حامد حسنى سعيد
- الأستاذ الفنان حامد سعيد شخصية فذة ومتفردة فى مسار الحركة التشكيلية المصرية فى جانبها الفكرى والتنظيرى على وجه الخصوص. ومن منطلق هذا التفرد والتميز أنه منذ الثلاثينيات تكونت لدى حامد سعيد رؤية خاصة.. شاملة، واضحة ومحددة لمفاهيم الفن والثقافة والحضارة والتراث، واهتمامه الباكر بأن يكون الفن جزءا من الحياة، وأن يكون عنصرا فاعلا فى مكونات الشخصية المصرية الحديثة التى طالما حلم بها حامد سعيد أن تكون امتداد لعظمة الشخصية المصرية المبدعة فى فترات تاريخية سابقة .
- وكلنا يعرف أنه فى تلك الفترة - الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين شهدت مصر على مستوى الحركة التشكيلية تمرد شباب الفنانين على تعاليم الأكاديمية التى سادت مناهج الدرس فى مدرسة الفنون الجميلة أو إبداع الفنانين من الجيل الأول وتشكل لذلك عدة جماعات فنية، الفن والحرية، الفن المعاصر والفن الحديث، وكان لكل من هذه الجماعات فكرها ورؤيتها الخاصة لقضايا الفكر والفن والمجتمع ، لكن جميعا كانت تدور- على مستوى التشكيل- فى إطار المفهوم الأوروبى للفن ، بل أحيانا تكاد أن تكون صدى أو ترديدا لإتجاهات ومدارس فنية بعينها سبق ظهورها فى أوروبا .
- أما حامد سعيد الذى يرفض منهج ورؤية الأكاديمية.. فإنه يرفض أيضا اتجاهات التعبيرية والسريالية وغيرها من مدارس الفن الغربى الحديث سواء فى أوروبا أو أصداؤها التى ترددت فى مناطق عدة من العالم ومنها مصر .
- فى تلك الفترة (1936) يخرج حامد سعيد بأفكاره ورؤيته من حيز النظر إلى حيز العمل، فيكون مجموعة من تلاميذه ومريديه يمارسون عملهم الفنى من زاوية ومفهوم يختلف بشكل حاد عن أى من الدعوات السابقة أو اللاحقة لإبداع فن مصرى متميز يقول رمسيس يونان عن هذه التجربة- أنهم اختاروا بعد التثقف بالوعى الفنى الحديث - أن يعودوا فورا إلى تأمل الطبيعة وتقاليد الفن المصرى إلى جانب اهتمامهم بالتراث الأوروبى .
- خصوصا فى مرحلته القوطية وبفنانى فلورنسا فى القرن الخامس عشر، وقد اتخذوا من هذه الدراسة وسيلة للتأمل … موقنين بأن النظام فى الطبيعة والنظام فى الفن من جنس واحد .
- يقوم فكر حامد سعيد على رفض الفن الأوروبى الذى صدر عن ` الفلسفة الإنسانية `التى هى القوام النظرى الذى تأسس عليه عصر النهضة فى أوروبا تلك الفلسفة التى جعلت من الإنسان مركز للكون ، وجعلت من التيار الحضارى النابع من الإغريق المرجع الوحيد المسلم به حتى أواخر القرن التاسع عشر ، وبعد إنحلال هذه الفلسفة الإنسانية أصبح الأمر أكثر سوءا حيث انعدمت صلاحية الفن المعاصر لأن يكون عاملا فعالا فى بناء الثقافة .. فهو فن مأزوم لا يقوم على دعامة جديدة واضحة المعالم تخلف تلك الدعامة التى انحلت ، ومن هنا كانت أزمة الفن المعاصر الذى ` تحرر من الارتباطات كافة وأصبح فنا للفن ` وترتب على ذلك عزلة الفن عن الحياة والإمعان فى الفردية والانفصال بين الفنان والتقاليد الفنية التى هى `حكمة الأجيال` لقد خرج الفن فى القرون القريبة الماضية عن تيار الحياة الأصلى، وأصبح من الإضافات الهامشية للحياة وأصبح مظهر من مظاهر الرخاء والإدعاء .
- مقارنه بالفن فى الحضارات الكبرى فى مصر وما بين النهرين والهند والعصور الوسطى الإسلامية والمسيحية حين كان الفن وسيلة من وسائل تحقيق الذات الجماعية والارتفاع الحضارى بها ارتفاعا معنويا أساسيا وجوهريا .
- من العلامات الظاهرة فى فكر حامد سعيد رفضه للتبعية الثقافية الذى نعانى منها فى كل جوانب ثقافتنا المعاصرة ونرجع هذه التبعية - تاريخياً - لمرحلة الصعود والهيمنة الأوروبية على العالم.. فى مقابل إنحسار الثقافة الإسلامية فى ظل الإمبراطورية العثمانية والتى كانت مصر إحدى ولاياتها، ومن هنا كان من السهل خضوعنا ووضعنا الراهن فى التبعية الثقافية الذى يتمثل فى ميدان الفن فى تلك الآراء الشائعة المستخدمة فى الحديث والممارسة والتفكير والتخطيط والنقد تلك الآراء والأفكار المستعارة بالتبعية من طور من أطوار الفكر الفنى الأوربى الذى كان له وما زال السيطرة الكبيرة، كان من نتيجة هذه التبعية فى الثقافة والفن أن أصبح الفن المصرى فنا مأزوما مثله فى ذلك مثل الفنون الأوربية ، معزول عن تيار الحياة الأصلى ونتيجة لهذا الانعزال أصبحت المشاكل الفنية كثيرة لغياب الوظيفة الأساسية للفن .
- فى مقابل هذا الرفض للفن الأوروبى الحديث والتبعية الثقافية لمفاهيمه. تقوم دعوة حامد سعيد لتأسيس فن متلاحم مع الحياة ، يشمل كل متطلبات الإنسان فى حياته اليومية، فن .. يبث المعنى والقيمة فيما يحتاجه الإنسان من أدوات على اختلاف أشكالها ووظائفها وهذا المعنى للفن وعلاقته بالحياة عند حامد سعيد إنما ينبع من رؤيته للتراث الإنسانى .. ذلك التراث الصادر.. من قمم النفس المتكاملة وليس من وهاد النفس المبعثرة .
- هذه النظرة الشمولية الصوفية للفن والحياة تتحدد بانتمائها الروحى لفنون الحضارات الكبرى التى يستخلص منها حامد سعيد بعض السمات الأساسية التى جعل منها أساس لرؤيته للفن وعلاقته بالحياة .
- أول هذه السمات هى ` الموضوعية الجماعية ` بمعنى أن الفن لا يدور حول هموم الفنان الذاتية .. بل هو تعبير عن إدراك الجماعة البشرية الحقيقية من حولها وفى نفسها .. وبذلك يكون الفن جماعيا يأتلف فيه الفنان والفن والعصر. وهذا ما دعا حامد سعيد وتلاميذه ألا يعنوا بإثبات إمضاءاتهم على أعمالهم سعيا وراء تحقيق هذه السمة.. سمة `الموضوعية الجماعية` .
- السمة الثانية هى الالتحام بالطبيعة بمعناها الكونى الشامل . فالطبيعة ` أم كبرى ومربية أولى ومحبوبة أثيرة` ومن هنا كان محور نشاط تلاميذ حامد سعيد تأمل هذه الطبيعة لا بهدف الدراسة الأكاديمية أو التسجيل البصرى .. بل للالتحام بالطبيعة والتواصل معها والنفاذ إلى أسرارها ، فهذا الالتحام الحميم بالطبيعة والوفاق العميق بين النفس المصرية وأبعاد الطبيعة بمعناها الواسع الذى يشمل الكون المحيط هو سر إعجاز الفن المصرى القديم .. بل الفنون القديمة كلها ، وسر أصالة الفنون التقليدية ووقعها على النفس التى يربطها جميعا ذلك التزاوج الموفق بين الفن والطبيعة الذى يمكن أن نلمسه حيا باعثا على الأمل حتى اليوم بين تزاوج الناس فى الريف والمدينة .
- أما السمة الثالثة فهى سمة القداسة فى تلك الفنون القديمة ، وهذه السمة لا تعنى عند حامد سعيد `أية صورة من الصور التى تشكلت عليها العقائد والأديان فى تلك العصور` .. ولكن تعنى تلك الإيحاءات التى يركبها أو يوقظ فى أعماقنا سحر تلك الأشكال الفنية التى أحكمت بناءها الأجيال تلك الإشعاعات المنوعة التركيب والتى لا يحدها وصف أو قياس والتى يلخصها وصف التقديس`.
