التصوير المكسيكية هى الوجه الايجابى لتوجه الفن إلى الجماهير الأمية جماليا.. فقد حققت مع الزمن نجاحات مرموقة فى اتجاه الحداثة، مرتبطة بنمو الوعى الجمالى لدى الجماهير...
- لكن قوة الدفع لهذه التجربة فى مصر تضاءلت بعد هزيمة 1967، ثم توقفت تماما فى أوائل السبعينات ... وكم أتمنى أن يتم تسجيل كل الجداريات المرسومة أو المنحوتة فى تلك الآونة سينمائيا وفوتوغرافيا، لتظل وثيقة هامه للأجيال القادمة، ودعوة لتجددها وانتشارها، خاصة وأن أكثرها يتعرضن للتلف والإزالة والتآكل دون أية محاولة للترميم والصيانة.
- وعلى نفس طريق توظيف الفن لخدمة الانتشار الجماهيرى، سخر البنانى جانبا هاما من طاقته وخبرته الفنية فى رسم المناظر للأفلام السينمائية، وأقام أحياء شعبية وأثرية كاملة داخل الأستديوهات، ساعدته فى ذلك حاسته الانطباعية وسرعته الكبيرة فى الانجاز، ويعترف أصحاب صناعة السينما - بلا شك- بأن الكثير من الأفلام منذ الخمسينات حتى السبعينات يدين لحسنى البنانى بمحاولة التعبير عن طابع البيئة المصرية.
- وبعد...
- فإن رحيل الفنان حسنى البنانى يأتى ضمن `سباعية` موت الفنانين التشكيليين خلال عام واحد، بدأت برحيل صلاح عبد الكريم، ثم سامى على حسن، وإنجى أفلاطون، وسعد عبد الوهاب، وشفيق رزق... وأخيرا المثال محمد أمين عاصم ..
فيا أيها الموت .. رفقا بنا!
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة : إبداع (العدد 10) أكتوبر 1989
33 عامًا على رحيل الفنان حسني البناني.. الفن للجميع والتأثيرية بمذاق مصرى
- فى يناير ولد الفنان التشكيلى حسنى البنانى وفى يناير رحل عن عالمنا وبينهما 76 عامًا عاشها أمضى منها نصف قرن فى الإبداع المتواصل فهو مولود فى القاهرة فى السابع عشر من يناير 1912 وتوفى يوم 25 يناير 1988 وقد وُلد لأسرة متوسطة.
- وكان الإبداع لديه رديف للحياة التى كان شغوفًا بمظاهرها وجمالياتها، وقد نقل هذا الإحساس إلى لوحاته وإلى تلامذته ليأخذنا إلى روعة الريف؛ حيث الأفق الفسيح للمنظر فى المطرية وعرب الحصن والبراجيل، حيث تتزين الحقول والأشجار بألوانها وأزهارها وتصدح الطيور تحت أشعة الشمس. فى الأسواق الريفية أحب البنانى رسم صور الفلاحات أو لابسات الملاءة اللف من بنات حوارى القاهرة واليوم يكون قد مر 33 عامًا على رحيل الفنان حسنى البنانى.
- درس حسنى البنانى فى الكلية الملكية للفنون الجميلة بالقاهرة وحصل على شهادة إتمام الدراسة سنة 1937 قسم التصوير، وفى نفس العام حصل على الشهادة الأهلية لتدريس الرسم وكان ترتيبه الأول ثم سافر فى بعثة الى إيطاليا لمدة ثلاث سنوات حصل فيها على ليسانس أكاديمية الفنون الجميلة بروما سنة 1940 وانضم إلى هيئة التدريس بالكلية سنة 1951 فى القسم الحر ثم أصبح أستاذا بقسم التصوير تحت رئاسة الفنان حسين بيكار ليحل محل الفنان كامل مصطفى الذى عين أستاذًا بفنون الإسكندرية سنة 1959 وبعد خروج بيكار إلى الصحافة خلفه أمين صبح، وقد عُيِّن البنانى رئيسًا لقسم التصوير خلفًا لأمين صبح حتى خروجه للمعاش سنة 1972 وقد استمر بالكلية حتى وفاته عام 1988.
