مصطفى أحمد مصطفى
ـ الفنان الراحل / مصطفى أحمد واحد من أبناء مصر المخلصين الصادقين الذين انضووا تحت راية حب الأرض الطيبة ، فمنحتهم الأرض الصلابة والحكمة والصمود . حيث يأتى إبداعه الفنى فى مجال التصوير الزيتى إمتداداً طبيعيًا إلى الطليعة المؤثرة المنتمية إلى الجذور المصرية أمثال راغب عياد ، محمود مختار ، يوسف كامل ، محمود سعيد ، جمال السجينى ، سيد عبد الرسول .. وغيرهم . ـ وإن كان الفنان / مصطفى أحمد قد انتقل من مرحلة فنية إلى مرحلة أخرى فى حياته بنعومة واعتدال إلا أنه عبرْ هذه المراحل ظل متوحداً مع عمله الإبداعى إلى الدرجة التى تجعله فى حالة تألق حتى سنواته الأخيرة حيثاقتنص جائزة مسابقة الخريف للفنون التشكيلية ( الأعمال الفنية الصغيرة ) فى التصوير لعام 1999 وأيضا جائزة مصر المستقبل فى عمل تصويرى يجمع سمات الشخصية المصرية ويستشرف مستقبلاً واعداً . ـ وينفرد إبداع الفنان / مصطفى أحمد ببنائه للوحته ، فيما يشبه العمارة الفرعونية ، التى تتسم بقوة البناء والصرحية وأيضا الملمس الخشن إلى الدرجة التى تصل شخوصه فى أحيان كثيرة إلى ما يشبه التماثيل الفرعونية الحجرية وهو ما يكشف عن ارتباطه بأجداده عندما إختار الشكل النحتى لشخوصه وأشكاله ووحداته البصرية ، تلك المفردات التى أضافت بعداً درامياً لأعماله وعكست معانٍ فكرية وفلسفية واتسقت مع لون الأرض حيث لجأ إلى كثافة لونية فى شكل طبقات فوق بعضها ، لا تلغى الطبقة الجديدة الطبقة التى قبلها بل يظهر بريقها عبر المعالجة اللونية المتميزة وهو اختيار له دلالة عميقة كأنها طبقات التاريخ الطويل الذى يميز شخصية مصر الفرعونية القبطية الإسلامية العربية . ـ كما ينفرد الفنان أيضا بمعالجته لوحدات بصرية شائعة لدى الجميع لكنها تحمل لديه معانى جديدة وبراقة كمعالجته للشمس والقمر والإنسان والأرض والسماء تلك المفردات التى تتسم بصياغات مبتكره ومختلفة أصيلة وعميقة وكأنه يؤكد على أهم ملامح وسمات الشخصية المصرية .
أ.د / أحمد نوار
الضوء المعبدى ..
إن مصادر الضوء المختلفة لا يمكن أن تحدها حدود .. فكلما زاد الثراء الإبداعى كلما تعددت مصادر الضوء وليس بالضرورى أن يكون الضوء مباشراً فى العمل الفنى .. فالفكر الفنى المستنير بمثابة ضوءاً باعثاً على مجريات عناصر البناء التشكيلى وبالتالى يضفى بعداً جمالياً تزدان به الذاكرة البصرية نوراً .. وتماس مع الوجدان فيتألق فى الذات الإنسانية . ونحن اليوم أمام أعمال فنان متميز فكراً وفناً .. متواضعاً .. رقيقاً .. مشاعره الفياضه وحبه تسبقه فى إبداعه الفنى وحميمية قلبه مع الآخرين ومصرى حتى النخاع .. هو الفنان الكبير الراحل `مصطفى أحمد 1930-1999` والذى رحل بهدوئه الذى عاش به فى حياته ، وترك لنا ثروة فنية حافظت عليها زوجته الأستاذة الدكتورة سميره أبو زيد الأستاذ بكلية التربية والتى بادرت بإقامة معرض لأعمال لم تشاهد من قبل بقاعة بيكاسو بالزمالك ، وشرفت بمشاهدتها وفأجاتنى أعمال جديدة وأعمال من الخمسينات والستينات وجذبتنى من جديد براعته فى تحويل السطح إلى عجينة ثرية من اللون حركتها أنامله التى هجنت فيها مشاعره وأحاسيسه لتعيش داخل نسيجها الأبدى وترك فيها روحه التى تتنفس بين مساحتها . ويأتينا الضوء من خلف الجدران - يفاجئنا كالشهب .. وسرعان ما يبطىء سيره على الأرض والجدران المعبديه فى هدوء ويسر ودفىء ليتحد معها .. ويبث فيهم الحيوية والتفاعل العضوى كأنها طاقة نفاذة للأشعة الفوق بنفسجية ، أما الضوء المخلوط بالعجائن اللونية حوله مصطفى أحمد إلى ضوء له قوام السيولة التى ذابت فى جسد الألوان فى ثباتها وفى تموجاتها وفى عنفها وحركتها المحورية بين دلالة التعبير الإنسانى ودلالة الحلم المجهول للإنسان الرافع الزراعين فى لوحاته خلال الستينات ، وشدتنى لوحة لأحد الأحياء الإسلامية القديمة بألوانها الدافئة وتساوى مساحات الضوء المتوازنة وكأنها تتحرك آتية من بين مسام الأحجار .. وتتفتح له مسام الأخشاب المصنوع منها النوافذ والأبواب كأنها تداعب الناس وكأنها لفحات من الوهج والمشاعر الإنسانية ، فالضوء عند مصطفى أحمد معبدى إنسانى معجون بعمق أحاسيسه .. ضوء غامر بالحب والطمأنينة ، ففنه فن إنسانى باقٍ .