- والسمة الرابعة الهامة فى رؤية حامد سعيد هى إرتباط الفن بالحياة فى فنون الحضارات القديمة فلم تكن الوظيفة فى تلك العصور عقبة فى طريق الأبد بل كانت الحافز والباعث . وهذه السمة بالتحديد هى الأساس الفكرى الذى أقام عليه حامد سعيد مركز الفن والحياة ليواصل من خلاله الدعوة لفن مصرى معاصر يستلهم خبرة التراث الممتد وحكمة الأجيال السابقة` ليضىء الحياة فى شقيقها المادى والروحى` لتبض بالقيمة ضروريات الحياة من أزياء وكساء وبناء وكل ما تحقق بشكل معنوى .. لتتجسد وتتدعم آمالنا وأحلامنا الكبار فى أعمال مشهورة بالقدرة على تثبيت القيم فى أعماق القلب `.
- ودعوة حامد سعيد لارتباط الفن بالحياة هى فى نفس الوقت دعوة للتخلص من فكرة الفن الجزئية كما يثبتها فى وعينا التأثر `بالأعمال الفنية ` والتى هى نتاج ما حل بالنفس الإنسانية نتيجة لآلية الحياة وانفصال الإنسان عن الطبيعة ، ووظيفة الفن أن ` يرؤب الصدع بما يركبه فى نفوسنا من مشاعر التجاوب مع الحياة الكبرى التى نحن جزء منها ، فالفن هو الحياة. لا تستقيم حياة بدون الفن` .
- وفى الختام ربما تكون مناسبة الاحتفاء بالأستاذ الفنان حامد سعيد وتكريمه.. مناسبة للدعوة إلى انعقاد دورة أو حلقة بحث ينظمها المجلس الأعلى للثقافة أو أى من الجهات المعنية بالثقافة فى مصر بهدف دراسة رؤية حامد سعيد وفكرة ، دراسة متأنية ومتعمقة وناقدة، فنحن أحوج ما نكون لمراجعة مسار الحركة التشكيلية ورؤية حامد سعيد ركن هام من أركانها الفكرية التى لم تحظ حتى الآن بالاهتمام اللازم .
أ. د/ محمد سالم
قراءة في فكر حامد سعيد شخصية مصر من فلسفة الفن إلي فلسفة الحياة
- حامد سعيد معلم مفكر وفنان متأمل وصوفي عاشق للتراث المصري مسكون بنور الإبداع من الأضواء والظلال التي تمتد بلا إنتهاء وتتوهج بلا إنطفاء. من الأعمدة الكبيرة في الكرنك. إلي عمارة القاهرة الفاطمية ابتداء من الأقمر ومن شرفات الدير البحري إلي قبة الإمام الشافعي ومئذنة السلطان حسن.
- ومن الهرم إلي المشكاة. ومن رأس موت زوجه آمون إلي صحن إبن طولون وبيوت السحيمي والسناري والغوري وقاعة كتحذا.
يضئ بتأملاته علي الروح والصورة `الشكل والمعني بامتداد الرسوم علي جدران المعابد واتساع المثالية العالية الرقيقة التي أقامها رهبان مصر في الصحراء. وحتي الكتابة علي جدران المساجد. مؤكدا علي وحدة الشخصية المصرية حيث سيشات ربة الإنشاء الهندسي ومعات ربة العدالة والحق وحانخور ربة الفن والرحمة. كلهن مثل إيزيس ورابعة وزينب وهي صور محببة وملامح طيبة لتلك الشخصية وهو عالم مشغول بالنظام الطبيعي للكون. من الورقة الخضراء والبرعم الغض إلي المحار في أعماق البحار وذرات الرمال وقطرة الماء وأبخرة الصباح وتشكيلات السحاب والمجرات والنجوم واستدارات الثمار وبلورات الأحجار والزلط وتشعبات المرجان وارتفاعات الضوء وهمسات الغروب.
وهذا هو السر في أن حامد سعيد صاحب مدرسة هي المدرسة المصرية للفن والحياة مدرسة تؤكد هذا الرباط وتلك الوشائج بين قاهرة المعز وحضارة منف. وبين الرسوم الجدارية والنحت البارز في المعابد والمقابر المصرية. وبين وجوه الفيوم وأيقونات الفن المسيحي ومخطوطات الفن الإسلامي من المنمتمات إلي الفن المصري المعاصر.
وهو يربط الوعي الفردي بالحياة الكونية في صورها وما تراه العين المجردة وما تراه عين العلم وحين يتأمل في وجه مصر التشكيلي يدعونا إلي دراسة التراث المصري وأيضاً تراث البشرية جمعاء. وحين يؤكد علي أن الإنسان يعد جزءا واعيا من الطبيعة يدعونا إلي التواصل مع العصر انطلاقاً من عالمية الوعي وعلمية المنهج وتحرير الفرد.
فالصباح أمل. وابوالهول الناهض فوق الرمال. الدائب المراقبة لمشرق الشمس رمز لهذا الأمل. رمز لخبرة الإنسان الممارسة لعودة الصبح المؤكدة تتحول الصخرة إلي أسد ويتبدل الأسد في القمة إلي إنسان ويرقب الإنسان بفم صامت وعينين واسعتين مطمئنتين مشرق الشمس في الليل والنهار إلي الأبد.
أليست تلك الروية الشاعرية النافدة والتي يأخذها خلالها إلي الفن المصري القديم هي نفسها التي تتردد أصداؤها حين يلقي الضوء علي الفن المعاصر؟! ومن صميم هذه الأرض يخرج مختار المثال الأول في لجد النحت في عصرها الحديث كشجرة أصلها ثابت.
إن بث الحياة في الحجر هو الأمل الذي حققه الفن مرات في حياة هذه الأرض الحجرية لا عن طريق القوة المادية بل عن طريق عصارة الحياة الرفيعة والتي لا تقاوم تغيرا من شأن الموات وتحيله إلي حياة.
كان مختار بشري العصر الجديد في الفن والذي عاد فيه حنين هذه الكتلة البشرية إلي الحياة الخلاقة بعد أن طالت عليها الآثار تحيا كما يحيا النبات في البذور.
وحتي يمكننا أن نتلمس الجوانب الفكرية لحامد سعيد والتي أضاعت علي التراث والكون والحياة المعاصرة. وجعلت من جماعته الفنية بحق! مدرسة للفن والحياة تستشرف المستقبل وتساهم في نهضة مصر والتأكيد علي خصوصيتها مع بداية الألفية الثالثة وتشابك الأفكار التي تدعو إلي العولمة. نقول حتي إلي تلك المساحات الصاعدة والتي تمثل جزءاً من الفكر المصري الحديث. كان علينا أن نصل إلي البدايات الأولي وأن نعود أول الطريق.
البيت الكبير والسفر هنا في حصن القلعة ولد حامد سعيد عام 1908 ونشأ في هذا المكان الذي يعد ساحة من البراح تتألق فيه آيات الإبداع من العمارة الإسلامية والمناقد والأعمدة والحشرات الخشبية والمشربيات في جامع السلطان حسن والمارداني وصحن ابن طولون. وتقف قلعة صلاح الدين في مواجهة جبل المقطم تشكل هذا الحوار الشاعري الأخاذ عند الشروق والغروب بين عبقرية الطبيعة وتراث الإنسان ومن سوق السلاح. من البيت الكبير الإسلامي الطراز: القاعة الرحبة والنافورة والحوش والحديقة وشجرة النبق الكبيرة والحيوان الأليف خزانات الكتب من التراث القديم والحديث. مجموعة الأشياء الطبيعية من الأخشاب المتحجر- والنباتات الجافة، قطع الأحجار والزلط وشعب المرجان مع مجموعة أخري اختارها رب الأسرة من أدوات الحياة تجمع بين المسابح والعصي والمحابر ويفط الخط العربي وقطع الفن المصري القديم، وفي هذا المناخ تربي حامد سعيد وسط هذا الفيض الذي يدعو إلي التأمل ويحفز علي البحث والإبداع. وعندما أراد الإلتحاق بمدرسة الفنون الجميلة نصحه والده بدخول مدرسة المعلمين العليا ليتسلح في حياته المستقبلية لشئ آخر أكثر ضماناً من الفن.
هناك التقي بالمعلم الفنان حبيب جورجي والذي اقترن إسمه بحقل التربية الفنية، فتغير اتجاهه وتخرج من المدرسة ليدرس الفنون بدلاً من العلوم وهداه تفكيره إلي أن يكمل الدراسة في الفن فيسافر في بعثة إلي لندن عام 1936 ويعود بعد ثلاث سنوات.
