حسين أمين إبراهيم بيكار
`مئوية.. `حسين بيكار
- مر هذا الشهر مرور مائة عام على ميلاد الفنان الناقد الكبير حسين بيكار 2يناير 1913 - 16 نوفمبر 2002 وهو فنان تشكيلى مصرى من أصل قبرصى تركى ينتمى إلى الجيل الثانى من الفنانين المصريين صاحب بصيرة نافذة وذوق رفيع أحب الموسيقى منذ نعومة أظافره كما كتب رباعيات وخماسيات زجلية تمتلئ حكمة وبلاغة ظل معطاء طوال حياته ومعلما لكثير من الأجيال وصاحب أول مدرسة للفن الصحفى وصحافة الأطفال بصفة خاصة بل هو رائدها الأول فى مصر وبأسلوب بسيط واضح ارتفع بمستوى الرسم الصحفى ليقترب من العمل الفنى أما لوحاته الزيتية فتتميز بمستواها الرفيع فى التكوين والتلوين وقوة التعبير فهو فنان مرهف حساس وناقد فنى شاعرى الأسلوب .
- ولد حسين أمين بيكار فى 2 يناير 1913 بحى الأنفوشى بالإسكندرية التحق عام 1928 بمدرسة الفنون العليا وكان عمره 15 عاما ليكون من أوائل الطلبة المصريين الذين التحقوا بها درس فى البدايات على أيدى أساتذة أجانب حتى عام 1930 ثم على يد يوسف كامل، أحمد صبرى، تخرج عام 1933 عمل فى تأسيس متحف الشمع وأنجز بعض الأعمال فى ديكور المعرض الزراعى، سافر بيكار أول بعثة للتدريس بمدينة تطوان فى بلاد المغرب حيث كان الإحتلال الأسبانى وكانوا يدرسون للأطفال اللغة الأسبانية إلى جانب اللغة العربية وقضى هناك ثلاث سنوات مدرسا للرسم وهى مرحلة هامة فى تكوين حياته الفنية حيث رسم بيكار أول رسوم وصفية لكتاب بدائى جدا يحتوى على رسوم بسيطة كشجرة- تفاحة - قطة وهنا اكتشف بيكار اللغة البسيطة التى تصل إلى وجدان الطفل ويقول بيكار عن ذلك ( لقد أعطونى فكرة عن شئ كنت أجهله ) ورسم خلالها كتابين.. عاد بيكار إلى القاهرة عام 1942 وعمل معاونا لأستاذه وصديقه الفنان أحمد صبرى تولى رئاسة القسم الحر خلفا لصبرى الذى انتقل لرئاسة قسم التصوير وسرعان ما تولى بيكار رئاسة هذا القسم بعد إحالة صبرى للتقاعد وعمل كمستشار فنى لدار المعارف فكان يصمم أغلفة الكتب وكل مطبوعات الدار منها كتب كامل الكيلانى وبدأ فكرة تعليم القراءة من خلل رسم القصة بكاملها وهذه ميزة الرسم عند بيكار حيث تنطبع فى ذهن الطفل صورة الكلمة. من أجمل إبداعات بيكار مجلة السندباد مجلة الأطفال فى جميع البلاد وهى تجربة جديدة وناجحة وأيضا فى الكتب المدرسية حيث رسم الرسومات الخاصة بالكتب الدراسية للمراحل الأربعة.
* أخبار اليوم ..
- واستقال بيكار من العمل فى كلية الفنون الجميلة وتولى رئاسة قسم التصوير بعد إلحاح من الأخوين على ومصطفى أمين وتفرغ للرسم الصحفى الذى مارسه فى الأخبار منذ عام 1944 وكان لبيكار أسلوب بسيط وواضح وكان كتاب الأيام للدكتور طه حسين أول كتاب يقوم برسمه بعد عودته من المغرب وتتعدى الكتب التى رسمها الألف كتاب تميز بيكار أثناء عمله فى دار أخبار اليوم بنوع جديد من الأدب وهو أدب الرحلات الذى كان حديثا على الصحافة .
- وقد اعتبر بيكار أن فن البورتريه الذى تميز به تلخيصا للحياة وقال عنه إذا لم أحب ملامح من سأرسمه فلن تطاوعنى فرشاتى فكان يقترب من الشخصية ويغوص فيها ليقتنص اللحظة المناسبة ويعبر عنها باللون والخط .
- وقد تعلم من أستاذه فريد مان كروزيل أن الفنان أمام البورتريه يجب أن يشعر بأنه يخاطبه ولابد أن تكون الجلسة بينهما حوارية وبها نوع من الترابط العقلى والوجدانى فهو يحول العمل الفنى من لحظة زمنية إلى لحظة أبدية ولو استطاع الفنان أن يقتنص هذه اللحظة فقد وصل إلى صميم فن البورتريه وكان بيكار يرسم الحركة الباطنية وليست الظاهرية للموديل ليؤكد أن ملامحه الداخلية هى ما يعطى العمل الفنى قيمته.
* العجيبة الثامنة ..
-فى بداية الستينات ومع مشروع بناء السد العالى ظهر أن المياه ستغمر النوبة بما فيها من آثار وخاض الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة حين ذاك دعوة لإنقاذ آثار النوبة إلى أعلى الجبل وقام المخرج الكندى جون فينى بتصوير مراحل نقل المعبد إلى أعلى الجبل بفيلم تسجيلى وكان الفنان حسن فؤاد رئيس قطاع السينما التسجيلية قد رشح الفنان حسين بيكار للعمل بهذا الفيلم وقام بيكار برسم 80 لوحة نقل من خلالها 3500 سنة لمصر القديمة فى زمن رمسيس الثانى منهم 50 لوحة صغيرة و30 لوحة أخرى يزيد طولها على 4 أمتار نفذها بيكار بألوان الجواش ...
شيماء العطيفى
القاهرة 22/ 1/ 2013 - باب ألوان وظلال
` عشرون ألف جنيه أنقذت تراث `بيكار
- تاريخ فنى متعدد الاتجاهات ممتد من ثلاثينيات القرن الماضى حتى السنة الثانية من الألفية الثالثة، أي ما يقرب من سبعين عاما حفرها الرائد الفنان والناقد والشاعر والموسيقى حسين بيكار الذى نحتفل بمئوية ميلاده والتى تم تجاهلها بدءا من العشر سنوات الأخيرة فى حياته لاعتناقه للبهائية وسجنه عام 1985، ثم الإفراج عنه فيما بعد لينزوى بعيدا عن كل شئ فى منزله ومعاناته من الاضطهاد، لكنه لم يتوقف عن الرسم ولا الكتابة، وكأن كل ما قدمه وما أسس له فى مصر من مدرسة فى الرسم خاصة للأطفال والكتابة لهم وفى التصوير والصحافة المصورة والنقد الفنى قد تم اختزاله ورفضه لمجرد أنه بهائي!...
- فمنذ وفاته لم تقم وزارة الثقافة أو نقابة الفنانين التشكيليين أو الجمعيات الثقافية مثل أتيليه القاهرة وغيرها أية احتفالات ببيكار، فيما عدا أقلام أصدقائه وتلاميذه ومحبيه الذين كتبوا عنه فى مقالاتهم أمثال محيى الدين اللباد وأنيس منصور وأحمد رجب وإبراهيم سعدة ود.خالد منتصر والراحل إبراهيم عبد الملاك ود. محمد الناصر، إنما يحسب لوزارة الثقافة ولقطاع الفنون التشكيلية إنقاذ ما تبقى من تراثه من البيع بالمزاد العلنى مقابل 20 ألف جنيه دفعتها الوزارة لبنك ناصر بعد وفاة زوجته السيدة أسمة فى 14 فبراير 2011 التى تصل إلى 264 اسكتش وأعمال ورقية و38 لوحة زيتية هى فى الترميم حاليا استعدادا لإقامة معرض كبير لهم خلال هذا العام الحالى.
* بداياته :
-فمن الصعب أن نتجاوز `سندباد` الفن الذى جاب عدة أساليب فنية كالرسم والموسيقى والكتابة والشعر الذى تجاوز الأربعمائة قصيدة، بيكار المولود عام 1913 بحى الأنفوشى من أصل تركى على أنغام سيد درويش وعشقه للموسيقى إلى حد النبوغ حتى أنه كان يعطى دروسا فى عزف الموسيقى وهو طفل، بيكار عاش حياة قاسية فكان ابن لأسرة فقيرة فقرا مدقعا يعيش فى حجرة صغيرة خالية سوى من صندوق للملابس وحصيرة...
- التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1928 والتى كانت وقتها تسمى مدرسة الفنون العليا وكان عمره آنذاك 15عاما ليكون من أوائل الطلبة المصريين الذين التحقوا بها، درس فى البدايات على أيدى الأساتذة الأجانب حتى عام 1930، ثم تتلمذ بعدها على يد أحمد صبرى ويوسف كامل، بعد تخرجه عمل بيكار مدرسا فى مدينة الأقصر الجنوبية لعدة أعوام قام خلالها فى تأسيس متحف للشمع وإنجاز بعض الأعمال فى تصميم ديكور المعرض الزراعي.
- عام 1939انتدب بيكار للتدريس فى المغرب حيث قضى هناك ثلاث سنوات عمل فيها كمدرس للرسم، ثم عاد القاهرة فى 1942وعمل كمعاون لأستاذه الذى أصبح بعدها صديقه الفنان أحمد صبري، بعد فترة تولى بيكار رئاسة `القسم الحر` خلفا لصبري، الذى انتقل لرئاسة قسم التصوير، وسرعان ما تولى رئاسته بعد إحالة صبرى للتقاعد.
- فى عام 1944قام بيكار بتصميم ووضع رسوم مذكرات طه حسين `الأيام`، وشجع نجاح الكتاب أصحاب دار `المعارف`على أن يكلفوا عددا من الأدباء ومعهم الرسام بيكار لإصدار عدد من سلاسل كتب الأطفال المصورة، وكان من هؤلاء الأدباء محمد سعيد العريان، ومحمد فريد أبو حديد، وأمينة السعيد، وقد بدأ إصدار تلك السلاسل عام 1946.
* سندباد :
- فى عام 1949 قرر بيكار أن يترك سلك التدريس ويتفرغ للعمل الفنى الصحفي، فبدأ مستشارا فنياً لمجلة `سندباد` التى ظهرت عام 1952وأصبحت بعد فترة قصيرة واحدة من أهم المطبوعات فى مجال صحافة الطفل فى تاريخ الصحافة المصرية.
- وكانت مجلة ` سندباد ` تقدم مغامرات مصورة لشخصية فتى وسيم اسمه (سندباد) قام بيكار بابتكار صورته من خلال رسوم جميلة أثرت فى الصغار والكبار، ثم سارعت دار أخبار اليوم بالتعاقد مع بيكار ليصبح مسئولا عن تصميم أغلفة إصدارات أخبار اليوم حتى وفاته.
- العجيبة الثامنة :
- أثناء بناء السد العالي، طلب وزير الثقافة - وقتها - الدكتور ثروت عكاشة من بيكار تسجيل أحداث نقل معبد أبو سمبل من مكانه القديم إلى الجديد وتوثيق هذه المعابد والحياة فى النوبة، فرسم على مدار ثلاث سنوات حوالى 80 لوحة إضافة إلى آلاف الاسكتشات بأسلوب حفز المخرج العالمى جون فينى باخراج هذه اللوحات فى فيلم تسجيلى عالمى باسم `العجيبة الثامنة` ليجسد الفيلم أكبر دعاية على مستوى العالم لمشروع السد العالى .
* `البورتريه` عند بيكار :
- أبدع بيكار فى فن البورتريه الذى يعتبره رسما وتلخيصًا للحياة موضوعة على مسطح بتكوين وعلاقات يتقرب من الشخصية بالتعامل والحديث ليقتنص لحظة من لحظاتها يعبر عنه باللون واللمسة، وعن فن البورتريه وفلسفته يقول بيكار `تعلمت فن البورتريه من أستاذى فريدمان كروزيل أستاذ النحت فى كلية الفنون الجميلة وأنا طالب فيها، إذ كان يطلب منى أن أرسمه بواسطة هذا النوع من الفن، وفى جلسات الرسم تلك كان يعلمنى ما لا أعرفه، ومن ضمن تلك الدروس القيمة جدا قوله لى -حين تكون أمام البورتريه يجب أن تشعر أنك تخاطب الشخصية التى ترسمها، هذا الحوار هو ما سيمكنك من اقتناص لحظة زمنية فى مسار الزمن عندها فقط ستصل الى قلب فن البورتريه`.
- الفنان جميل شفيق أحد أبرز تلاميذ بيكار قال: الأستاذ بيكار له أثر كبير فى تشجيعى على إقامة المعارض، فبعد ألحاح أصدقائى لإقامة معرض لأعمالى، زار بيكار معرضى وكتب لى كلمة رائعة وأطلق على المعرض لقب `إلياذة جميل شفيق`، فكان معلما مهما وجعلنى أستمر ومنحنى طاقة كبيرة، فكان من الأساتذة التى تمنح كامل خبرتها للطلبة، من مواقفه الطريفة أنه كان حينما يعلم الجزار يجده يبدأ البورتريه من العين وهو ما نهره عنه لكنه وجد أن الجزار يحب هذه الطريقة وهذا المدخل للبورتريه فتركه على سجيته، ربما آخر كلمة كتبها لى قبل اعتلال صحته وذهابه للمستشفى كلمنى بالليل وقال أنه كتب كلمة عن معرضى تم نشرها بالأخبار، من أكثر ما تعلمته منه هو الإخلاص فى الفن، أيضا حين كنا طلبة بالكلية كان يهتم جدا باصطحابنا لسماع الموسيقى بالأوبرا ودائما ما كان يطلعنا على الجديد فى الفن والكتب الفنية، فلقد منح طاقته للطلبة والناس.
- الفنان محمد طراوي: كنت فى حوار مع أحد رؤساء التحرير وكنا نناقش مسألة النقد الفنى وهو إلى حد كبير انطباعى فى الصحافى البعيد عن الفلسفى والتنظيري، فقلت له أن الناقد إن كان ممارسا للعملية الإبداعية ويطرق باب الكتاب فعليه أن يكون من معيار بيكار وذلك لأنه ذا مواهب وفكر بيكار على اعتبار أنه لا يجوز أن يكون فنانًا تشكيليًا ذو موهبة محدودة وينتقد مجايليه!! فبيكار فنان ذو موهبة متفردة وذو قلم لا غبار عليه مطلقا.