أ.د./ أحمد نوار
جريدة الحياة - 2004
- فى أعمال مصطفى أحمد وحدة ممتازة فى الاداء حتى لتمس بأصالة تلك الروح التى ولدت هذه اللوحات المحكمة البناء والتركيب على مدى مراحل مختلفة متتابعة ، لا تفقد وحدتها وامتدادها.
وقد أمكن لمصطفى احمد - مهما تابعت مراحله الفنية - أن يفرض شخصيته ومزاجه بحيث لا تخطئ العين أعماله ، فهى بطابعها الخاص تستطيع أن تقف متفردة وسط السيل المنهمر من الانتاج الفنى لا فى مصر وحدها بل وفى العالم بأسره.
وربما كان من أصعب مطالب الفنان فى العصر الحديث أن يتفرد بطابعه وأن يكتشف الأغنية التى يغنيها فتلتصق به وسط المغنيين.
د. نعيم عطية
الميتافيزيقا ... ورحلة المصور مصطفى أحمد
- لعل الفنان المصور مصطفى أحمد ، قد تميز برؤية فنية جعلت لأعماله طابعا خاصا. الغموض يلف أعماله .المجهول يتوارى خلف كتل الصخور والحوائط .
- الامتداد يلقى بظلاله فى المكان .الوجود الغريب يحتوى كل شىء ، وتتضاءل أمام هذا الوجود ، الكيانات الصغيرة بما فيها كيان الإنسان نفسه . الإنسان فى لوحات الفنان صغير ، أو ضئيل أو خائف .فهناك شىء قدرى ينتظره .وهو يتوقعه ولا يعرف من أين يأتى .بل إنه فى بعض الأحيان مختبىء ، قد نراه ظلا ولا نراه عينا.
- لقد شغل الوجود فلاسفة كثيرين فكانوا يبدأون بحثهم عن الإنسان .ولكننا هنا نعجب حين نرى الفنان قد شغله الوجود نفسه والإنسان فيه ضئيل .وكأن هناك فكرة شكلت وجود الأشياء .وأن الوجود يعنى فى آخر الأمر عند الفنان القدر .. والمجهول ..إنها رؤية ميتافيزيقية.
- ما المحاولة ؟ طبيعتها ، أدائها ، عناصرها ، مراحلها ..
- رؤية خاصة :
- البداية فى الأعمال المعروضة لوحتان : واحدة تمثل تلالاً صخرية متتابعة ومتكتلة ، وفى أوسطها نتعرف على مجموعة من البيوت المتلاصقة ، يتحصن بعضها ببعض فى مواجهة تلك السلاسل الصخرية وهى تكاد تطبق على هذه البيوت الصغيرة .واللوحة الأخرى نرى فى مقدمتها أرضا صخرية وحافة ثم أمواجاً متلاطمة وشاطئا بعيداً وعلى حافة الشاطىء كائنات متحجرة .
- لا تقترب فى شكلها من الإنسان إنما هى جزء من طبيعة جارفة ، وحركتها مجمدة كأن القدر قد أخذها فجأة فشل حركتها .
