كامل التلمسانى
أنه كان عضوا في جماعة ` الفن و الحرية ` فأنه حاول عبر لوحاته في البداية أن يحقق هذا المعني لكنه ، و جد في السينما السبيل ، و من هنا كان دخوله المجال السينمائي كمنبر مسموع و مرآي بشكل جيد يفيض من خلاله بما يريده ،
و هو ` كــامـل التـلمســاني ` الذي يعتبر واحد من رواد الواقعية في السينما المصرية بل و يعتبره بعد النقاد رائد الواقعية ، و ليس ` كمال سليم ` لما يحمله فيلمه من مجادلات بين المكان و الشخصيات ..
لا تتوفر في فيلم ` كمال سليم ` ` العزيمة ` عام 1939 .المؤرخ علي أساس كونه أول أفلام الواقعية المصرية ، و ما يميز فيلم ` كــامـل التـلمســاني ` ، ` الســوق الســوداء ` عام 1945 أنه فيلم يحمل طابع الصراع الحقيقي بين المكان و الشخصيات ،
و إذا نظرنا إلى بطله فهو ` عمــاد حمـدي ` الذي يقوم بدور ` حــامد ` الشاب الذي يسكن فوق السطوح في منزلالمعلم أبو محمود ` زكي رستم ` و يحب ابنته ` عقيلة راتب ` ... و اختير ` عماد حمدي لهذا الدور و هو أول بطولة لـ ` عماد حمدي ` الذي كان موظف في ستديو مصر ، و رغم تميز ` عماد حمدي ` في هذا الدور ..
فستنكر هذا الدور بعد ذلك إلا أنه سيظل علامة في تاريخ السينما المصرية ، خاصة و أن الفيلم ظلم عدد كثير من المستويات و لم يأخذ حقه الكاف إلا في الأواخر ، من خلال بعض الدراسات و المقالات ..
` كـامل التلمسـاني ` من مواليد 15 مايو 1915 و توفي في 2 مارس 1972 و التحق بأستديو مصر عام 1943 و بدأ حياته الفنية كمساعد مخرج للإنتاج و الإخراج و المونتاج ، و كان مهتم بالفن التشكيلي و مع أعماله السينمائية ` البريمو ` عام 1947 ، ` شمشون الجبار ` 1948 ، أنا و حبيبي ` 1953 ، ` الناس اللي تحت ` 1960 و لكنها لم تصل إلى مستوي فيلم ` السوق السوداء ` .
لقد كان `كامل التلمساني` علماً بارزاً، ليس في الوسط السينمائي فحسب، وإنما على صعيد الوسط الثقافي والفكري بشكل عام.. فقد كان داعية ومبشراً وصاحب رسالة ثقافية، وذلك بمحاولاته الجادة في نشر الاتجاه الواقعي في السينما والفن التشكيلي..كما أنه يمثل، مع كمال سليم وأحمد كامل مرسي وأحمد بدرخان، الجيل الثاني لمخرجي السينما المصرية.. الجيل الذي أرسى اتجاهات الفيلم المصري أبّان العصر الذهبي لأستوديو مصر قبل الحرب العالمية الثانية.
البـدايـة الفـــنية
ولد `كامل التلمساني` في الخامس عشر من مايو عام 1915، في ببلدة نوى في محافـظة القلـيوبية، وأنـهى دراسـته الابتدائية والثـانـوية فيها، ثم التحق بكلية الطب البيطري، ولكنه لم يكمل دراسـة الـطب، فقـد تركـها وهو في السـنة النـهائية.. تَـفـرَّغ بعدها لإرضاء ميوله وهواياته في الرسم والتصوير والقراءة والكتابة والنقد الصحفي، وذلك بعد أن هاجر مع أسرته إلى القاهرة، وتنقل بين أحياء `الصليبة` بالقلعـة و `الجـيزة` و `العباسية`.
بدأت هواياته لفن الرسم والتصوير وهو في سن مبكرة، ولكنها لم تُنمِ وتصقل وتتخذ لها أسلوباً واضحاً ومميزاً إلا بعد التحاقه بكلية الطب، وبعد إطلاعه على المدارس الفنية المختلفة. كان ينطـلق في حواري القاهرة ويجوب قُـرى الريف ليرسم الفـقـراء في قاع المدينة والفلاحين في القرى.. وكانت هذه الصور والنماذج البشرية، وما تلاقيه من عذاب ومعاناة، هي الموضوع الذي يتفاعل في نفسه وينفعل معه، ومن ثم يعرضـه في صوَرِه ولوحاته.
وكامل التلمساني ذو شخصية غريبة الأطوار، كما يقول معاصره وزميله الفنان `أحمد كامل مرسي`: (... شخصيته عصبية المزاج، حـادة الطبع، متوقـدة الـذكـاء، قـوية المنطق، وذلك من أثر قراءاته العديدة، وإطلاعه على كـافة المـذاهب والأفكار من اللـغات الإنجليزية والفرنسية والعربية.. لقد أكتنز قسطاً من المعلومات والمعرفة، والتي تكثـفت وتراكـمت وجـعلته يتـكلم في الفـن والأدب والفـلسـفة والـسـياسة والعـلم والـدين والمجتمع والحضارة.. يتكلم في حماس شديد، بل في ثورة عارمة في بعـض الأحيـان (....) إنه مجموعة من المتناقضات، تلتحم وتتصارع في لحظة واحدة بين جوانحه، وسرعان ما تتحول من حالٍ إلى حال.
إستمر كامل التلمساني قرابة العشرة أعوام (1933- 1943) وهو يـسـاهم في إقامة معارض فنية، ويدعم إتجاهات الفن الحديث في الرسم والتصوير مثـل التـعبـيرية والسريالية والتجريدية.. ولكن المعظم الغالب من أعماله الفنية كانت تنتمي للتعبيرية، فقد كان متأثراً جداً بما تعانيه الطبقات الكادحة.. حيث جسد هذه المعانات بطريقة فـنـية مبـتكرة وخـاصـة بـه، تتـمـيز بالجـرأة الفــنية في التـعبـير، معـتمداً على تدفـُق عواطفه وأفكـاره، أكـثر من إعتـماده على نقـل الـواقـع وتقـلـيده، ومتـخذاً أسـلوباً عنيفاً لا يعرف الإنسجام والتنسيق، بل إنه يعتمد الألوان الصارخة والمثيرة للتعبير عن حالات النـفـس البشرية.
