`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
جمال الدين محمد الحنفى
فنون من الخزف
-.. الخزف خامة مصنعة من الطين بشكل أساسى المختلط ببعض المواد الطبيعية والكيماوية ، المحترقة فى أفران خاصة مرة واحدة أو عدة مرات ، على درجات حرارة مختلفة الارتفاع ، وفق الأهداف التى يرمى إليها الخزاف ، والمنتجات الخزفية بعضها تطبيقى لأغراض الحياة اليومية ، كالأوعية والأدوات الصحية والكهربائية ، أو للمتعة الجمالية كالأوانى الفنية واللوحات والأطباق ، المزخرفة بتشكيلات تتكامل بألوانها وعناصرها ، مع الفورمات التى تنتظم سطوحها ..
- بهذه الكلمات الضرورية ، نمهد لحديثنا عن أحد معارض الفنون الخزفية ، لواحد من أئمة هذا الفن فى العصر الحديث وهو فنان الآنية : جمال حنفى ، المعرض الذى أقيم فى قاعة دار الأوبرا بالقاهرة ، وكان يضم قرابة الـ 230 قطعة فى شهر مايو سنة 1995 ، تخصص القسم الرضى لعرض الأوانى ، فى تكوينات جمالية ثنائية الوحدات .. أو ثلاثية أو رباعية . بعضها مزخرف بألوان وعناصر تصويرية ، تبلغ فى مجموعها ما يناهز الـ 120 آنية أسطوانية الفورم . تشكل كل مجموعة فيما بينها حوار روحيا ، وتكوينا فنيا يضفى على المتلقى أحساسا فائق الرقة والرهافة ، ويمكن فى نفس الوقت الاستمتاع بكل آنية على حدة ، أو أننا عزلناها عن اترابها ، إلا أن وضعها مع زميلاتها فى التكوين ، وما ينشأ بينهن من فراغات محسوبة ، يسفر عن مضامين عاطفية واستطيقية ، يساعد المتلقى على تذوقها ، الشكل الأسطوانى الوحدات ، وما يتسم به من حيادية وتجريد ، فهو ليس أنية معتادة : لها فوهة وعنق وبدن بفتح الباء والدال وقاعدة ، إنما هى مجرد شكل أبداعه جمال حنفى على القرص الدوار ، بيديه الموهفتين ، وراحيته اللتين أتقن تدريبهما عبر عشرات السنين ، منذ التحاقه بكلية الفنون التطبيقية سنة 1954 ، وتلمذته على عملاق فن الآنية و باعثها فى العالم العربى : سعيد الصدر ( 1909 - 1986 ) ولو أنك راقبت أصباع فناننا ، وهو يشكل الصلصال على القرص الدوار ، خيل إليك أنه عازف ماهر على أوتار آلة موسيقية نكاد نسمع أنغامها الحالمة.
- بالرغم من أن أوانى جمال حنفى الفاتنة ، لا تمت بصلة من حيث الشكل ، إلى روائع الرائد العظيم سعيد الصدر ، فلا يخفى على الناقد الخبير إدراك الوشائج الخفية ، التى تصل بين هذه وتلك ، تكمن فى طبيعة النقش والرقش والملامس وحرفية الأداء وحلاوة النسب ، والخطوط الوهمية التى تحيط بالأوانى ، تبدو متكاملة إلى حد أننا لا نستطيع أن نضيف إليها أو نحذف منها ، دون أن نخل بتوازنها وفتنتها .