- ثم تلا ذلك زمنيا مجموعة الأعمال التى تصور القمر ومحاولة الاقتراب منه، ثم أخيرا مجموعة الأعمال التى تعتمد على التخطيط معماريا ، فالحوائط مستقيمة الخطوط . وهى تتلاقى وتتباعد وترمى بظلالها فتسجل الأبعاد والمسافات .كما تسجل لقاءات المنظور .وفى أجزاء ضئيلة من اللوحة، تتراكم السحب ، ويضىء القمر.وقد نجد فى ركن من الأركان أنثى قد لملمت نفسها ، فهناك شىء تخشاه وتتوقعه.
- إنها محاولة الإنسان القديمة، محاولة التعرف على الكون والوجود .ولقد ظل الكون فى عقل الإنسان القديم شيئاً غامضا ، يحتاج إلى تفسير ، يحتاج إلى فهم . وكان عقل الإنسان قاصراً .لم تمتد يده إلى التجربة إلا بصعوبة بالغة .ولذلك سبق التفسير التجربة . وعندما عرف الإنسان كيف يصنع مركبة فضائية تصل به إلى القمر ، لم يعد القمر لغزاً ، ولا جسماً مضيئاً .ولذا نرى كثيرا من الفنانين فى عالم اليوم تشغلهم هذه التجربة العظيمة ، ونرى أعمالهم الفنية قد اكتست بهندسة بناءه ، أما عند فناننا ، فإننا نرى أنه ما زال على فطرته، مأخوذا بالحدث لا كإنجاز إنسانى ، وإنما كشىء غامض يوحى بصراع مجهول عنيف .ما زالت الرؤية الميتافيزيقية هى المسيطرة .اللانهائى والمجهول والغامض هى عناصر رؤيته الفنية.
- وإذا كانت الميتافيزيقا مجالا للحذر بالنسبة للعلوم وفقا لصيحة ` نيوتن` وقوله ` احذر الميتافيزيقا يا علم الطبيعة `، فما هو موقف الفنون منها؟ إن الإنسان والعقل البشرى بالذات -قد خاض ويخوض ` رحلة فى الكون ليس لها حدود سوى الكون نفسه` كما قال بيكون .. والفن إلى جانب العلم يقود هذه الرحلة وليس إبتداع التأثيرين ، ومن بعدهم النظرة السيزانية فى رؤية الطبيعة ومحاولة إخضاعها والسيطرة عليها ،واكتشاف القوانين الخاصة بالرؤية الواقعية ، ليس كل هذا، إلا محاولات إبداعية فى تحليل اللون ومعالجة ` الفورم ` والكتلة. إنها محاولات إبداعية فى دنيا الفن الحديث تواكب بعض إنجازات العلم المعاصرة .إن محاولات المدرسة التعبيرية الألمانية ومن بعدها جولات أخرى لفنانين عالميين من أجل تشريح كيان الإنسان النفسى والاجتماعى وصياغة كل هذا فى لوحات تنتصر للإنسان فى حركته وتساعده فى معركته الكبيرة من أجل قهر الخوف ، ليست إلا إنجازات أخرى هدفها كشف المجهول ، ومعرفة طبيعة العوامل الغامضة .كل هذه الإنجازات ، إنما تواكب الإنجازات الإنسانية الغزيرة والمتنوعة فى دنيا العقل والعلم والإبداع الفنى عامة .إنها الرؤية الحديثة المتطورة للفن . وكم نجحت فى مزج الإنجازات التكنيكية الشكلية المعقدة والثرية مع التعبير الجزئى والكلى عن حركة الإنسان والطبيعة.
- الرؤية والتكنيك
- ورؤية الفنان مصطفى أحمد الحسية والفلسفية يقدمها من خلال معالجة تكنيكية خاصة يسيطر بها من اللحظة الأولى على مكونات اللوحة ، فيقيم تكوينا يتسم بالوحدة .وهذا نراه متحققا فى لوحاته الأولى ، لوحات التلال والصخور والأفق المملوء بالسحاب .وفى لوحاته الوسيطة ..لوحات القمر وعلاقته بما حوله ..أو فى لوحاته الأخيرة التى صممت اعتمادا على الحوائط والأجسام المعمارية ، والتى اعتمدت على التقاءات المنظور .إن بناء اللوحة وتكوينها يعطى المشاهد الراحة فلا يحس بالتشتت إنما يتعرف على بنيان متماسك وتكوين مترابط .
- وفى أكثر الأحيان يتحقق للفنان الإحساس بالمسافات. ويتم التفاعل بين الأجسام والكتل الضخمة ،أو بينها وبين الأجسام الأصغر حجما ، وتعطى الإحساس بالتبادل والقرب والبعد.