لم يذهب حامد سعيد إلي مدارس كليات الفنون المعروفة في لندن، فقد حدد طريقه قبل سفره من البداية واختار أن يدرس الفن عن طريق أستاذ كان قد قرأ عنه وسمع به هو الفنان والناقد إميدبه أو زنفان والتحق بمعهد لندن.
كان أزنفان (1886-1968) رساماً فرنسياً مثالياً وزعيم مدرسة فنية وصاحب نظرية النقاء` بيورزم `، والتي شارك في إصدار بيانها عام 1919 مع زميله الفنان والمهندس المعماري العالمي لوكو بوزيه، وتعني اختزال الأشكال والألوان إلي أبسط عناصرها، يرسمها إلي درجة عالية من التنظيم المحكم ليستنهض كل طاقة الخيال والتصور عند المشاهد حيث يسجل جوهر العناصر مجرد- من كل زيارات عارضة قد نادي بنظريته تلك في كتاباته العديدة خاصة في `الوثنية` وهي مجلة فنية أصدرها بالتعاون مع مايتسن وديران وبيكاسو والشاعر ابولنيير وغيرهم.
في مبني قديم له باب خشبي رمادي اللون رسمت عليه ثلاثة مستطيلات متجاورة بالألوان الأزرق والأبيض والأحمر (علم فرنسا) وتعلوه لوحة كتب عليها أكاديمية أوزنفان للفنون الرفيعة. في هذا المكان بدأت دروس `حامد سعيد` في الفن وكان يشاركه الدراسة الفنان راتب صديق الذي يصف معني فلسفا الفن عند أوزنفان.
` النظرة العابرة والروية السطحية للطبيعة لا يحل لها- التأمل الطويل الواعي للطبيعة ـ الرؤية المتعمقة المثقفة ـ احتضان هذه الرؤية في داخل الكيان حتي تنصهر تماماً مع الإنسان مع الفنان ثم ليجد لها المعادل الفني الذي يمكنه تحقيق وتجسيد تلك الرؤية في الخارج علي الورق.
لغة الشكل هي اللغة التي يخاطب بها الفنان العالم الخارجي، من هنا يحكم الطبيعة نظام هندسي علي الفنان أن يكتشف هذا النظام وأن يكشف عنه في الجزء وفي الكل بالروية المتعمقة المتأملة بالعين المجرد- وبالعدسات الكبير` والميكروسكوبات الدقيقة. بأشعة اكس- شتي الوسائل العلمية ليكشف عن ذلك الخيال الحامل و النظام الدقيق الدفين الذي لا يستجيب أبدا للنظرة السريعة العابرة ولقد كان القلم الرصاص هذه الخامة البسيطة وباستخدام أقصي إمكانياتها هو الأداة التي يمكن قيادتها والسيطرة عليها بإحكام أكثر من الفرشاة للتعبير عن تلك الفلسفة التي تحتضن الطبيعة وتحتويها، فسن قلم الرصاص الرفيع جدا والصلب يمكن أن يتغلغل إلي أدق التفاصيل والأحاسيس، معبرا عن فكر الفنان ومع ضربات القلم المحكمة والمدروسة والتي تقع في النقطة التي يريد الفنان أن تقع فيها- يظهر تحتها سطح الفورم رويداً رويداً ينمو ويشتد ويعبث بحرية بإرادة الفنان وحسه.
ولقد جاعت دراسات حامد سعيد بأكاديمية أوزنفان تعبيراً عن قناعات بداخله، ومن البداية كما ساهمت في النهاية في تعميق مدرسته التي اشتملت علي الفن والحياة فيما بعد.
وهو الذي يؤكد بأن الطبيعة وما توحي به وما تعطيه بالنسبة لنا أم كبري ومحبوبة أثيرة، نسعد بهديها ونعترف بفضلها وننتشي بوصلها، ولاحد لما ندين به لها. والطبيعة لنا ليست بالماء ولا الهواء أو السماء. ليست الشجر ولا الحجر.
ليست النبات ولا الحيوان. لكنها أكبر وأعم وأشمل، هي الروح الكبري تتجلي في كل هؤلاء وفينا جميعا. في الماضي والحاضر والمستقبل وطوال فتر دراسته بلندن. لم يغب الفن المصري القديم لحظة واحدة عن عينيه وفكره، فكان يتأمل ويدرس النحت المصري بالمتحف البريطاني ويمتلئ بلوحات بيروديلا فرانشيكا بالمتحف الأهلي ويعقد المقارنات هنا وهناك ليس من حيث الأسلوب والطراز ولكن في الفكر والحس والقيمة من خلال هذا الفرح الرصين الذي يشعه تمثال الملكة زوجة رمسيس الثاني بالمتحف البريطاني وما تشعه فتيات بيرو في لوحات الميلاد والعماد بالمتحف الأهلي.
وتجول عيناه باهتمام من البريطاني إلي الأهلي إلي التبت والهندي وفكتوريا وألبرت إلي المجموعات الخاصة بالجامعات والهيئات. ومن الأوروبي إلي الهندي والصيني والإسلامي ومتاحف العلوم والتاريخ الطبيعي والجيولوجيا.
ويعود إلي مصر مرورا بباريس، هناك يزور المتاحف بفكر جديد وروي جديدة يكتشف أن: السيادة الحادثة للفن الأوروبي المعاصر هي إقليمية منتشرة في صور عالمية زائفة وهي نتيجة لسلطان القوي السياسية والاقتصادية المستبدة بواقع حياة اليوم وأن الخلاص من هذا الاستعداد الطاغي يكون بمزيد من الوعي بالجذور الحضارية لكل شعب من الشعوب والتي يكشف عنها تاريخ هذه الشعوب، وتتجلي في منجزاته الحضارية.
ما بعد المودة يعود حامد سعيد إلي شجرة النبق فتمتزج الآفاق ويبدع وحي الشجرة وهيأتها ولحاؤها بالقلم الرصاص، عوالم من تأملاته كانت تختص بالرؤية السطحية المباشرة لكي تتشكل هنا علي سطح اللوحة في ملاحم من الخلايا والتجاويف.
تمثل عصارة الحياة حيث يتعانق الضياء من الظلام كالليل والنهار، وتكشف الطبيعة عن قوتها وحنانها وصفائها وسحرها في تجليات وإشراقات لا تنتهي.
ومع دراساته الفنية وقراءاته بدأ دوره كمعلم للفنون بمعهد التربية العالي للمعلمين، ثم يسافر إلي أسوان للتدريس بمدرستها الثانوية بناء علي رغبة منه أبداها للمسئولين في وزارة المعارف ويعود لينضم إلي أسرة التدريس بمدرسة الفنون العليا ويقدم اقتراحاً بتدريس الفن بنظام المراسم الحرة ويعمل به حيث يقام مرسم له وأخر للفنان أحمد صبري والفنان عبدالقادر رزق، بعدها يتجه من القاهرة إلي الأقصر ليشرف علي البعثة الداخلية لمدرسة الفنون الجميلة في مرسم الأقصر، هناك يمتلئ بعبقرية الزمان والمكان.
البر الغربي للنيل حيث وادي الملوك ووادي الملكات. الطبيعة التي تمتد بلا حدود.
الصحراء والجبل والصخر `إنني أدين لهذا المكان في بنائي النفسي وسعادتي عن طريق تأملي العملي الفني بالقلم الدقيق بالكثير مما لا يسهل تحديده أو الإشارة إليه، ولكني أحاول أن أثبت من ذلك العطاء الفياض: إنني تعلمت كيف تكبر الطبيعة الفن بغير حد. كيف تفجر الطبيعة الفن بغير حد، كم هي غنية بالبناء المعنوي تلك الصخور. كم هي بليغة وحاضنة بالقلب المتفتح لها. كم هي رائعة تلك النفس المصرية القديمة في حسن اختيارها لهذا الموقع ولغيره من المواقع التي تحفل بها البلاد ونغفل عنها.
وعاد `حامد سعيد` إلي القاهرة وانتقل إلي العين في خيمة بضاحية المرج وسط النخيل ومروج الحقول الخضراء وصفاء السماء. ومع نهاية العام يصمم له المهندس المعماري حسن فتحي وفي نفس المكان بيت حامد سعيد للفن والحياة. يصممه قبل قرية القرنة بأربعة أعوام.
جماعة الفن والحياة
نحن نفضل الإصيعي علي الإناء. نريد الإصيعي رمز الوعي الذي ينمو فيه النبات ليزدهر ويثمر يستعيد الوجدان أصالته ويصبح مرة أخرى تعبيرا روحيا عن مغاليق الكون المادي المحيط من زرع وماء وسماء وصخر وصحراء وهواء وكل مأدب أو سبح أو طار. فالكل يشتاق إلي تعبير هو تحقيق لمعناه علي مستوي إنساني أصيل ومعاصر وسليم.