- بيكار صحفيا هو أحد شيوخ الرسم الصحفي، فكل أعماله من بداية إصدار المجلات وكانت له تجربة كبيرة مع مجلة ` سندباد ` للأطفال التى استطاع من خلالها بخطوطه البسيطة وألوانه جذب عالم كبير من الأطفال للمجلة، فبيكار كان قادرا على تكثيف مايقوله الكاتب للطفل من خلال رسومه برشاقة فى خطوطه، أيضا من أهم مميزات بيكار الوازع الوطنى التى استطاع تأصيلها للطفل من خلال رسومه وغرس حبه للعلم والفن فبيكار فى هذه الفترة كان بمثابة الجسر لتوصيل وتأصيل الفكر والثقافة فى الطفل، فقضية بيكار هى قضية الانتماء وكانت كل حواراته يؤكد فيها أن مصر الحقيقية هى `الصعيد الجواني` وهو ما انعكس على كل أعماله الفنية والصحفية والتشكيلية أيضا التى كان يشارك بها فى حركة الفنية وعلى صفحات الجرائد كان يؤسس لهذه القناعات فى رسمه الصحفي، من أبرز إسهامات بيكار فى أنه نقل الرسم الصحفى من مفهوم الرسم المكمل للنص أو التزيين ليجعله واقفا على قدم المساواة مع النص كما أن الرسم الصحفى هو بالتأكيد له بعدا جماليا واضحا فى الجرائد لكن عند بيكار اكتسبت بعدا فكريا ايضا بناء على النص المصاحب لها... بيكار حفر لنفسه مكانة كبيرة بفنه ورسومه وشعره فلقد استطاع تجسيد أفكاره والتعبير عنها بمختلف الوسائط الفنية.
- بيكار كان من أعمدة فنانى البورتريه، الذى غاص من خلاله فى أعماق النفس البشرية ولقد اتسمت أعماله بالرصانة وقوة البناء، فكان مولعا بالوجه الإنسانى لأنه أحد المتخمات الفنية والجمالية، فالبورتريه عنده كان عالما مليئًا بالمشاعر لذا نجده قدم أعمالا تمثل تراثا مهما فى الحركة الفنية.
- وقال كاتب الأطفال يعقوب الشاروني: الأستاذ حسين بيكار من أهم رواد رسم كتب الأطفال فى مصر والعالم العربى ومن أهم ما أثرى به كتب الأطفال الإشراف على مجلة `سندباد`، إضافة إلى أنه رسم عددا كبيرا من كتب رائد الأطفال كامل كيلاني، خطوط بسيطة ومساحات لونية متناغمة تجعل رسومه تصل مباشرة لعين وخيال الأطفال كما أن بيكار كان ناقدا أيضا للفنون التشكيلية سواء للكبار أو الصغار وقد وضع كثيرا من الأسس النظرية لكتب الأطفال ونصح من يرسمون أن يكتشفوا النوع المناسب لموهبته فهناك من يستطيع أن يرسم الكاريكاتور وهناك من يرسم بالأسلوب الواقعى وهناك من يرسم بالأسلوب الخيالى وهذا يستدعى أن يختار الرسام القصص والموضوعات التى يرسمها ولا يترك للناشر أن يفرض عليه أسلوبا لا يتلاءم مع موهبته.
- المخرج الفنى ورسام الأغلفة أحمد اللباد قال: بيكار من جيل بعيد، وللأسف لا يوجد توثيق جيد للأجيال السابقة ولكن من أكثر الأغلفة التى أثرت فى أعمالى جدا كان غلاف كتاب الأيام لأنه مقرر علينا والكتب المدرسية دائما هى أكثر ما يؤثر فينا أيضا ديوان `طفولة نهد` وهو أول دواوين نزار قبانى... بيكار خلق نوع من الحساسية الجديدة ونقلة حقيقية فى صناعة الأغلفة فقبله كانت الأغلفة رصينة لكنها غير معتمدة على التعبير عن مادة ونوع الكتاب فلم يكن من عتبات النص إلى أن جاء بيكار ليدرك مسئولية وأهمية الغلاف للنص.
- وأكمل: على مستوى الإخراج الفنى تحديدا فى مجلة سندباد حقيقة وبدون مبالغة هى من أجمل المجلات حتى الآن!!! فكان لديه إحساس بصرى بالمساحات وهدف المطبوعة، فكان لديه إحساس بفن الاتصال والتعبير عن المادة بحس رهيف جدا، حيث اهتمامه بمساحات الحروف والترقيم وتوزيع الرسم فلم يسع خلف إبهار بصرى كاذب بل إلى لب العلاقة بين القارئ والمطبوعة خاصة أنه أيضا للطفل وهو الأصعب لأن الطفل ليست لديه الخبرة البصرية الكافية.
تغريد الصبان
روز اليوسف - 15/ 1/ 2013
بيكار رسام على نوتة موسيقية
- كان يظن أنه حر، وأن العقيدة جزء من هذه الحرية، ولم يختبئ، وكان صادقا، لكن هذه ليست إحدى لوحاته يرسم فيها ما يشاء، ويصفق له المجتمع الذي يلفظ من لا يسير على هواه، حتى وإن كان هذا الشخص هو حسين أمين إبراهيم بيكار.
-القلم الرصاص في يد أمه، وهي من أصل تركي، ورسمة الوردة البسيطة التي سرعان ما تحولها إلى مفرش، كان حلم `بيكار` الذي ولد في 2 يناير عام 1913 بالإسكندرية، وأما العود القابع في البيت دون صاحب فكان ساقي هذا الحلم.
`بيكار` يعزف على العود دون معلم، الجميع يستمع، السن 8 سنوات، جارة قريبة تطلب منه أن يعلمها مقابل ريال في الشهر، أول علبة ألوان زيت اشتراها كانت من أول ريال من دروس العود.
- طريقان يسير فيهما `بيكار` دون خوف أو جلل، يتخرج في مدرسة الفنون الجميلة العليا، ويكون مع زملائه فرقة موسيقية، يتعرف على أحمد صبري ويتعلم منه البورتريه، وأغانيه تذاع على الردايو، يعمل معيداً في `الفنون الجميلة`، ويقف على المسرح بجوار الشيخ زكريا أحمد وصالح عبدالحى رحلات طويلة خارج مصر قضاها `بيكار`، ترافقه الفرشة، كل ما يخطف عينيه هو لوحة زيتية، كل شخص يلتقيه له قصة يتسلل داخله يصبح `بورتريه`، كل حدث غريب هو عنوان جديد، كل شيء في الحياة يمكن تلخيصه في لوحة ملونة.
- التقطه الأخوان علي ومصطفى أمين للعمل في `أخبار اليوم` رساماً صحفياً، وبدأ الرحلة في الأربعينيات، وبزغ في هذا المجال الجديد، مما دفع طه حسين لأن يطلب منه أن يرسم غلاف كتابه `الأيام`، وبهذا الغلاف يصبح `بيكار` أول رسام للأغلفة في مصر، بل إن شاعرا سوريا طلب منه أن يرسم غلافه ديوانه الأول، وافق بيكار، وكان الشاعر نزار قباني أكمل بيكار رسم الأغلفة التى وصلت خلال حياته الـ89 عاما إلى ألف غلاف.
- `الكتاب العجيب`انطلاقة `بيكار` نحو أدب الأطفال كتابة ورسما، ومن ثم إلى مجلة السندباد، التى كان يرسم غلافها، وشخصيتها الرئيسية `السندباد` وكان العام 1952، لذا لا عجب أن يرسم بيكار بعدها كتب القراءة الجديدة للصفوف الأربعة الأولى بالمرحلة الابتدائية.
- (العجيبة الثامنة) التي رسمها في الستينيات هي الوثيقة الأهم لحفظ تراث معبد رمسيس الثاني، الذي تم نقله أثناء بناء السد العالي إلى أبو سمبل. صور المخرج الكندي `جون فيني` مراحل نقل المعبد إلى أعلى الجبل بارتفاع 40 متراً كفيلم تسجيلي، لكن نقصه مرحلة ما قبل النقل، وهنا تفرغ لمدة عامين، ليكمل الفيلم بـ80 لوحة يروى لنا فيها بداية بناء المعبد في مصر القديمة وحتى نقله.
- الروح التي تسبح في فضاء الفن لا تكتفى بالرسم أحيانا ولا بالموسيقى أحيانا أخرى، كان ينقصها شيء، ووجد هذا الشيء حين كتب الشعر، وكان الشخص الذي دفعه إلى ذلك هو محمد حسنين هيكل.
- من وسام الاعتزاز من الحكومة المغربية عام 1941، إلى فن التصوير الزيتي في بينالي الإسكندرية عام 1957، ثم وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1967، و`الدولة التقديرية ` في الفنون، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1980، وحتى إهماله لمدة 20 عاما قبل أن يُمنح جائزتا مبارك للفنون، وسوزان مبارك لأدب الطفل، وأخيرا تكريم مكتبة الإسكندرية عام 2001. كان بيكار يسعد أكثر بتقدير الناس فى الشارع.
-فى عام 1985 اعتنق `بيكار` البهائية، ظن أنه حر، وزُجّ به فى السجن. هذه حياته الشخصية، وهذا هو مجتمعنا، ولم يتراجع، أُفرج عنه، لكن ظل حتى وفاته عام 2002، بداخله جرح لم يشف أبداً.
إسلام عبد الوهاب
المصرى اليوم - 4/ 4/ 2013
لوحة وفنان الحصاد ـ للفنان حسين بيكار
سبحانك ياملون الأوراق .. على جبين القمر
على غصون الشجر .. سبحانك ياخالق المية
سبحانك يا مجمع الأنهار .. من قلب الحجر
من الندى والمطر .. قادر بسحر المحبة
سبحانك يافارش النور .. تحنن قلوب البشر
` مناجاة ` وكلمات حميمة من بحور الأزجال والأشعار العامية التى نشرها الفنان والناقد الكبير الراحل ` حسين بيكار ` خلال نافذته الأسبوعية الجميلة التى تزينت لسنوات برسومة وكلماته بجريدة الاخبار التى كانت مدرسة تعلم فيها كثيرون من الفنانين والشباب الهواة لأجيال .
والكتابة عن هذا الفنان متعة ومخاطرة وقلق فى آن واحد .. المتعة فى الكتابة عن فن بمثل هذا الرقى والمثالية والرهافة فأى الكلمات تعطى لهذا الفن وهذا الرجل بعضاً من حقة وروعته والمخاطرة فى التطرق لسمات إبداعه، وهو ذلك الفنان الموسوعى، الريادى النزعة .. فقد كان ولازال هرماً من أهرامات مصر المعاصرة فى فنه وفى شخصه .. وهو مصور له مذاق خاص يجمع فى أعماله ما بين مذاق المحلية وتراب مصر وبأسلوب عالمى التقنية وبخصوصية شديدة ، لوحاته عن ` النوبة ` المصرية وحياة الحصاد والفلاحين أصبحت نبرأساً لأجيال الفنانين فى حكمة المعالجات والتلخيص والمثالية التى لازمته طوال حياته .. أما أعماله فى ` فن البورترية ` رسم الصورة الشخصية فهى من علامات فن البورترية المصرى المعاصر .. حتى أنه تخطى أستاذه الأول الفنان أحمد صبرى .
فهو أكثر الفنانين التزاماً بأصول فن البورترية وأكثرهم براعة ومثالية ، له إنتاج تاريخى لا يضاهيه فيه أحد ويقول الفنان حسين بيكار ` لا استطيع أن أصور القبح .. وأرى الإنسان دائما شبه ملاك ..
لذا فكل أعماله تتميز بنزعة مثالية لاجدال فيها يحتفى بالاناقة والرصانة والجمال .. وهذا يكفيه لاعتلاء مكانه مرموقة فى تاريخ الفن المصرى ، لكن عبقريته وروحه الوثابة كانت دائماً تدفعة لتقديم المزيد من بحور مواهبه وإبداعته فكان مؤسسا لمدرسة الرسم الصحفى فغير فى مفاهيم هذا الفن وأضاف إليه الكثير بالموضوعات المرسومة بدلاً من المصورة ، وهو ايضاً مؤسس ورائد لفن صحافة ورسوم الاطفال والقصص المصورة .. منذ أن قام بتأسيس مجلة ` السندباد ` أول مجلة مصورة للأطفال فى مصر والوطن العربى ، كما غير بريشته ملامح ` فن الغلاف ` للكتب وهو ناقد من أبرع نقاد العالم العربى وقد تعلم الكثيرون من نافذته الأسبوعية النقدية ` ألوان وظلال ` .. كما أنه كاتب وعازف ماهر ` لآله البزق ` فإذا وضعنا كل هذا جنباً الى جنب فليس عسيراً أن نكتشف أننا أمام صرح فنى لا مثيل له ومؤسسة ثقافية وفنية وإنسانية غير مسبوقة .
أما القلق فهو محاولة اختيار عمل فنى ` واحد ` يعبر عن هذا كله ، أو على الأقل أى الأعمار ؟ وكلها من الروائع الفنية .
الحصاد
لوحة الحصاد من روائع حسين بيكار ومن مجموعة لوحات عن الريف والفلاحات - رسمت بألوان زيتية عام 1982 ( بمقاس 100×50 سم )- ومن مجموعة مقتنيات د / نبيل عيد - وهى إحدى لوحات بيكار العديدة التى تحتفى بالمرأة الريفية - رمز مصر المعطاءة -التى تزرع الخير وتحصد الخير . ونموذج المرأة لديه لا تخطئه العين فله أسلوبه الخاص جداً فى صياغة الجسد البشرى الذى يشبه الكتلة النحتية المرمرية فى خطوط خارجية واضحة وملخصة وبنسب مثالية أنيقة يبدو ذلك جلياً فى استطالة الجذع وليونة الخطوط الموسيقية المنسابة حتى الملابس التى تكسوة تبدو كالملابس فى رسوم الفن المصرى القديم مجرد خطوط ولون على حدود الجسد المنحوت ببراعة وبحكمة فى استخدام الظل والنور للوصول إلى ذلك التجسيم الثلث .. والمرأة هنا فى اللوحة بطرحتها تبدو مثلثية هرمية ذات قاعدة ثابتة لها رسوخ فى مساحة اللوحة يؤكد أهميتها ومحوريتها فى حين تمثل الزراعات الخلفية تكراراً شبه ملخص تماماً ذا روءس هرمية أخرى كأنها تتجه للسماء وتتواصل فى النمو .
واللوحة فى مجملها تبدو كحوار هامس ما بين المرمر ( الفلاحة ) والجرانيت ( الزرع ) فهى تكوين تصويرى نحتى متماسك بقدر صلابة بنيانه وسلامة تكوينه ملئ بالليونة والحركة فى هدوء رصين قام بتفعيل تلك الحركة بحركة الطيور التى تاتى فى مستوى آخر قبل الفلاحة وخلفية الزرع .. كما أنه اختيار قطع غير اعتيادى للوحة فى نهاياتها أعلى اللوحة .. وليس مستغرباً كل تلك الاضافات من الفنان بيكار وهو أستاذ الأساتذة فى حبكة التكوين والتوازن والتوليف وغيرها وحيل التنفيذ التى تخدم رؤيته وموضوع لوحته .
