بهاء الأمكنة وفتنة التجريد
- على نحو خاص ينجز التشكيلى العربى ( عياد النمر) ، محاملة التشكيلية ، وفق مبادىء فنية جمالية حداثية تتراوح بين التجريد الهندسى والتجريد التعبيرى.
- حيث تمكن فى متواليات تجاربة المختلفة أن يصوغ خطاباً بصرياً يستند على معجمه الفنى المشبع بحضور ذاته المبدعة المغامرة وخبراتها المنفتحة على ضروب متعددة من معارف الثقافة الكونية، وهو ما يفسر استغراقه فى عصره، وتساوق نتاجه الفنى مع أنساق واتجاهات مجايلية من الفنانين عربياً ودولياً، تلك الاتجاهات المفتونة بتمرد الحداثة ، وبجاذبية التجريد.
- تنحو السطوح التصويرية لــــ( عياد النمر) إلى تبسيط الشكل ، فهى تنـأى عن سردية التفاصيل ، معتمدة على مهارات تصميمية واعية للمساحات الملونة المتخذة أشكالاً هندسية تتداخل وتتقاطع أفقياً وعمودياً ، كما تتجاور وتتموضع فى تراتبية لا تخلو من العفوية ذلك أن معطيات الشكل المحدودة العناصر والقائمة على آلية مدروسة لتوزيع السطوح والخطوط بناءاً على معايير التوازن بين كلاً من السكون والحركة تتمعن فى البقاء داخل مبدأ من التناسب المعكوس مع الخارج المرئى، إذ يحكم علائقها نظام خفى موصول بالوعى واللاوعى فى آن معاً ، بذات الرسام وبالذاكرة الجمعية، بالمنتهى والمغلق فى تمامية الصورة ، وباللاتناهى فى الأشكال الممتدة المنفتحة على فضاء صرف يتجاوز وظيفته الفنية إلى دال رمزى لحركة كونية سديمية رحبة ، تتبدى فى استرسال المستطيلات والمربعات المتقاطعة والخطوط المتعامدة وأنصاف الدوائر.
- هنا يصعب تعيين حدود اللوحة ونهايات الشكل ، أو محور ( مركز) اللوحة ، فكل حيز فيها هو محور، وهو جزء من كلية التكوين ، مثلما هو الفراغ الأبيض ، مجالاً دلالياً للبناءات المبهمة .
- وإن التغير والحيوية مع الثبات والسكون الرصين أصداد تكمن فى القيم التشكيلية الهندسية داخل العمل الفنى القابل للتركيب والتحول الدائم بدرجة أكثر وفرة منه فى النطاق الواقعى، ففى الفن تتوفر النظم الرمزية الحاملة للتكون والجدلية المفتقرة إلى المركزية التى تقود إلى مسائل فلسفية ، وأنثروبولوجية ذات طابع طوطمى بالإضافة إلى الأغراض الفنية ، ذلك لأن الاستكثار من الخطوط والمساحات الإنشائية ومواربه القيم الهندسية بما لها من قابلية عالية على توليد استعارات وتأملات بصرية - ذهنية كونها أحد مصادر أساسية لنظم العلاقات التى أنشأها العقل البشرى الجمعى منذ بدايات نموه ، وما يحدث فى هكذا تجارب أن الفنان يحرض العين والمخيلة لدى الملتقى على إبدال الدلالات المنطقية والبنى العقلانية بسلسلة من الإشارات والرموز والاستعارات والمجازات المتغيرة باستمرار، فضلاً عن أن الرمزى يتصل بالخيالى، والأثنان يتسمان بالتبدل مما يوجد فرص باذخة لتفعيل مخيلة المشاهد ، بغرض التصور والخلق والتشكيل ، وتركيب المعانى ، وتحديد العلاقات الدالة ، وبحسب تعبير فيكتور هوجو ( كل شىء يبدل شكله ، حتى الشىء الذى لا شكل له) .
- الفنان ينتج فى هذه التجارب حالة تأملية، لا ينفك يبحث أثناءها فى ميتافيزيقا الحضور المجرد الدال ، هكذا تتحول الأعمال إلى حيز جمالى ونظام خلاق ، يصل المادى باللامادى والحسى بالمتعالى ، والداخل بالخارج.
- فى تجارب ( عياد النمر ) تلميح خافت بالأمكنة ، على رغم استغراقها التجريدى ، يتراءى الحضور المكانى من خلال مبدأ التنافذ بين السطوع والتنوع الملمسى لها ، مع تعتيق للعجائن اللونية يستحضر ما يشبه جدران المنازل الملونة فى الأحياء العربية، كذلك يعمد الفنان إلى موضعه بعض الفتحات والمربعات فى أجزاء من التكوينات ، آنذاك يضاعف الحضور اللامعلن للمكان ، وهذا التحول الطفيف من التجريد المحض يشير إلى حساسية الرسام فى تمرير الإزاحات المتنوعة ، لتحقيق مستويات متمايزة من الاستجابة الفنية والتى تتوازى مع مرامى النص الذى جهد فى تدوينه،عبر العثور على ما يمكن أن نسميها بالضرورة الداخلية لحيوية المادية ، والتقاط اللحظة المبدعة التى ساعدته على الولوج الآسر إلى مسالك التجريد المنفتح أبداً على مدى فضائى يتملص من الإدراكات الظاهرية للواقع ، فى سبيل تأكيد يقينية المجرد فى مقابل نسبية المحسوس ، على هذا النحو تتخلق تثنائية ضدية بين الحضور الداخلى للشكل المؤسس على المرجعيات التجريدية المحملة فى طياتها بالتلغيز والغموض ، وبين اقتراب ذات المساحات بالمادة والمكان، وفى هذا الصدد يتعمد المصور أن يضفى بعضاً من الزخارف والتقطيعات الملونة التى تعيد الذاكرة إلى الفتحات الزجاجية الملونة والأشكال الشعبية الجصية الموجودة فى واجهات المنازل الصغيرة داخل الأحياء الشعبية العربية ، لكنه وهو ينثر الموتيفات العفوية هنا وهناك يحرص على التقشف فيها، حتى أنها لا تمثل سوى إيحاءات مكانية عرضية.
- على الواجهات البيضاء المتجاورة مع سطوح ملونة تنتصب هيئات قاتمة اللون مائلة إلى الأسود ، تشبه النساء العربيات عندما يتوشحن السواد ، وهى نوع من التشخيصية اللاستعراضية ، فالمشابهة الحاصلة فى العدد الأكبر من الأعمال مجازية ومرة أخرى يقاوم الشكل الانصياع التام للمرجعيات والمعطيات الواقعية حينئذ يكتفى الرسام بالإشارات التشخيصية ، ليدفع التخييل الذهنى إلى إحلال صور وتأملات جديدة للجسد والحضور الإنسانيين ويتبدى ذلك بصورة أوضح فى لجوءه إلى تخطيط سيلويت جسد أنثوى غير مكتمل ، يقف بنا على مشارف التشخيص دون أن يتوغل فى نطاقاته ، فموسقه التواءات خطوط الجسد ، مع هندسة وصرامة المساحات يجعل من النصوص البصرية أفق كونى مسترسل ومشروع فنى يرى الحياة ضمن جمالية لا يخفف من انتظامها سوى الحس التعبيرى الذى يغلف التفاصيل الزخرفية العالقة بأجزاء من التكوينات ، وكذلك تعبيرية الشخوص الشبحية ، واللغة اللونية المتواترة والمشتغل عليها بتأن بغية الانتقال بالأعمال إلى مستوى تتذاوب فيه الشحنات الوجدانية بالحالة الذهنية المعرفية.
- لقد تمكن الفنان ( عياد النمر ) من أن يجعل من خطابه مقابل جمالى خلاق لتشيؤ الحياة ، يقيم قطيعة - بالمعنى الايجابى - مع الواقع الفعلى العادى، عبر تثبيت الوجود البشرى مجازاً ضمن المستويين الروحى والجمالى ، وذلك لإقصاء التباين بين إيقاعية ونبضية حياة الكائن فى وجودها المحسوس وبين حضوره الروحى ، داخل كينونة فنية هى الأكثر حقيقية قياساً إلى الخارج ، إنها الحقيقة الخلاقة المتناسلة المتوهجة المتحررة من القيود الزمانية ، وولوج هذه العوالم المبتكرة يوفر لنا إمكانات التكشف والانكشاف ، وداخلها نعى ذواتنا ضمن كيان نقى تتحقق فيه الشفافية والحميمية ، والرضا الغامض.
- وبلوغ الحقيقة فى هذه المعارج الملونة ، تجربة إبداعية تقتضى استدعاء ملكات الحدس أو ما نسميه بــ( العيان التعاطفى) عندما يقوم الفن كما ترى ( سوزان لانجر) بموضعة الوجدان إلى الحد الذى يتسنى لنا تأمله وفهمه، الغير قابلة للقياس أو الفهم المنطقى فيتم تحويل المعرفة الفنية إلى معرفة تصورية.
- هكذا فإن طاقة العالم وحياته الداخلية هى جذوة الموضوع الذى يشتغل عليه الفنان، وقد أبتكر بمهارة فائقة ، وإرادة مبدعة صياغته الخاصة التى مزجت النزوع الهندسى بالشعرى.
- ويحرص الفنان فى مجمل التجارب على عدم ترسيم حواف التكوين عندما يسمح لأجزاء منه باختراق حدود الشكل، وكسر استواء النهايات، ليصعب على العين تأطير الأعمال ضمن الحدود التقليدية ، المتداولة فى لوحات الجدار، مما يسهم فى تفعيل مرامى العمل الذى يشكل بحركته هذه محاولة لاختراق الفراغ خارج النص ، وفى حالة كهذه يصير فضاء قاعة العرض جزء من فضاءات العمل وتتخلق دينامية فاعلة تارة من الفراغ الخارجى إلى داخل النص وطورا من داخل اللوحة إلى فراغ المكان ، مما يحفز الطابع الحركى للخيال على تكثيف الحركة ويمكن من قراءة عدم الانتظام الشكلى ، والحساسية اللونية ، ورمزية وتعبيرية الأشكال والخطوط وفقاً لمرجعيات ذات طابع وجودى ، معرفى ، وما ورائى .
- كذلك نستطيع أن نرى كيف أن تراسل الصور والدلالات الرمزية والمجال الفسيح من الاستعارات ليس بمعزل عن اللغة اللونية المتسمة بالنقاوة والعفوية ، فالمصور يوظف كفاءة اللون وفق علاقات تعبيرية ، ويبدى شغفاً بالنقاء اللونى، كما هو واضح فى أعماله التى تحافظ على البهاء والنورانية.
- ثمة موسيقى حالمة معاصرة تفصح عنها تجربة التشكيلى (عياد النمر) ، وهى تجربة تستحضر البصر والبصيرة عند الفنان والمتلقى على حد سواء .
بقلم : آمنة النصيرى