- وحسنى البنانى هو والد الفنان التشكيلى سامح البنانى أستاذ التصوير بكلية الفنون الجميلة الذى فارق الحياة قبل أيام عن عُمر يُناهز الخامسة والسبعين إثر إصابته بفيروس كورونا، وكان سامح خير خلف لخير سلف فقد ورث عن أبيه الرائد نفس اتجاهه ومذاقه ومدرسته واهتمامه بالمناطق الريفية أو المناطق التى تعكس الهوية المصرية مثل الحُسين والقاهرة الفاطمية، فضلًا عن الحقول والمناظر الطبيعية الأخرى.
- كانت هناك قناعة رئيسية لدى الفنان حسنى البنانى وهى ضرورة وصول الفن لعموم المتلقين نخبة وعامة خاصة أنه يعبر عن عموم المصريين لاسيما أننا نقف فى كثير من أعماله على الحياة الريفية والمناظر الطبيعية فى الريف، حتى إنه أكد على هذه القناعة بشكل صريح وبسيط يخلو من تقعير وتنظير حين قال : `كيف نترك الناس يعلقون مناظر منسوخة عن السويسريين والإنجليز ولماذا لا نقدم لهم المنظر المصرى الجميل؟` لكن البنانى بلا شك لم يعن بهذا أن التشكيل يكون بديلا عن التصوير فقد كان يعبر عن هذه القناعة قولًا ورسمًا وإبداعًا فكان بمنأى عن التسجيل المثالى أو الواقعى أو الطبيعى للمنظر، ولعل هذا الاتجاه ما جعل البنانى يميل إلى المدرسة التأثيرية كما يفسر انتسابه لهذه المدرسة قربه الشديد من يوسف كامل وتوافق أسلوبه مع منطق اللوحة عنده والذى يعنى عدم الحذلقة والإقلال من الاهتمام بما يسمى الهندسة البصرية للوحة والأشكال، كما أن هناك سببًا آخر وهو جاذبية التأثيرية الضوئية لعامة المتذوقين أو راغبى الاقتناء والتأثيرية الضوئية هى مزيج من التصرف الأكاديمى البسيط مع إسقاط الضوء على الشكل وعدم الاهتمام بالكتلة أو هندسية التكوين وقد تضيع الكتلة أو تضعف أمام صخب اللمسات الجريئة.
- هناك سببان وراء اتجاه حسنى البنانى للمدرسة التأثيرية أولهما اقترابه الشديد من يوسف كامل وتوافق أسلوبه مع منطق اللوحة عنده والذى يعنى عدم الحذلقة والإقلال من الاهتمام بما يسمى الهندسة البصرية للوحة والأشكال.
- والسبب الثانى جاذبية التأثيرية الضوئية لعامة المتذوقين أو راغبى الاقتناء والتأثيرية الضوئية هى مزيج من التصرف الأكاديمى البسيط مع إسقاط الضوء على الشكل وعدم الاهتمام بالكتلة أو هندسة التكوين وقد تضيع الكتلة أو تضعف أمام صخب اللمسات الجريئة.
- الحرية التى كان يتمتع بها حسنى البنانى تلك الحرية هى ذاتها التى جعلت فرشاته تمرح بألوانها القوية الجذابة الصداحة لتمنحنا بعضًا من الإمتاع الشعبى المتناسب مع طبيعة المنظر البالستورالى وتنقل لنا أيضا عشوائية الطبيعة فى عناصر الريف المصرى بلمسات جريئة متراقصة، وصور البنانى كثيرا من الخلفيات والمناظر للسينما ولبعض الأفلام التى كان أبطالها رسامين، كما رسم عددا كبيرا من اللوحات الحائطية بالفرسك مثل لوحة محطة حلوان التى تعرضت منذ عدة سنوات للتدمير الشديد ولوحة محطة سكة حديد بورسعيد ومجمع المحاكم وأربع لوحات بمدخل سنترال الأوبرا بالعتبة ولو حتى مبنى المنصة بالاستاد الرياضى واللوحة الزيتية الضخمة فى مبنى قناة السويس ببور سعيد بالإضافة إلى مناظره الجميلة فى مبنى جريدة الأهرام وعندما رحل حسنى البنانى عام 1988 لم يترك فى منزله سوى بضع لوحات لأن معظم إنتاجه من اللوحات والمناظر قد تم اقتناؤه من عشاق فنه والمعجبين بإبداعه فى المنظر الريفى، وبقى الأمل فى الأجيال الجديدة فى بعث فن المنظر من جديد بعد أن أبدع هؤلاء الكبار ورحل معظمهم مفسحين لهم الطريق.