وحسين أمين إبراهيم بيكار ، ولد بالاسكندرية فى 13 يناير 1913 التحق عام 1928 بالمدرسة العليا للفنون الجميلة ، وتتلمذ على يد الرائد أحمد صبرى ، وتخرج عام 1933 وبعد تخرجة اشترك فى تاسيس متحف الشمع بالقاهرة ثم عمل بالتدريس حتى عام 1938 بعدها سافر الى المغرب لتدريس التربية الفنية لثلاث سنوات ومنحته الحكومة المغربية ` وسام الاعتزاز ` وعند عودته التحق بالعمل بجريدة الاخبار ليبدأ مشواره الصحفى اللامع مع كتابه النقد والرسوم منذ عام 1944 .
وفى عام 1959 استقال من عملة بكلية الفنون ليتفرغ للعمل الصحفى ثم أضاف رسوم الاطفال لاهتماماته واصدر مجلة السندباد وحصل على العديد من الجوائز فى فن التصوير منها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1967 وفى تلك المرحلة نفذ أحد مشروعاته الباهرة وهو رسم معبد أبوسمبل بنائه فى 80 لوحة ملونة لفيلم العجيبة الثامنة ولمدة ثلاث سنوات
والكلام يطول عن هذا الفنان لصفحات وصفحات عن فنه وشخصه لذا فإننى اختتم بكلمة إنسانية راقية قالها الكاتب الكبير مصطفى أمين عن بيكار .. قائلاً : ` عرفت بيكار من خطوطة .. قبل أن أعرفة من ملامحه هذه الخطوط الانيقة والظلال الرائعة التى جعلتنى فيه فارساً من القرون الماضية ، لا يحمل سيفاً وإنما يحمل ريشة .. يغزو بها كل يوم آفاقاً جديدة وعوالم جديدة . هذا الرسام ليس فناناً فى فن واحد .. إنه أستاذ متفوق فى عدة فنون ، استاذ فى الرسم ، والادب والموسيقى ، أعطاه الله قلباً كبيراً يحب به كل الناس ، ولا يكره أحداً ، وأعطاه نفساً عالية لا تنزل الى الحقد والغيرة والضغينة ، وأعطاه الله إباء لا تذله المناصب ولا يخضعة المال .. ولا يضعفة النفوذ .. والسلطان` .
أمين الصيرفى
المحيط الثقافى -2005
إن أعمال حسين بيكار فى التصوير قليلة نسبياً إذا ما وضعنا فى الاعتبار انشغاله بكتابة النقد الفنى والرسم الصحفى، على مدى أكثر من خمسين عاماً، قدم خلالها بيكار إسهامات كثيرة متنوعة فى مجالات الرسوم التوضيحية بالصحف والمجلات وكتب الأطفال فضلاً عن فن البورتريه، أى الصورة الشخصية الذى تأثر به من أستاذه ومعلمه أحمد صبرى، المتوفى عام 1955 والذى لم ينازعه فيه الكثير من معاصريه ماعدا `كامل مصطفى` و `عز الدين حمودة` و`صبرى راغب` وآخرون قله ممن تخصصوا فى هذا المجال. إن ولع بيكار بهذه المجالات الفنية وقناعته الشديدة بها لما تمثله من إغراء جماهيرى واسع الانتشار، ودورها المؤثر فيه وضعته فى موقف المفاضلة بين التدريس بالكلية او التفرغ للعمل الصحفى، فاختار الأخيرة (الصحافة) وقدم فيها بريشته مئات الرسوم التوضيحية التى تشهد له بالكفاءة وسعة الخيال ودرايته بخصائص فن الرسم الصحفى.. وتلك الصفات اكتسبها بيكار منذ كان طالباً بالفنون الجميلة فى الثلاثينات، وتمرس عليها طويلاً بعد تخرجه واشتغاله بالتدريس، ثم اشتغاله بالعمل الصحفى فى `دار اخبار اليوم` ولقد اتاح له هذا العمل فرصاً عديدة للسفر استفاد منها جميعاً فى تسجيل العديد من الرسوم، التى تتناول مظاهر الحياة اليومية والمناظر الطبيعية، وأبرزها تلك التى سجلها فى الأقصر والمغرب وأثيوبيا. هذه الرسوم غاية فى الأهمية لا لأنها مرجعية فحسب - إذ يرجع إليها الفنان عند اللزوم فى موضوعات سوف يتطرق إليها فى المستقبل - وإنما لأنها مازالت تحمل الكثير من القيم الفنية، والسمات الجوهرية لفن بيكار ويمكن اعتبار الكثير منها أعمالاً فنية منتهية.
لكن إلى جانب تلك الرسوم المسجلة من الطبيعة. هناك رسوم أخرى فانتازيات خيالية وهى نوع من الإفراز الوجدانى للفنان لم يستعن فيها الفنان بنموذج او أى شكل مرئى، حيث يعتمد على مختزناته البصرية وخبراته الادائية ومهارته فى الرسم من الطبيعة، وهو الأمر الذى أفسح له المجال لممارسة الرسوم التوضيحية وايضاً فى عمل تكوينات لوحاته التصويرية ذات الطابع الإنسانى، ولعل اهمها هى تلك التى أبدعها فى الخمسينات عن `الحصاد` و`جنى المحاصيل`، تلك المناظر الريفية التى توصل فيها - كما يقول د./ نعيم عطيه - إلى قالب خاص به تماماً جمع بين التبسيط والزخرفة، بين الغنائية والرصانة مع أجواء أثيرة حالمة من عالم الشعر والباليه مع أن شخوصه هم الفلاحون والفلاحات.
لم يقف بيكار عند حدود الرسم الصحفى او اللوحات الخيالية ، إنما تطرق الى ممارسة نوع آخر من الفن وهو فن (البورتريه) او الصورة الشخصية التى يبين فيها تأثره بأستاذه احمد صبرى - كما أشرنا - وفى هذه البورتريهات التى تطالعنا فيها حسان من زهرات المجتمع الارستقراطى بواقعيه مسحات الوجه الناعم وتكعيبية ثنيات الثوب والوشاح الذى تتحلى به الفتاه نتوقف لحظة عند عمل الاسكيزات أو الدراسات التحضرية التى تسبق الصورة لنتعرف على المحاولات الأولية التى تتجلى فيها براعة الأداء فى احتواء ملامح الشخصية فور لمسات سريعة حيوية وحاسمة.
وهذا فى حد ذاته ليس هدفاً نهائياً ولكنه أحد متطلبات العقل فى الحصول على أنسب وضع، وأحسن حركة، وأحسن لحظة وأنسب لون، وأنسب ثوب ترتديه الفتاه والمرأة الموديل، كل هذه محاولات أولية قد يصل الفنان فى أول محاولة إلى نتيجة مرضية وقد يكرر المحاولة مرتين او ثلاثاً حسب ما تقتضيه الحالة المزاجية والظروف المحيطة بالفنان..ففى واحدة من اللوحات نجد أن الفنان قد اكتفى بعمل `اسكيز` للفتاة حدد فيه الوضع والثوب والاتجاه والإضاءة وحركة اليدين بلمسات فورية وسريعة دون عناية بتفاصيل، فى الصورة المنتهية يبدو التمام والاكتمال، كل خط كل لمسة، كل تفصيلة وضعت فى موضعها بعناية وإتقان، وفى مثال آخر.. للبورتريه نجد أن الفنان يتبع الطريقة نفسها فى عمل دراسة تحضيرية `اسكيز` قبل الشروع فى تنفيذ الصورة الشخصية كإجراء مبدئى للتأكد من سلامة التكوين من حيث الوضع المناسب والإضاءة والثوب والفراغ... إلخ باستخدام خامة الزيت المخفف على مساحة صغيرة نسبياً، فى الاسكيز تستشعر حساً شاعرياً رقيقاً تظهره لمسات الفرشاة الأثيرية وتعبيراً حياً نابضاً يؤكده هذا التناغم اللونى الشفيف والمعتم - بين الشكل والخلفية - كما نستشعر إيحاءً بملامح الشخصية من خلال سلامة النسب الجمالية واللمسات المتقنة من الفواتح والغوامق على الوجه، أما فى العمل المنفذ أو الصورة المنتهية فيظهر الفارق بوضوح وهو فارق يؤكده حرص الفنان وأمانته فى محاكاة النموذج محاكاة واقعية. وهنا يتجلى حذق الفنان ودرايته فى صناعة رسم الصورة الشخصية، فكل لمسه لون وكل خط وكل تفصيلة فى الشكل تعالج طبقاً لقواعد أكاديمية مدروسة سلفاً، فاللمسات التأثيرية السريعة فى ` الإسكيز ` والتى يؤسس بها التكوين والملامح الشخصية يختفى أثرها تماماً.. وإيقاع الاضاءات الناعمة فى مناطق الشكل المختلفة كالوجه و الوشاح واليدين بل وكل ما هو مؤسس على أساس اللحظة الانطباعية فى الإسكيز يتغير ويحل محله مسعى الفنان الواقعى فى ترجمة الأشياء وإبراز ماهيتها وصفاتها المادية من خلال حيل المنظور والأضواء والظلال والملامس والاستغراق فى التفاصيل الدقيقة للأشكال.
من الملاحظ أن الإسكيز لم يكن يحتوى على أية أشكال فى فراغ اللوحة خلف الموديل وهو على عكس ما نجده فى اللوحة المنتهية، إذ يحيط بخلفية الشكل من أعلى اليمين واليسار بروازان سرعان ما تم الاستغناء عنهما وحذفهما لأنهما لم يؤديا الغرض المطلوب فى حل الفراغ وعمل التوازن المناسب للوجه . يقودنا هذا الإجراء الى أنه ليس بالضرورة أن يضم الإسكيز أو أى عمل تحضيرى كل الأفكار والحلول التشكيلية، وعادة ما يلجأ الفنان إلى تغيير خطته أو ما يراه مناسباً فى أثناء قيامه بالعمل.
صحيح ان الحس النابض الذى يسقطه بيكار فى اسكيزاته، والذى يجعل منها بشكل خاص وثيقة مهمة وقيمة فنية.. لايجوز بحال من الاحوال فصلها عن العمل الفنى المنتهى فهى جزء مهم من الكل فى مراحل نسيج العملية الابداعية، ولذا لا غرابة فى ان نرى بيكار يضع فى عين الاعتبار التجويد والاتقان لإخراج العمل فى صورة مثالية..
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
- ويعد بيكار جسرا آخر من نفس الطراز قام بنفس المهمة فى الربط بين الفن والمجتمع ، فمنذ بداياته الأولى جعل همه السعى لابتكار صيغة جمالية يقبلها المواطن العادى كما يقبلها المثقف الذواق للفن، ونجح فعلا فى الوصول إلى هذه الصيغة ، التى اتسمت باحترام العنصر الإنسانى كبطل أساسى فى لوحاته ، سواء كبورتريه أو كتكوين، محققا بملامسه الناعمة وخطوطه الانسيابية وألوانه الشفيفة ومساحاته الزخرفية هارمونية حالمة، استطاع من خلالها تجاوز النزعة الأكاديمية الجافة التى تلقاها على أستاذه أحمد صبرى، كما تجاوز الوصفية الدارجة للتسجيليين، الى نوع من الطرب الغنائى التشكيلى الذى يشبع العين والشعور فى لوحات تتغنى بقيم العمل وجمال المرأة ، وتدعو الى التسامى العاطفى والتواصل الإنسانى، محققا رسالة تربوية هامة للفنان تجاة المجتمع ، استعان على إبلاغها بالكلمه المطبوعة الى جانب اللوحة.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب التوجه الإجتماعى للفنان المصرى المعاصر
وجه الأنسان عند بيكار
- عندما فكرت فى الكتابة عن الفنان الكبير `حسين بيكار` شعرت بشىء من الحيرة .. بسبب تنوع عطائة الفنى فهو أحد أعمدة فن رسوم الأطفال فى مصر والعالم العربى، وأحد نجوم الرسوم التوضيحية بالصحافة ومن أفضل رسامى `البورترية` فى العالم العربى ، وأحد نقاد الفن البارزين إن كل جانب من جوانب تلك الشخصية الثرية يستحق دراسة مستقلة لهذا أستأذن القارىء فى التركيز على جانب واحد من جوانب إبداعه.. وهو فن البورتريه.
- يعد `بيكار` من أكثر الفنانين المصريين النززاما بأصول فن ` البورتريه` أو الصورة الشخصية وأكثرهم براعه واتقانا لهذا الفن الذى يزهد فيه معظم الفنانين أو يهمشونه فى أحسن الأحوال ولم يلمع من ممارسى هذا الفن منذ انشاء مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 حتى الآن غير أسماء تقل عن عدد أصابع اليدين ولهذا أسبابه منها فى تقديرى ان لوحة `البورتريه` ترتبط بمشتر محدد هو نفسه النموذج المرسوم وهذا (النموذج / المشترى) له شروط لا مفر من تلبيتها.. والتى قد يكون من بينها التدخل فى الأسلوب الفنى للفنان ومن بينها أيضا تضاؤل الأهتمام بفن الرسم والتجسيم بالألوان ولخبرتى المباشرة فى متابعه انتاج الفنانين المصريين فإنى أستطيع القول : إن أكثر الذين لاذوا بالاساليب الحديثه كان دافعهم الى ذلك تغطية العجز فى ممارسه السم وفق أصوله المدرسية ولست ممن يدعون التى التمسك بالأساليب التقليدية ذات الأطر المرجعية الثابته بل بالعكس أدعو الى التمرد عليها `لكن` بعد هضمها فكيف نصدق فنانا يزعم لنا أنه يصف مايدور فى خياله وصفا دقيقا وأمينا دون أن تكون لديه القدرة على وصف ما تراه العين محددا واضح المعالم؟ كيف يستطيع وصف الغامض والمعقد من المشاعر ولا يستطيع وصف البسيط الواضح المحكوم بأبعاد المكان؟!
- إن وجه الأنسان مثل أى مثير جمالى أخر به ما يحرك فى الفنان نوازع الخلق ويحفزه على استنطاق الأسرار بما يتيحه له أسلوبه الفنى ولان الأساليبمتعدده النتائج أيضا تكون كذلك تبدأ من نقل الواقع وتنتهى الى التحريف الكامل وتحتفظ رغم ذلك وبدرجات متفاوته بصلتها بالنموذج الفردى المراد رسمه وبين تلك الدرجات يقف بيكار مع الأتجاه الذى يرى فى الشكل الأنسانى الذى ابدعه الله جمالا لا يجب تشويهه وكان من الطبيعىأن يتوجه الى أصول هذا الفن فى إنجازات عصر النهضه الفنية فالتزم بالنسب الواقعية والتجسيم عن طريق مصدر ثابت للنور كما التزم بالوضعه التى تتسم بالفخامة واحتلال العنصر الانسانى المحاور الرئيسية للوحة . . غير ان مذاقا خاصا يسرى فى لوحاته يمزها عن غيرها كاشفا عن صلة بملامح الفن المصرى القديم تتجلى فى الطابع البنائى الهندسى والتلخيص ووضوح المعالم وسكونيتها .
