عن معرض `النظام الفوضوى` للفنان أحمد قاسم فاصل من تاريخ شعب.. كوميديا سوداء بنكهة الرماد
- - حقا قليل أن شر البلية ما يضحك ، وما أمر أن يتندر صاحب البلية من حاله ، ويتخير من دواخله مواطن الجرح لينكأها ، محدثاً بذلك ما هو أبعد من الألم الذى طالما ألفه وتعايش معه ، إنه الشجن المؤلف من طبقات القهر المتراكم والكبت طويل الأزل ، ليكون النتاج لوناً جديداً من الفن كان لهذا الشعب السبق فيه ، ولما لا وهو صاحب خبرة فى التفنن بسرد الآلام والأوجاع فى سياق هزلى رافعاً شعار أن داويها . بالتى كانت هى الداء .
-عن `النظام الفوضوى` أتحدث والذى قدمه الفنان الشاب ` أحمد قاسم فى صورة فكاهية ناقلاً من خلالها وقائع مأساوية لمرحلة فاصلة فى تاريخ هذا الشعب ، من خلال معرضة الفردى القائم حالياً بقاعة `سفرخان` بالزمالك والذى تم افتتاحه فى 5 فبراير ويستمر حتى 22 فبراير، من خلال مجموعة من الأعمال التصويرية المنفذة بالألوان الزيتية على أسطح القماش المشدود، متناولاً مشاهد متنوعة مستقاة من الساحة السياسية الحالية، يسوقها للملتقى بمفرداته الخاصة والتى جاءت معبرة عن المضامين المقصود استدعائها لخلق حالة حوار بين العمل والملتقى. الفكرة الأساسية لمعرض `قاسم` تتمثل فى صعود قوى التيارات المتأسلمة على الساحة ومحاولتها السيطرة على المشهد السياسى والإمساك بمقاليد الحكم ، ناقداً أدائها الذى أرتاه وعبر عنه من خلال أعماله، والذى بدا له هزيلاً وهزلياً مصوراً له من خلال خلق مناخ كارتونى طفولى يقترب من لوحات الألعاب الجماعية الخاصة بالأطفال، تقوم فيه التيارات السياسية على اختلاف توجهاتها بدور المتحكم فى مسار اللعبة ، بينما السواد الأعم للشعب فهو المفعول به.
- من هذا المنطلق اختار قاسم مفردات لوحاته فمثلاً فى لوحة ` مدينة البوم ` عبر عن أفراد التيارات المتأسلمة على اختلاف مسمياتها بطيور البوم والتى يتلقاها الفعل الجمعى للمجتمع كرمز للشؤم والقوى الظلامية الشريرة وقد أضيف إليها بعض التفاصيل للتمييز بين الفصائل السياسية المختلفة فتارة يلبسها الجلباب الأبيض ويسدل لها لحى كثيفة غير مشذبة مشيراً للتيار السلفى الأصولي، وتارة يلف حولها أصابع المتفجرات إشارة للتيارات الجهادية أو يلبسها من قمة رأسها لأخمص قدميها السواد، وهكذا على هيئة مجموعات تتناثر حولها سيارات الأمن ومكبرات الصوت والأسلحة فى مشهد متشابك تحمله فى الخلفية صورة خريطة، مستدعيا صورة ألعاب الأطفال الجماعية كالسلم والثعبان، فعلى حسب تحركات اللاعبين يتقدمو أو يتقهقروا والتى يلعب فيها الحظ عاملاً أساسيا ً تماماً كما هو الحال فى الساحة السياسية للآن والذى تكون الغلبة فيه لمن له دراية أعلى بقواعد اللعبة، كما حملت لوحاته مضامين ثرية لما تزخر به من رموز، ففى إحدى لوحاته صور مشهداً لأنثى بجسدها البض اليانع تستلقى على حرف، مستدبرة المشهد، غير آبهة بما يدور خلفها، وما يحاك لها من قبل المتآمرون.
- ليست كمثيلاتها ممن صورن مضجعات على السرر المرفوعة والفرش المخملية والوسائد الوثيرة واللاتى طالما مثلن صورة الأنثى فى عيون المصورين لعقود طوال، فهى هنا تركت مضجعها الأثير، متجردة من كل أشكال الزينة التى عهدتها النساء، لتخرج على الملأ بمرأى الجموع ووسط الحشود الهادرة فى الشوارع الملأى، ملتحمة بكل عناصرها والتى بدت متقزمة من مركبات وبنايات خرسانية لا يتعدى حجمها حجم علب الكبريت، تنبت من الأرض نبتاً طفيلياً لا يوقف نموها ولا يعيقه عائق، وهم بدورهم لا يضيقون بوجودها ويتحايلون علية فتارة يشقون طريقا ملتو من وراءها أو يزحفون من الحاضنة للمشهد تماما كتلك الإلهة الأم التى ظهرت بأشكال ومسميات مختلفة فى الحضارات الشرقية العتيقة والتى طالما احتضنت البشرية فهى مخلقة واليها تسكن.