- يدور الحوار بين الثنائيات والثلاثيات والرباعيات ، عبر الفراغات البينية ، والملامس والألوان واللمسات الرمزية على الأشكال الأسطوانية ، وما يبرز منها أحيانا من أيدى فى أعلى الآنية التى لا يزيد ارتفاعها عن خمسة وعشرين سنتيمترا ، أما قطر الفوهة فلا يبلغ العشرة سنتيمترات ، كما يناهز سمك الجدران الثمانية ميليمترات ، والجمال و الفتنة فى جميع الحوال فى تلك التكوينات ، يكمنان فى النسب المحسوبة بدقة ، من خلال الحساسية المرهفة والفكر الابتكارى الذى يتسم به جمال حنفى ، يستقل كل تكوين بنفسه على قاعدة متوسطة الارتفاع ، ويتكامل جماليا مع باقى التكوينات التى تنتظم الطابق الأرضى ، والتى تبدأ على يمين الزائر عند المدخل ، برائعتين صغيرتين الرائد : سعيد الصدر ، الذى كشف عن روعة التراث الحرفى الإسلامى بعد عودته إلى احيائه وبعثه بعد موات دام أربعة قرون ، وتطالع الزائر لوحة خلف التحفتين السعيديتين تنتظمها بعض الخطابات التى تسلمها الفنان ، أثناء إقامته فى إيطاليا لدراسة مزيد من فنون الإبداع الخزفى فى مدينة فاينسيا ( 1964 - 1968 ) . تتضمن الوصايا الفنية ، وحديثنا عن الحركة الفنية فى أرض الوطن . وتبدو القاعة للوهلة الأولى ، وكأنها سيمفونية تتخذ نغماتها من اللون والشكل والملمس والفراغات الصغيرة فى كل تكوين على حدة . ثم الكبيرة بين المجموعات التى تنتظم الواجهة والجانبين ، سيمفونية تشكيلية تدفع بالبهجة جزافا إلى صدر الزائر ، تهتز لها روحه فتلحق به فى عالم من الأحلام ، غرابة المائة والعشرين آنية ، فى خمسة وعشرين تكوينا فنيا.
- أول تلك الرسائل ، أعطاها الأستاذ لتلميذه حين ذهب مع زوجته لتوديعه فى مطار القاهرة ، وطلب منه الا يفضها إلا بعد أن تقلع الطائرة ، نصحه فيها بأن يستمسك بتقاليده وتراثه وأخلاقياته ، ويترك نفسه نهبا لتأثيرات البلاد الغربية التى يغشاها . فمصر هى مهد الحضارات ، وعلينا نحن الخزافين - أن نقضى حياتنا أمام الفرن.
- تأثر جمال حنفى بعمق بهذه الكلمات المخلصة للوطن وفنون الخزف ، وكانت سببا مباشرا فى التزامه الجادة ، وانطلاقه الإبداعى طوال إقامته فى إطار الهوية المصرية النابعة من التراث ، مع احتفاظه بالقدرة على مخاطبة العصر من خلال المكتسبات الحديثة ، التى أضافها إلى موهبته وخبرته الدراسية فى أكاديمية فاينسا . الأمر الذى جعله يظفر باحترام جماهير الذواقة لفنون الخزف ، من الفنانين والنقاد الأوربين بعامة .. والإيطاليين بخاصة ، كلما أقام معرضا بين حين وآخر ، أثناء السنوات الأربع التى قضاها فى الغربة ، كان يستفسر خلالها من أستاذه عبر البريد المتبادل ، كلما اعترضته عقبات تكنيكية ، أو قضايا تتعلق بالتراث الفرعونى والإسلامى فى مختلف العصور قرابة الثلاثين خطابا ، أرسلها الأستاذ لتلميذه الذى يشق طريقه لكى يصبح الفنان الكبير الذى نعرفه . وشاهدنا روائعه المتميزة فى قاعة الأوبرا . ومن أعظم الوصايا غير التكنيكية التخصصية ، التى أستوعبها جمال حنفى ، ورصفت له الطريق نحو القمة بعد رحيل الرائد ، أنه لم يعبأ بتجميع الشهادات والمؤهلات المتنوعة ، بل وهب أيامه ولياليه للدولاب الدوار والأفران بأنواعها ، والتجارب التشكيلية والطينات المختلفة ، حتى وصل بإبداعه المتطور منذ عودته للعمل إلى شخصية فنية وجمالية ، نستطيع استخلاصها من بين آلاف الأعمال الخزفية فى المحافل الجماعية : المحلية و الدولية.