تجميل القبح .. -
- إن شخوصه تتبدى فى اللوحات مثالية لا يشوبها ضعف بشرى بل تصاحبها الصحة والشابا والرشاقة ولا يفضح قبحها الواقعى ان وجد بل يستخدم بكل براعته فى تفادى الدمامه .. مثلما حدث مع بورتريه رسمه للمرحوم `جناو` أحد نقاد الفن وكان رحمة الله مصابا بعاهات مستديمه فهو قزم أحدب أعور ورغم ذلك استطاع `بيكار` أن يتخطى تلك الحواجز والتقط من الوجه زاوية بدا فيها جميلا خاليا من أية عاهة وغطى الوجه بإبتسامة صريحة صاحبتها لمعه متألقة فى العين السليمة أما العين العوراء فقد القى عليها ظلالا وراوغها بالتماعات عدسة النظارة فبدت العين عبر تلك الحيل الذكية بريئة من عاهتها .. ناعسة أو متأملة!
ونجح فى إجراء جراحة تحجميل اخرى مع وجه لسيدة ذات أسنان بارزة جعلها تبتسم فانقلب القبح فى الواقع الى جمال وهو يحص دائما على ان يلتقط من العناصر ما يجعل من الوجه الانسانى قطعه من الجواهر لهذا تكثر فى لوحاته الثياب المخملية الجواهر اللماعه البريق المتألق فى العينين ومقدمة الأنف والفم .
- ربما قرأ `بيكار` خواطرى فقال لى : إننى لا أنافق الأشخاص الذين أرسمهم بل أرى إن لحظة رسم بورتريه لحظة نادرة بالنسبة للشخص المراد رسمه فالناس لا يجلسون كل يوم كى يرسموا ربما فعلوها مرة واحدة فى حياتهم لهذا يجب أن تكون تلك اللحظة النادرة لحظة `رسميه` يظهر فيها الأنسان فى أفضل حالاته ليرحب بمشاهديه .
- إن بيكار ليس استثناء بين فنانى البورترية المصريين من حيث كونه سترا وغطاء على عيوب الواقع ولا يسمح هذا الموقف الجمالى والأنسانى الا بالتعامل الرقيق مع النموذج الذى يظهره متماسكا مهذب التعبير ويبدو أن الغطاء الأخلاقى المصرى يحول فى أغلب الأحوال دون أن تكون الفرشاه جارحه كاشفه عن مناطق العتمه كتلك التى نطالعها على سبيل المثال عند وجوه الفنان الانجليزى (الالمانى الأصل) `لوسيان فرويد` .
- لا مكان للمصادقه! .
- إن الوجه الانسانى فى لوحاته هو وجه نسائى فى معظم الأحوال رغم تنوعه ورغم تطابق نسبة مع النموذج الواقعى يكشف عن تعلق الفنان بملامح محددة فهو يميل الى الحواجب المرتفعه ويسيدها على كل الوجوه تقريبا كما يميل الى نقاط الضوء اللماعة كما ذكرت من قبل ولا يكاد وجه واحد يفلت منها حتى فى اسلوب التجسيم يكاد يكون ثابتا ففى حين يجسم كتله الوجه تجسميا اسطوانيا فى معظم الاحوال فإن كفة التجسيم بالمسطحات ترجع فى بناء وتحليل معظم أشكال الثياب وربما كان قصده من تلك الثنائية فى التجسيم الكشف عن التباين بين ملامس البشرة الانسانية والملابس واستعار من المنحوته المصرية القديمة حرص مبدعها على البناء ووضوح المعالم وابراز الطابع السكونى او ما يفضل بعض النقاد وصفه بالحركة الداخلية لتفريقها عن الحركة الخارجية فى النحت الافريقى وهو يلتزم بالوضعه الكلاسيكية ذات الشكل الهرمى كما يلتزم باحتلال الجزء المصور من الموذج (وهو غالبا الرأس واليدين) كل المساحة بحيث يبتعد عن التماس مع اطارها الخارجى كما يهتم شأن فنان عصر النهضة بالتوازن عن طريق تكامل الخطوط والاشكال بحيث يكون لكل شكل او خط صداه داخل اللوحة ويلتزم فى كثير من اللوحات بمستويات العمق (الابعاد الثلاثه) يعتم الخلفية وتزداد الدرجات إضاءة كلما اقترب خطها الوهمى من عين المشاهد لتصبح نقاط الضوء فى العيون والانوف والأفواه هى البطن الرئيسى ان تلك الومضات تتجاذب فى الراغ وتخلق نوعا من الحركة المجردة التى تكسب الشكل الواقعى الوصفى يعد شعريا ومذاقا خاصا ومبرر للأعتراف بأن ما نراه فن متحفى .
- فى لوحاته تتوارى المصادقه والمغامرة غير المحسوبه يظهر اتقل قائدا ومحركا كل هدف تسبقة خطة مدروسة تسبق اللوحة دراسات تخطيطية يختار من بينها الافضل حتى الرسوم التحضيرية ذاتها ينفذها بعناية فائقة تتميز برشاقة اللمسة وجرأتها ورشاقتها.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال: أكتوبر 1988
حسين بيكار .. رسم بالكلمات
- ` يا عاشق النور ياللى جعلت النور زادك وطبعك بدال ما تلعن الضلام ، وبدال ما تشتكى مواجعك ولع فى الضلام شمعة ، وان ما لقيت ولع صوابعك `
- ليست هذه كلمات قالها الفنان التشكيلى الكبير حسين أمين بيكار فحسب ، بل هى كلمات تصدق عليه ناقدا ومبدعا أيضا ، فى معرض أقيم فى مارس عام 1974 ضم لوحات له وتماثيل لفنان شاب لم يكن معروفا آنذاك . كنت اذا ما امتدحت للمصور الكبير حسين بيكار لوحاته الاثنتين والأربعين المعلقة على حوائط قاعة المعرض بادرك يقول بتواضع وابتسامة حنون : ` أعمالى ليست سوى خلفية لتماثيل هذا الفنان الشاب` ثم ينحنى على التماثيل صغيرة الحجم المرتبة على المنضدة ، يتأملها بمودة واعجاب ، فإذا ما سرى فيك الحماس الذى بثه إليك حسين بيكار وتسأله ` هل هذا الفنان الشاب تلميذك ؟ هل تعلمه أو توجهه؟ ` يقول لك : ` ابدا ، انه ليس بحاجه إلى أن يعلمه أحد أنه تعلم من مدرسة الطبيعة ` أذن ماذا تفعل من أجله ؟ ` ` اننى أدفع عنه فقط التأثير بالآخرين ، أننى مثل حويطة تضرب حول شجرة رائعة نبتت تلقائيا ` .
- مع حسين بيكار فنانا وإنسانا نمضى هذه اللحظات ، ولنستمع إليه يروى جانبا من ذكرياته : كثير من الاشياء مقدرة على الإنسان أحيانا . لم أكن فى أول الأمر أتصور أن أصبح ما أنا عليه الآن ، كنت فى صباى أحلم بأن أكون فنانا وممارسا لفنى فحسب ، ولم أكن أقدر أننى سأصبح ناقدا كما أنا اليوم .
- فى مدرسة الفنون الجميلة العليا ، كان يدرس لنا المرحوم حبيب جورجى مادة التربية الفنية وكان أمام أغلب التلاميذ طريق واحد مأمون ، وهو الاشتغال بتدريس الرسم ، سألنا حبيب جورجى الذى أخذ على عاتقه أعداد جيل من مدرس الرسم التربويين خريجى المدرسة ` من منكم يرد الاشتغال بتدريس الرسم بعد التخرج ؟ رفع أغلب الطلبة أياديهم بالإيجاب ، ما عداى وقلة من الآخرين ، سألنى حبيب جورجى ` أذن ماذا تريد أنت ؟ ` قلت ` أن أصبح فنانا فحسب ` .
- عندما تخرجت لم أعمل في السنة الأولى بوظيفة ، ومارست بعض الأعمال المتفرقة والمؤقتة ، كاشتغالى بمتحف الشمع وبالمعرض الزراعى ، وذلك كله تمسكا منى باستقلالى ، وعدم التقيد بوظيفة ثابتة، ولكن ليس بإمكان الفنان - كما يبدو - أن يعيش من فنه إزاء تثاقل أعباء الحياة ، وقد كانت أمى تربينى وكنت أريد أن أريحها . وفى سنة 1934 عرض على حبيب جورجى العمل بالتدريس قائلا ` يا حسين نعقل ، تعال ، هناك وظائف ` وفى هذه السنة تخرج صلاح طاهر ، فعينا أنا وهو مدرسين للرسم . وعملت أنا فى دمنهور لمدة سنة ثم نقلت إلى مدرسة قنا الثانوية وأمضيت بها ثلاث سنوات .
- فى هذه الفترة حدث شئ طريف .. كلن المفروض وأنا أول دفعتى أن أرسل فى بعثة ، أو أن أعمل فى مدرسة الفنون الجميلة ، فذهبت إلى محمد حسن مراقب الفنون الجميلة بوزارة المعارف ، فلم أوفق معه ، وفجأة أرادوا أن يعاقبوا مدرسا بالفنون التطبيقية فنقل إلى قنا مكانى ، وأنا نقلت إلى الفنون التطبيقية ، وكان بدلا غير متوقع ، وبقيت ثلاثة أشهر ولما رضوا عنه مرة أخرى أعادوه إلى التطبيقية ، وأنا عدت إلى منفاى قى قنا ووجدت نفسى مدرسا للرسم رغما عنى ، ولكن ظل بداخلى الفنان الذى يريد أن يحصل على حريته كاملة .. هناك فى قنا وجدت فى الجو شيئا غريبا ، وبدأت أتعرف على مصر الحقيقية . فمصر ليست العاصمة ولا حتى المدن والقرى الشمالية ، مصر هى ` الصعيد الجوانى ` هناك بقايا مصر القديمة - هناك العطر الذى لا يزال يفوح من القنينة، كان يأتى إلينا حبيب جورجى كمفتش للرسم ، وكان معجبا بى ، وتوطدت بيننا الصداقة ، فكان يحول ما جاء من أجله وهو التقتيش إلى جولات للرسم فى أحضان الطبيعة . وذات مرة جلسنا أنا وهو أمام مستنقع استهوتنا فيه الانعكاسات المنطبعة على سطحه ، من نخيل وبيوت وسماء وسحب وأمضينا أمام المستنقع ساعات وساعات ونحن نقاوم الرغبة فى الانصراف ، وكان حبيب جورجى قد ألف جمعية أسماها ` المثلث ` من أعضائها شفيق رزق ونجيب أسعد ، فضمنى إلى هذه الجمعية وحمل بنفسه لوحاتى وعرضها فى ` صالون القاهرة ` الذى تقيمه جمعية محبى الفنون الجميلة وكنت متمسكا بالفن المصرى القديم شديد التمسك وغارقا فى جو الحضارة الفرعونية ، فجأء مفتش آخر هو يوسف العفيفى وقال لى ` أخرج من هذا كله ، هناك الان ماتيس وسيزان ، دعك من هذا الطين ` ولكنى رغم كل احباطه لى ، بقيت متمسكا عن حب هذا الطين ، ولا زلت حتى الان غير قادر أن أتخلص من تأثر الخط المصرى القديم بتنغيماته وشاعريته وصوفيته .
- وفى هذه الفترة ` (لاحظ كيف يلعب القدر ؟) كان لى صديق مدرس انجليزى وكنا نجلس انذاك في قهوة الجبلاوى بقنا آخر النهار على ترعة ، ونأكل الزبادى القناوى كعشاء ، وهناك الوقت طويل ، ويجبرك على التأمل والقراءة ، قال لى الصديق ` يا حسين أنا عملت فيك مقلب النهاردة ` ما هو ؟ ` قرأت إعلانات فى الصحف أنه مطلوب مدرسين في المغرب فقدمت طلبا باسمى وطلبا باسمك ، لنذهب معا أو نبقي معا .` ولم أكترث مضت شهور ، واذا به - يجيئنى ذات يوم قائلا: ` مبروك ياعم ، قبلوك أنت ورفضونى أنا ` هكذا جاء قدر جديد يغير طريقى دون أن أخطط له .
- ذهبت إلى المغرب عام 1939 وتحقق بذلك أحد أحلامى الأولى ، وهو أن أركب مركبا وأبعد عن شاطئ الاسكندرية ولو بميل واحد ، سافرت إلى المغرب حيث قضيت ثلاث سنوات ، عشت فى جو بيئة مختلفة عن بيئتى المصرية ، هناك تشعر بالجو يختلف . قنا تدخلك فى أغوار روحية مبهمة لأنهار تقربك من السنوات الألف الثلاثة السابقة على الميلاد - بل وتغوص بك فيها وتلقيك فى عبقها وترابها وقوانيها - المناخ كله فى الصعيد تحس بأنه مناخ راجع إلى تلك الأيام ، وأن ما من شئ انقطع - أما فى المغرب فكان انطباعى كمن يخرج من غرفة مظلمة إلى ضياء الخلاء - لأن الحضارة هناك أندلسية ، وحتى إذا ما ذهبت النساء إلى المقابر فانهن يلبسن ألوانا زاهية مختلفة تمام الاختلاف عن الأردية السوداء القاتمة التى تغطى النساء فى قنا بها كل أجسامهن ` البردة الصوف السوداء ` حتى حياة المغاربة داخل بيوتهم تجد ألوانا زاهية مشرقة ، في قنا القلل والأبرمة كلها فخارية لا تعكس ضوءا ، بل تمتص لا الأضواء فحسب بل تمتصك أنت أيضا ، وهناك الشكل المحتشم بالغ الوقار ، والحياة اليومية ذاتها متجهة إلى الداخل أكثر من انفتاحها على الخارج ، ، أما فى المغرب - وكانت إقامتى بمدينة تطوان - تجد كل الأشياء ذات بريق بل وهج ، مثلاً أوانى الشاى فضية أو نحاسية . ومن الزجاج صنعت كثير من الأشياء - والحوائط من القيشانى ويسمونه (الزلج) وربما كانت تحريفا لكلمة الجليز .. تدخل بيتا فتجد فسقية أو نافورة ، وتشم رائحة البخور بينما تشم فى الصعيد رائحة (الوجيد) أى الحطب المحترق وأقراص الجلة (الروث) .. ومع ذلك فإن الروائح الصعيدية أكثر قربا إلى النفس فهى تطويك - وتأخذك بين أحضانها .
- تركت أذن حضارة فرعونية صميمة إلى حضارة أندلسية صميمة تشعر فيها بالترف ومباهج الحياة وتعطيك إحساسا بأنك فوق السطح ، بينما فى قنا تحس أنك فى أعماق الأعماق ، فى الصعيد الصوت وصداه له تأثير ومذاق متميز وأخاذ ، مواويل الفلاح ، ونواح الشادوف وهو يدور ويروى الأرض ، بل وأى همهمة تأتى إليك مفعمة بمذاق أخر ، كأصبع تدق على طبل من جلد بينما هذه الأصبع تدق فى تطوان على نحاس وزجاج .
- وبدأت فى المغرب تدخل البهجة إلى ألوانى ، وزادت الحركة فى أشكالى ، لأن الشكل الفرعونى أقرب إلى الرسوخ والسكونية ، التعبير المصرى القديم كله ` جوانى ` وليس تعبيرا تمثيليا حتى فى أقصى حركاته .