- وكان كثيرا ما يتعرض للنقد من زملائه من هيئة التدريس ولكنه بسبب سماحته وسعة صدره وانصرافه للعمل يوميًّا لم يكن ليعبأ كثيراً بما وجه إليه من نقد أو مآخذ مهما كانت شدتها معلقا :`أنا ما احبش أقلب اللوحة دراما`.
- عُرف عنه الدقة المتناهية التى تتجلى فى أعماله وتصويره المفصل لأدق التفاصيل المبسطة فى رسمه للمناظر الطبيعية من البيئة المصرية الجميلة التى آمن بأنها أجمل من تلك اللوحات التى تأتى من أوروبا لتقتنى وتعلق فى بيوت وقصور الأغنياء من الشعب المصرى فى تلك الفترة التى كان أثرياء مصر يتسابقون على اقتناء الأعمال الفنية والتحف الأوروبية.
- لقد غاص الفنان التشكيلى حسنى البنانى، فى أعماق المدرسة التأثيرية المبسطة وعشقها بسبب قربه من الفنان الرائد يوسف كامل، وتقارب أسلوبيهما مع منهجيهما بالعمل الفنى معًا وبفارق بسيط يميزهما عن بعضهما فاللوحة عند البنانى لا تعتمد على الهندسة البصرية بشكل رئيسى فلا يعيرها كل اهتمامه ويحاول دائماً أن يقلل ويبسط من تلك التعقيدات الهندسة الفوتوغرافية والحذلقة منها، لتصبح اللوحة صاخبة بتأثير الضوء ومساقط الظل الجاذب للمتذوقين.
- واكتسب البنانى، مهارته فى إنشاء مدرسته الخاصة المميزة لشخصه من حبه للمناظر الطبيعية فى الريف المصرى وقرى المطرية وأحياء القاهرة التى كان دائمًا ما يأخذ تلامذته إليها ويجد فى المساحة الفسيحة لتلك المناظر بين الحقول والأشجار والمساكن ضالته فيبتهج بألوان الأشجار ومفردات الطبيعة المصرية الغنية بالألوان وتعدد مفرداتها وينتعش بشمس مصر المضيئة التى تعنى الضوء الساقط على الكتلة ومساقط الظل الناتج عن ذلك الضوء.
- ووفق ما ذكر الفنان والناقد التشكيلى مكرم حنين فإن البنانى قد التفت حوله دفعة 1960 فى كلية الفنون الجميلة وكان منهم زكريا الزينى وأحمد نبيل وكمال السراج وشعبان مشعل وصلاح عسكر، وقد عين هؤلاء الخمسة لاحقًا دفعة واحدة معيدين بالكلية بفضل دعمه لهم وتفوقهم، وقد أصبح صلاح مشعل تحديدًا رسامًا للمناظر خلفًا لأستاذه.
- وكان البعض يأخذون على الفنان البنانى عدم اهتمامه بقوة تماسك التكوين وعدم الدقة فى رسم منظور الأشياء المتجاورة أو المتباعدة عند رسمه الأشخاص كأحد العناصر فى المناظر الطبيعية، لكن مرد ذلك أنه لم يكن يعبأ بالبناء الهندسى أو الكادر أو تفاصيل الأشخاص وكأنما أراد لنفسه المزيد من الانطلاق والحرية فى الحالة الإبداعية، ولعل هذه المآخذ قد لعبت دورا إيجابيا وانعكست بالإيجاب على العمل بكل مكوناته، فعدم دقة المنظور الهندسى- مثلا- تحدث نوعًا من التنشيط والحراك البصرى للتدقيق فى تأمل العمل، كما أن هذا يمثل خروجًا على التعاليم والأنماط الأكاديمية، وهو الأمر الذى يدلل على حرية الفنان وإطلاق العنان لفرشاته وفق ما تقتضى الحالة الإبداعية.