- ويأخذ الفنان فى معالجة العلاقات بين الأجسام والأسطح بمساحات من النور والظل ويساعده فى ذلك الحوائط المقامة والظلال التى تلقى بها على الأرض ..
ويفصل حائطاً عن الآخر مسافة أو كتلة مظللة .. وهكذا ينجح الفنان فى أن يفصل بوضوح وبراعة بين المضىء والغارق فى الظلام .وكل هذه العناصر ، لا يقدمها الفنان كصياغات تشكيلية مجردة ، بل إنها صياغات موحية بالمعانى الإبداعية لديه .فهى تتحدث فى قوة عن دنيا غامضة ، ووجود مجهول، وأفاق غير مطروقة ، وقوى خفية تقف على النواصى وفى الأركان .هى تتحدث عن إنسان وحيد ، لا يدرى ماذا يريد ، فيخشى هذه القوى الغامضة المتربصة به ، إنها تحقق الغرض الفنى والنظرة الفلسفية التى تأخذ على الفنان تفكيره .إنه يدفعنا إلى عالم الميتافيزيقا .عالم ما وراء الطبيعة.
- والفنان يبتعد فى استخداماته اللونية عن البهرجة .وهو يتجنب اللجوء إلى الألوان الناصعة والأساسية ويعتمد على ` باليته ` محدودة تكفيه للتعبير عن القصد الفنى ،إنه يعتمد على ` البنيات` ويتجول فى دائرة ` الأوكر` و ` الطينيات ` المحروقة والطبيعة وتدرجاتها وهو يجعل هذه الألوان على درجة من النصاعة والإضاءة ، أو يحولها إلى ألوان داكنة تبلغ حد الإظلام .ثم يلقى بمساحات مكونة من ` تونات ` نصفية تقع بين هذا وذاك .ويعتمد الفنان أحيانا على الألوان الرمادية أو يميل بها نحو الزرقة ليدخل بعض التغير اللونى خاصة بعد هذا الاقتصاد الشديد فى استخدام الطاقات اللونية المتنوعة .وفى الحقيقة أن الفنان رغم هذا الأقتصاد اللونى المقصود يعتمد على ألوان تكتسب عمقا ملحوظا وبعداً عن السطحية .كما أن الألوان يتواصل بعضها مع بعض فى تآلف مناسب .هذا الاستخدام اللونى المحافظ .يترك جانبا كل الإنبهار الذى أحدثه الفن الحديث فى دنيا اللون ، وما اكتشفه من تفاعلات لونية ، من تآلف وتضاد ، وذلك بهدف تجسيد الغرض ، فتتوفر له لحظة الغموض والجو الإيحائى بتوقع حدث مجهول.
- أما وقد تخلص الفنان من الاستخدامات المفرطة فى اللون ،فإنه قد اعتمد على معالجة أخرى تعوضه كثيراً فقد لجأ إلى خشونة السطح ، والتفاعلات الجزئية التى تحدثها البقع اللونية المتداخلة ، والتى تمتد لتشمل كل مساحة على حدة ، أو كل منطقى ضوء أو ظل ، لتثير فى الإنسان نوعا من البدائية تتفق مع الجو العام للوحة ، جو الحدث المنتظر والغموض المتخفى .
- وخشونة السطح قد أفادت الفنان فى تحقيق عنصر الكتلة وخاصة فى لوحاته الأولى .ولم يكن هذا التحقق ناجما عن تتبع الأسطح ودراسة جزئيات الطبيعة كما تحقق عند ` سيزان ` مثلا ، إنما نتج عن إنفعالية ذاتية .لقد حقق الفنان بذلك هدفا متميزا وساعد على إقامة البنيان الفنى ، وأكسب عناصر العمل تماسكا ووحدة .
- وهذه الخشونة فى التعامل مع ملمس الصورة نراها فى مراحل الفنان الأخيرة وقد خفت بعض الشىء وخاصة فى اللوحات التى ترتكز على مقابلات الخطوط المعمارية ، حيث نراه يقلل من خشونة الملمس ، فتتداخل البقع مع بعضها وتتوحد بشكل أكبر .فهل نرى الفنان على أعتاب تحول جديد ؟ وهل هو تحول من الاعتماد على اللمحة الانفعالية إلى المسحة الهادئة شاعرية التأثر ؟
- بين السريالية والميتافيزيقا:
- على الرغم من الخلط الذى يحدث عند تناول المذاهب الفنية فإننا نرى - ونحن بصدد تناول أعمال الفنان بالتقييم - أننا نحتاج إلى التمييز بين الاتجاه السريالى والميتافيزيقى .