- فى المغرب جاءتنى فرصة أن أرسم على الورق من غير موديل ، كان عندى فراغ ، وليس الموديل متاحا لى ، فبدأت أرسم على الورق فانتازيات ليس لها دخل بالطبيعة أو الواقع ، كانت نوعا من الافراز الوجدانى ، أحسست أننى بحاجة إليه ، وكنوع من التعويض أحسست أننى أريد أن أقول شيئا لا أن أنقل ، فأمسكت القلم ورسمت أشياء من خيالى وليس من الطبيعة . كان المغرب مرحلة اكتشاف جديدة ، لأنها أظهرت لى أن هناك عالما فانتازيا يمكن للمرء أن يعيش ويستغرق فيه متحررا بذلك من الواقع ، وبدأت على الأخص فى مرحلتى وما بعدها واقعيا جدا ، واختلف مضمون ذلك الواقع عندما ذهبت إلى قنا ، فأصبح الواقع يعبر عنه من خلال لغة أخرى ورؤية أخرى ، لأن المصرى القديم واقعى ، ولكن واقعة غير مباشر ، أنه واقع معجون بمثالية ، والمثالية واقع بدورها ، واقع تصنعه ، ونصعد إليه الواقع الواقعى - فتصبح نظرتك إلى الحياة من خلال منظار جديد ، المصرى القديم جعلنى أرى لغة الخط ، والتلخيص أو الاختزال ، والبلاغة الأسلوبية ، وما كنت أحس بذلك من قبل لكن كان هناك على الدوام فى نظرى عالم مختلف تماما عن العالم الخارجى ، يصنعه الفنان بفنتازيته ، وهذا ما جعلنى أخلو إلى الورق كثيرا منطلق العنان لفانتازيتى فى المغرب ، وكانت أصارحك القول ، فانتازيات مراهقة ، ما لبثت أن نضجت بعد ذلك ، ولكنها أعطتنى مهارة وخبرة فى أن أتصور شيئا وأترجمه على الورق ، أن أتخيل شيئا وأرسمه دون الاستعانة بموديل ، وكان هذا أحد المداخل التى قادتنى إلى ممارسة الرسوم التوضيحية فى الكتب والمجلات فيما بعد ، فقد دربت على أن أترجم ما أتخيله .
- فى عام 1928 التحق حسين أمين بيكار بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة وكان يبلغ من العمر خمسة عشر عاما فهو من مواليد الأنفوشى بالاسكندرية فى الثانى من أغسطس 1913 ، كان امتحان القبول شاقا فقد وضعت مقاليد الأمور فى هذه المدرسة الأهلية التى كان ينفق عليها الأمير يوسف كمال آنذاك ، بين أيدى أساتذة من الايطاليين ، ويروى حسين بيكار ذكريات التلمذة فيقول : ` أذكر ممن قبلوا معى بالمدرسة ذلك العام رمسيس يونان وعلى الديب ونحميا سعد وظلت فترة دراستنا بالمدرسة تحتاج إلى دأب ومثابرة فأعمالنا تعرض دوريا على لجنة من أساتذة المدرسة تقرر ما إذا كنا صالحين لمواصلة الدراسة أم أننا غير صالحين للبقاء ؟ على أننا سعدنا فيما بعد عندما انضم إلى هيئة التدريس أستاذ مصرى ، أنجز دراسته بروما هو يوسف كامل الذى كان بارعا وقديرا ، ثم جاء من بعده شاب مصرى أخر درس فى باريس هو أحمد صبرى ، وقد تعلقت به جدا ، فقد كان أستاذا بحق ، واسع الثقافة علمنا الفن بمعناه الحقيقى ، وعقد أواصر الصداقة معنا وقد اتخذنى لما توسمه فى من حب للموسيقى أنموذجا للوحته عازف العود ` وقد كان أحمد صبرى ويوسف كامل من جيل الرواد الأوائل الذى كان يضم أيضا راغب عياد ومحمود مختار والحسين فوزى ، ولما كنت أول دفعتى التى تخرجت عام 1933 فقد عينت معيدا بكلية الفنون الجميلة عندما عدت من المغرب ، وبقيت أستاذا بالكلية إلى أن استقلت عام 1959 لأشتغل بالصحافة التى كانت لى صلة بها منذ أن كنت طالبا بمدرسة الفنون الجميلة ولكن انطلاقى فى عالم الصحافة لم يكن إلا من خلال دار أخبار اليوم ، التى التحقت بها منذ بدايات تأسيسها وأذكر أن عملى الذى زكانى لذلك هو رسومى لكتاب ` الأيام ` للدكتور طه حسين الذى أصدرته دار المعارف ، وعندما أريد عمل جزء خاص للاطفال ` بأخبار اليوم ` أسند إلى هذا العمل ، فقدمت حلقات أسبوعية مرسومة من حكايات ألف ليلة وليلة ، ثم أصدرت ` دار المعارف مجلة سندباد ` وأسندت رياسة تحريرها إلى الأستاذ سعيد العريان وتوليت إخراجها الفنى ، ولكن هذه المجلة لم تستمر طويلا ، وان كنت أذكر من مآثر هذه المجلة إنها بسطت الفصحى وتحاشت الكلمات العامية ، ورفضت استجلاب الموضوعات والشخصيات الأجنبية إيمانا منها بأن تراثنا القومى غنى بالأساطير والحكايات التى يمكن معالجتها وتطويرها لسد احتياجات الطفل العربى المعاصر .
- من كتاب حسين بيكار الصادر عام 1977 بعنوان ` صور ناطقة ` نقرأ :
` يابتاع التذاكر على بابك مهاجر تعبان من الأسفار أدينى تلات تذاكر أواصل رحلة الليل والنهار تذكرة خضرة لبدء الطريق ، وتذكرة غالب عليها الصفار
وتذكرة بيضا بلا ألوان .. أكمل بها المشوار .`
- هذه المقطوعة الزجلية هى إحدى أربع وثمانين مقطوعة أحتواها كتاب ` صور ناطقة ` الذى جمع بين الرسم والكلمة ، ، ولهذه المقطوعة رسم هو أحد أربعة وثمانين رسما تضمنها أيضا هذا الكتاب الذى حوى مختارات من قصائد ورسم الفنان حسين بيكار التى نشرها على صفحات أعداد يوم الجمعة من صحيفة ` الأخبار ` وقد صدر الكتاب الأستاذ مصطفى أمين بكلمة قال فيها : عرفت بيكار من خطوطه قبل أن أعرفه من ملامحه ! هذه الخطوط الأنيقة والظلال الرائعة جعلتنى أرى فيه فارسا من القرون الماضية ، لا يحمل سيفا ، وإنما يحمل ريشة يغزو بها فى كل يوم آفاقا جديدة وعوالم جديدة ! هذا الرسام ليس فنانا فى فن واحد ، أنه أستاذ فى عدة فنون ، أستاذ فى الرسم وأستاذ فى الأدب وأستاذ فى الرق والطمبور والعود ، أذكر أننا عندما اتفقنا معه على أن ينتقل من كلية الفنون الجميلة إلى أخبار اليوم ، شعرنا أننا ننقل مدرسة للفنون لا رساما واحدا ، وكل موضوع اقترحناه عليه ، جعل رسومه أجمل من أحلامنا وأروع من خيالنا ! كنا نوفده فى رحلات إلى أبو سمبل والحبشة وأسبانيا وشمال أفريقيا والمغرب وتونس والجزائر وسوريا ولبنان ، ولم يكن يعود لنا برسوم فقط ، كان يعود بصور حية ، كنا نشعر أننا لم نوفد رساما واحدا ، وإنما أوفدنا بعثة فيها فيلسوف وفيها مصور وفيها رسام وفيها فنان ، وقبل كل شئ فيها إنسان ، فأنا أشعر أن فى صور ورسوم بيكار الإنسان بكل ما فيه من مواهب وحيوية وإيمان ، ولهذا أحس أن فى كل صورة لبيكار ` روحا ` تتكلم وتتحرك وتنبض وتصرخ فى بعض الأحيان ! ولكن صوره تصرخ فى أدب وهذا طابع عجيب فى خلق بيكار ، هو ثأئر فى مؤدب ، وهو فنان فى أستاذ أخلاق ، وهو عالم فى داخل رجل ملئ بالإيمان !`
- ومن كتاب حسين بيكار ` رسم بالكلمات ` الصادر عام 1981 نقرأ هذه المقطوعة الزجلية : ` سألونى آيه لون الأمل ؟ قلت من غير ما أفكر مادام الأمل هو الحياة يبقى الأمل أخضر والغل نار جوه العروق ولونه لون أحمر والأزرق عشان لون السما بأحب الزراق أكتر والأصفر لون الذبول عشان كده باكره الأصفر ` .
- ولنستمع إلى شهادة الأستاذ أحمد الرجل الصحفى بأخبار اليوم وزميل حين بيكار عنه : ` أستاذنا الكبير بيكار فنان مهذب جدا ، إذا ألقى التحية على أحد قال له : من فضلك صباح الخير ، وإذا رد التحية قال من فضلك وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وإذا شكر أحد قال من فضلك أشكرك ! .. ولم أره مرة واحدة إلا باسم الوجه ، ولم أشاهده عمرى قد فقد أعصابه مرة ، ويقال - وهى رواية غير مؤكدة - أنه ` اتنرفز ` للمرة الأولى فى حياته من 21 سنة ، ولكن صوته لم يرتفع ، ولم يفقد ابتسامته الهادئة : وكل ما قاله للشخص الذى استفز أعصابه يومها ` من فضلك عيب كده ` !.. ` عيب كده ` هى أكبر شتيمة فى قاموس بيكار! فإن بيكار مثل نموذجى لشفافية الفنان ، ونظرة واحدة إلى لوحات بيكار ذات الطابع الشاعرى الشهير الذى تفرد به ، تعكس لك على الفور بيكار نفسه ، تعكس لك عالما شفافا أسطوريا حالما ينشد الأجمل والأفضل والأكمل !
- ويلاحظ محمد بغدادى فى الحوار الذى أجراه مع حسين بيكار على صفحات مجلة صباح الخير فى 13أغسطس 1981 أن فى هذه المقطوعات الزجلية ترصد عين الفنان التشكيلى مواقف من الحياة ولكن تحاول أن تكتبها بالشعر ، ثم يسأل الفنان بيكار : ` هل كان ذلك بوازع حبك للشعر أم للفن التشكيلى ، وأيهما تأكيد للآخر ؟ ` ويجيب حسين بيكار : ` فى الحقيقة لا أستطيع أن أقول أننى شاعر ولكنى محب للشعر وأتذوقه ، ولم أفكر اطلاقا فى كتابته والمسألة كانت بالصدفة .. ففى أحد الأيام طلبوا منى فى ` أخبار اليوم ` أن أرسم صورة وأكتب عليها تعليق ومرة بعد مرة بدأ التعليق يأخذ شكل سجع ، ثم تحول إلى الصورة التى أكتبها الآن ، وأنا أحب حقا الجانب الإنسانى الذى فيها ، وأحس بأن الكلمة تكمل الرسم ، والرسم يكمل الكلمة فى هذه اللوحات ` .
- ومن منطلق الحب مضى حسين بيكار فى مقاله الاسبوعى بعنوان ` ` ألوان وظلال ` يستخدم
` الكلمة ` ليتجول بنا فى معارض الفن ومراسم الفنانين ويستعرض لنا أبرز الأحداث والاتجاهات الفنية ، وقد تمكن بذلك أن يبسط المصطلحات الفنية ، ويذيب التعقيدات الحرفية فى لغة سلسلة تضئ القلوب وتهدى ، تقود ولا تستعلى ، ويمكن أن نقول بحق أن حسين بيكار قد أبتدع أسلوبا خاصا فى الكتابة التشكيلية والنقد الفنى أمدت الكثير من الفنانين بالشجاعة على المضى فى دربهم الصعب ، وأفادت الناشئين بتوجيهات غالية ، وألقت الضوء على عديد من المواهب التى ستنضج وتتبوأ مكانتها اللائقة فيما بعد ، ولعل أبرز ما تتصف به كتابات حسين بيكار فى هذا المجال يصدق عليه قوله فى قصيدته الزجلية :
` يا محرومين م الحب عندى لكم منه كم قنطار أن كان ورودكم دبلانة أسقيها من دمعى أمطار وأن كان ودانكم شرقانة أبقى لها ناى ورق وطار وأن كان عيدانكم عطلانة راح أكون ريشة وأونار وأن كان جفونكم قلقانة قلبى المداوى والعطار `
- وقد أشار تقرير منح حسين بيكار جائزة الدولة التقديرية عام 1979 لا إلى تفوقه فى عدة فنون فحسب بل وإلى دوره المؤثر فى النقد الفنى والتوعية من خلال مقالاته الأسبوعية فى الأخبار .
- والطريف فى الأمر أن حسين بيكار عندما لم يجد ناقدا يبادر إلى الكتابة عن معرضه الذى أقامه فى المركز المصرى للتعاون الثقافى الدولى بالزمالك فى مارس 1974 كتب ينقد نفسه ، ولنقف عند معرض حسين بيكار هذا ، وأنك لتدهش عندما يخبرك الفنان الكبير بأن معرضه هذا هو أول معرض متفرد لأعماله فقد كان يعتبر على الدوام أن المعرض مسئولية كبيرة إزاء الجمهور ، وحسين بيكار يأتى فى طليعة جيل كان شاقا عليه ، وقد تلقى التعاليم الأكاديمية الصارمة ، أن يحقق تفرده ، على أن بيكار استطاع أن يشق طريقه إلى تأكيد شخصيته ، ويقدم منذ عام 1945 أعمالا وطيدة التكوين رهيفة الألوان ، وتعتبر الأعمال التى برز بها بيكار حقا تلك المناظر التى أبدعها فى الخمسينات عن ` الحصاد ` و ` جنى المحاصيل ` تلك المناظر الريفية التى توصل فيها إلى قالب خص به تماما جمع بين التبسيط والزخرفة ، بين الغنائية والرصانة ، مع أجواء أثيرة حالمة من عالم الشعر والبالية مع أن شخوصه هم الفلاحون والفلاحات يعملون جميعا فى الحقل ، فى تلك اللحظة التى يصل فيها الجهد الانسانى إلى غايته ، وترفرف على الوجود سعادة عذرية وبركة سخية ، وفى معرض حسين بيكار هذا المؤلف من اثنتين وأربعين لوحة اختيرت - دون انتقاء على أية حال - من مراحل مختلفة من حياته الفنية ، نجد مناظر طبيعية تبدو فيها الألوان صارخة وصريحة ويتجلى انشغال ` سيزان ` بالبناء المعمارى للطبيعة ، وهذه مناظر صورها بيكار فى إحدى زياراته للحبشة ، كما نجد فى المعرض لوحات البورتريه التى يبين فيها تأثر بيكار بأستاذه أحمد صبرى المتوفى عام 1955 وفى هذه البورتريهات تطالعنا حسان من زهرات المجتمع ، ويطل علينا وجه سيد درويش .. من الذاكرة وبورتريه أخر خيالى جمع فيه الفنان بين واقعية قسمات الوجه الحالم وتكعيبية ثنيات الثوب والوشاح الذى تتحلى به الفتاة الوافدة إلينا من عالم الأحلام اليومى ، كما يستقبلنا فى صدر القاعة بورتريه مهيب للفنان ذاته يذكرنا ببورتريهات كل من رمبرانت وجويا لنفسه ، ويستوقفنا فى المعرض على الأخص ثمان وعشرون لوحة من مجموعة لوحات بيكار التى صور منها المخرج الكندى جون فينى فيلمه التسجيلى عن معبد أبى سنبل ، وفى هذه اللوحات تتجلى سيطرة بيكار التامة على صنعته وفنه ، وكما كان المصرى القديم مهندسا قديرا وبناء دقيق الملاحظة محكم التنفيذ ، متقن الأداء ، كذلك كان بيكار في لوحاته هذه وأنه لعمل مبتكر حقا ذلك الذى أتاه بيكار فى هذا المضمار ، فهو بواسطة قوة الخيال مستعينا بشتى المعارف التاريخية أستطاع أن يبعث الحياة فى حقبة كاملة من التاريخ موغلة فى القدم ، فبدت عيوننا نابضة بالمئات من التفاصيل الطلبة ، وهذه المجموعة من اللوحات التى تربو على المائتين والخمسين لوحة من التجارب الفريدة فى حياتنا التشكيلية المعاصرة أولا لأنها تثبت أن بإمكان الفنان أن يقدم عطاء ساخيا إذا لم ينبهر انبهارا بالغا فيه بالتيارات الأجنبية وثانيا لأنها تنبه الفنان إلى أنه بعد أن يتقن صنعته عليه أن يضع فنه فى خدمة شتى المجالات القومية .