ضــد الفــاشــــية
وفي هذه الفترة من حياته، تعرف التلمساني على مجموعة من فناني الطليعة أمثال: جورج حنين، رمسيس يونان، فؤاد كامل، أنور كامل.. والذين اسسوا فيما بعـد (جماعة الفن والحرية)، ومن ثم أصدروا بياناً فنياً مشتركاً بعنوان (يحيا الفن المنحط)، وهو بيان ضد الفاشية والنازية في ألمانـيا، وضـد موقفها المعـادي والـشرس من الفنانين والكتّاب التقدميين.. ثم أصدرت هذه الجماعة مجلة (التــطور) لتعبر بذلك عن أفكارهم ومبادئهم الإنسانية في مناصرة الفن والحرية.. وقـد لـعـبت هـذه الجـماعة ومجـلتـها دوراً ريادياً بارزاً في ربط الفن بالمجتمع، وكان منهج التجديد هو الاسلوب الأسـاسي والمـلـتزم لهذه الجماعة.
كما لا يفوتنا أن نشير الى أن التلمساني قد ساهم برسوماته وصوره في مجلة (مجلتي) التي كان يصدرها `أحمد الصاوي محمد`، وكانت في ذلك الوقت بمثابة المنـبر الثقافي للفن الحديث.. كذلك تعرَّف على `سلامة موسى` في (المجــلة الجـــديـدة)، وإنتظم بالعمل فيها، وأثبت علمياً ماهية الـفن الحـر ووظيـفته في خـدمة المجتـمع ورفـع مستوى الوعي الثقافي للطبقة العاملة. وبذلك لمع إسـم كـامل التـلمـساني، وتـألق نجمه في عالم الفن والكتابة، حيث أقـام عـدة معـارض حـققت نجـاحـات كبـيرة، وإستطاعت لوحاته أن تثير عاصفة من الجدل والنقاش في الأوسـاط الفنـية، وذلـك بإعتـبارهـا صـادرة من فنـان مبــدع ومـفـكر يحمل رؤية فنية متميزة ورأي حر وأسلوب خاص.
التحـــول الى السـيــنما
ورغم كل هذا النجاح وهذه الشـهرة التي أحـاطت بالتـلمـساني في الثـلاثينات وبداية الأربعينات، إلا أنـه أحـس فجـأة بالـذنب في أنـه لـم يقم بالواجب الذي عليه، ولم يؤدِ الأمانة.. فقد تبين له بأن لوحاته تشترى من طبقة الأغنياء المقتدرين، ومن ثم تُـزيّن بها جدران القصور لتكون حلية وزينة ومتعة للناظرين، دون الشعور بما تنطوي عليه من تعبير عن الفقر والبؤس والعذاب.. وأحس بأنه يستقبل في المجتمعـات الـراقية بالحفاوة والترحيب، في حين أن البعد يشتد ويزداد يوماً بعد يوم بينه وبين آماله وأفكـاره، بينه وبين الجماهـير المحـرومـة والمطـحونـة.. لـذلك، وفي لحـظة خـاطـفة من الغـضب والثـورة العارمة، توقف عن الرسـم وقطـع كـل علاقـاته به، وتوجـّه الى السينما، بإعتبارها أداة هامّة للإتصال بالجماهير العريضة.. حيث بواسطتها يمكن إعادة الحوار بينه وبين الناس البسطاء، الناس الذين أحبهم وتعلق بهم وبهمومهم، منذ نشأته الأولى.
ففي عـام 1943 إلتحـق باسـتوديـو مصـر، وبـدأ مـشـواره السـينمائي بالعمـل كمساعد في الإخراج والمونتاج والإنتاج.. كمـا بـدأ الـكـتابـة في الـسينما، ليـواصل بذلك رسالته الفنية التي بدأها في الرسم، والتي يمكن بلورتها في إن الفن العظيم هو الفن الذي ينبع من الجماهير، والفن الرديء هو الذي يصدر عن أعداء التقدم .. وهذا بالفعل ما تضمنه كتاباه (سفير أمريكا بالألوان الطبيعية ـ 1957)، (عزيزي شارلي ـ 1958).
وقـد تمـيز كـامـل التـلمـساني في كتـابـاتـه بالبـساطة مـع شيئ من الـصـرامـة والتحديـد وعدم الإلتواء في الفكر أو القول أو التعبير عما يشعر به.. هذا إضافة الى أنه قام بتحرير باب (خلف الكاميرا) في مجلة السينما عام 1945، وذلك بعـد إنجـاز فـيـلمه الأول.
لقد أعطى كامل التلمساني للسينما المصرية عشرة أفلام كمخرج ، كما إشترك مع صديقه الفنان `أحمد سالم` وعمل معه في جميع أفلامه، سواء في الإخراج أو المونتاج أو الإنتاج.
وفي عام 1960، ترك كامل التلمساني بلاده في ظروف مريرة وصعبة، إثر محاكمته بتهمة كاذبة.. مما جعله يهاجر الى لبنان، حيث بدأ حياته من جديد هناك، وإستطاع بعد معاناة، أن يصنع له مكاناً مرموقاً في الأوساط الفنية اللبنانية.. فكتب للإذاعة والتليفزيون في بيروت ولندن.. حتى إنتهى به الأمر بالعمل كمستشار درامي لمنتجي السينما هناك.. كما عمل مع `فيروز و الرحبانية` كمعد للنصوص ومنسق لأعمالهم ومشروعاتهم المسرحية والسينمائية.. وفي الفترة الأخيرة من حياته، أنشأ مع شقيقيه حسن و عبدالقادر (شركة أفلام إخوان التلمساني) لعمل الأفلام الفنية والثقافية والتسجيلية.. وعاش في لبنان حتى رحيله عن عالمنا، في الثالث من مارس عام 1972، وهو في السابعة والخمسين.
الى هنا نكون قد تعرفنا على رمز وعلامة هامة من علامات الثقافة المصرية والعربية.. تعرفنا على `كامل التلمساني` الكاتب والفنان التشكيلي والمخرج السينمائي، ولمسنا محاولاته في خلق الجديد المبتكر، والذي يكشف عن مرارة الحياة وحيرة الإنسان بين آماله وآلامه.. وإذا كانت الأكاذيب والشائعات والصحافة قد جَنَتْ على كامل التلمساني، والزملاء أغفلوه والقضاء المصري قد قسى عليه، فإن التاريخ لن يقسو عليه وسيذكره دائماً، بل وستبقى ذكراه في أكثر من مجال من مجالات الثقافة والفن .
رؤية نقدية
لـقد كـتب `كـامل التلمساني` سـيناريو فيـلم (الـسوق الـسوداء)، إضافة الى الإخراج، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ومن ثم قدمه مباشـرة الى مـديـر الإنتاج في إستوديو مصر في ذلك الوقت `أندريه فينو` الـفرنـسي الأصـل، والـذي أعـجـب بمصـريـة الفيلم وجدِّيته.