إن التراث الحقيقي ليس هو الأحجار ولا النصوص. ولكنه الإدراك المكتشف من خلال الأعمال وقيمته أن يثري الحاضر ويسهم في صنع المستقبل.
نحن نطالع للفن والحياة وجها جديداً في كل خبرة جديدة، بل أننا نحن أنفسنا نصبح غير ما كنا من قبل ونشعر في نفوسنا بالخبرة التي تراها علي نصل الورقة الخضراء الجديدة كلما نمت معرفتنا الوجدانية للفن عن طريقة الحياة وللحياة عن طريقة الفن.
من هذه الأفكار ظهرت جماعة `حامد سعيد` للفن والحياة كونها من تلاميذه بمعهد التربية للمعلمين عام 1946، وارتكزت علي رفض المفهوم الأكاديمي في الفن الأوروبي في رفض الفن الحديث. وواضح من تلك الأفكار أنها تعتمد إلي تأمل النظام الطبيعي واحترام التقاليد الفنية والقومية القديمة، وذلك من أجل تحقيق نوع من فن جماعي الطابع بدلاً من الفردية التي يتميز بها الفن المعاصر.
وأنها البهجة أن نري العالم بآلاف التنوعات والاختلافات كوحدة واحدة لندرك اليد الواحدة وراء كل هذه الأشياء. الفن يعلمنا كيف نري ونتصور الكل في واحد، وإنه لشوق إلي الكمال تجاه الصورة الإلهية التي تبدو وتتألق في كل ما حولنا. فالورقة الخضراء ليست تماماً هي الورقة، والحجر ليس هو الحجر. هي فقط الرمز والمعني. لذلك فعلاقة القرابة اللائقة بين الإنسان والطبيعة هي علاقة من الحب،. وهذا هو موضوعنا وغايتنا، هكذا يؤكد حامد سعيد مقدمة مطبوعته `الكلمة والصورة` والتي اشتملت علي أعمال أعضاء جماعة الفن والحياة من لوحات وقطع فنية، وواضح من عناوين الأعمال مع محتواها مدي علاقة الفنان بالطبيعة هنا.
(الأرض اليابسة لأن سعيد- نباتات وصخور لفيكتو كامل- لوتس لحنفي عبدالمجيد- القاهرة المقطم لمجيد جرجس- أمومة الأنور عبدالمولي- ماء ونبات لمحمود عفيفي- ضريح ونبات لحامد حميدة طيبة `صخرة من وادي المكان` لحامد سعيد.
وفي معرض الجماعة بلندن قال الناقد العالمي `هربرت ريد` حين طالع الأعمال: هذا هو العمل المطلوب اليوم للإنسان،.
وعندما دعيت إلي هنا كنت أتصور أنني سأري شيئاً وبقليل من الأمل. ولكن كان أول انطباع عندي أن هؤلاء الفنانين علي خلاف المألوف يعملون خارج محيط تأثير بيكاسو خارج اللغط الذي يصحب أعماله. هم فنانون أمناء وهي صفة نادرة في هذا العصر.
إن سر القوة المحيطة في هذه الأعمال أنها ليست مجرد ممارسة فنية للفن فقط وإنما وراءها فكر فلسفي، وإنني حين أريد شرح هذا الفكر أقول كلمة `وليم بلبك ` الشاعر والفنان والمتصوف في شعره: أن نري العالم في حفنة من الرمل.
كلام بلبك هذا هو أقرب شئ يفسر الفلسفة المبنية عليها أعمال هذه المدرسة.
ولقد جاعت أعمال فناني الجماعة ارتباطا بالهدف الكبير الذي يبغيه رائدها، هو التوحد مع الطبيعة وأن ينزاح الفاصل بينها وبين الفنان حتي يصبح بداخله ذلك المتحف الكبير الذي تحتويه مضافا إليه متحف تراث الإنسان حتي يتأكد الهدف الأسمي انطلاقاً إلي إبداع جديد يعمق الوعي بمعني الإنسان ومعني الحياة.
ومن بين جماعات فنية عديدة ظهرت واختفت بدءاً من العشرينات من القرن الماضي وحتى الثمانينات ` كان أولها جماعة الخيال التي أسسها مثال مصر محمود مختار` استمرت جماعة حامد سعيد وتحولت إلي مدرسة تعيد الوظيفة الطبيعية للفن وصلته بالحياة وهذا هو سر استمرارها مركز الفن والحياة `نحن نري الشخصية المصرية رأي العين: عين البصر وعين البصير- في رحاب الأرض المصرية وتحت سمائها. نري شواهد هذه الشخصية في منجزات مصر عبر العصور تنبض نبضاً واحداً متواصلاً تواصلاً ديناميكياً خلاقا متحرراً من التبعية ونابعاً من أصول أصيلة في النفس والبيئة وأرجو ألا يتطرق إلي الذهن أننا ندعو إلي إنغلاق ثقافي، لأننا مع وحدة العالم والتي أصبحت حقيقة اليوم ` في عام 1969 بدأ مركز الفن والحياة في هذا المكان البديع بقصر المانسترلي، أختار حامد سعيد أن تنطلق دعوته من هذه البورة الحضارية من ملتقي منف ومصر العتيقة المسيحية وفسطاط مصر الإسلامية وقاهرة العصر الحديث. وفي هذا المكان الأثير فوق مقياس النيل في الطرف الجنوبي من جزيرة الروضة يستعيد الوجدان أصالته ويصبح مرة أخري تعبيراً روحياً عن مغاليق الكون المادي المحيط من زرع وماء وسماء وصخر وصحراء وهواء. وقد ضم المركز مجموعة من شباب الفن ممن تشبعت روحهم بثقافة وفلسفة `حامد سعيد` وامتزجت رواهم بأسلوبه في الفن والحياة جاءت أعمالهم الفنية ترديداً في نغمات متنوعة لتلك المفاهيم التي أرساها من مجسمات النحت الخشبي لحافظ عفيفي إلي التشكيلات الفنية بالعاج والبلاستيك لحافظ رشوان، ومن خزفيات كمال عبيد ذات الطابع المعماري إلي تصميمات القماش والزجاج الشعبي وزخرفته لخميس شحاته إلي فن الحلي والمجسمات الطينية لعايدة عبدالكريم وليلي السنديوني مع النسجيات المرسمة والطباعة علي القماش `لسناء عز الدين `وإجلال عبدالقوي` وأشغال الأوية `لثريا نصيف ` والتطريز `لبثينة عبدالجواد`. وقد أدارت المركز واحدة من مريدية وتلاميذه. الفنانة `إحسان خليل` وهـى فنانة امتدت أعمالها بالبحث والإبداع من الرسوم الدقيقة المنمنمة إلي الحائطية الضخمة، ومن رسوم البردي إلي الطرحه والأشارب تصممه وتطبع نقوشه. إلي فن الكتاب ترسم وتصمم أيضا `تسابيح اخناتون` و منطق الطير` والجميل أن دعو `حامد سعيد` ارتبطت بتلك المشاهدات التي كان يصحب فيها أعضاء مركز الفن والحياة من حضن الطبيعة إلي الآثار. ومن الحدائق والمحميات إلى القاهرة الفاطمية والهرم وسقارة والأقصر وأسوان. وظلت تتجاوب أصداؤها في أفاق الحياة الثقافية بالقاهرة ويلتف حولها كل من يهفو إلي تحقيق المعني الحقيقي لهذا المصطلح الذي تردد كثيرا في ذلك الوقت مصطلح الأصالة والمعاصرة `إلي هنا حتي تحول مركز الفن والحياة إلي بيت الفن والحياة وانتقل موقعه علي النيل جنوب جزيرة الروضة إلي تلك الواحة الخضراء بكفر الشرفا من ضاحية المرج حيث يطل بيت `حامد سعيد` الذي بناه حسن فتحي حديث الأربعاء في جمال عشوائي بديع تتشابك الأشجار وتتعانق أغصانها. تشكل تلك التعريشة الطبيعية،. حيث تتخللها الأشعة تسقط علي المكان حانية دافئة متناثرة كالقطع الذهبية بما في ذلك سطح البحيرة الخضراء والتي أخذت لون مياهها انعكاساً لما حولها من نباتات وزرع وأشجار وبوص ونخيل وصبار تموج الأسماك الصفرة المرحة ويتحلق حولها في شكل دائري كراسي ومناضد من جريد النخيل تعكس روح الشرق الفنان هنا وفي دروة بيته الطيني يجلس في وسط أصدقائه ومحبيه تحت التعريشة الخضراء في مقام سقراط تلاميذه ومكانة العقاد من مريديه.