بقلم : د. /نعيم عطية
مجلة : إبداع ( العدد 3) مارس 1983
بيكار .. وعالمه المخملى
- عندما كنت فى زيارة قريبة للفنان الكبير ` حسين بيكار `.. حدثنى عن لوحة له قلق بشأنها قلقاً شديداً. ولم يشعر بالراحة إلا عندما نقل عناصرها إلى مسطح آخر. وغيُر من موقعها بالنسبة للإطار الخارجى.
- شاهدت اللوحة الأولى. وكانت تمثل مرحلة تحضيرية لصورة شخصية لسيدة. لم ألحظ ما يستحق هذا القلق.. فهى تكشف عن أستاذية فى الأداء، والتزام بما نعرفه من تقاليد عصر الإحياء فى موضوع` البورتريه`. وعندما أطلعنى على النسخة المُعَدًلة استرحت لها أكثر.. على الرغم من أن الاختلاف بينهما لم يتجاوز السنتيمتر الواحد!.. أدركت لحظتها أن لديه` كمبيوتر` داخلى أكثر دقة مما لدى .. وأن ما أعرفه من مبادئ عامة لم يكن كافياً لاكتشاف حقيقة جزئية.. لا تفصح عن نفسها إلا أمام مبدعها.
- لم يكن حرص` بيكار` على الدقة والإتقان جديداً علىً. كنت أعرف ذلك منذ كنت تلميذاً له فى كلية الفنون الجميلة.
- لا شك أننا نتعرض، بصورة دائمة، إلى مواقف من هذا النوع.. ولا شك أيضاً.. أن بعضنا يقلق بشأنها... وإن أراح معظمنا نفسه بالرد الجاهز.. مثل: إذا كان` اليقين` قد اهتز فى مجال كنا نظن ألا سبيل إلى النيل منه مثل` العلم`.. فما بالنا مع ` الفن` القائم بطبيعته على ` الاحتمالات` التى لاحد لانتهائها!؟
- وإذا كان جيل الشباب يتشكك فى الأطر المرجعية للإبداع فإن `بيكار` يرى فى تلك الأطر المنارات المرشدة للمبدع والناقد معاً، دون أن تحول أساليب الفن ومدارسه دون تميز وتمايز المبدعين الأفراد.
- وهو يحاول بإنتاجه فى مجال` الصورالشخصية` ومجال `الموضوع الحر` أن يكون نموذجاً لهذا المبدأ؛ ففى مجال موضوع` الصورة الشخصية` يلتزم بسمَات لوحة عصر النهضة.. من حيث انصرافها عن نثر الحياة اليومية، واختيار الوضعة الرسمية الوقور ، وإعطاء الوجه واليدين ألقاً جذاباً. وإحاطة الرقبة والجسد بفاخر الثياب والحلى. واحترام الكتلة. وتأكيد بروز الكيان الإنسانى بتعميم الخلفية. غير أن ` بيكار` لم ينقل تلك المبادئ نقلاً بل كان قريباً من موقف ` مختار` الذى رأى قبله أن ملامح الكلاسيكية المصرية والأوربية يمكن أن تثمرا إبداعاً جديداً.. يستحق الوجود.. فاتجه إلى الفن المصرى القديم دارساً، ومتأملا، وملتقطاً من عناصره ما يتسق مع طبيعته. أخذ من الإبداع المصرى القديم نقاء الكتلة وصفاءها، وشبابها، ورشاقتها، ووضوح خطوطها، وتناغم موسيقاها، وحركتها الداخلية.
- إن ` بيكار` كان وما يزال حريصاً على أن تكون لوحته ساحة للجمال، واللطف بنموذجه المرسوم، لهذا لا يفضح ضعفة الداخلى أو الخارجى .. بل قد يجعله ميزة تدعو للفخر؛ مثل اللوحة التى كان بطلها أعور وأكتع.. فاختار له الوضعة التى تبعد هذا العجز، وأكدً هذا الإخفاء بأن ألقى على نظارته لمعة.. بدت تحتها العين المعطوبة متأملة.. حالمة!
- وإن` بيكار` لا يجرى جراحات تجميلية على الظاهر. الخارجي فقط .. بل يقوم بانتقاء أجمل الملامح الداخلية للنموذج. ويجسُدها بالتكوين والنسيج اللونى والخطى المناسب.. ويحتفظ لها دائماً- مهما كانت طبيعة الشخصية- بمنطقة تعبيرية تتسم بالاتزان الرصين والوقار. وهو لا يسمح لنفسه بأن يتوغل داخل نموذجه توغلاً جارحاً مثل التعبيريين الأوربيين أمثال: كوكو شكا وإيجون شل ويفيلينسكى ولوسيان فرويد وغيرهم.. كما يرفض.. وبنفس الدرجة..حيادية النهج ` الأكاديمى ` وبرودته.. وينصرف بطبيعة الحال عن جيشان` الرومانسية` العاطفى.
- إن ` بيكار` كأستاذ فن، وناقد.. يدرك حقيقة أن هناك تجليات مختلفة للفن، تنقسم- إجمالاً- قسمين أو وجهين يتكاملان: وجه يتسم بالعنف، والاقتحام، والتحريض، والإقلاق..محملاً بنوايا تغيير الحياة.. ووجه يتسم بالرقة والميل إلى تسكين الجراح، ومقاومة سوقية الواقع بالانضباط. وينتمى` بيكار` إلى الوجه الثانى.. دون أن يفصله هذا الاختيار عن التعبير عن قضايا اجتماعية وسياسية.. وإن اتجه بها إلى منطقته المفضلة: منطقة الاعتدال والتأمل الهادئ والاستعانة بالرمز المألوف؛ ففى لوحته الثنائية المسماة:` نكسة 1967` لم يًقْسُ على نموذجه، ولم يخرجه من وضعه المألوف أمام النافذة. تمثل إحدى اللوحتين نافذة مهشمًة الزجاج، خالية من الوجوه.. يستعرض فيها كل مهارته ووعيه فى البناء الهندسى. المعمارى. المجرد. وفى النافذة الأخرى تظهر فتاة جميلة- كالعادة- تجاورها أوراق الزينة. نافذته الأولى.. لا تسقط رغم` الحرب` فى دائرة الفوضى.. بل على النقيض: كل ما فيها منضبط هندسياً ورياضياً. ونافذته الثانية.. نافذة السلام.. لا تتجاوز حدود الوقار والانضباط اللونى..
- إن عالم` بيكار` لا يحتفى بالمصادفات إلا قليلاً.. وإن تذوقها لدى المبدعين الآخرين.. لولا أنه بحكم تكوينه، وقناعاته، يرى أنها أعمال لم تكتمل بعد.. ولسبب آخر: إنه لو عوًل على تلك المصادفة، وعلى اللمسة` التأثرية` أملاً فى الحصول على لون مشرق شفًاف.. فإنه سيفوت على نفسه فرصة التغنى بما يعشقه من ملامس.. يحرص عليها فى كل لوحات` البورتريه` : هناك ملمس بشرة الوجه الذى يثريه بطبقات محسوبة من الألوان.. بعشرات، بل بمئات اللمسات الدقيقة التى تشكل فيما بينها نسيجاً أقرب إلى النسيج الحى.. وهناك الشعر بخطوطه، وكتله، وتموجاته، وانتشاره ..وهناك العيون بتألقها الأخذ.. وهناك الملابس والحلى. يجسًدها بواسطة الشكل` الأسطوانى` فى معظم الأحوال.. والشكل المكعب فى بعضها.
- عندما يختفى` النموذج` الواقعى .. يختفى الالتزام الصارم.. وتولد علاقات جديدة داخل اللوحة.. أكثر حرية` وصراحة` وروانية... يظهر ما كان مضطراً إلى إخفائه من عشق بالثنائيات الصريحة: الشكل الهندسى والشكل العضوى . الشكل المجسًم والشكل المسطًح.
- فى لوحة` فى ضوء القمر` يترجم الجبال والصخور إلى شكلين هندسيين الشكل الأسطوانى والشكل الهرمى. ولأنه لا يحب التجريد المطلق أو يراه غير كاف للتعبير بغير موضوع. فقد أدخل العنصر الإنسانى كما أدخل القمر.. فجلعنا نطالع حكاية خيالية لطيفة. وتظهر مشاهد موضوعاته عن النوبة، وعن الريف.. فى علاقات تتسم بالأناقة الشديدة، والتبسيط الهندسى.وبشىء وصفه `بيكار` بنفسه بدقة، وهو هندسية قطع` الجاتوه`!
- إن الترعة التى تتجه إليها الفلاحات. والجزيرة التى يقف عليها النوبى. أشبه فعلاً بقطع ` الجاتوه`.. وموضوعاته عن ` الحصاد` ليست وصفاً لفعل واقعى مرهق.. بل وصفاً لرقصات تعبيرية يقوم بها راقصون وراقصات، يتمتعن بلياقة مناسبة.. يشاركهم الحمام فى تلك العروض الرقيقة.. والبعيدة كل البعد عن هموم الواقع وخشونته.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة : إبداع ( العدد 3) مارس 1993
الفرشاة فى يد بيكار.. عصا ساحر!
- بدأت علاقتى بالفنان الكبير حسين بيكار عن بعد، ثم أصبحت علاقة مباشرة عندما ألتحقت بكلية الفنون الجميلة حيث كان يدرس بيكار.. وبدأت مرحلة ثالثة من علاقتى بالفنان الكبير عندما ألتحقت بدار `أخبار اليوم`.. ومازالت علاقتنا مستمرة حتى اليوم، وتمثل ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين التلميذ والأستاذ.
- لقد عرفت حسين بيكار وأنا مازلت `بالشورت` من خلال رسومه بمجلة `السندباد` التى كان يصدرها للأطفال، وكنت أسبح فيها بخيالي، وتربيت على حكاياتها، وعشقت على صفحاتها شخصية `السندباد` التي ابتكرها وقدمها للأطفال بشكل رائع.. وتشكلت بداخلي رغبة عارمة لرؤية بيكار، حتى ألتحقت بكلية الفنون الجميلة `قسم التصوير` فبدأت علاقتي به بشكل مباشر، وكنت أعمل صحفياً أثناء دراستي بالكلية، وهو ما جعلني لا أهتم بالدراسة بالقدر الكافي، فكان يعلن غضبه مني بينما كان يتحدث عني في غيابي بشكل مختلف تماماً وكان يطلق علىّ لقب `لؤلؤة الكلية` وكنت أسعد كثيراً عندما ينقل لي أحد زملائي هذا المدح.
- واكتشفت وقتها أنه يتبع معي الأسلوب التربوي الصحيح، فهو حريص على مصطفى حسين التلميذ في الكلية، ويمارس نوعاً من الضغط لكي أهتم بالدراسة، وفي نفس الوقت يعلن عن رأيه في تلميذه ويحاول أن يعطيه دفعة معنوية بشكل غير مباشر عندما يمتدحه، فكان بيكار يرى أن الألتزام يمكن أن يصنع مني فناناً أكثر إبداعاً.
- ولذلك كان البعض يرى أن بيكار مجامل، ولكنه صاحب فلسفة خاصة في تشجيع الآخرين، لأن لديه قناعة بضرورة التركيز على العناصر الإيجابية لدى أي فنان لتزيد مساحة الإبداع، فنجح في أن يستوعب كل الفنانين تحت عباءته بنقده الإيجابي بعيداً عن التحطيم وإحباط الآخرين.
- وكانت قمة سعادتي عندما أصبحت أعمل بجواره في `أخبار اليوم` خاصة عندما بدأت اكتشف بيكار الإنسان والفنان أيضاً في تعاملاته وعلاقاته ونقده الفني، وشعرت أنه يتعامل مع الفرشاة وكأنه ساحر يمسك بعصاه يحركها كيف يشاء، وعندما نحاول تقليده تتحول الفرشاة إلى حجر يصعب تحريكه.. ورغم أن الناس تعرف بيكار من خلال الأبيض والأسود ولكنه يتعامل مع الألوان بحس وفهم وخبرة عالية، لدرجة أنك تشعر أنك أمام أحد فناني عصر النهضة عندما ترى إحدي لوحاته، وهو الآن في رسومه الأسبوعية يضع إنطباعاته بالكلمة والرسم وهو إتجاه يختلف عن عمل بيكار الأساسي حيث يترجم الكلمات بالرسم بينما كان يقدم خلال عمله `بأخبار اليوم` رسوماً تواكب القصص المنشورة، وكان أكثر قدرة على التعبير عن الموقف داخل القصة، فهو لا يقدم رسوماً يقتصر دورها عند الترجمة الحرفية، بل يطرح وجهة نظره ووعيه للمضمون.
- ولا شك أن بيكار يستحق جائزة `مبارك` عن جدارة، وهو لا يستحقها بإعتباره رساماً صحفياً أو تشكيلياً فقط وإنما لعطائه الفني وإنتاجه الكامل الذي غذى أكثر من لون وفن مازال عطاؤه مستمراً.