- قرابة الخمس والعشرين لوحة خزفية ملونة ، انتظمت جدران الطابق العلوى من قاعة الأوبرا . استجاب فيها لنزعته التصويرية التى لم تفارقه منذ صباه . موضوعات مستلهمة من البيئة المصرية والعمارة الغربية والوادى الجديد ، تتراوح مساحتها بين 60 X 60 سم و 150 X 15 سم على شكل شريط طويل مؤلف من عدة بلاطات ، تذكرنا باستمرارية التوريقات والتفريغات الإسلامية اللانهائية . نلاحظ فى تلك التصميمات الملونة ، البساطة التعبيرية التى اتسمت بها إشارات وعلامات الرائد الكبير ، التى ترتسم على فازات وأطباق والسلاطين . يرجع ذلك إلى عشق جمال حنفى لعبقرية أستاذه ، حتى أنه كان يحتفظ أثناء الدراسة فى كلية الفنون التطبيقية ، بأى ورقة استخدمها سعيد الصدر فى شرح تقنيات تصميمات الإبداع الخزفى والتلوينى ، فالحلاوة والجاذبية اللتان اتشحت بهما تلك اللوحات ، إنما تضرب بجذورها بعيدا فى المعالجات التراثية القديمة والمعاصرة على حد سواء . يشكل فيها قرص الشمس عنصرا أساسيا ، تصور إحداها خزافا يستظل بشجرة وارفة ، على خلفية من مشهد طبيعى خلاب ، لكنه منشغل بإبداعه لاهيا عن كل شئ ، وبالرغم من أن جمال حنفى لم يمنح لوحاته أسماء وعناوين ، إلا أنها تتفجر بحيوية واضحة العناصر والموضوعات ، لكنها فى مجموعها تشبه مشاهد الأحلام الجميلة ، كما تحفل بعضها بتشكيلات تجريدية تعبيرية يشبه الحروف الهجائية ، المستقاة من المعالجات الفنية الإسلامية والفرعونية ، الأمر الذى يجعلها قريبة إلى قلوبنا ، ومثيرة لمشاعر الوافدين علينا ، فالجميع يشعرون بالألفة نحوها مما يؤكد قدرة جمال حنفى الإبداعية ، وجلاء الخطاب الذى يوجه إلينا ، فالتقبل الاجتماعى شرط العملية الإبداعية .
- .. هذا هو المعرض الفردى الثامن ، فى سلسلة العروض التى بدأها الفنان فى فاينسيا بأيطاليا 1966 الجوائز التى فاز بها خلال تلك المسيرة ، فبدأت بميدالية برونزية سنة 1959 بعد تخرجه بعام واحد ، منحتها له جمعية محبى الفنون الجميلية - أعرق هيئة ثقافية فنية فى مصر ، وكانت لجنة التحكيم مؤلفة من كبار النقاد والفنانين : بدر الدين أبو غازى و سعيد الصدر و حسين بيكار و على الديب والجوائز لا تقاس بقيمة خامتها ، ولا بالوظائف الرسمية التى يشغلها أعضاء التحكيم ، بل بالمكانة الثقافية للمحكمين ، لذلك تعتبر برونزية جمال حنفى منذ ثلاثين عاما ، أرفع قدرا من الميداليات الذهبية المعاصرة ، إلا أن فناننا استطاع بمواهبه وقدراته الخلاقه ، أن يظفر بعد عودته من البعثة بميدالية ذهبية، فى معرض الصالون الـ 47 الذى أقامته جمعية محبى الفنون الجميلة فى السبعينيات فى قاعة باب اللوق ، من نفس هيئة التحكيم الرفيعة المستوى مضافا إليها المثال الراحل : عبد القادر رزق .