- لقد تنقل البنانى بين عدد من المواقع الوظيفية فعمل مهندس مناظر بدار الأوبرا ثم أمينًا لمتحف الطب الشرعى وظل يتدرج فى وظائف هيئة التدريس، ففى عام 1951 عمل مدرسًا وأستاذًا حتى أصبح رئيسًا لقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، ثم أستاذًا بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1959.
- ولحسنى البنانى لوحتان بمبنى منصة الاستاد الرياضى بمدينة نصر، ولوحة زيتية ضخمة بمبنى هيئة قناة السويس ببورسعيد، وهو الذى قام بتصميم وتنفيذ لوحات التصوير الجدارى فى محطة سكة حديد بورسعيد، ومبنى مجمع المحاكم بالقاهرة ومبنى سنترال الأوبرا بالعتبة، وكانت له جدارية بمحطة حلوان تم إزالتها فيما بعد، كما أقام الكثير من المعارض الفردية وشارك فى كثير من المعارض الجماعية الدولية والعربية ومنها مشاركته فى معرض الفن التشكيلى المعاصر فى الوطن العربى 1985 وبينالى فينيسيا ومعرض القطعة الواحدة من كل دولة فى واشنطن ومعرض اليونسكو فى بيروت ومعرض (مصريات) بجاليرى روشان للفنون بجدة - السعودية 2010 ومعرض (مختارات عربية) بأتيليه جدة للفنون التشكيلية - السعودية يونيو 2010 كما حصل على العديد من الجوائز المصرية والعربية والدولية ومنها جائزة شرفية فى معرض المناظر بواشنطن عام 1938.
- كما أن له مقتنيات خاصة بمكاتب السفارات فى الدول الغربية وفى متحف الفن المصرى الحديث ومتحفى كليتى الفنون الجميلة بالقاهرة والإسكندرية، ومتحف الجمعية الجغرافية ومتحف المنصورة، والمتحف الزراعى بالدقى، ومبنى مؤسسة الأهرام بالقاهرة.
- بقى القول أنه فى أواخر ديسمبر عام 2015 كانت كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان قد نظمت احتفالية لإحياء ذكرى الفنان حسنى البنانى، وفى سياق الاحتفالية تم تقديم جائزة باسم البنانى لأوائل خريجى قسم التصوير بالكلية، وأخرى باسم عميد الكلية، وكانت الجائزة مقدمة من الفنان التشكيلى الكويتى عبدالعزيز التميمى فهو صاحب الفكرة والراعى للجائزة، حيث كان أحد تلاميذ البنانى وتخرج على يديه فى كلية الفنون الجميلة بقسم التصوير فى السبعينيات .
بقلم : ماهر حسن
الإثنين 01-02-2021
رسام القرى والحقول حسنى البنانى
- .. طوفان من اللوحات والتماثيل الخالية من المعنى والمغزي يغمر معارضنا الخاصة والعامة تحت اسم الفن التجريدى. تخدع أفكار الأجيال الشابة من الفنانين والذواقة، وتحجب عنهم روائع الفنون الجميلة. خاصة وأن بعض دعاة هذا النوع من `النشاط الإبداعى` مدرسون فى كليات فنية، يلوحون بالجوائز والشهرة والتمثيل فى المحافل الدولية. وأمسينا نجد فى حركتنا التشكيلية شباباً يخلطون بين الفنون التطبيقية والتربوية والجميلة لا يدركون الفرق بين الرسم والتلوين والحفر والنحت وبين الجد والهزل. وبين العبودية الفكرية لأوربا والانتماء للوطن والأهل والتراث وقضايا الإنسان.
- من هنا.. ينبغى أن نقدم لهم الأساتذة العظام: رواد الفنون الجميلة فى بلادنا الحلوة.. الطيبة.. الصلبة.. الفريدة فى طبيعتها وشكلها وموقعها وكيانها ومناخها.. وثقافتها، ليروا بعيونهم الشابة وعقولهم البكر أننا لسنا على هذه الدرجة من `العبثية` التى تبدو فى الصور والتماثيل التجريدية.