يلبون دعوته. ظهر الأربعاء الأخير من كل شهر.
دعوى ينادي بها أكثر من خمسين عاماً وما زالت تتجدد وتتألق. دعوته إلي العودة للجذور والطبيعة وامتداد الروح المصرية والوحدة الكلية في الفن وسر خلوده وتوحده مع الوجود، مضافاً إليها مواجهة القرن الجديد والتي نعيش بدايته الآن.
في ملامح هادئة وبصوته الخفيض تتوهج كلماته. تنبعث متوحدة مع حركة الأوراق والسيقان الخضراء. يقدم تلميذته وزوجته وشريكة مسيرته الفنانة إحسان خليل حيث تقرأ حديثه.
الطبيعة تتعانق وتتجاذب هنا العين تسمع والأذن تري. نسمع حركا العصافير واليمام والهدهد المسالم، ونري لهو الجراء الصغير بالأوراق المتساقطة. وعندما تتطلع إلي بيته هو السكن والمرفأ الطيني تجئ كلماته تعبيرا لمعني الحضارة.
البناء المشدود بقوالب الطوب الأخضر المصفوفة والمشدودة بعضها إلي بعض بالطين ليبدو في خروجه من الأرض تابعا لها وجزءاً متمماً لكيانها كالشجرة تماماً تلك الهندسة الرحيمة المودعة في قالب الطوب مللها كهندسة الإناء المصنوع بيد الإنسان وبغير عجلة الخزان رقيقاً رفيقاً أنيساً.
العقد والعتوة والقبة تحيط بأغصانها وتلفها في دعة وأطمئنان نحو شعور بالأمن والاستقرار، فهي تتعاون معنا لكي نحتوي ذواتنا مجمعة غير مشتتا داخل ذواتنا. وبمعني بسيط هي تكون لنا المسكن والنور والهواء المتدفقان في هذا البناء يكيفان الحس والروح بهدوء وانتعاش.
هذه الاعتبارات ساعدت علي جذب انتباه المعماري `حسن فتحي` إلي البناء بهذه الوسيلة البسيطة والإستفادة من قدرات الناس المعمارية ودعوة مواهبهم الإبداعية وإغرائهم بمساعدة أنفسهم بأنفسهم عن طريقة إقامة ما يحتاجون إليه من مساكن في قدس الأقداس البيت ورمز اليدان: الكفان المتعانقان كف الرجل وكف المرأة والتنويعات علي هذين اليدين لا يحدها الحصر، وتبدو في أكمل صورة حين توجد العائلة: الرجل والزوجة والأولاد. هذا هو معني الثقافة المصرية. وكلمة فرعون تعني رب البيت الكبير. ونحن نعتبر البيت بذرة الحضارة، فهو اللبنة الأولي. العالم الصغير الذي توضع فيه بذر الوعي وهو جزء واع من هذا الكون الشامل.
دخلنا بيته الطيني. علي الحائط لوحة خزفية بديعة التشكيل للفنان حسن حشمت تنطق بحروف `إدخلوها بسلام آمنين` وبجوارها يتصدر تمثال `حاملة الجرة` للمثال أنور عبدالمولي الذي باغته الموت عام 1966 وهو لم يتعد السادسة والأربعين.
أنور عبدالمولي هذا المثال حمل رسالة تكملة جهود مختار العظيمة، واتجه بالنحت خطوة إلي الأمام. ولكن مع الأسف الشديد لو كان هناك نقاد بالمعني الحقيقي، ولو كان هناك وعي بمعني التراث لو ضعت أعماله في كل مكان. فهو مثال أعماله أحجار تحمل معني التفاؤل والإشراق وبشارات الحياة ` غمرها بفيض الأمومة والخصوبة والحنان والسلام، في الحوش تزدحم الأشياء في تألف حميم.
دكة نورج. وأوعية صغيرة ومتنوعة وأصص للزرع في أحجار عديدة `تتألق بخضرة الصبار بشتي أنواعه وأوان ضخمة للخزين في تشكيلات كليرة، هذه الأواني تكون الأساس غير الملتفت إليه، ولكنه الأساس الثابت المتين للغة الشكل البليغة الرائعة التي كانت فيما يبدو ملكا مشاعا للجميع اشتركت فيه الأيدي والعيون والطين ووظيفة الإناء المطلوب وحصيلة ما ادخرته تلك النفوس من خبرتنا بالحياة وكيف تصوغ أشكالها في الطبيعة،، في الداخل تمتد الممرات وتتعدد الأقواس توحي بالجلال، وكأننا بأتجاه قدس الأقداس وعبر سمة تطل لوحات بعضها ملفوف وبعضها معلق علي الحوائط مع مستنسخات لتماثيل فرعونية مسكونة بمعابد عديدة من الصمت والسكون إلي الهدوء والوقار. نطالع لوحا خطية تضئ بثلاث كلمات `سبحان الفرد الصمد` في خط منمق غني بالتشكيل للفنان حقي تحمل تاريخ 1934 الكتابة العربية بتنويعاتها وحيويتها في تجريداتها الشكلية وما تبدعه من براعة في التركيب وسيطرة علي الفراغات في الإمكان أن تضاهي فنون النحت البارزة من الفن القديم وكأنها أصداءها من بعيد. هذه الأشكال الهندسية المجرد- والتي تتضح أحياناً في هيئة أوراق الشجر أو الزهر تحتفظ بسر الحياة` في حجرة نومه يمتد السرير عبارة عن مرتبة محمولة علي مصطبة مبنية مغطاة بمفرش منقوش ببديع النقوش. بالإضافة إلي هذا لم تدخل الكهرباء منزله إلا في عام 1993 وكما تقول تلميذته د.علياء رافع: لقد أراد لأسلوب حياته أن يكون متوافقاً مع هذا الأسلوب الطبيعي، وهذا لا يعني أن الأستاذ `حامد سعيد` يجافي التكنولوجيا بل علي العكس فهو يقتني أحدث الأجهزة وكذلك أفضل الكاميرات في التصوير، ولكنه يرفض أن تفرض عليه التكنولوجيا نظاماً يخرجه عن سلامه مع نفسه.
نحن نتعلم القراءة والكتابة ولا نتعلم فن الرؤية لابد أن يكون هناك نافذة في البيت تدور فيها النجوم. أريد للبيت أن توجد به بذرة متحف ويمكن للمتحف أن يبدأ ببطاقة بريدية ويزاد عليها خرزة أو زلطة أو أي شئ جميل المهم التأكيد علي عدم القناعة الموجود ومحاولة تنمية الخبر- وتنمية الوعي بحيث يتحرك الإنسان قليلا وقليلاً نحو الهدف الكبير.
في كل ركن من أركان بيته نطالع مع لوحاته أعمال تلاميذه وتلميذاته من فناني مدرسة الفن والحياة. بدءاً من لوحات زوجته `الفنانة إحسان` ذات المساحات الصريحة الضخمة في ألوان هامسة مسكوناً بهذا الحس الصوفي تستلهم أفكارها من طبيعة النحت المصري القديم البارز والغائر الذي يتسم بالرقة والرشاقة والسمو والإشراق.
ومع لوحاتها تتألق أعمال الفنان زكريا الخناني في النحت الزجاجي بجوار المجمسات الطينية والعقود والأقراط داخل سواتر زجاجية.
مصوغات الزينة الشخصية فيها أناقة ورحابة وفيها شغف بالطبيعة في صورها العديدة `أعمال بالغة الدقة في صنعتها ولها سبيل إلي هندسة معمارية الكيان بغير ثقل ترتديها المرأة فتوحي بشخصيتها خاصة وهي الأمل.
لماذا كان الإنسان رجلا وامرأة وطفلا.
فالمرأة هي الأم والينبوع ولإعادة بناء الشخصية في امتدادها المتجدد لابد أن يتغير مفهوم المرأة من وضع التبعية إلي وضع جديد وأصيل.
الفن والحضارة يضئ حامد سعيد بتفاسيره وتحليلاته في تجليات شاعرية علي الفن المصري ويؤكد بأن الحضارة ثورة علي الهمجية ويربط الماضي بالحاضر المصري القديم الإسلامي المعاصر.
من الفن المصري نتعرف علي مضاء العزم وهدوء الإيمان ونقاء الشكل وتجلي الحق في الخلق ومعني الخلود ونظرة الصقر وقسوة الحجر وطلعة الأسد ورقة الزهر ودقة أبن آوي ونعومة الثعبان وغرابة الحيوان ووحي الأنوثة وسمت الرجولة وقوة القرن. وخفة الريش ورقة الجناح وثقل الجبل وأناقة الطير، وغير هذا من الصفات التي تتشعب وتختلف وتتضاد ولكنها تتقابل في حلول سعيدة موفقة في الفكرة المصرية كما تحاول أن تتقابل في القطعة الواحدة من الفن حتي إذا عدنا إلي الطبيعة تعرفنا علي هذه الصفات وتدفعنا بدورها إلي كثير غيرها.