بقلم: مصطفى حسين
جائزة مبارك لكبير فنانى مصر
- عميد أسرة الفن التشكيلى وكبيرها الفنان المبدع وموسيقية الآداء وشاعرية الحس والإبتكار الفنان الكبير والصحفى الرائد حسين بيكار (87 عاماً) حصل على أصوات أجمعت على ترشيحه لأكبر جوائز الدولة.. جائزة مبارك `100 ألف جنية`.
- وذلك فى الجلسة الخاصة التى عقدها المجلس الأعلى للثقافة برئاسة الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة وأختار وبصدق وأمانة فناننا الكبير بيكار لأمانته دوراً ومنهجاً وإبداعاً وقيمة فنية عالية فى كل مجال من مجالات إبداع فناننا وحقق السبق والتميز وكان لمسة جمالية على وجه مصر. من خلال ما حققه من لوحات تعنى رقياً مع هذه الأعمال التى تمثل سيدات المجتمع وكذا ما عبر عنه عن جماليات الأرض والإبداع وكان انعكاساً لرؤية جمالية جسدها أبن الأسكندرية صفاء ولمسة جمالية فيما طرحه وأبداعه، ولما حققه من رسومات للأطفال رائداً ونموذجاً لفنان يعكس على جماهير القراء والمتذوقين هذا الحس الفنى الراقى لفنان يعيش فى محرابه هادئاً يترنم بالموسيقى ويقرض لشعر ويجوب به لأماكن عديدة.
- عمل مدرساً وجاب مصر والمغرب وعمل أستاذاً بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة أستاذاً وقدوة تخرجت على يديه أجيال وأستاذاً كبيراً لنقاد الفن التشكيلى وأحد رواد الفن وإرتقاء بذوق الجماهير.
- وتاريخه يؤكد هذا المشوار الذى ارتقى بالجماهير والذى ترك حساً ولمسة جمالية على وجه مصر.
بقلم: أحمد رجب
عن جذوة الفن.. بيكار
- الإنسان فى انتظار مصيره المحتوم ذات يوم.. وها قد أتى يوم بيكار. ما أكثر ما كان يخالجني الإحساس كلما عدته بآخرة في أثناء مرضه بأن عيني لن تكتحلاً برؤية طلعته النبيلة أو أن أستمع إلى صوته الحنون وتعبيراته الرقيقة، فأحس مرارة الفراق الأزلي. لكن القضاء حٌمً وانتقلت الوديعة إلى بارئها. حسبى أنى ألتقيت هذه الشخصية الجليلة وعايشتها ردحاً من الزمن. أى طاقة خلاقة مذهلة تلك التي تميز بها هذا الفنان العملاق! أية قدرة معجزة تلك التي أمتلكتها فرشاة هذا الفنان العبقرى الساحرة لبث الجمال حيثما حلت.
- لسوف يعبر بيكار آلاف القرون حياً شامخاً مثلما عبر أسلافه الخالدون من مصورى مصر القديمة أمثال: سينجم وباشيدو..
- وبيكار رائد من رواد الحركة التشكيلية التى نشأت خلال القرن العشرين فى مصر والعالم العربي، يكتب المقالات النقدية ومقطوعات الشعر العامى بالصحف والمجلات، وتقتنى أعماله المتاحف المحلية والعربية والدولية، علاوة على المجموعات الخاصة هنا وهناك، كما هو عازف على آلة البزق.
- وما من شك فى أن ما قدم حسين بيكار من إبداعات فنية شامخة تقنية وأسلوباً تنطق بما وهبه الله من عبقرية ستبقى خالدة خلود أسمه. فلقد كان إحساسه - رحمه الله - `بالإجادة` يضبط نهجه ويكيف إبداعه ويميزه عن غيره. وقديماً ربط الإغريق بين الجمال والفضيلة وأمنوا بالصلة التى تجمع بينهما وسموها `كالوكا جاثوس` أى إتحاد الجمال والخير. ويكشف لنا ترتيب شقى هذا اللفظ اليونانى عن صدارة الجمال ومكانته الرفيعة. وعلى هذا النحو شيدوا أخلاقياتهم على أسس جمالية، وبوأوا الفنون تلك المكانة السامية. ومن هذا المنطلق آمن بيكار بأنه لا انفكاك بين الفن والأخلاق، فكانا فى نظره ونظر الراشدين من أقرانه المعقل الأخير الذى تفزع إليه القيم الإنسانية.
- وما أصدق الشاعر اليوناني القديم `ميناندر` حين قال: `ألا ما أنبل الإنسان حين تتجلى فيه إنسانيته` وذا حاولت أن أوصف إنساناً بما وصف به هذا الشاعر الإنسان النبيل لما وجدت أولى من حسين بيكار بهذا الوصف.
- لم يتألق بيكار فى عالم التصوير وحده، بل تألق بالمثل في سماء النظم وإن كان مقلاً، فشعره عامي ذاتي بحت. وأغلب الظن أنه ينظم قصيدة قط إلا بدافع حاجة ذاتية ملحة أو عذاب يضنيه أو عاطفة مشبوبة يحاصره لهيبها. وتشف أشعاره عن تلقائية إلهاماته وعن شمول نظرته إلى الحياة. كما تحمل طابع التكثيف لإنفعالاته بلا تكلف ولا إسهاب ولا بلاغة لفظية، فلقد كان الشعر هو مملكة بيكار `الخاصة` التى كان يوصد أبوابها على نفسه، فثمة الكثير من قصائده لا يقرؤها أحد سواه، فهى همسات وجدانه يناجي بها ذاته، ومن ثم كانت أشبه بيومياته الشعورية أو بمرآة قلبه وسيرته العاطفية والروحية.
- ولم تقف جهود بيكار على إبداعاته الفنية فوق اللوحات، بل تصدى لما هو أبعد أثراً، وهو تبسيط غوامض الفن وأحجياته بمقالاته العذبة المبسطة الممتعة لإثراء حصيلة قرائه في حقل التذوق الجمالى. فكل ما يعرفه جمهور الناس - على حد قوله - عن `الجيوكنده` رائعة ليوناردو الخالدة هو إبتسامتها الساحرة وأناملها البيضاء ونظرتها الحالمة التى تلاحق الرائى أينما أتجه.
- أما ما وراء هذه الظواهر من قيم ومضامين فنية وتشكيلية، فهذا ما لا يدركه إلا صفوة المتخصصين أو النقاد، لأن ما طرأ على الساحة الإبداعية فى السنوات الأخيرة من تطورات فكرية وعلمية وإجتماعية قد باعد بين الجمهور وبين الفن، وألقى به فى دوامة من الطلاسم التخصصية التي تفوق إدراكه، مما أدى إلى إتساع الفجوة بين الفن والجمهور وزيادة الأمية الفنية والثقافية بين عامة الناس. وبدون الإلمام بخصائص مفردات الفنون ووظائفها يستحيل بلوغ الغاية أو المعنى الكامن في ضمير الفنان.
- ومن هذا المنطلق، أنبرى بيكار يؤدى إلى جانب رسالته الفنية الإبداعية واجب تزويد أهله وعشيرته ومواطنيه بالسلاح الحاسم الذى ينير لهم سبيل المعرفة ويقرب إليهم ما غمض عليهم من أسرار الفنون.
- ولا أنسى يوم أسندت إلى المخرج الكندى جون فينى إخراج فيلم تسجيلى بأسم `الأعجوبة الثامنة` أنفق فى إعداده أربع سنوات، إستعرض فيه تاريخ بناء معبدى أبو سمبل من خلال خمس وثمانين لوحة أبدع تصويرها الفنان حسين بيكار بعد أن عهدت إليه بهذه المهمة الجمالية الدقيقة ليسجل لنا فى عمل فنى رفيع تاريخ المعبدين اللذين هما فخر للحضارة الإنسانية الماضية. وإذا كان هذا الفيلم قد اختفى من على وجه الأرض بطريقة عامضة ولم يعد له أثر إلا أن لوحات الفنان `بيكار` باقية بأكلمها سجلاً فنياً رائعاً خالداً لملحمة إنقاذ معبدى أبو سمبل مثلما سجل مايكل أنجلو ملحة الخلق فوق سقف مصلى سيستينا بالفاتيكان.
- ولا أملك اليوم. كما لا يملك أصدقاؤك ومحبوك وتلامذتك ورفاقك ومريدوك، وغير هؤلاء ممن نهلوا من فنك وفضلك غير أن نسأل الله لك الرحمة الواسعة، فما أشق على نفسى أن أقف اليوم لأرثيك.
- وقد أذكر هنا قول شوقى فى رثاء حافظ إبراهيم `قد كنت أوثر أن تقول رثائى يا منصف الموتى من الأحياء`.
- ولرفيقه دربه: عزاء قلبى يتوازى مع ما بذلته من عون وسند ومشاركة حميمة له فى السراء والضراء، وماهيأته له من صفاء ونقاد واستقرار.. عزاء لعارفى الفقيد الراحل يعجز قلمى عن الإفصاح عنه ولا أقول وداعاً، بل أقول إلى الملتقى.
بقلم: ثروت عكاشة
صباح الخير
-عادة.. تختلف أحكام الناس، تجاه الأعمال الفنية المختلفة، وتجاه الفنانين! ما يعجب البعض، قد لا يعجب البعض الآخر..! وما يراه البعض شيئاً جميلاً ورائعاً.. يراه البعض الآخر تافهاً، وغير جدير بالأهتمام، ولكن لا أتصور أن أحداً يختلف على جمال وروعة ورشاقة الأعمال الفنية التي قدمها الفنان العظيم حسين بيكار.. والتي أستحق عنها مؤخراً.. وبجدارة.. جائزة مبارك.. أعظم الجوائز التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة للفنانين والعلماء والأدباء.. والتي لم يحصل عليها هذا العام سوى الفنان الكبير حسين بيكار.. بينما تم حجبها عن بقية المجالات.
- وبيكار.. فنان.. متميز.. فريد من نوعه! خطوطه رشيقة.. صريحة.. واضحة.. تعبر عن شخصيته الدمثة المتواضعة الخجولة! وعندما يتطلع الإنسان إلى لوحاته الفنية وإلى رسوماته التي تنشرها جريدة `الأخبار` في صفحتها الأخيرة كل يوم جمعة.. يحس بالراحة.. وبصفاء النفس.. ولا يملك إلا أن يشعر بالتفاؤل!
- وتتميز أعمال الفنان بيكار، بأنها تتعامل مع الإنسان، أكثر مما تعامل مع الطبيعة.. وتركز على الوجوه، وعلى الشخصيات.. أكثر مما تركز على المناظر الطبيعية! ويعترف بيكار بإنه إنسان خجول.. يخشى إذا هو خرج إلى الخلاء، وحاول رسم الطبيعة، أن تلتف حوله الناس، وتراقبه.. فيفقد القدرة على التأمل والرسم!
- وكان بيكار يعمل أستاذاً فى كلية الفنون الجميلة.. ولكنه آثر أن يستقيل من عمله فى الكلية، ليعمل فى الصحافة.. وفى الخمسينيات استقر فى دار أخبار اليوم، وحدث أن كلفه المرحوم على أمين أحد مؤسسي الدار بأعمال إضافية، وكان ذلك في الخمسينيات. وعندما أنتهى بيكار من إعدادها وتسليمها.. أصدر على أمين قراراً بصرف مكافأة له نظير هذه الأعمال.. على أساس أنها أعمال إضافية خارج عمله الأساسى.. ولكن بيكار رفض المكافأة! وإستدعاه على أمين وسأله عن السبب الذى جعله يرفض المكافأة.. فقال بيكار: لقد راجعت عقد عملى مع دار أخبار اليوم، وأكتشفت أن المرتب الذى أتقاضاه يشمل عملى الأساسى.. وأية أعمال إضافية أكلف بها!!
- وضرب على أمين كفا بكف ولم يصدق ما سمعه! وظل يروى هذه الواقعة، ويرددها كلما جاءت سيرة بيكار.. ليدلل بها على مدى نقاوة.. وأمانة.. وشفافية.. وصدق هذا الرجل!
بقلم: سعيد سنبل
نهر الفن
نهر الفن
- دفعنى الحنين لزيارة أستاذي لفنان الكبير حسين بيكار.. وشعرت برغبة في رؤياه.. والأستزادة من القيم النبيلة التي طالما أمدنا بها.. والمشاعر الإنسانية الصادقة.. وسبقني الود إلى بيت الوالد الأستاذ الفنان الكبير، فترددت وراجعت نفسي على أن أتصل بزوجته العظيمة في البداية.. وسعدت عندما رحبت بإقدامي على هذه الزيارة الواجبة.. والطبيعية في آن اوحد.
- توجهت صباح يوم الأحد الماضي إلى منزل الفنان الكبير حسين بيكار وأثناء صعودى إلى الدور الثالث أنتابني شعور غامض بالقلق على صحته، وخفت على عبقرية نقدرها لما قدمت وتقدم للوطن.. فطرقت الباب وفتحت لى زوجته الحنون وأخذتنى من يدى حتى عرفة بيكار المستلقى على فراش أبيض.. يتوسطه وهو يشع نوراً ودفئاً وسماحة كما شاهدته وأراه في قلبي دائماً.. فأسرعت إليه متلهفاً وأخذت بيده اليمنى وقبلتها.. وعيناه تلمعان فرحاً.. بينما أبتسامته حلقت فى المكان، وجذب يدي بحنان الأب الذي ملأنى به منذ عام 1965 وحتى الآن.. وتذكرت أول معارضى الخاصة بأتيليه القاهرة `1965`، ومتابعته لى أثناء إشتراكى فى حرب الأستنزاف وبعدها كتب مقالاته عن أعمالى الفنية منها `فن القنابل والصواريخ 1971 - فنان مصري يغزو أوروبا 1976 - عالم بمنطق الأشكال 1977 - معزوفة الحرب والسلام 1992 بمثابة دليل يكشف أبعاد التجربة.
- بحيوية بيكار التى نعرفها.. استرسل فى حديثه عن المناخ العام الثقافى والفنى، وتحدث عما تم إنجازه خلال الفترة الماضية من تطوير وتحديث المتاحف وإنشاء الجديد منها.. وإتساع وأستحداث أنشطة فنية وثقافية على المستويين القومي والدولي في مصر.. وبدأ ينفعل بشدة تجاه الحاقدين والناقمين والغيورين من نجاحات المؤسسة الرسمية للفن التشكيلى فى مصر.. فقلت له هذا شئ طبيعي.. كلما كانت هناك أعمال إيجابية وإنجاز كبير ظهر نواح الحاقدين حتى ولو بالنقد السطحى!! فقال لا.. فإن الحركة الفنية فى تاريخها لم تشهد مثل هذا الإنجاز التاريخى.. وعلى العموم فأنت مقاتل وبطل وصامد صمود الجبال ولا تعرف سوى العمل الوطنى الجاد والكبير.. فقلت له الحمد لله نحن نعمل وحاربنا ومازلنا نحارب من أجل الوطن.