- يقول ` بريتون ` منظر السريالية :إنها تعتمد على عبادة اللامعقول والنزوع إلى الفوضى والتعبير التشكيلى الهرطقى غير المألوف وغير المفهوم ( ويضرب مثقلا لذلك برسوم المجانين والأطفال ) ثم عندما تكتمل الفكرة الفنية عند ` بريتون` يحدد طبيعة السريالية بأنها ` اكتشافات التحليل النفسى عند فرويد وفى الحلم والعقل الباطن وفى الاحتجاب ocultism وليس هاما عند الفنانين السرياليين الاعتماد على التطور الخطير فى دنيا التشكيل وما تحقق من إنجازات فى الدراسات والعلاقات بين الأسطح والتونات والضوء واللون والكتلة والفراغ ، إنما المهم عندهم هو البراعة فى الصياغة الشكلية المرئية visiou وتركيب علاقات ما بين المرئيات المستوحاة مما هو بعد الطبيعة .. مستوحاة من الحلم .. والحلم دائما غير مباشر .. ولا معقول .
- أما الميتافيزيقا فى الفن ، فإنها تصور غموض الكون والمكان وتصور عجز الإنسان إزاء قوى خفية غير مألوفة ولا مفهومة .وقد عبر المصور ` دى كيريكو ` dichirico عن هذه الاتجاهات الميتافيزيقية .فصور الأبنية الضخمة والعمارة الغريبة .التى خليت انتباهه ووضع كل ذلك فى جو غامض سحرى . كما صور الشوارع تحدها صفوف العقود وحوائط القصو مع التماثيل الموزعة فى الفراغات .إن الاتجاه الميتافيزيقى يتخذ من العلاقات المعمارية وما تخلفه من ظلال وأضواء إداة لتجسيد المكان والأبعاد المحيطة به .وفى قلب هذا المكان تنبت مأساة الإنسان ، ويجتاحه خوف من المجهول .
- أما عن اتجاه الفنان مصطفى أحمد وقيمة أعماله الفنية ، فإنه فى الحقيقة ليس مقلدا لدى كيريكو ولا محاكيا له .ذلك أن أبنية ` كيريكو ` تنتسب إلى مدينة ` فيرارا ` Ferroro الإيطالية .ومأساة الإنسان عنده مأساة أوروبية تتصل بآلية الحياة ..تتصل بالميكانيكية العمياء التى تأخذه من كل جانب . أما الفنان مصطفى أحمد فإن الطبيعة الغاشمة والأبنية البسيطة ذات القباب أحيانا هى لب المكان عنده والإنسان عند مصطفى أحمد ضئيل غير ظاهر ولكن عندما يظهر فإنه على الأغلب يبدو فى شكل أنثى مروعة .
- مستقبل الرحلة:
- إن الطاقة الفكرية تخدم الطاقة الفنية والممارسة الفنية تنضج الفكر .ولا شك أن قضية القدر والمجهول أخذت تتراجع مع اكتشافات العلم المذهلة .تلك الاكتشافات التى تحققت فى العقود القليلة الأخيرة ، والتى أثرت على مجرى الحياة الفكرية والفنية على السواء.ولقد كان تأثيرها يفوق ما لم يحدث فى قرون سابقة من تاريخ الإنسانية .. لقد أصبح الإنسان أكثر حرية فى فهم العالم وأكثر إصراراً على معرفة الأسباب والنتائج بدلا من انتظار ما تأتى به المجهول وأصبحت عمليات التنبؤ فى مجالات العلم ومثلها فى ميادين الفن ، تجد لها صدر واسعا .إن المعرفة والفهم أصبحا سلاحا فى يد الفنان والإنسان.
- والمعالجة التشكيلية بدورها قد تحررت كثيراً من المثاليات والمعارف الجامدة واقترب الفنان التشكيلى من الواقع يعالجه بأدواته الفنية ويتناوله بلغة التشكيل الأرقى .والقضية ما زالت مطروحة أمام فناننا وعليه أن يختار ..وأن يبذل الجهد ويقدم الممارسات الجدية من أجل تحقيق الأمل فى بناء عوالم من الخلق الفنى المتطور اعتماداً على الواقع والتقدم التكنيكى الباهر.
بقلم : داود عزيز
مجلة : إبداع ( العدد 6 ) يونيو 1985
|