والفن المصري والفن الإسلامي وهما شاهدانا الأساسيان علي فلسفة هذا المكان واستشفاف الغاية يهديان إلي تربية البصيرة والنماء بها إلي سماء المعني.
وتتصل الوشائج حين يأتي حديثه حولى بداية النهضة الفنية الحديثة متمثلة في رواد الفن المعاصر شئ من شاعرية النيل كما تفصح عنها المراكب النيلية ذات الشراع تحف بأعمال مختار عندما يعبر عن فتاة الريف.
شئ من رفق المياه ومن رفة الهواء يسوس نحت ذلك المثال عندما يصبح بحق رمزاً لتحقيق القومية الذاتية من جديد.
هل كان من قبيل الصدفة أن يكون رمز تحقيق ذاتيتنا الثقافية الجديد- مثالا؟ وأن يكون رمزاً يكون رمزا لتلك النهضة من وراء الوعي؟ وإذا كان مختار يمثل شعر الصباح، فإن محمود سعيد يمثل شعر الليل ليس بظلمته الحالكة حيث الخوف والجزع، بل الليل حيث تنوب الأشياء لتولد جديدة في الصباح.
والأنثي في أعماله بعد كل اعتبار ورغم مختلف ما عبر عنه من شتي الموضوعات وقد صورها واستعرضها بمختلف الآفاق: من الريف إلي الحضر ومن المدن إلي الصالون ومن الحب إلي العمل ولكنها دائما الجسد النابض بالطاقة الخفية المتموج من الظلمة إلي النور، ومن النور إلي الظلمة مرة أخري، تلك العيون الشرقية والشفاة المصرية لا شك أثيرة لدي ذلك الفنان الذي راقب في نشاكه العيون فوق النقاب والشفاه من ورائه أما أحمد صبري فكان هدفه هو النور أو التقاء المادة بالنور إذا أصررنا علي التفرقة بينهما.
هو البصر والملمس، هو ذلك العالم الذي فتحت بابه تصادير الفيوم ثم سلسلة الاكتشافات الغنية من الموزاييك إلي `فينسيا` إلي الفكرية ليتسع أفق الرؤية.
و بالنسبة لمحمد ناجي فمن الصعب وضع تاريخ لأعمال ذلك الفنان الذي ترك جميع لوحاته مفتوحة لمعاودة العمل فيها من جديد. هل هو الزجاج الملون؟ أم هو الكليم الشعبي؟ أم ألوان مقابر الأشراف بالقرنة؟ أم بهجة البحر الأبيض أم الحبشة بقبظها وأفريقياً بألوانها؟ أم هو سوق القرية؟ الفن والعولمة يؤكد حامد سعيد بأن الحياة الراهنة للفن في العالم المعاصر تجعل منه نشاطا علي هامش الحياة ` ولم يكن الأمر كذلك ولا ينبغي أن يكون وفي العالم المعاصر يقتصر النشاط الفني علي مراسم الفنانين ومتاحف المثالين وقلة من أصحاب الحرف والمصممين. لقد أدت فكرة الفنان الفرد التي بدأت بعصر النهضة إلي عزل الفن والفنان عن الحياة كما ساعدت فكرة الفن كتعبير عن الذات علي ذلك العزل.
ولقد أسهمت الثور- الصناعية ونظمها الاقتصادية بنصيبها الضخم في اختزال القيم من الحياة ولم يكن ذلك ذنب الآلة، بل ذنبنا نحن وليس من شأن المنفعة والاستغلال وحدهما العناية بالفن.
وفي الآونة الأخيرة تردد مصطلح العولمة والتي لا تتجاوز هذا الكلى التجاري حتي يستغل السبعة الكبار بقية العالم عن طريق الإعلان.
وفارق كبير بين الإعلان والدعاية وبين الإعلام.
وفارق كبير بين العولمة ووحدة العالم مع التنوع والخصوصية المحلية.
فما أحوج الفن الأوروبي الذي أعتني أول ما اعتني بالإنسان الفرد إلي فن كالفن الصينى بعكوفه علي الجبال وتأملاته في الأشجار ومساقط المياه وحركات الأمواج وحومان الطيور وتفتح الزهور.
وما أحوج هذين الفنين المشغولين بالكل عن الجزء إلي فن كالفن الفارسي غني بالتفاصيل وتعهد الحس المرهف بأناقة الخط وتميز اللون وغن في الزخرف ورشاقة لاحد لها في دقة معجزة ونوق نادر.
وما أحوج هذه الفنون الثلاثة إلي فن معمارى غني بالضخامة والفخامة وسجل الخالدين في العابر كالفن المصري وما أحوج هذا الفن الصارم الصامت إلي فن صارخ متعدد كالفن الهندسي. وما أحوج الفن الهندسي إلي فن متزن كالفن الاغريقي في نقائه وترتيبه وتبويبه. `ماذا يقولون` ما ذا يقول أصدقاء الفن والحياة من تلاميذ `حامد سعيد` ومحبيه ومريديه وهم الذين يحملون دعوته. ويتمثلون فكره وفلسفتة؟ الدكتور عبدالغني الشال العميد الأسبق لكلية التربية الفنية: `الجذور`. الجذور ببساطة شديدة هذا ما تتمثله مدرسة `حامد سعيد` بالإضافة إلي إستلهام الطبيعة ويستعير بدلا منه `الطبيعة الحية` مؤكداً علي الكائنات من عناصر الحياة في حركة دائمة ودائبة حتي الجماد دراسة انثربولوجية للمدرسة المصرية للفن والحياة إن قضية حامد سعيد علي الطبيعة تقتصر علي كونه مهتما بالفن ولكنها تزامنت مع دراسة العلوم وإذا كان قد أخذ دراسة العلوم في مدرسة المعلمين العليا موضوعاً لتخصصه فلقد كانت هذه الدراسة ذاتها نافذة له علي الكون الواسع نعلم منها رويته للطبيعة أختلطت بتكوين الفنان منه وأصبح يطور معرفته لتأمله حتي أصبح إدراكه للواقع روية تشمل الحياة كلها.
هانيا مهيب مذيعة ومقدمة برامج بالتليفزيون العربي: إن مدرسة الفن والحياة هي المرفأ الملاذ من طغيان العالم المادي. يمتزج فيها صفاء الطبيعة مع صفاء التراث فتصفو النفس وتعيد سيرتها نحو النقاء والبكارة وفهم الأشياء علي حقيقتها د. سناء عز الدين دكتوراه في النسجيات المرسمة: لو تأملنا هذا المتحف الذي يسكن بيت الفنان حامد سعيد وما يشتمل عليه من آيات الإبداع الإنساني لوجدناه ترجمة صادقة للطبيعة وأيضا استلهاما من التراث المصري عبر عصور.
- الفنان يحيي ابوحمده (80 سنة) فنان تشكيلي ومدير عام المتاحف سابقاً: منذ أربعين عاماً وأنا تلميذ في مدرسة `حامد سعيد` وفلسفته العالية وعمق بصيرته جعلتني أحرص دائماً علي الانتظام في الحضور `دون انقطاع للاستفادة والاستزادة مع الامتلاء بالعلم والثقافة والفن - الفنانة إجلال عبدالقوي: نحن هنا نعيش في حضن الطبيعة والتراث وياله من درس مهم للفنان وأتمني أن يتردد شباب الفنانين علي هذه اللوحة، فهي بمثابة مدرسة يتألق فيها في ثراء كل الأعمال الأصيلة. هذا مع الفكر وفلسفة الفن النابعة من الحياة د.ليلي السنديوني أستاذ متفرغ بكلية التربية الفنية: علاقتي بالفنان تمتد لأكثر من 35 عاماً وبهذا اللقاء الذي لم أتخلف عنه ولو مرة `هو مفكروفيلسوف يعيد لكل شئ قيمته وهيبته
-. إيناس عامر طبيبة أطفال: كل شئ هنا له لغته الخاصة. الطبيعة هنا تتحدث بلغتها.
وأيضا الفن والتاريخ والتراث - الفنانة أماني المفتي: بيت الفنان حامد سعيد يدعوك إلي التفاؤل والدهشة والامتلاء بالطمأنينة والسكينة. فهو يمثل المعني الحقيقي للسكن:- عادل عبدالجواد خبير كمبيوتر: هنا بؤرة ثقافية من النادر وجودها الآن في مصر منها الأصالة والفكر الرفيع.