- حسنى البناني (73 سنة) من رواد فن الرسم الملون الذين أحبوا مصر وترابها وأشجارها وأرضها وحقولها وسماءها. عاش حياته يتغنى بجمالها وفتنتها فذابت ألوانه فى ظلالها وشمسها وحيواناتها ونسائها ورجالها. إذا دخلت بيته رقم 5 بشارع حلمي بالمطرية انفتحت أمامك نوافذ على الريف والأحياء الشعبية وجموع الناس الطيبين يبيعون ويشترون ويحبون ويحلمون.. من خلال لوحاته الزيتية التى تكسو جدران المرسم والمسكن. عالم بأسره أبدعه فناننا الكبير خلال نصف قرن من الزمان.. أو يزيد، حان الوقت لنضع النقط على الحروف ونشير إلى أن الفنانين التجريديين `مصممون` وليسوا رسامين. نحاتين. فالتصميم جزء تحضيري من العملية الإبداعية عند الرسام الرائد `حسنى البنانى` و`التصميم` إذا لم يرتبط بهدف تنفيذيى أصبح عبث أطفال. وهو فى قاموس المصطلحات الفنية 1981: (اختيار وترتيب العناصر الشكلية في العمل الفنى. تعبير عن مدرك الفنان لتكوين هذه العناصر من حيث الاتجاه والحجم والشكل والخطوط والزوايا، وما يدخل من اعتبارات التكوين والتنظيم، كالعلاقات الفراغية والتماثيل والتغاير والإيقاع والديناميكيات).
- يضاف إلى ذلك - فى عالم الفن البصرى اللون والملمس وأسلوب وضع الخامات. وهى عوامل ليست في صلب التصميم - هكذا كان التجريد فناً من الدرجة الثانية وتحضيراً هاماً للأعمال الفنية العظمى لو تأملنا منظراً أو تكويناً من إبداع البناني لتبيناً كيف اتقن التصميم بمعنى اختيار وتركيب عناصر الطبيعة وتجسيد `المدرك` وتعميق التعبير بالألوان والخطوط والملامس. استطاع عن طريق `التصميم` أن يسبغ على لوحات الهدوء أو الحركة أو السرعة أو الحيوية مستخدماً `الإيقاع` كبعد أساسى فى التصميم.. لكن `القيمة الأستطيقية` عنده تتجسد في منظر طبيعى أو تكوين من الكائنات الحية والأشياء، تلمس شغاف القلوب لأنها ذات معنى، وتحرك الفكر لأنها تنطوى على` تصميم` راسخ متكامل.
- ولد حسنى البناني سنة 1912 ومعه الموهبة عطية الله لبعض الناس. التحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا سنة 1927 برغبة ملحة وإصرار. لم يعرف لنفسه طريقاً آخر للمستقبل. بعكس فنانى اليوم الذين يحصلون على مجموع صغير فى الثانوية العامة، ويجتازون امتحاناً صورياً للقدرات الفنية. كانت المدرسة على أيامه تجري `اختيار مواهب` يتقدم إليه العشرات فلا يقبل سوى الآحاد الذين تثبت جدارتهم. يجريه نخبة من الأساتذة الفرنسيين والإيطاليين قبل أن تستفحل فى بلادهم موجات العبث وسياسات الغزو الثقافي. بالاشتراك مع روادنا العظام: يوسف كامل - مؤسس `الانطباعية المصرية` ومحمود مختار - باعث فن النحت المصرى المعاصر.
- عشق البناني الحقول والشمس والأشجار وتجمعات الناس الطيبين لأنه ولد ونشأ فى حى باب الشعرية فى القاهرة ودرج فى الحسين والأزهر والغورية - أكثر الأحياء عراقة وأصالة والدته مصرية من `رشيد` ووالده مغربى صاحب متجر `مانيفاتوره` تفتحت عيونه على آيات التراث الفنى الذى يمد جذوره إلى آلاف السنين. قضى طفولته يرسم ويلون وينقل الصور المطبوعة في الكتب والمجلات، ويظفر بإعجاب مدرسيه فى الابتدائى. وكم كانت سعادته حين كلفه تاجر من أقربائه بزخرفة الجوارب النسائية و`الإيشاربات` بأشكال الزهور والعصافير. تعلم من يومها أن يرسم من الحياة وللحياة. لم يحبس نفسه فى جدران مرسمه أو يكمل إبداعه بكم هائل من الكلمات الكبيرة والاصطلاحات الغامضة كما يفعل العبثيون. عاش حياته فناناً واضحاً كالشمس، يملك ناصية الفراجين والألوان. يذكرنا بالرسام: فاسيليو تينزيانو (1485/1576) أعظم ملون فى عصر النهضة الإيطالية الذي كان تعبيره فى صباه مثله الأعلى. تشهد المباني العامة فى حلوان والقاهرة وبورسعيد بالقدرات الفريدة لفناننا التى يعز مثلها: واجهة محطة مترو حلوان، واجهة محطة القطار ببورسعيد، وحائط مدخل سنترال الأوبرا بالقاهرة وجانب من جدران مجمع المحاكم. بعض هذه اللوحات الصرحية والجدارية تبلغ مساحتها 72 متراً مربعاً. يضرب بها المثل لارتباط الفن بالحياة.