ويعتبر فيلم (السوق السوداء) إستمراراً لمدرسـة `كــمـال ســـــليم` الـواقــــعــية في فيـلمه (الـعـزيمـة ـ 1939)، إلا أن فيـلم التـلمـساني إمتـاز بابتـعاده عن الفـكر التوفيقي للبرجوازية، والذي طرحه `كمال سليم` في (العزيمة).. فقد تناول التلمساني في فيلمه (السوق السوداء) أخطر المشاكل التي كانت مثارة في تلك الفترة، وهي مشكلة تجّار السوق السوداء أو أغنياء الحرب.. وإستطاع أن يـشرح من خلال قضية بسيطة كيف تنشأ السوق السوداء، وكيف أنه تناول الدلالات الإجتماعية والسياسية لوجودها.. هذا إضافة الى تناوله للصراع الـدائر بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون، وتأكيد دور الجهل في طمس كل الحقائق. كل هذه الأمور قدمها الفيلم على نحو جعل منه فيلماً رائداً بحق.
ثـم لا ننسى أن نـشير الى أن التلمـساني في فيلمه هذا لم يـشأ أن يقـسِّـم شخصياته الى تلك التقسيمة الأخلاقية التقليدية، شخصيات خيِّرة أو شريرة، والتي تناولتها الأفلام المصرية مراراً.. ولم يقف موقف التملق السلبي والخطير من شخصياته المقهورة، لمجرد إعادة الإعتبار لها فقط، إنـه في هـذا الفيلم لا يتملق ولا يـدين، بل يترك شخصياته تعبر عن نفسها وتعيش واقعها الإجتماعي الطبيعي.. إنه يهتم بالبناء الداخلي لهذه الشخصيات ويحاول إسـتخراج ما تحـمله من مـشـاعر وأخـلاقيات وأحـلام.. كما أنه إهتم بنقل وضعها الإجتماعي الى المتفرج وتجسيد ردود أفـعالـها وتفاعلاتها ما بين عالمها الداخلي وعالمهـا الخارجي.. من هنا تبدو شخصيات (الـسوق الـسوداء) بالغة الصدق والثراء، تتدفق بالحيوية وتتطور مع تطور أحداث الفيلم.
وبالرغم من أن التلمساني قـد قسَّم شخصياته تقسيمة إجتماعية، إلا أنه لم يتوقف عند حدود أبعادها الإجتماعية فقط، بل إنه تعمَّـد أن يكون لكل شخصية ملامحـها الخاصة وقسماتها المتفردة.. وهو بهذا قد حمى نفسه من الوقوع في أسر الأنماط التقليدية المباشرة، وجعل للشخصيات الثانوية قدراً كبيراً من الأهمية، تتأثر وتُأثر في الأحداث.
أما بالنسبة للحوار والأغاني، فلا يمكن أن يكون كاتبها إلا الشاعر الكبير `بيرم التونسي`، فقد كانت الروح الشعبية والإجتماعية والصياغة الشاعرية واضحة، وتؤكد مقدرة هذا الفنان في تفهُم وإستيعاب قضية الفيلم الإجتماعية.. ومن الناحية الدرامية جاء حوار الشخصيات متلائماً مع أبعادها الإجتماعية والنفسية والأخلاقية، فضلاً عن القوة الأيحائية والتأثيرية لهذا الحوار الأخاذ المنطلق.. هذا إضافة الى القيمة التعبيرية المؤثرة التي جسدتها الأغنية في التعليق على الأحداث، حيث إكتسبت دوراً إجتماعياً مهماً ودلالات طبقية واضحة.
نأتي أخيراً، لنتحدث عن الأسلوب الإخراجي، حيث إهتم كامل التلمساني بشكل واضح وجاد بكافة التفاصيل الفنية للغة السينما.. فقد جاء فيلم (السوق السوداء) بالغ العطاء، تتسم كل لقطة فيه بقوة التكوين، الى جانب سخاء التفاصيل.. تلك التفاصيل التى لم تكن زوائد، بل أكسبت الأحداث والشخصيات معنى إيحائي يعمِّق المضمون الفكري للفيلم.. كما إستفاد التلمساني من جميع جزئيات السينما وأدواتها (الظل والنور، الصوت، الإكسسوار، المونتاج) وإستخدمها درامياً بشكل موفق.. هذا إضافة الى الجزئية الأهم وهو ذلك التصوير الأخاذ، والذي أداره الفنان المرهف الحس `أحمد خورشيد`، فقد كان إختياره لزوايا التصوير موفقاً، حيث جائت اللقطات الكبيرة لتعبيرات الوجوه ذات حساسية وتأثير جميل وقوي.. كذلك الإقتصاد في حركة الكاميرا، وبالذات في مشاهد الحارة، والتي بدت بعمق مجالها وحيوية حركة الممثلين والكومبارس داخلها، كما لو أنها حارة حقيقية تتدفق وتنبض بالحياة والصراعات.
فن جيد.. فشل.. وأفلام أخرى:
وبالرغم من المستوى الجيد للفيلم، إلا أنه لم يحقق نجاحاً جماهيرياً طيباً، وفشل لأسباب، حددها الناقد والمؤرخ السينمائي `أحمد كامل مرسي`، في أن الفيلم: (... كان سابقاً لأوانه من ناحية، ولأن الرقابة عبثت به من ناحية أخرى...).
إن هذا الفشل الذي صاحب فيلم (السوق السوداء)، قد جعل كامل التلمساني يصاب بصدمة شديدة زلزلت كيانه وأفقدته الثقة بنفسه، وهو الذي كان يعوِّل كثيراً على تجاوب الجماهير لفنه، لذلك أقلع عن الإستمرار في هذا الطريق المبتكر، وإختفى من الوسط السينمائي لفترة، لكنه عاد إليه ليخرج أفلاماً تجارية ضعيفة، بعد إقتناعه بأن الظروف لم تكن تسمح آنذاك بإخراج أفلام واقعية أو أفلام تعالج مشاكل الجماهير الحقيقية.