- الفونس نسيم مدير عام سابق بالمركز القومي للبحوث: من أول ما تدخل الباب تجد إشعاع الفن يملأ الزمان والمكان مع العلم والمعرفة من خلال هذا التزاوج بين واحة `حامد سعيد` التشكيلية وإبداع العمارة الإنسانية لحسن فتحي تحية إلي `حامد سعيد` المفكر والفنان وإلي مدرسته التي تثمل رمزاً مصرياً أصيلاً بعمق الجذور وإتساع الطبيعة في كل اتجاه من أرض مصر.
صلاح بيصار
أحوال مصرية
الفنان حامد سعيد ( 1908 - 2006 ) من أحوال الفن .. إلى أحوال القلب!
- `هذا درس كبير لنا نحن الأوروبيين!` هكذا قال المفكر الفرنسى الشهير جاك بيرك حين ألتقى حامد سعيد وزوجته الفنانة إحسان خليل أثناء معرضهما فى باريس فى الستينيات، الذى أثار الاهتمام بالأصالة المصرية والعمق الروحى الذى تفقتقده الحضارة الغربية المعاصرة.
- كان ذلك هو الفنان المفكر الذى رحل عنا فى مارس 2006 عن عمر يناهز ثمانية وتسعين عاما، قضى أكثرها قابعا فى الظل وسط نخيل ضاحية المرج، معتزلا القاهرة والحياة العامة، بل وكل المدن، بما فيها ومن فيها، فى منزله الريفى الذى شيده له عبقرى العمارة المصرية حسن فتحى، فى الأربعينيات بالطوب اللبن والقباب الاسلامية، النابعة أصونها من الحضارة المصرية القديمة، لم يكن هذا الاعتزال خصاما مع الحياة والتقدم، بل كان اتساقا مع الذات ومع مفهوم مختلف للتقدم، يفرق بين المدنيَّة والحضارة، أو بكلمة أدق: بين النمو التكنولوجى والمعرفى الذى يساعد على الازدهار المادى والمؤسسى وبين النمو الانسانى القائم على معرفة أسمَى بالوجود، وعلى التصالح الروحى بين الإنسان والكون، وهو ما يصنع الحضارات الانسانية. وبالرغم من أن ميدان نشاطه الممتد كان هو الفن والثقافة فان الأقرب إليه هو شخصية المعلم، والمفكر والفيلسوف، والمتأمل الصوفى، مقتربا من طبيعة الناسك، وهذا ما تؤكده نزعة الزهد - بل التقشف - المتأصلة فيه، بعيدا عن مغريات الحياة العلمية، فيما نجد أنه كان فى أواسط عمره (سنوات الستينيات) شديد القرب من مؤسسة السلطة الثقافية اثناء تولى د. ثروت عكاشة وزارة الثقافة، فى كل من فترتى تكليفه بها (أوائل الستينيات وأواخرها)، حيث كان محل تقديره وأتاح له الفرصة ليطبق أفكاره النظرية على أرض الواقع من خلال رئاسته `لمركز الفن والحياة` عام 1968، ليجعل من مؤسسة تنويرية حول قيم الفن المصرى عبر الحضارات المتعاقبة، وارتباط الفن فيها بواقع الحياة اليومية، فكانت محاضراته الشهرية هى وسيلة للتواصل الفكرى مع مريديه الذين أخذوا يزدادون ويستقطبون نوعيات ومشارب شتى من المثقفين ومحبى الفن والتراث، كما كانت الورش الفنية التى أسسها بالمركز وقدم من خلالها الكثير من شباب الفنانين والدارسين بالكليات والمعاهد الفنية هى الوسيلة لتطبيق أفكارة النظرية حول استلهام الفنون المتوارثة لتكون صالحة للتعايش مع الحياة العصرية، وقد اختار لهذا المركز قصرا تاريخياً يلاصق مقياس النيل بمنيل الروضة على الطراز العثمانى هو ` المانسترلى ` كنقطة للتلاقى الحميم مع الطبيعة ومع النيل واهب الحياة والحضارة للمصريين.
- ولا ننس أن تلك كانت فترة وصول الخط البيانى للنهضة الثقافية بمصر إلى ذروته، متجهاً إلى إحياء الجذور الحضارية العميقة فى ثقافتنا التقليدية، وربطها بالتقدم الحضارى العالمى، هذه النهضة التى اختُزلت فى معادلة (الأصالة والمعاصرة) بوعى مبكر فى مسيرتنا الثقافية تحت قيادة ذلك الوزير الاستثنائى، وسرعان ما اتخذ هذا الخط مساره للإنحناء، حتى انتهى إلى نقيضه بعد أقل من عشر سنوات: فى فترة التحولات الجذرية المسماه بعصر الانفتاح، ومازلنا نجنى حصادها المر حتى اليوم!
- ومن بين ملامح تلك الحقبة الزاخرة التى شارك حامد سعيد فى إزهارها خلال الفترة الأولى لوزارة ثروت عكاشة: مشروع التفرغ للأدباء والفنانين، الذى سبقت به مصر العديد من دول الغرب المتقدمة، واستطاع تكوين البنية التحتية المتماسكة للحركة الإبداعية فى مصر من الفنانين والأدباء، قاد حامد سعيد هذه التجربة، وأصدر عنها أروع سفْر للحركة الفنية حول إبداعاتها المتواصلة على أيدى هؤلاء المتفرغين على مدى عشر سنوات تقريبا، وهو كتاب: الفن المعاصر فى مصر، الذى طبع على أعلى مستوى للطباعة والإخراج، وترجم إلى اللغة الإنجليزية حتى صار سفيرا للفن المصرى الحديث على مستوى العالم، ومن أسف أنه كان الكتاب الأول والأخير فى هذا المجال حتى اليوم !.. كما تخلل تلك الفترة ملمح حضارى آخر فى مجال الفن والثقافة شارك فى تنظيمه حامد سعيد، هو بعثة الفنانين والأدباء والباحثين إلى بلاد النوبة عام 1962 قبل إغراقها بمياة بحيرة ناصر عند بناء السد العالى، واستغرقت البعثة شهراً كاملا على ظهر المركب `دكا` التى أقلت أفرادها من القاهرة إلى أسوان ... ففوق مياة النهر الخالد تعانق فكر المفكر مع أنغام المؤلف الموسيقى مع إزميل النحات وفرشاة الرسم وخيال الشاعر ودأب الباحث الفلكلورى والمعمارى والانثروبولوجى، لإخراج ملحمة إبداعية لا تزال آثارها تشع فى تاريخنا الثقافى وفى وجدان الأجيال المتعاقبة حتى الآن، كما يشع كتاب `وصف مصر` الذى وضعه فنانو وعلماء حملة نابليون على مصر منذ مائتين وثمانية من الأعوام !.. مع فارق بسيط وهو أن تراث حملة الفنانين والعلماء المصريين لم يجد من يجمعه وينشره حتى اليوم!
- وعلى الرغم من القامة الفكرية السامقة لحامد سعيد ومن تبلور مشروعه الثقافى، فإن كتبه المنشورة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولم تكن فى حقيقتها غير الحاضرات الشهرية التى كان يلقيها على مريديه بمركز الفن والحياة، وهى تتخذ طابع الملاحظات التأملية للوجود، وللفكر الفلسفى فى الحضارات المصرية المتعاقبة، ولإمكانية استلهامها فى ثقافتنا المعاصرة، بتنظيم الغاية التى تتطلع إليها الأجيال نحو بناء حضارة معاصرة، أساسها العلم والتعليم والإحساس بالجمال، متضافرة مع قيم العدل والحرية، والروح الجماعية التى تميز الحضارات الشرقية عن الحضارة الغربية المعاصرة، إذ يغلب عليها تأليه الفرد والجزر المنعزلة، وقد صدرت أولا فى شكل ملازم منفصلة من مركز الفن والحياة، ثم جمعت فى كتب ونشرت من خلال الهيئة العامة للكتاب.