- من المعروف أن `حسنى البنانى` أستاذ المدرسة الانطباعية ونجمها المتألق وأحد روادها فى بلادنا. وقد اتخذت هذه المدرسة أبعاداً واضحة محددة على يد الرائد الراحل: يوسف كامل (1891/1971) ارتبطت باسمه لأنه الوحيد الذى ظل وفياً لها حتى آخر أيام حياته. عشقها أثناء دراسته على أستاذه طباولو خورشيلا` فى مدرسة الفنون الجميلة العليا بالقاهرة (1908-1911) ثم ألتقى بها وجها لوجه أثناء دراسته فى إيطاليا (1925-1929) وعاد مدرساً فى الفنون الجميلة بالقاهرة حيث كان` البنانى` طالباً لا يجد طريقه بعد. لم يفترقاً يوماً واحداً بعد هذا التاريخ. تزوج ابنته وهو مازال طالباً فى السنة النهائية.
- وحين استأجر الأستاذ بيتاً ومرسماً بين حقول المطرية سنة 1935 ابتنى `البناني` بيتاً ومرسماً بالقرب منه سنة 1945 ليظلا متلازمين بقية العمر، ومضى بالأسلوب `الانطباعى` إلى آفاق أرحب وأغوار أعمق. أضاف إلى المناظر الريفية الخلوية الهادئة تجمعات البشر الطيبين. موجات من الحياة يختلط فيها الرجال والنساء والأطفال بالحيوانات والطيور. ينضحون بالحركة والحيوية فى تكوينات محكمة ونظم لونية ساحرة.. وجاذبية وطرافة لا حدود لهما.. الأحياء الشعبية والموالد والأسواق الريفية حيث الجموع يبيعون ويشترون ويسامرون ويعرضون منتجاتهم من الخضر والفاكهة والأشغال اليدوية والماشية بأنواعها. لم يظهر فى حركتنا الفنية من صور `الجموع البشرية` بهذه الروعة وذاك الجمال الأخاذ. مع حبكة القيم (الأستطيقية) من إيقاع واتزان وتوافق وتباين وملمس وحوار الأشكال والخطوط هذه القيم الجمالية ليست مجردة إنما تتقمص أشكال العناصر المحلية المفهومة من الجميع فتؤدي رسالتها الروحية والاجتماعية في آن واحد. لذلك نصنف `الفن التجريدى` فناً من الدرجة الثانية لأنه يقدم للمتلقى تشكيلات لا معنى لها.
- تعتبر` الانطباعية` من تراث حركتنا التشكيلية المعاصرة` لم يكن` يوسف كامل ` أول من انتهج سبيلها. سبقه إليها الرسام الرائد محمد ناجى الذى سافر إلى مدينة `جيفرني` بفرنسا وزامل لبعض الوقت رائدها كلود مونيه (1840-1936). كما أن رسامنا الكبير محمود سعيد المشهور بأسلوبه الخاص بدأ حياته الفنية `انطباعياً` أما الرائد الراحل `حبيب جروجي` فكان يقود جماعة `الدعاية الفنية` إلى الخلاء يصورون الأشجار والنخيل والمروج بالألوان المائية. ومازال رسام المناظر الكبير: شفيق رزق (79) يعرض علينا روائعه الانطباعية سنوياً فى معرض خاص. وكان الكاتب عباس العقاد يطلق على الرسامين الانطباعيين اسم `الإحساسيين` ثم شاع اسم `التأثيرية` أو `التأثرية` حتى أقر مجمع اللغة العربية الاصطلاح `الانطباعية` مقابلاً للكلمة الإنجليزية `امبرشانيزم`.