وعندما سُئل كامل التلمساني (في عام 1945) عن المخرج الذي تأثر به في حياته الفنية، أجاب بقوله: (... لا أعتقد أني قد تأثرت بمخرج معيَّن في أسلوبه التعبيري، وإن كنت أميل دائماً الى دراسة مخرج أفضله على غيره من أئمة الإخراج السينمائي، وهو `جون فورد`.. ذلك في إعتقادي إن السرد الفيلمي يعتمد على تتابع الصور وتكوينها التصويري، أكثر مما يعتمد على الحبكة الدرامية أو التعبير الحواري أو غيره من عناصر المسرح.. وفي أسلوب `جون فورد` من شاعرية الصمت ما هو كفيل بأن يعبر خير تعبير عن كلمات المسرح، وإني لا أعتقد بعظم قيمتها في الفيلم...).
من الشخصية في الفن المصري بين الحرفة والهواية1
وفي أول بيان صدر بتوقيع الفنان المصرى كامل التلمساني في يناير 1937، قال فيه : ` إن الحساسية الشرقية هي غطاؤنا` ولكنه تحت توقيعه ايضا كتب مايلي : ` بيان جماعة مابعد المستشرقين`، وهو وإن كان لجماعة `مابعد المستشرقين` حقا، إلا أنه يحمل في طياته ذلك الاعتراف الواضح المهذب بأحقية خروجه مع جماعته من ثنايا جعبة الفنانين الأجانب. تلك الجعبة التي نتحفظ على مراميها، وإن كنا لا نتجاهل – بالحق والانصاف – وجهها الآخر الجواني في حركة التعبير الفني بصورة مستقلة للغاية.
وفي الفترة من عام 1938- 1946، كان رمسيس يونان والتلمساني، وفؤاد كامل، قد اعتبروا في مصاف الفنانين`اسورياليين` بشكل قاطع، وإن كانوا بعد ذلك قد ذهبوا في الفن إلى شوط آخر بعد عام 1955.
فنون عربية وعالمية
كامل التلمساني. . فنان من زمن الأساطير
قبل أن يترك الكلية كان قد التحم بالحركة التشكيلية فى مصر خاصة بالسريالية والتى بدأت فى مصر على يد جورج حنين ورمسيس يونان واستطاع كامل أن يكون أحد أبرز روادها بلوحاته التشكيلية التى ارتبطت بالفلاحين والبسطاء
- شخصية عصبية المزاج ، حـادة الطبع ، متوقـدة الـذكـاء ، قـوية المنطق ، وذلك من أثر قراءاته العديدة ، واطلاعه علي كل المـذاهب والأفكار من اللـغات الإنجليزية والفرنسية والعربية .. لقد اكتنز قسطاً من المعلومات والمعرفة ، والتي تكثـفت وتراكـمت وجـعلته يتـكلم في الفـن والأدب والفـلسـفة والـسـياسة والعـلم والـدين والمجتمع والحضارة.. يتكلم في حماس شديد ، بل في ثورة عارمة في بعـض الأحيـان .. إنه مجموعة من المتناقضات ، تلتحم وتتصارع في لحظة واحدة بين جوانحه ، وسرعان ما تتحول من حالٍ إلي حال ، بهذه الكلمات يصف المخرج الكبير أحمد كامل مرسي صديقه الفنان والمخرج الكبير كامل التلمساني الذي عاش بين اروقة الفن والادب والسينما جاعلا منها ادوات تقتحم عقول المصريين في محاولة لتحريرها من ظلمات الجهل والفقر والمرض !!
- ولد الفنان كامل التلمساني في 15 مايو 1915 لأسرة فقيرة بقرية نوي مركز شبين القناطر محافظة القليوبية ، وظل بها حتي حصوله علي الشهادة الابتدائية ، وفي هذه القرية تفتح وعي كامل التلمساني ، ورأي البؤس والفقر الذي يعيش فيه الفلاح المصري ، ومن هنا ارتبط بالارض والفلاح حيث بدأت موهبته في الرسم تتكشف وتنقل ما تراه عينه من تناقض واضح بين جمال الطبيعة ومناظر الحصاد وبؤس وفقر هذا الفلاح الذي يزرعها !!
- استاذه الأول في عام 1925 تنتقل الاسرة الي القاهرة ، وتتنقل بين عدة احياء شعبية منها حلوان والصليبة ، واخيرا استقرت بالجيزة حيث التحق كامل بالمدرسة السعيدية الثانوية ، وفي السعيدية يلتقي بأستاذه الاول يوسف عفيفي مدرس الرسم بالمدرسة ليكون مرشده الاول في عالم الرسم ، وطوال هذه الفترة لم تنقطع زياراته لقريته حيث كان دائم التردد عليها ليرسم المناظر الطبيعية ويدرس حال الفلاح .
- وفي عام 1930 يحصل كامل علي البكالوريا ويلتحق بكلية الطب البيطري ، لكن كان الفن قد استولي علي تفكيره كلية فلم يستطع استكمال تعليمه بالكلية ، وقرر انهاء تعليمه بالكلية بعد ان قضي بها خمس سنوات رسب خلالها اكثر من مرة وكان ذلك عام 1941 .
- وقبل ان يترك كامل الكلية كان قد التحم بالحركة التشكيلية في مصر خاصة بالسريالية والتي بدأت في مصر علي يد جورج حنين ورمسيس يونان، واستطاع كامل ان يكون احد ابرز روادها سواء بلوحاته التشكيلية التي ارتبطت بالفلاحين والبسطاء ، كذلك مقالاته التي نشرها في هذه الفترة بمجلة ( مجلتي ) التي كان يصدرها أحمد الصاوي محمد، وكانت في ذلك الوقت بمثابة المنـبر الثقافي للفن الحديث .. كذلك تعرف علي سلامة موسي ونشر معه في (المجلة الجديدة) مجموعة من الصور الادبية تحت عنوان ( من الحياة والفن ) ، كما شارك في هذا الوقت في تأسيس جماعة ( الفن والحرية ) ، ولكن قبل ان نتحدث عن هذه الجماعة يجب ان نتوقف لنري الارهاصات التي ادت الي خروج هذه الجماعة الي النور.
- اغلب الظن ان يوسف عفيفي مدرس الرسم بالمدرسة السعيدية كان هو همزة الوصل التي تعرف عن طريقها كامل التلمساني بالحركة التشكيلية في مصر والتي كانت منقسمة الي فريقين فريق خريجي مدرسة الفنون الجميلة وفريق خريجي مدرسة المعلمين العليا، وكانت تلك الاخيرة تضم يوسف عفيفي والتي احتضنت البدايات السريالية في مصر ، وكانت اول الجماعات التي اسستها هي جماعة (المتحولين) في بداية الثلاثينات وكان سكرتير الجماعة هو جابرييل بقطر، وشارك فيها جورج حنين ورمسيس يونان ، واغلب الظن ان التلمساني كان أحد أعضائها خاصة وان استاذه يوسف عفيفي كان عضوا بها ، وفي عام 1937 قدم جورج حنين اولي محاضراته عن السريالية في مصر وشرع في تنظيم جماعة السرياليين وكان من بينهم كامل التلمساني ، وفي عام 1938 يصدر جورج حنين اول ديوان شعري له مزين برسوم كامل التلمساني مما يوضح العلاقة التي كانت تجمعهما ، وفي نفس العام وتحديدا في 22 ديسمبر 1938 يوقع 40 فنانا ومثقفا مصريا وبينهم التلمساني بالطبع علي بيان ( يحيا الفن المنحط) وكان بمثابة صرخة احتجاج جريئة ضد منع هتلر الفن الحديث في المانيا باعتباره فنا منحطا ، وكان هذا البيان هو بداية جماعة ( الفن والحرية ) والتي اصدرت بيانها الاول في 9 يناير.
- واتخذت الجماعة مقرا لها بشارع المدابغ رقم 28 ، واصدرت مجلة التطور لتكون لسان حالها وكتب التلمساني بها العديد من المقالات والدراسات ، كما نشر بها العديد من رسوماته التعبيرية التي كانت تصاحب الموضوعات والقصص الادبية ، وكان يرأس تحريرها انور كامل.
- كما شارك في تحرير جريدة ( دون كيشوت ) وهي جريدة اسبوعية كانت تصدر باللغة الفرنسية لصاحبها ادوارد الشدياق ويرأس تحريرها المناضل الشيوعي هنري كورييل ، وصمم التلمساني صفحتها الاولي وكان يشارك في رسم صفحاتها الي جانب الرسومات الداخلية المصاحبة وكتب بها ايضا مجموعة من المقالات والدراسات المهمة ، ولعل اهمها دراسة عن الفن التشكيلي في مصر حتي عام 1940 .
- الفن والحرية وفي مارس 1940 نظمت جماعة الفن والحرية معرضها الاول تحت عنوان الفن المستقل شارك فيه كامل التلمساني ، وفي 24 فبراير 1941 نظمت الجماعة معرضا خاصا لأعمال كامل التلمساني فقط وكتب مقدمة كتالوج المعرض صديقه الفنان جورج حنين .
- ويشارك كامل التلمساني في معارض الجماعة حتي عام 1945 حيث اعتزل الفن التشكيلي وقرر التحول الي السينما ولهذا التحول قصة لابد وان تروي !!
- فرغم كل النجاح والشـهرة التي أحـاطت بالتـلمـساني في الثـلاثينات وبداية الأربعينات، إلا أنـه أحـس فجـأة بالـذنب في أنـه لـم يقم بالواجب الذي عليه، ولم يؤدِ الأمانة.. فقد تبين له أن لوحاته تشتري من طبقة الأغنياء المقتدرين، ومن ثم تُـزىّن بها جدران القصور لتكون حلية وزينة ومتعة للناظرين، دون الشعور بما تنطوي عليه من تعبير عن الفقر والبؤس والعذاب.. وأحس بأنه يستقبل في المجتمعـات الـراقية بالحفاوة والترحيب، في حين أن البعد يشتد ويزداد يوماً بعد يوم بينه وبين آماله وأفكـاره، بينه وبين الجماهـير المحـرومـة والمطـحونـة.. لـذلك، وفي لحـظة خـاطـفة من الغـضب والثـورة العارمة، توقف عن الرسـم وقطـع كـل علاقـاته به، وتوجـّه الي السينما، باعتبارها أداة مهمة للاتصال بالجماهير العريضة.. حيث بواسطتها يمكن إعادة الحوار بينه وبين الناس منذ نشأته الأولي. أمر آخر كان في رأيي اشد تأثيرا في تحوله الي السينما عبر عنه كصرخة مدوية في مقال له تحت عنوان (الفن المصري والمجتمع الحاضر) تحدث فيه عن الفنون كلها في مصر وعن طريق صديقه المنتج والمخرج احمد سالم يلتحق كامل التلمساني باستديو مصر عام 1943 ويعمل مساعدا له في افلام الماضي المجهول ورجل المستقبل 1946، وحياة حائرة 1948 كما يظهر اسمه كمدير لإنتاج فيلمه الاخير دموع الفرح 1950 .
- ومنذ عام 1943 شرع كامل التلمساني في كتابة فيلمه الكبير (السوق السوداء) ويبدو انه اراد ان يربط بين تجار السوق السوداء التي تفشت في مصر في تلك الفترة اثناء الحرب العالمية الثانية وبين تجار السينما الذين قدموا افلاما سوداء مثلما اشرنا من قبل .
- ويقوم كامل التلمساني باخراج الفيلم ولكنه يفشل جماهيريا فشلا كبيرا كان كفيلا بإحباط مخرجه الذي تلقي صدمة عمره كان هذا الفشل كفيلا بإخراج التلمساني من دائرة السينما مؤقتا ليعود بعدها لإخراج افلام بعيدة كل البعد عن الهدف الذي من اجله اتجه للسينما ، ونعتقد ان لأحمد سالم صديقه تأثيرا في ذلك حيث يعود الي السينما عام 1947 بفيلم ( البريمو) عن قصة احمد سالم وسيناريو واخراج كامل التلمساني !!
- البوسطجي وتتوالي افلامه بعد ذلك فيقدم عام 1948 شمشون الجبار والبوسطجي ، ثم كيد النساء 1950 وهو الفيلم الوحيد الذي انتجه كامل التلمساني لنفسه بعد تأسيسه لشركة افلام التلمساني، وفي عام 1953 يقدم الكوميديا الغنائية الاستعراضية (انا وحبيبي) بطولة شادية ومنير مرا د، وفي هذا الفيلم يؤيد ثورة يوليو بأوبريت في اخر الفيلم لا علاقة له بالفيلم لكن كما هو الحال في هذه الفترة عندما سارع كل السينمائيين لتأييد الثورة وحشر مبادئها في افلامهم.
- وفي عام 1954 يقدم ( الاستاذ شرف ) عن مسرحية توباز لبانيول ، وهي نفس القصة التي قدمها فؤاد المهندس بعد ذلك في مسرحية ( السكرتير الفني ) ، كما قدمها فريد شوقي في فيلم ( المدير الفني ) ، وفي عام 1955 يقدم الكوميديا الاستعراضية ( مدرسة البنات ) للنجمة آن ذاك نعيمة عاكف وكمال الشناوي ، كما يقدم ايضا في نفس العام فيلم ( موعد مع ابليس ) عن رائعة فاوست لجوتة، ثم يأتي اخر افلامه ( الناس اللي تحت ) عن مسرحية بنفس العنوان للأديب الكبير نعمان عاشور عام 1960 .
- وفي عام 1960 اضطر كامل التلمساني للسفر بعيدا عن مصر بسبب احدي القضايا التي اتهم فيها ظلما ، فاستقر بلبنان وهناك استأنف نشاطه السينمائي كمستشار لشركات الانتاج التي بدأت تتطلع للإنتاج السينمائي ، وكانت عينها علي الفنانين المصريين .
- عندما تحول التلمساني الي السينما ، استهوته الكتابة للمجلات السينمائية فحرر باب خلف الكاميرا بمجلة السينما عام 1945 ، كما كتب في مجلة الصباح ، وفي الخمسينات قدم للمكتبة السينمائية كتابين اولهما ( سفير أمريكا بالألوان الطبيعية - 1957) وفيه تحدث عن سيطرة السينما والاعلام الامريكيين علي شعوب العالم، والثاني (عزيزي شارلي شابلن - 1958).
- وكانت اخر اعماله التي شرع في كتابتها في بيروت ولم يمهله القدر لإكمالها هي رواية ادبية بعنوان ( ام محمد ) ، وفي 3 مارس 1972 فاضت روحه الي بارئها بعد ان عاش حياته وسط كل هذه التناقضات والاتجاهات الحادة، او في الحياة العامة والثقافية والتي شبهها الناقد اتين مريل بالمآسي الاغريقية واساطيرها بأقنعتها المثيرة وخناجرها المزدانة بالورد الأحمر ولكنها في نفس الوقت تدمي الصدور والخواصر سريعة الخفقات !
بقلم : محمد عبدالعزيز
جريدة القاهرة 22 مايو 2012
- فنان نشيط واسع الثقافة والطموح له مواقف سياسية واجتماعية تقدميه ، يؤمن بأنه وزملائه أصحاب رسالة تنويرية وتحريرية تمرد على الاكاديمية والشكلية فى الفن، ثم تمرد على الفن ذاته - التصوير ـ ولجأ إلى فن السينما كوسيلة تعبيرية اوسع انتشارا بين الجماهيرـ
- كان كامل التلمسانى ضمن الفريق الطليعى المتمرد الذى كون جماعة الفن والحرية وتبنوا المذهب السيريالى للتعبير عن الغضب من الاكاديمية والمحافظة والشكلية فى التعبير الفنى والذى يفتقر إلى العمق الثقافى والشخصية المستقلة، فتكونت الجماعة بريادة الشاعر جورج حنين والفنانين رمسيس يونان وفؤاد كامل مع كامل التلمسانى فى عام 1939 واتخذت الجماعة موقفا جسوراً من القضايا الاجتماعية والانسانية ، وقد تشربوا الافكار الاشتراكية والتقدمية من حلقات وصالونات الفكر التى كان يؤمها فى مصر اثناء الحرب العالمية الثانية مفكرون وفنانون وادباء اوروبيون ممن يعيشون بمصر فترعرعت فى عقولهم افكار الحرية المطلقة ورفض المرعيات الاكاديمية والشكلية والتحموا مع حركة السيريالية العالمية برئاسة الشاعر الفرنسى اندربه بريتون، وانشأوا مجلة الفن الحر ناصروا فيها الفنانين الذين عانوا من عنت ومطاردة النازى واصدروا البيانات الملتهبة واحداً تلو الاخر واقاموا المعارض اعتبارا من عام 1940 والتف حولهم عدد من الفنانين من بينهم محمود سعيد وابو خليل لطفى ومجموعة من الاوروبيين المقيمين بمصر.
- وقد وزعوا عشرة آلاف دعوة لافتتاح هذا المعرض ، كان انور كامل والتلمسانى وآخرون يتولون توزيعها وقد أقيم المعرض بقاعة عرض كبيرة فى موقع مكتب الطيران الفرنسى الآن فى ميدان طلعت حرب، وكان مدخل العرض ينبض بالحياة، نبض جديد على القاهرة فى ذلك الحين.
- وقد شارك فى هذا المعرض فنانين وشعراء، وسطرت قصائد الشعر على اللوحات وعلقت بجانب اللوحات التشكيلية تشاركها فى انفعالاتها والبعض الاخر دون احاسيسه الشعرية على الارض الرخامية لصالة العرض الفخمة.
- إتخذ التلمسانى لنفسه مرسما فى درب اللبانه بالقلعة ورسم التلمسانى عروس النيل وصور ادباء وشعراء بطريقة سيريالية اشهرها لوحة صور فيها الكاتب البير قصيرى بين اشباح سيرياليه، رسمها بالألوان المائية والحبر الشينى كما رسم عشرات الرسوم قوية التعبير بالحبر الشينى يغلب عليها السواد، تقترب من تأثير الطباعة على القوالب الخشبية المحفوره بخشونه التى عرف بها فنانو التعبيرية الالمانية اثناء الحرب بعض رسوم التلمسانى كانت تعد لتصاحب نصوص ادبية من كتابته ومن كتابة البير قصيرى، وقد تحول التلمسانى الى فن السينما والتعبير الادبى اذ شعر أن فن الرسم يضيق بطاقته التعبيرية ولا يمكنه من التواصل مع الجماهير العريضة.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
الفنان كامل التلمسانى وتنوع الابداع سحر الصورة ..فى الفن التشكيلى والسينما
كامل التلمسانى فنان طليعى من ابرز جيل الاربعينيات من القرن الماضى .. متمرد ثائر على كل الصيغ والاشكال الجاهزة فى الابداع ..ومثلما كان ثائرا على الاكاديمية فى فن التصوير ..انتقل الى صناعة الافلام حتى يحقق الذيوع والانتشار لعالمه..فكان ان تنوعت ابداعاته من سحر الصورة التى تجاوزت الواقع وامتدت فى عمق السيريالية فى الفن التشكيلى ..الى الواقعية والقضايا الاجتماعية فى السينما كما فى فيلمه `السوق السوداء `..وهو فنان وكاتب ومخرج وسيناريست وفوق كل هذا اضاف الى المكتبة العربية كتابين :`سفير امريكا بالالوان الطبيعية `و`عزيزى شارلى شابلن `وكانت اخر اعماله رواية `ام محمد `والتى لم يمهله القدر فى ان تكتمل .
بين الطب والتصوير
ولد كامل التلمساني عام 1915ببلدة `نوى `من ريف شبين القناطر `قليوبية` ..ونشاء على تلك المناظر التى تثير الخيال وتحفز على الابداع ..من الاشجار والزروع والطيور وجداول الماء ..ومعها مشاهد كدح الفلاحين بسواعدتشقى بلاعائد ..وهموم الفلاحات من عذاب السنين تحت وطئة الظلم الاجتماعى ..وقد غلب عليه حبه للرسم طوال مراحل الدراسة ..فكان يرسم عمق ارتباطه بالارض والفلاح مثلما يرسم جمال الطبيعة ومناظر الحصاد ..متالما من هذا التناقض بين الواقع المعاش وصفاء الحياة فى الطبيعة ..ورغم نزوح اسرته الى القاهرة عام 1925 وتنقله معها بين حلوان والصليبة الا انه ظل على صله كبيرة بقريته ....وعندما استقرت الاسرة بالجيزة التحق بالمدرسة السعيدة ..وكان محظوظا ..فقد التقى باستاذه الاول ومعلمه فى الرسم.. `يوسف العفيفى` مدرس التربية الفنية بالمدرسة..واحد رواد التربية الفنية ودعاة الفن المعاصر .. ممازاد من شغفه وحبه للفن .
لكن ساقته الظروف للالتحاق بكلية الطب البيطرى ..بعد الحصول على التو جيهية `الثانوية العامة ` وظل بها حتى السنة النهائية ..ولما لم يستطع التواصل مع الدراسة العلمية البيطرية ... تركها وبدا فى التفرغ التام لدراسة التصوير واستيعاب المدارس والاتجاهات والمذاهب والافكار الفنية بفكره المتوقد .
واتخذ لنفسه مرسما بدرب اللبانة بالقلعة واستمر قرابة العشرة اعوام `1933-1943`..
يساهم فى اقامة المعارض الفنية ويدعم اتجاهات الفن الحديث فى الرسم والتصوير
..بمقالاته التى نشرها فى مجلة `مجلتى `التى كان يصدرها احمد الصاوى محمد وكانت فى ذلك الوقت منبرا ثقافيا للفن الحديث ..كما تعرف على سلامة موسى ونشر معه فى `المجلة الجديدة `مجموعة من الصور الادبية تحت عنوان `من الحياة والفن `..وشارك فى تحرير جريدة `دون كيشوت `..التى كانت تصدر بالفرنسية وصمم صفحتها الاولى مع مساهمته بالرسوم المصاحبة للموضوعات ..وكتب بها مجموعة من الدراسات المهمة من بينها دراسة عن الفن التشكيلى فى مصر حتى 1940.
هو ..و`الفن والحرية `
كانت `جماعة الفن والحرية `من اهم الجماعات الفنية التى ظهرت فى مصر فى
الاربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة ..وتمثلت دعوة `السورياليين` و اسمها ..وعقدت قرانا بين الحرية والفن استلهاما لبيان الشاعر الفرنسى ` اندريه بريتون ` مؤسس السيريالية فى فرنسا .
وكان المربع الذهبى للجماعة .. يتكون من جورج حنين الشاعر وكامل التلمسانى الرسام والسينمائى ورمسيس يونان الرسام والكاتب وفؤاد كامل الفنان والمنظر ..وتميز وا بانهم متعددوا المواهب ..يؤمنون ويبشرون بوحدة الفنون وعلاقة الصوت باللون والكلمة والرسم .
وقد اثارت` الفن والحرية ` قضايا كبرى فى الادب والسياسة والفكر عموما مع قضايا الفن التشكيلى ..كانت تسعى الى تحرير الانسان من الاشكال التقليدية الجامدة..وفتحت افاقا لم يعهدها الابداع بكل صورة من قبل.. والتحم فنانينا الاربعة مع الحركة السيريالية العالمية.. واقاموا المعارض ابتداء من عام 1940 والتف حولهم العديد من الفنانين من بينهم محمود سعيد وابو خليل لطفى
و نقاد وادباء بارزين : البير قصيرى الذى عاش بعد ذلك فى باريس.. ومجموعة من الاوروبيين المقيمين بمصر مثل ايتين ميريل ومارسيل بياجينى .
وبتعبير الفنان رمسيس يونان :` اعادت السيريالية الشاعر الى شيطانه .. واتضح ان الوهم والحقيقة سيان وان حوريات البحر والخيول المجنحة والاشجار ذات الثدى هى خير مراة لما يدور فى خلد الانسان `.
و فجرت ينابيع ثورة الفن الحديث وقادت تيار الحداثة فى النحت والتصوير والتصوير الضوئى وحتى الموسيقى واجتاحت المجتمعات بافكارها .
استاذ انجى افلاطون
كان التلمسانى.. رساما ومصورا معروفا..وكانت الفتاة الصغيرة انجى افلاطون تهفو الى تعلم الرسم ..واقترحت اسمه صديقة لوالدتها وعندما التقت به ..ادركت ان دروسة ليست دروسا فى الرسم وحده.. بل نافذة ساحرة على الحياة وعلى مصر الحقيقية ..نافذة على المعنى الحقيقى للفن ..والرسم ليس الا تعبيرا عن المجتمع والذات .
اندفعت انجى بكل حماس وانطلاق ..وهنا ومع هذه الشحنة القوية والرغبة العارمة فى التعبير ازداد اهتمام التلمسانى بها.. وجعلها تشارك فى المعارض الطليعية `لجماعة الفن والحرية`.. رغم صغر سنها وكانت لازالت طالبة فى الليسيه .
وعندما اشتركت فى المعرض الثالث لها 1942 كانت اصغر الفنانين المشاركين فى هذا المعرض سنا وتردد اسمها بين اسماء الفنانين الكبار اعضاء الجماعة .
كان كامل التلمسانى بمثابة المعلم والموجه الأول للفنانة إنجى أفلاطون.. حيث أخذ يشرح فلسفة الجمال وتاريخ الفنون واتجاهات الفن الحديث ..فانفتحت أمامها نافذة أطلت منها على عالم الفنون الحافل بالجمال .
فى السينما
ورغم كل النجاح الذى حققه التلمسانى فى مجال الفن التشكيلى وتالقه فى الحركة التشكيلية فى الثلاثينيات والاربعينيات الا انه فى لحظة انتقل الى السينما وصناعة الافلام .. و التحق باستديو مصر عام 1943 وبدا حياته الفنية كمساعد مخرج.. بعدها قدم عشرة افلام تمثل علامات فى تاريخ السينما المصرية من الافلام الروائية الطويلة مابين الاخراج وكتابة السيناريومن بينها :`البريمو `- `شمشون الجبار `- `انا وحبيبى `- `الناس اللى تحت ` ..ولعل اهمها `السوق السوداء ` الذى تناول خلاله اخطر المشاكل المثارة فى تلك الفترة ..مشكلة تجار السوق السودة واغنياء الحرب بما تحمل من دلالات اجتماعية وسياسية ..ومن هنا يعد احد رواد الواقعية فى السينما المصرية ..ويمثل مع كمال سليم واحمد كامل مر سى واحمد بدرخان الجيل الثانى لمخرجى السينما المصرية..وقد قاد شقيقيه الاصغرالى الاشتغال بالحقل السينمائى .. فشقيقه الرسام حسن التلمسانى الذى صار مصورا سينمائيا وشقيقه الاخر عبد القادر التلمسانى ..كما قدم للمكتبة السينمائية كتابين `سفير امريكا بالالوان الطبيعية `1957و `عزيزى شارلى شابلن `1958 كما قام بتحرير باب `خلف الكاميرا` فى مجلة السينما .
وفى عام 1960 هاجر الى لبنان وعمل مستشارا لفيروز والرحبانية ..كمعد للنصوص ومنسق لاعمالهم ومشروعاتهم المسرحية والسينمائية ..وعاش هناك حتى رحيله عام 1972 وهو فى السابعة والخمسين .
..وعالمه
يقول الفنان احمد فؤاد سليم :`رسم التلمسانى عروس النيل وصور ادباء وشعراء بطريقة سيريالية ..اشهرها لوحة صور فيها الكاتب البير قصيرى ..كما رسم عشرات الرسوم قوية التعبير بالحبر الشينى ..يغلب عليها الاسود الفاحم تقترب من تاثير الطباعة على القوالب الخشبية المحفورة بخشونة ..التى عرف بها فنانو التعبيرية الالمانية اثناء الحرب ..وبعض رسومه كانت تعد لتصاحب نصوصا ادبية من كتابته ومن كتابة البير قصيرى `.
وتعد صورته لالبيرقصيرى` الملقب بفولتير النيل واوسكار وايلد الفرنسى صاحب` العنف والسخرية وشحاذون ونبلاء` .. ايقونة فى الصور الشخصية السيريالية صوره بنظرة جانبية وعلى كتفه مسخ لشبحين قزمين بعيون شاخصة ..تنتهى اطرافهما بعظام بلا لحم بينما يبدو على صدره كفا عظميا رفيع الاصابع .. وفى الخلفية مجسمات غريبة توحى بابنية بلاهوية ويغلب على اللوحة مزيج من الازرق والاحمر والابيض البريء المتمثل فى وجه الكاتب الذى يوحى بالسلام رغم الجو الكابوسى.
ومع صوره الشخصية العديدة ذات الحس السيريالى ..جاءت اعماله الاخرى بوحى من واقع الريف المصرى ..لما كان يشهد من حياه بائسة وظلم اجتماعى ..وهنا جاءت تلك الوجوه المعذبة لعارياته الممسوخة كما فى لوحة `الالم `التى جسد فيها امراة جالسة بغطاء للراس بينما يدق ساقها
مسمار من الحديد مغروس فى الساق اليمنى وتبدو اليد الموازية لها مرفوعة على الراس ..بينما نرى اليسرى فى قطع صليبى ..انه العذاب والالم لجسد تجرد من كل شىء الا من المعاناه وشقاء السنين .
وتعد لوحته `خروج `بماتحمل من اطراف مشوهة ومسامير مغروسة فى اللحم ووجوه مفزوعة ..مع تلك الخشونة فى الخطوط والمساحات تذكرنا بروح لمسة الفنان` رووه` ..مايمثل انعكاسا لغطرسة وظلم البشر ..فى مزيج من التعبيرية والسيريالية ..
وفى `قصيدة حالكة ` للشاعر جورج حنين 1939 يجسد هذا الانسان الغارق فى بحر متلاطم ..وسمكة مطعونة وفرخ طائروفى الخلفية: اشجار وقمر بهيئة بدر فى الافق..وهو هنا يتجاوز التعبير الادبى فى ايقاع بصرى خاطف ..يوازيه يموج بالقلق والحيرة .
يشخص التلمسانى عالمة بقوله :`لوتبينتم فى اعمالى تعبيرا غامضا وجسيما.. بل وحتى مستهجنا ايضا وخارجا على كل جمال كلاسيكى ..وهو العنصر المنحدر عن ذلك الجانب المتاصل فى والذى ليس سوى انعكاس لاحاسيسنا المكبوته كشرقيين لو تبينتم ذلك فهنا يكمن اكتشافى ..ولو كنت قد توصلت الى العثور فحسب فقط على المعالم الاولى لفن محلى جديد فبهذا وحده سوف اعتبر نفسى فنانا `-``اعلان الشرقيين الجدد يناير 37 `.
ومع معايشة الفنان للارض والفلاح وماشهد الريف من احداث وصراع ..عاش زمن الحرب فجاء هذا التعبير العميق فى اعمال مفرداتها :وجوه مشوههة غاضبة وتحريفات لاطراف واثداء واشجار ومسامير تعد رمزا ساطعا لما تشهد البشرية ..وهى اعمال تنوعت فى الاداء بين الجواش والاحبار والوان الزيت ..وكلها يشملها سطوة تعبير درامى لاينهى .
كان التلمسانى وليد جيشان زمان الحرب ..نمت اعماله عن فن عنيف وحس لونى ملفت للانظار وجمالية صادمة ..وعن ايحاءات تسمعنا لغة شديدة الياس والتمزق العصى على التحليل .
انها التشنجات وصرخات الياس والنوبات ..بتعبير ايمى ازار والتى `كانت تخنق عنده الواقع الذى لاثبات له للازمان الغابرة حين ترزح القيمة التشكيلية عنده تحت عبء يسحق الحس التصويرى ..ومع احتفاظه بحسه المثير للاشفاق ..والاخذ فى الالباب فى ابراز الجراح الانسانية ..ادرك ان عليه الانصياع للقواعد الجوهرية للتصوير الزيتى ..واخذت التفاصيل تفسح الخطا لتالفات فى الايقاع اقل تضادا او تصادما وكانت التخيلات قد وسمت ماشاب صرخة الفنان من ياس وعدم فاعلية اضعف من المصير المفجع لحضارة متعطشة للدماء واللاعدالة الاجتماعية `..ولقد اعلن التلمسانى فى فضاءاته التصويرية صرخة الانسان الحديث التى تجاوزت الاصداء ومازالت تدوى فى الفضاء وكانه يعيش زمننا الحالى ايضا ..تحية الى اعماله من سحر الصورة بلغة التصوير والسينما ..الى سحر الكلمة.
صلاح بيصار
جريدة القاهرة 16/2/2021
|