-هكذا صور `قاسم` الوطن كأم فى حالة تلاحم حميم مع أبنائها بالرغم من المنغصات المعهودة من عشوائية وزحام ولكنه أضاف بعداً آخر للمشهد بتطفل عدد من الخفافيش فى غفلة من الأنثى المضجعة، والتى سارعت بنسج خيوطها وفرض سيطرتها على المشهد، تكاد تسمع صأصأتها تترد فى أرجاء المكان، حتى أنها بدأت فى التداعى عليها ورشق أنيابها فى جسدها البض للارتشاف من دمها الذى سال على جسدها بلونه الأحمر القانى ، ليغير من المشهد تماما، فإذا بنا أمام مدينة منكوبة على شفا الانهيار فى غفلة من أهلها السائرين فى دروب حياتهم غير آبهين للشر المستطير المحدق بهم.
-أعتمد قاسم فى أسلوبه فى التلوين على المساحات اللونية دون العناية بتجاور الدرجات المختلفة للون الواحد لإظهار البعد الثالث لعناصره مكتفيا بتحديد الخطوط الخارجية لكل عنصر، وهى معالجة ناجحة لمواكبة السياق التهكمى الذى انتهجه الفنان لعرض رؤيته وتأكيدها، واضعاً عناصره على خلفيات بألوان ترابية باهتة والعناية بالعناصر التى تلعب دور البطولة فى كل لوحة، والتى تضمنت فى بعض تفصيلياتها ألوان اكثر سطوعا وسخونة كتلك اللوحات الثلاث التى عبر فيها عن كل فصيل فى المجتمع بمجموعة من الرموز التى تضافرت بحنكة للبوح بهوية البطل المتصدر لكل منها على حدة والذى استبدله `قاسم ` بعنصر يؤكد فكرته السابقة وهو السيارة التى عالجها بشكل كرتوني لتشبه سيارات السباق التى تظهر فى أفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال، والتى قد تحورت أجزاؤها لتشبه الآدميين لتؤكد فكرة هزلية اللعبة السياسية، فتارة يضع لبطله خلفية من الزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية ويضيف لبطل اللوحة لحية كثة ليتعرف الملتقى مباشر على الفصيل المقصود من ذلك العمل أو يستبل الزخارف برسوم أقرب لشكل الصليب المتساوى الأضلاع وفى الأرضية التى يفترشها البطل الممثل للفصيل المسيحي زخارف على هيئة الكرم وكأس النبيذ الأحمر ذوى الدلالة الأيقونية فى الفن القبطى المسيحى وهكذا، واضعا من وراء أبطاله كرسى العرش لارتباطه الوثيق بالسلطة ومركزية الحكم .
- فى لوحة أخرى نرى مشهد يؤكد فكرة التلاعب بأقدار الشعوب فى كون السيارتين ـ كمفردة تشكيلية تلهوان بألعاب الفيديو ويحيط بهم من آثار العمران والشوارع والسيارات بشكلها المصغر فى تداخل مع الأرضية وكأنها مدينة للأقزام، يكاد يقارب طول العمائر المحيطة بهم طول تلك التلال المتراصة من شرائط الألعاب المنتظرة دورها فى أن يقع عليها اختيار فى دور اللعب القادم، ويحتضن المشهد جدران منزل متقارب الأركان فى حميمة وكأن عالمهما أختزل فى اذرع التحكم وتلال الشرائط وشاشة العرض غير آبهين بحالة الفوضى القائمة من تحتهم التى تصرخ بنبرة رمادية باهتة فقد بح صوتها من شدة الصراخ بلا مجيب، طارحاً تساؤلاً لابد منه، إلى متى سيظل قدر هذا الشعب الصراخ والنحيب بلا آذان تسمعه وتعنى بأمره والذى طالما كان حاضراً فى لوحات `قاسم` متحيزا بصمته المساحة الأغلب حاويأً بداخله الجموع الغفيرة ذات الهم الأوحد والتى طالما ما ابتليت بالبلاء الأشر ..الحاكم الأصم .
نهى حنفى
نهضة مصر : 2013/2/28