- وصل `حسنى البناني` بالانطباعية إلى منتهاها. أصبحت ألوانه تعرف طريقها إلى قماش اللوحة لتصور المقابل الشكلى لسيمفونية الأضواء والظلال. ولو أننا اقتطعنا مساحة صغيرة من إحدى لوحاته ووضعناها تحت عدسة مكبرة لرأينا كم هى أجمل من أيه صورة تجريدية من الركام الذى يغطى جدران المعارض هذه الأيام ويفوز بالجوائز السخية.
- لم يكن طريق البناني إلى القمة مفروشاً بالورود. ما كاد يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة حتى فصل منها بعد عامين اثنين لثورته مع الطلبة سنة 1930 ضد `حكومة اليد الحديدية` أضطر للعمل كعامل تليفون ليلى فى القاهرة والأقصر إلى أن وافقت المدرسة على إعادة قيده على أن يبدأ بالسنة الإعدادية من جديد. لم يقلقه أمر تخلفه عن أقرانه لأنه كان قد بدأ طريق حياته كفنان محترف يعمل بالمتحف الزراعى. وفى أحد أيام الصيف سنة 1936 تسلق سلماً مزدوجاً ليكمل رسماً فى أعلى الحائط. فانزلق وسقط وانكسر عظم الفخذ فنقل إلى المستشفى. وحان موعد الامتحان فكان يذهب على عكازين فى سيارة أستاذه `يوسف كامل` لفتة إنسانية توطدت على إثرها العلاقة بينهما وتردد على بيته فى غمرة، يستمع إلى أحاديثه ويتأمل لوحاته عن كثب، ويصحبه فى رحلاته الخلوية للرسم أحياناً.
- تفوق حسنى البناني على أقرانه فرشحه العميد الإيطالى `كاميلو ينوشنتي` لبعثة سرعان ما اختطفها منه المحاسيب أضمر السفر على نفقته الخاصة حتى حانت الفرصة سنة 1938 حين كلفه المتحف الزراعى برسم عشرين لوحة دفعة واحدة كافأه عليها بأربعمائة جنيه. كانت كافية ليقضي عاماً بأكمله في روما. إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية دفعته للعودة مبكراً بالقطار عن طريق تركيا. وفى مصر لم تتوقف ريشته عن الإبداع طوال السنين. عمل رسام مناظر في دار الأوبرا الملكية (1940/1950) حل محل الرسام الإيطالى المعتقل فى ترميم المناظر القديمة وإعداد ديكورات مسرحية `الست هدى` - تحفة أمير الشعراء: أحمد شوقي، واستعان بمواهبه مخرجو السينما في رسم مناظر الأفلام. كما أسهم خلال عامي 1948 و1949 في إعداد `متحف الطب الشرعى` بقصر العينى بتحنيط العينات ورسمها لمعاونة الطلبة فى دراستهم. ثم جاء عام 1950 ليبدأ مشواره كأستاذ للتصوير الزيتى فى مدرسة الفنون الجميلة العليا إلى أن أحيل للتقاعد سنة 1972 إلا أن فرشاته لم تتوقف عن التلوين ومازالت تمنحنا المزيد من الروائع.