- ولد جمال حنفى فى 22 سبتمبر سنة 1932 ، فى قرية العمار من أعمال مدينة قليوب ، الابن الثانى بين أخوة أربعة ، تخرجوا جميعا فى مختلف الكليات الجامعية ، شب فى بيئة حضارية ثقافية تحتفظ بمكتبة تحفل بالمعارف المتنوعة ، مما زرع عشق القراءة فى نفس جمال منذ طفولته ومضى فى التعليم العام حتى تخرج فى الثانوية الصناعية ، ثم فى الثانوية العامة القسم العلمى ، وكانت تسمى بالشهادات التوجيهية ، ليلتحق بكلية الهندسة ، لكنه فضل عليها كلية الفنون التطبيقية حيث بدأ مشواره مع الفنون الخزفية ، كان مجموع المتقدمين يقل عن خمسين طالبا ، يتوزعون 12 تخصصا بينها : الزجاج و الخزف و الميادين و التصوير الميكانيكى و النجارة و النسيج .. إلخ ، اختار من بينها قسم الزخلافة ، وفى اليوم الأول الدراسى انتقاه سعيد الصدر - وكان أستاذا فى الكلية حينذاك - مع ثلاثة من زملائه اقسم الخزف ، لم يقتصر عشق الطالب جمال حنفى من يومها على فن الآنية ، و أنواع الصلصال والدولاب الدوار، بل امتد هذا الحب إلى الأستاذ نفسه الذى كان يختلف عن كل المدرسين ، بقوة شخصيته ونظراته النفاذة وسلوكه الإنسانى ، وجديته التى لا وقت فيها للعبث والخروج على الموضوع ، بالإضافة إلى عمله الغزير الفياض ، وخلوصه إلى الإبداع كلما جلس إلى الدولاب الدوار ولما كانت القدوة هى الأصل فى تنشئة الطلاب فى كل مراحل التعليم ، فقد تحلى جمال حنفى بهذه السجايا التى نادرا ما نلمسها لدى طوفان الممارسين للنشاط الإبداعى فى بلادنا.
- بالرغم من التشابه الظاهرى بين فورمات أوانى جمال حنفى ، فهى جد مختلفة من حيث النسب والملامس والألوان والأطوال والاتساعات ، إذا كانت نفوسنا تهفو إليها مجتمعة فى تكويناتها ، أو فرادى وهى معزولة مستقلة بذاتها ، فمرجع ذلك إلى العناية الفائقة التى يبذلها فناننا فى تشكيل فورماتها ، فهو يعلم أن الآنية فورم وهيئة ، تكمن قيمتها الكبرى فى الخط الوهمى الذى يحيط بها ، فهو ينسج على منوال أستاذه ، الذى كان بعد أن ينهى تشكيل آنيته على الدولاب الدوار ، يغمض عينيه ويمر براحتيه على جسمها ، يتحسسه فى رقة بالغة قبل أن يجردها - أو يفصلها عن الدولاب - ليعتبر درجة استجابة مشاعره وأحاسيسه للفورم ، دون تدخل من خداع البصر ، كما لا يسمح بوجود آخرين للفرجة أثناء عملية الإبداع ، لأنها ذات حرمة كأنها صلاة فى محراب الفن.
- الفورمات الجميلة التى يبدعها جمال حنفى، هى حصيلة العمل الوفير والخبرات الغزيرة مع المتغيرات التى تحيط بفن الآنية ، التوافق الضرورى بين تصميم الأفران وأنواع الوقود ودرجات حرارة الإنتاج، وعدد مرات الحريق وطبيعة المكونات اللونية ، والإضافات التى يخلطها بالصلصال .. وعوامل أخرى يقصر عنها الحصر ، تتعلق بالفطرة المكتسبة التى تحولت إلى سلوك تلقائى أثناء العملية الإبداعية اليومية.
- بعد عودته من البعثة سنة 1968 خاض عدة مراحل تجريبية، بدأها بتشكيلات معمارية خزفية مستلهمة من قريته العمار، تتحلى بقباب وعناصر أسطوانية ، ثم دخل فى مرحلة الأطباق العملاقة المزخرفة بالتشكيلات الملونة، يصل فيها الاتساع الى مترين أو ثلاثة. الأمر الذى احتاج إلى تقنيات مبتكرة غير مسبوقة، وصعوبة بالغة فى عمليات الانضاج وقد عرض أطباقه العملاقة تلك، فى بهو فندق فى الميرديان سنة 1976، مزخرفة بمناظر البيئة والحروف العربية والموتيفات الإسلامية ، وانخرط بعدئذ فى إبداع لوحات خزفية تصويرية من عدة بلاطات ، متأثرا بالاهتمام العالمى بالفلك واستكشاف الفضاء، وإذا كانت المرحلة الأخيرة قاصرة على تكوينات الأوانى الاسطوانية، فلا يخفى على عين الناقد المتابع، ما يصل بين المراحل جميعا من وشائج`.
بقلم : مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير- الجزء الثانى )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث