الباستيلجية معرض مصرى يحتفل بخامة واحدة .. لوحات تضج بالعذوبة وتخاصم الشطط
- من المسلم به أن اولى واجبات الفنان التشكيلى الحق، هو التمكن من الخامة التى يستخدمها تمكنا مثالياً ، فيقترب منها ، ويصادقها ، ويكبح جماحها اذا كانت من الخامات المتمردة ، أو يصبر عليها اذا كانت من الخامات العنيدة ، حتى تلين بين يديه ، وتخضع لمقتضيات موهبته .
- وخامة الباستيل من الخامات التى تتصف بالعناد، فهى عصية المنال، حيث تتطلب السيطرة عليها وتفجير رقتها وجمالها، مهارة فائقة، ودأب مستمر، لذا نالت هذه الألوان نصيبها المشروع من الهجر والصد، وأصبح عدد الفنانين الذين مازالوا يتذكرونها بالخير قليلاً، برغم سحر الاشعاع الذى ينبعث منها .
- لكن قاعة بيكاسو بالزمالك نظمت مؤخراً معرضاً تحت عنوان (الباستيلجية ) يضم أعمال 15 فناناً مصرياً ، وكلها بألوان الباستيل .
- اللافت للانتباه فى هذا المعرض شيئان ، الأول : هو فكرة تنظيم معرض جماعىيستند على توحيد الخامة ، وهى فكرة جديرة بالاحترام، حيث تعطى للمشاهد متعه الاطلاع على العديد من النغمات التى تنبعث من آله واحدة!
- أما الشىء الثانى، فهو الانحياز الواضح والصريح من قبل كل الفنانين المشاركين لتبجيل قيمة (الموضوع - المعنى ) فى اللوحة ، بعد ان سادت فى الفترة الأخيرة اتجاهات تخريبية فى الفن بحجة (الحداثة وما بعدها ) حيث وجدنا السلطة التشكيلية المصرية تحتفى بجامعى النفايات واحشاء الالات والسيارات وممارسى فوضى ( الشخبطة ) وتمنح الفنانين الذين يقترفون هذه الافعال الجوائز السخية ! مما سمم الحركة التشكيلية المصرية فى العشرة أعوام الأخيرة .
- ولعل الاقبال الواضح على الاقتناء من الاعمال المعروضة، يؤكد ان جمهور الذواقة قد سأم من (الصداع ) الفنى المنتشر وراح يتقبل الأعمال التى تقدم له خطاباً بصرياً راقياً ، قوامه المهارة والابتكار والجهد المبذول فى تنفيذ اللوحة .
- ضم المعرض أعمال الفنانين أبو بكر النواوي ، جمال كامل، سيد سعد الدين، سمير فؤاد، عبد العال حسن، فرحات زكى، فريد فاضل، كامل غندر، ماجد بشارة، محسن حمزة، ممدوح عماد، محمد غانم ، ميرفت عامر، صبحى اسحاق، ومحمد كامل .
- تنوعت الموضوعات التى تعالجها اللوحات من أول البورتريه - بصفته الوجه المشرق لفن الباستيل - حتى المناظر الخلوية فى الريف، مروراً بمشاهد من المدينة كذلك لم يلجأ كثير من الفنانين إلى استلهام المدارس السيريالية أو الحشية أو حتى التكعيبية ، فى تنفيذ أفكارهم ، بل قنعوا بالواقعية الجديدة، وأحياناً التأثيرية ولان العدد كبير ، سنكتفى بقراءة أعمال ثلاثة من الفنانين نزعم انهم يعبرون بشكل عام عن المناخ السائد فى المعرض .
- هذا هو الفنان كامل غندر (73 عاماً ) والذى اصطاد مهنة ازاحتها من الوجود والتكنولوجيا الحديثة، ونقصد بها مهنة (مبيض النحاس ) اختار كامل ان يرسم لنا هذا الرجل اثناء العمل، والتقط زاوية من الخلف تبرز حركة الجسد وهو واقف داخل (الحلة ) ليقوم بدعكها، بينما عدد من (الحلل) موزعة على الأرض ومعلقة على الحائط بشكل يفتقد التنسيق التام.
- فى هذه اللوحة، التزم الفنان بالنسب التقليدية للجسد الانسانى، مع التركيز على عضلات الأرجل، كذلك احتفل كامل باللون النحاسى على وجه الرجل وذراعيه وساقيه وعلى سطح الحلل وبعض مناطق الحوائط . لم يسع الفنان إلى تصميم لوحته على النسق القديم، حيث يكثف بؤرة الضوء فى مكان محدد ، أو يكتفى بمصدر ضوء وحيد، بل آثر أن ينثر النور فى اماكن متفرقة، واستثمر سحر ألوان الباستيل فى تأكيد اجزاء بعينها، لذا جاء العمل متين التصميم ، تتوزع الكتل والعناصر فيه بحكمة وحساب، مثل ذراعى الرجل جهة اليمين فى مقابل (الحلل) جهة اليسار، أو المساحة القاتمة فى أسفل اللوحة، فى مواجهة (الحلة) الغامقة أعلى اللوحة ناحية اليسار، وهكذا مما منح اللوحة حضور قوياً، خاصة وان الحركة التى يقوم بها العامل الذى نبذته التكنولوجيا شحنت العمل بطاقة فعل تجذب عين المشاهد .
- فقد جاء معرض فنانى الباستيل كقصيدة رائعة تعادى النثر التشكيلى الردىء الذى راج هذه الأيام .
ناصر عراق
القاهرة - القدس العربى 1997