بقلم د./ أحمد نوار
الخالد فى فنه
- لم أصدق أن بيكار مات.. أو أن بيكار يمكن أن يموت.. فقد تعلمت على يديه أن كبار الفنانين في التاريخ أمثال ميكل أنجلو ورافائيل ورامبرانت وتيتسيانو لازالوا يعيشون حتى اليوم رغم مرور قرون على وفاتهم.. وأكبر دليل على ذلك هو أننا ندرسهم وندرس آثارهم ولوحاتهم كل يوم وستبقى الأجيال تتحدث عنهم وعن حياتهم وعن كل ما كتب عنهم دون توقف.. لأن من أهم صفات الفن الأصيل أنه يدخر، ويوفر للأجيال، يتدارسه الجيل بعد الجيل، فالأدخار والتوفير فى الفن من أهم مقومات `الخلود`.
- فنان شامل
- قالى لى صديقى الدكتور أحمد (أبو أسامة) الذى أمشي معه كل فجر أكثر من ساعة في شوارع المزة الخلفية بين حواكير الصبارة، رياضة يومية يحدثني وأحدثه عن أهم الأخبار والأنشطة والفعاليات التى نسمها فى السياسة والثقافة والفن، والذى يسبق الآخر يأتي بالخبر الأكثر سخونة، والأكثر جدة والأكثر جدية.
- قال لى بالهاتف صباح 17 تشرين الثاني 2002 أن إذاعة لندن أعلنت ما إذاعته إذاعة القاهرة بأنها تنعى إلى الوطن العربى وفاة الفنان العربى المصرى الكبير أستاذك بيكار مساء يوم 16/11/2002.. بيكار الذي تحدثني عنه بإستمرار.. أليس أسمه بيكار وهو فنان تشكيلى.. ثم أردف (أبو أسامة) يقول لى هل صحيح يا غازى أن بيكار كان موسيقياً وشاعراً وناقداً فنياً؟.. لماذا لم تقل لى عنه كل هذه المعلومات؟
- تسعون عاماً من العطاء
- بكيت كالأطفال.. وسماعة الهاتف لاتزال في يدي.. وأنا لا أصدق ما أسمع؟ سألت (أبو أسامة) هل أنت متأكد من الخبر.. كيف كان ذلك.. أننى مسافر فى عطلة عيد الفطر بعد أيام إلى القاهرة وأول مشاريعى زيارة بيكار، والإطلاع على أعماله الجديدة.. وأطلعه على أعمالى الجديدة.. وكتاباتى وقد جهزت كل شئ.. كيف يموت بهذه السرعة؟
- قال (أبو أسامة): أن الإذاعة تقول أنه في التسعين وهي تستعرض حياته.. أظن أننى سمعت أنه من مواليد الأسكندرية عام 1913.. أليس كذلك.. نعم إنه كذلك.. إنه هو بيكار..
- الرؤية الميتافيزيقية فى تصميم اللوحة
- هكذا كانت تعاليم بيكار.. هكذا تعلمنا الفن على يدى بيكار..
- سألت بيكار مرة عن مسألة التوازن فى اللوحة، قال أن التوازن فى اللوحة هو سر المفهوم الميتافيزيقى فى العمل الفنى، أى سر بناء اللوحة ، فالذى يرى اللوحة لا يستطيع أن يتصور كم عمل وعانى الفنان حتى أنجزها. فلكل جزء من اللوحة قيمة مزدوجة قيمة تتعلق بشكل المساحة، وقيمة تتعلق بلون هذه المساحة ومدى علاقة اللون بأمرين أثنين، الدرجات اللونية من جهة وحرارة الألوان وبرودتها من جهة أخرى.. فالتوازن هنا هو في مدى تحقق العدل بين (التونات) أى درجات اللون وبين حرارة اللون، والأحمر كما هو معروف قمة الألوان الحارة، والأزرق هو قمة الألوان الباردة، فبقدر ما يكون الفنان قادراً على تحقيق التوازن فى معادلة هذين اللونين بقدر ما يصل إلى قيمة متكاملة بالإضافة إلى مسألة المساحة التى شغلت أجزاء اللوحة، فالمساحة هي أيضاً معيار هام في معادلة التوازن في بناء هيكل اللوحة، وأكثر فنانى عصر النهضة ولا سيما ميكل أنجلو وبوتشللى ورفائيل وتيسيانو كانوا يهتمون كثيراً بتحقيق التوازن بين التونات أى الدرجات اللونية وبين حرارة الألوان، وبين كمية المساحات التى تشغل جزئيات التكوين فى اللوحة، وخذ مثلاً لوحة تيتسيانو (حاملة الفواكة) أنها مثل حى هام جداً فى تحقق هذا التوازن بين الشكل أى المساحة وبين اللون أى الدرجة اللونية، وبين الحرارة والبرودة أى علاقة الألوان الدافئة (الحارة) مثل البنى والزهر والأحمر، وبين الألوان الباردة السماوى والأزرق والرمادى والأخضر.
- أن تحليل اللوحة يحتاج إلى كل هذا، وبالتالى يحتاج إلى تحديد موقف الناقد من اللوحة، فهو يرى يرى فى هذا التكوين التوازن الذى رآه فى لوحات موديليانى أو التكوين الذى رآه فى لوحات جوجان، والتكوين الذى رآه فى أعمال فان كوخ، ولكن هذا لا يعنى أبدا أن سوراه وهو صاحب المدرسة التنقيطية هو فنان التقنية فقط بإستخدامه وبإعجاز صبر عجيب التنقيط فى إشغال مساحة اللوحة وفي تحقيق التوازن بين اللون وحرارته وبين المساحة وعلاقتها بالمساحات المجاورة كحجم وكمدلول.
- الفنان الخالد أبداً
- هذا بعض من كل.. نتعلمه من أستاذنا ومعلمنا بيكار، إذ أن بيكار لم يمت فنحن ندرس آثاره ونكرر أقواله، ونستعيد توجيهاته كلما وقفنا أمام لوحة وكلما أردنا أن نرسم لوحة، فبيكار معنا، ونحن معه دائماً فهو خالد فى نفوسنا وخالد فى لوحاته التى تركها لنا.
- متحف خاص بأعمال بيكار
- ولكن السؤال هنا: هل أعماله ملك أسرته فقط، أم هي ملك لوطنه، للأجيال القادمة التي تحب أن تتعلم منه وتدرس آثاره.. أتمنى من كل قلبي أن نجد الصيغة التي تحفظ هذا التراث الفني الهام والكبير برعاية من المؤسسات المعنية بالفنون والمهتمة بتاريخ البلد الحضارى الذى يشكل بيكار أحد أعمدته الراسخة بكل تأكيد، لماذا لا نقيم متحفاً خاصاً بأعمال بيكار، نجمع أعماله ونرتبها وندرسها ونعرضها في متحف دائم بأسمه يكون مرجعاً لكل دارس ولكل مجتهد ناقد ولكل فنان أسوة بما جرى للفنان مختار، صاحب تمثال نهضة مصر أو كما جرى للفنان محمود سعيد..
بقلم د./ غازى الخالد
وداعاً.. بيكار
- فقدنا - بالأمس - فناننا العملاق المرحوم حسين بيكار، بعد حياة حافلة من الفن الذي بهرنا، والإبداع الذى أذهلنا، ولوحات `البورتريه` التي يتباهى بها كل من حظى بواحدة منها، وكل من خلدت ريشة الفنان بيكار صورتها في لوحة لا تقدر بثمن.
- لقد عرفت الفنان الكبير حسين بيكار - عن بعد - من خلال لوحاته التي كانت تنشر في صحف ومجلات دار أخبار اليوم، خلال العقود الماضية وكنت أتابعها - لوحة بعد أخرى - بنفس الإعجاب والإنبهار.
- إن إبداع فناننا الكبير حسين بيكار لم يكن وحده الذي شدني إليه، منذ الصغر.. فقد تضاعف إعجابي به، وشخصيته الفذة، وإنسانيته البريئة، وتواضعه المذهل بعد أن تعرفت عليه شخصياً خلال السنوات القليلة الماضية.
- بعد صدمتى فى وفاة الفنان حسين بيكار، عدت إلى قراءة ما سبق أن كتبته عن فناننا الراحل في مناسبتين متباعدتين، ورأيت أن أعيد نشر بعض ما كتبته عن فناننا الراحل، لعل القارئ يجد فيه بعض ما لا يعرفه عن شخصية بيكار، ولولا إقترابي من الفنان الراحل - فى الفترة الأخيرة - لما عرفته ولا كتبت ما كتبته.
- بمناسبة فوز الفنان بيكار بجائزة الرئيس مبارك في الفنون، كتبت في أخبار اليوم مقالاً جاء فيه:
- (سعدت كل السعادة بفوز الفنان العملاق حسين بيكار بجائزة مبارك في الفنون، أرفع جائزة يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في هذا العام.
- والفنان بيكار يعرفه الرأي العام المتابع للإبداع والفنون، وليس في حاجة للتعريف به أو الحديث عن فنه وعبقريته، ولوحاته منذ مشواره الطويل أستاذاً في كلية الفنون الجميلة، ثم فناناً متفرغاً في دار أخبار اليوم، منذ الخمسينيات وحتى اليوم.
- الفنانون المتخصصون هم الذين يمكنهم أن يحدثونا عن عبقرية وإبداع هذا الفنان الموهوب، أما نحن الذين لم ندرس الفنون التشكيلية، فإننا نكتفى بالإعجاب والإنبهار ونحن - وقوفاً - أمام لوحاته، المنشورة في الصحف والمعلقة على جدران المعارض الفنية، أو في بيوت الذين أسعدهم الحظ بإقتناء لوحة أبدعتها ريشة الفنان الكبير حسين بيكار.
- وإعجابي وإنبهاري بإبداع بيكار يرجع إلى عقود عديدة ماضية، وقتها كنت في المدرسة الإبتدائية عندما أصدرت دار المعارف مجلة الأطفال الشهيرة: `سندباد` التي رأس تحريرها الأديب الراحل محمد سعيد العريان، وكان الفنان بيكار هو الوحيد الذي يرسم غلافها وشخصيات موضوعاتها وقصصها المسلسلة بريشته المميزة، وخطوطه التي ينفرد بها.
- وبعد توقف مجلة سندباد إنتقل بيكار إلى دار أخبار اليوم حيث كان يرسم أغلفتها وشخصيات قصصها التى يكتبها كبار القصاصين والروائيين فى ذلك الوقت.
- هذه السيرة الذاتية البسيطة يعرفها الكثيرون عن بيكار، ولكن المقربين من الفنان العملاق وبعض العاملين معه في دار أخبار اليوم، هم وحدهم الذين يمكنهم أن يحدثونا عن خفايا شخصيته، وتواضعه، وأخلاقه النادرة. لقد كتب الزميل الأستاذ سعيد سنبل في صحيفة `الأخبار` - يوم الثلاثاء الماضي - عن واقعة قديمة جداً تؤكد هذه المعاني كلها في شخصية هذا الفنان، وكيف أنه ترك عمله في كلية الفنون الجميلة وآثر أن يستقيل ليعمل في الصحافة واستقر في دار أخبار اليوم، وحدث أن كلفه المرحوم علي أمين بأعمال إضافية - في الخمسينيات - وعندما انتهى من إعدادها وتسليمها أصدر علي أمين قراراً بصرف مكافأة له نظير هذه الأعمال على أساس أنها أعمال إضافية، ولكن بيكار رفض المكافأة.. وقال لعلي أمين: `لقد راجعت عقد عملي مع دار أخبار اليوم، واكتشفت أن المرتب الذي أتقاضاه يشمل عملي الأساسي وأية أعمال إضافية أكلف بها`! وضرب علي أمين كفاً بكف ولم يصدق ما سمعه، وظل يروي هذه الواقعة ويرددها كلما جاءت سيرة بيكار ليدلل بها على مدى نقاوة وأمانة وشفافية وصدق هذا الرجل.
- ولم يتغير بيكار في الخمسينيات عنه في التسعينيات. لقد شرفني بزيارته لي في مكتبي منذ ثلاث سنوات وقال لي: `إنني أكتب مقالاً أسبوعياً في الصفحة الأخيرة في `الأخبار` ومعه رسم توضيحي لما أكتبه. لقد ألتزمت بعملي هذا طوال العقود العديدة الماضية، وللأسف شعرت الآن بأن حالتي الصحية لا تسمح لي بهذا الألتزام، ورأيت أن أكتفي برسم لوحة أسبوعياً في نفس المكان.
- وحاولت إقناعه بالإستمرار في كتابة مقاله المميز، ولكنه صمم على التوقف عن الكتابة. وكم كانت دهشتي عندما سمعته يقول لى: `إنني أتقاضي مرتبي مقابل الرسم وكتابة المقال الأسبوعي، وبما أنني سأتوقف عن الكتابة فإنني أطلب الأكتفاء بصرف نصف المرتب فقط!
- وبذلت كل ما في استطاعتي من أجل إقناعه بقبول كامل مرتبه، دون جودى، وقام بيكار مغادراً مكتبى وأنا مازلت مذهولاً من نقاء هذا الفنان واضطررت إلى إصدار قرار بمنحه علاوة إستثنائية حتى لا يتأثر المرتب المتواضع جداً الذي يتقاضاه من دار أخبار اليوم!
- حسين بيكار
- لقد تأخرنا كثيراً في تكريم فناننا الكريم، وتركناه يعمل في صمت بعيداً عن الأضواء التي يخشاها ويتحاشاها.
- إن ما كتبته عنه كل الصحف ومعظم الأقلام أقل بكثير مما يستحقه، ورغم هذا فقد أصر بيكار على أن يشكر أصحابها جميعاً، من خلال هذه الرسالة، بأسلوبه الأخاذ وتواضعه الجم، وأدبه الرفيع فهو لا يشكر - في رسالته - أخبار اليوم وحدها وإنما يشكر - بنفس الصدق والتواضع - كل من كتب عنه سطراً، وكل من سعى إلى تهنئته بكلمة أو باقة زهور. وسعادة بيكار بحب الملايين له جعلته يكتب السطور الرائعة التالية في الصفحة الأخيرة في الزميلة `الأخبار`:
- حبايبي يا أهل بلدي وناسي يا أغلى من كل الأمم.
- حبايبي يا اللي مليتوا دنيتى إبتسام وسلام وورد ونغم.
- حبايبي يا اللي كل الوجود من غيركوا يبقي صفر وعدم.
- حبايبي يا اللي ناديتوا القدر في الحال لبّى وقال نعم.
- حبايبى يا اللى خليتوا الورق فى إيدى ينطق ويفنى المداد والقلم.
- حبايبى يا اللى كتبتوا أسمى جنب خوفو اللى بنى المسلات والهرم.
- حبايبى.. مش لاقى كلام أقوله، وما عادش قدامى غير كام قدم.
- غير الدّعا للمولى يسعدكم ويخلًى رأسكم مرفوعة جنب العلم.
- رحم الله فقيدنا الكريم، وعزاؤنا أنه ترك لمحبيه مئات اللوحات وآلاف الكلمات التي ستذكر الأجيال القادمة بموهبته وإبداعه، جيلاً بعد جيل.
بقلم: إبراهيم سعده
التاريخ : 17-11-2002
|