- تخرج على يديه رسامون كبار مثل `حامد ندا` و`عبد الهادي الجزار`، تخصصا فى تدريس مادة المناظر فطاف بتلاميذه أنحاء القاهرة. يده بيدهم يرسم معهم في مصر القديمة والأزهر وسيدنا الحسين والأحياء الشعبية. يراقبونه وهو يزرع الأشجار في لوحاته وينثر البشر في أنحائها ويطلق الحيوانات والأطفال يجوسون في الزحام والنسوة الشعبيات يتصايحن هنا وهناك حول عربات اليد يزنون الطماطم الحمراء والخضراء إن هي إلا ساعة يضج بعدها قماش لوحته بحياة تتفجر بالبهجة والسعادة تلهب خيال المتلقى وتدفع فى نفسه شعوراً بالحب والولاء لهذا الشعب الطيب. راقبه تلاميذه وهو يحب `أرضه` وناسه بالطلاء والألوان، فشبوا بدورهم بعيدين عن البعث التجريدي وإن اختلفت المناهج والأساليب. هو نفسه كان الحوارى الأمين لصهره وأستاذه `يوسف كامل` رائد الانطباعية المصرية الأول. إلا أن إبداع البنانى يختلف عن أستاذه كثيراً كلما تأملناه وتفحصنا اكتشفنا شخصيته الخاصة التي تتسم بالحركة والحيوية والتفجر والتفاصيل الدقيقة والألوان الغزيرة. والموضوعات المنوعة، ظلاله موزعة على مساحات صغيرة تشكل إيقاعاً أسرع. لا يكاد المتلقى يمعن النظر حتى يتوه بخياله بين الجموع أو الحقول والأشجار وبيوت الطين.
- لم تجد خارجيتنا لوحات فنية مصرية قلباً وقالباً كلوحات حسني البناني فنشرتها فى سفاراتنا ومكاتبنا الثقافية فى أركان العالم. علامة على طريقنا الثقافى المحلى النابع من أعماقنا شكلاً وموضوعاً ومضموناً. يستطيع المتلقى فى أى بلد من العالم أن يتبين فيها `عراقة بلادنا` و`أصالة شعبنا` و`روحانية` قيمنا و`جمالية` ربوعنا. فضلاً على أن مبدعهاً الملهم لا يقل خطراً عن عمالقة `الانطباعية` الأوروبيين.. أن لم يزد عليهم درجة.
- ظهرت `الانطباعية` لأول مرة سنة 1874 فى معرض عام فى باريس. قدم رائدها `كلود مونيه` لوحة `أكوام التبن` الشهيرة مع مجموعة لوحات صور فيها أوقاتاً مختلفة من ساعات النهار معبراً بها عن الأهداف التي تسعى `الانطباعية` إلى تحقيقها. وهي أهداف تشكيلية لا علاقة لها بالموضوع المرسوم ورمزية العناصر ومعنى التكوين انضم إلى `كلود مونيه` نخبة من شباب فنانى فرنسا فى ذلك الحين من بينهم: بيسارو سيسلي، رينوار، ديجا، سيزان. وغيرهم ممن أصبحوا فيما بعد من أعظم فناني أوروبا في القرن العشرين. إلا أن `الانطباعية` واجهت معارضة قوية من بعض النقاد والمعلقين ولم تكتسب اسمها إلا بعد عشرات السنين. بعد أن عرفت بالتلوين المتقطع أى اللمسات المتتابعة من الفرشاة وليس الانسياب اللونى. حتى أن البعض كان يفضل التنقيط بالألوان الأساسية ثم يتركها لتختلط فى عيون المتلقين لكنهم جميعاً رسموا فى الخلاء فأطلق عليهم `الخلويين`.
- `الانطباعية` أول حركة عظمى فى الفن الحديث. حركة تتعلق بـ`الصنعة الفنية` وليس بالمضمون أول حركة تهيم بالصورة نفسها منفصلة عن الموضوع المرسوم. يعتبرها الناقد الأمريكى ` ألكسندر اليوت` أول خطوة نحو ` اللاموضوع `و` التجريد `.
- كان الرسامون قبلها ينجزون لوحاتهم داخل الأستوديو. لا شأن لهم بالطبيعة والنفس. لذلك اعتبر `الانطباعيين` خارجيين على العرف والتقاليد حين صحبوا ألوانهم وفراجينهم وجلسوا فى الحقول والمروج يرسمون ويلونون.
- هكذا نرى أن `حسني البناني` يشترك مع الانطباعيين في جوانب كثيرة لكنه ليس انطباعياً تقليدياً يهتم بالشكل دون المضمون. لقد استهدف إظهار تأثير إضواء الشمس على الناس والأشياء والكائنات جميعاً. لكنه أراد `التغنى` بجمال البلاد وتأكيد `روعة الحياة ودراماتيكيتها`. من هنا كان `المضمون الإنسانى` ومن هنا كانت لوحاته ملاحم شعرية وسمفونيات موسيقية.
د./ مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول )
|