- إن ذلك يدلنا على تجذر روح الأستاذ المعلم لدى هذا المفكر، ونلاحظ حرصه الشديد على مواصلة هذا الدور التعليمى بعد أن ترك مناصبه الوظيفية، وذلك من خلال المركز الذى أنشأه (الفن والحياة)، أو من خلال لقاء الأربعاء الأسبوعى فى الهواء الطلق أمام منزله `بعزبة النخل` وسط غابات النخيل السامقة مع تلاميذه ومريديه، الذين صار أغلبهم من كبار الفنانين وأساتذة الكليات الفنية، لكنهم ظلوا - حتى وهم يتوكأون على عصيّهم وقد وهن العظم منهم - حريصين على هذا اللقاء مهما كلفهم من مشقة، وعلى الاستماع إلى `الأستاذ`، الذى اعتاد على الإلقاء أكثر مما اعتاد على الإصغاء، أعتاد على `المونولوج` وليس على `الديالوج`، وهو ما طبع اتجاهه - لدى الجمهور الأعم من المثقفين - بأنه الاتجاه ذو البعد الواحد .. وكانت حصيلة هذا الاتجاه فى مرحلة الشباب حول أواسط الأربعينات، هى تشكيل جماعة فنية اشتهرت باسم جماعة حامد سعيد، وهى إطار معنوى لم يتخذ طابعا تنظيميا أو إعلانا رسميا `مانيفستو` مثل الجماعات الفنية التى ظهرت فى ذات الفترة، مثل `الفن والحرية` و `الفن المعاصر` و `الفن الحديث`، التى قادها رموز التجديد والثورة على الفن المحافظ والعلاقات الاجتماعية الرجعية آنذاك، هؤلاء القادة أمثال رمسيس يونان وحسين يوسف أمين وعبد الهادى الجزار وحامد ندا ويوسف العفيفى وجمال السجينى ويوسف سيده ومحمد عويس .. إلخ .. وكان من الطبيعى أن ينظروا جميعاً إلى جماعة حامد سعيد بعدم الرضا، ذلك أنهم إذا كانو قد حفروا مكانتهم بالتجديف عكس التيار المحافظ، المعادى للثقافة الفردية التى كانت ثورية آنذاك فى نظر اليسار من المثقفين المصريين، فإن جماعة حامد سعيد، التى كانت تتشكل من مجموعة من معلمى الرسم بوزارة المعارف العمومية بعد أن وافقت على تفرغهم للفن تحت إشرافه، كانت تجديفا عكس التيار الثورى لهذه الجماعات المتجهة غربا، لهذا وُصمت جماعته بالنزعة المحافظة، فلم يكن المجتمع - (وهو فى مرحلة المخاض الثورى العظيم، وفى ظل احتدام الغضب الجماهيرى ضد الرواسى التقليدية لتحالف القصر مع رأس المال وملاك الأرض ومنظّرى الاستقرار الاجتماعى) - بحاجة إلى من يوقظ الماضى وتقاليده، مهما كان ارتباطها عميقا بالحضارة، ولم يكن المثقفون والمبدعون بحاجة إلى من يهاجم الثقافة الغربية ويعرّى قبحها وخواءها الروحى فى الوقت الذى كانو يرونها قاطرة للتقدم والثورة على التخلف والمظالم الاجتماعية، حتى المدرسة السريالية كانت آنذاك تعتنق الفكر الماركسى الداعى إلى الثورات الاجتماعية لصالح الطبقات المطحونة ...
- ومن هنا .. ارتبط فكر التجديد الفنى بفكر الثورة السياسية والاجتماعية فى وعى شباب الجماعات الفنية على مستوى العالم وفى مصر على وجه الخصوص.
- ولقد رأى حامد سعيد أن مظاهر الانقلاب الفنى فى مدارس الفن الحديث فى الغرب كانت انعكاساً لمظاهر الانحلال فى الثقافة الغربية عامة، بل كان يرى أن تلك المظاهر المتطرفة فى تشويهها للطبيعة وللشكل الانسانى وفى تعبيرها عن الاغتراب الوجودى للإنسان، نابعة من أزمة أصيلة فى تلك الثقافات الغربية، تتمثل فى تعميق النزعات الفردية داخل الإنسان باعتباره محور الكون، ورأى أنها تمتد بذلك إلى جذور الفلسفة اليونانية التى نشأت على هذه الفكرة، وقد نجحت فى بدايتها حين ساعدت فى تأسيس الفلسفة الحديثة المتمردة على الفكر الغيبى والخرافى الذى أدى إلى تأخر الشعوب، لكن الثقافة الغربية تحولت نحو انحلال الجانب الإيجابى من هذه الفلسفة، حتى انتهت إلى انعدام صلاحية الفن لأن يكون عاملا فى بناء الثقافة، فهو فن مأزوم .. ورأى حامد سعيد أن الحل يكمن فى تأمل الفنان `للنظام الطبيعى` وفى العودة إلى الفطرة السليمة والتقاليد القومية، ومن هنا اتجه بتلاميذه إلى القيام بدراسات مكثفة لجذور النباتات وتضاريس الصخور وتعاريج ألياف جذوع الأشجار، وصولا إلى دراسة ملامح الشكل الجمالى القائم على قوانين مستتبة فى فنون الحضارات العريقة، فى ارتباطها بالطبيعة والكون، بنزعة تأملية تنتقل من المادى المحسوس إلى الذهنى المطلق، وفى ارتباطها كذلك بالوعى الجمعى للإنسان بجوهر القوى الروحية المحركة للوجود نحو غايات عليا، بدءاً من الأساطير والأديان حتى القيم الأخلاقية الرفيعة.
- ولقد شهدت المقابلة الوحيدة بينى وبين هذا المفكر الكبير (فى ربيع عام 1989) مناقشة حادة فجَّرها ما كتبته عن أفكاره فى كتابى (فجر التصوير المصرى الحديث). وكان قد أهداه إليه الفنان الكبير الراحل محمد راتب صديق - رئيس أتيلية القاهرة للفنانين والكتاب - ودعانى لحضور لقائه الأسبوعى بمنزله فى (عزبة النخل)، ما شجعنى لإجراء حوار معه نشرته بالفعل بمجلة الشموع فى ابريل 1989 بعنوان (علم أحوال القلب)، أما سبب حدة المناقشة فيكمن أساسا فى أن اللقاء تحول من الاستماع من جانبى .. إلى (مناقشة) بين طرفين، وهو ما لم يكن يحبه، خاصة من شاب فى مثل سنى آنذاك، تجرأ وانتقد منهجه الفكرى فى أول كتاب نقدى له! .. والحقيقة أننى لم أكن أجادله فى أفكاره، وإنما تحفظت على منهج التعميم فى النظرة إلى الثقافة الغربية عامة بوسمها بالفساد والتحلل، فيما اتهمنى بالانطلاق من نظرة ماركسية ضيقة معادية لأديان الشرق وروحانيته، وهو ما استهولت صدوره من مفكر كبير مثل حامد سعيد، يُفترض أن يكون واعيا بالفرق بين الديالكتيك والميتافيزيقا فى الفكر الإنسانى عامة، وهو الوعى الذى جعل ماركس يقدر بعمق شديد أهمية القيم الروحية والدينية فى ارتقاء الشعوب، ولكن المشكلة فى نظر ماركس تكمن فى تثبيت الميتافيزيقا حتى تلغى عامل الحركة وقانون التغير.
- لكن العاصفة مرت بسلام على أيه حال، على مائدة الغداء التى يتصدرها طبق الفول النابت وغيره من أطباق الخضروات المسلوقة التى لم يتناول غيرها لأنه ظل طوال حياته نباتيا، ولم يقدم لمريديه فى لقاءات الأربعاء ما يكسر هذه القاعدة، وفى حديثه المسجل يومذاك أكد حامد سعيد على عدم الخلط بين التقاليد والجمود، فأوضح البعد التجديدى والنقدى فى حضارتنا المتعاقبة، قائلاً لى: التقاليد مثل القلب: إذا لم يتجدد يتعفن. كما أكد على التمييز بين الغرب كموضات يتولاها أساتذة وتجار للفنون وأدعياء لترويج الحداثة، والغرب كمصدر لاتجاهات الفكر، والرؤى التى تكهرب الناس للصحوة، فوراء كل حركة فنية كبيرة رؤية جديدة للحياة والوجود، لكن الاتجاهات الفنية الحديثة فى الغرب تنقصها الحيوية التى تغذى الفن، لهذا فشل الغرب فى امتلاك رؤية إيجابية شاملة للوجود، ولهذا ينتشر التشاؤم والتمرد هناك، والتمرد قيمة إيجابية، إنه يصلح للبداية وليس للنهاية.
- وبالرغم من إشادته بمنجزات العلم والتكنولوجيا فى العصر الحديث، فقد رأى أننا كنا واضعى أساس كل هذا منذ العصر الفرعونى، وكنا نملك فضلا عنه، علما آخر لا يملكه العصر الحديث .. وهو `علم أحوال القلب`، وكان الفن يتضمن هذا العلم، وأكد أن استفادتنا بالتقدم الغربى ينبغى أن تقوم على ثلاثة أسس: المنهجية العلمية، وعالمية الوعى (بمعنى وحدة العالم)، والحرية الخلاقة، بشرط أن يمارسها بهوية تستوعب ملامحنا القومية الممتدة.
بقلم الناقد : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفنان المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية)
|