عونى هيكل وأربعون عاما مع الفن
- أقام المثال الكبير` عونى هيكل ` معرضه الاستعادى الأول بقاعات أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب واستمر المعرض من 9 يناير الى 4 فبراير2001 ، وقد كرس الفنان لكل قاعة مجالاً من مجالات إبداعه : عرض فى القاعة ` الأولى ` نماذج مجسمة ، واختار للقاعة ` الثانية ` رسومه التحضيرية ، وضمت القاعة ` الثالثة ` منحوتاته الفراغية ، وضمت القاعة ` الرابعة ` لوحاته فى مجال الرسم بالقلم الرصاص ، أما ` الحديقة ` فقد اختصها بالنحت البارز.
- والمعرض حصاد أربعين عاماً فى مجال الفن ، لهذا كان من الطبيعى أن يضع لمعرضه عنواناً ينبه به زوار معرضه من النقاد والمهتمين بالفنون الجميلة إلى أنهم لا يشاهدون معرضاً عادياً يدور حول مرحلة واحدة ، بل معرضا لكل مراحل الفنان التى استغرقت من عمره أربعين عاماً .
- انطباع الوهلة الأولى
- إن جولة فى رحاب هذا المعرض تترك فى النفس شعوراً بأن صاحبه فياض بالإنتاج مولع بالصروح المعمارية ، ويمتلك خيالاً ولاداً لكائنات لا نظير لها فى الواقع المشترك ، أو فى أعمال مبدعين آخرين ، وإن امتدت جذور تلك الموجودات الفنية إلى ثقافات مختلفة ، ولم تنحصر فى إطار ثقافة واحدة ينحاز لها الفنان .
- امتدت إلى الأساطير اليونانية والموروث الإسلامى والمسيحى فى آن واحد ، ولم يكتف الفنان بهذا الاتصال المتنوع بل مدده إلى العصر الذى نعيشه ، وهو عصر كما نعلم جميعاً مفعم بكل ألوان العنف والعدوان .
- ومن الطبيعى أن تنتقل عدوى هذا العنف إلى ` موجودات ` الفنان ، وقد خصص لها كتابا ضم عشرات المحاولات من أجل الوصول إلى نموذج مثالى لهذا الكائن الذلا يمثل عصرنا . واختار أكثرها اكتمالا ` من الناحية الفنية ` ووضعه على غلاف الكتاب الذى أطلق عليه عنوان ` كروكيات نحات ` أما النموذج ذاته فقد تجلى فى هيئة كيان مسخى ، مرعب ، مدجج بأسلحة من صنع الخيال .
- ثنائيات حوارية
- ما أن تصل إلى نهاية جولتك فى المعرض حتى تدرك أن ثمة وجهين يقتسمانه : وجه بجسد رؤية متأملة فلسفية فى الوجود ، ينسجها الفنان ، كما سبق الإشارة - من الأساطير اليونانية ومن الموروث الدينى الإسلامى والمسيحى ، غير أنه يمتلك من الأصرار والاعتداد بموهبته القدر الذى يسمح له بأن يذوب الرموز العامة فى نسيج أسلوب فنى يخصه . أما الوجه الآخر فهو وجه اجتماعى مشرق ، مكرسة أعماله لما هو نافع وجميل وموجه لكل الأعمار فى المجتمع المصرى .
- تتسم مجسماته المعمارية التى اتخذت شكل المسلات الهرمية بالانضباط الهندسى ونصاعة السطوح ، فى نموذج ` نافورة المسلات السبع` تتجلى المسلات فى تماسك جماعى ، ` كورالى ` والعنوان يصف الغرض من المشروع .. وقد اقترح له الفنان عند التطبيق أن ينفذ بالخرسانة البيضاء .. وأن تكون مساحة قاعدته 40×50 متراً وارتفاعه ثمانية عشر متراً ..
- وتعود ` المسلات الهرمية ` إلى الظهور ثانية فى عمل آخر موجه إلى الأطفال ، حيث يتيح لهم اللهو بين فراغاته البينية .. ويقترح الفنان على منفذى هذا النموذج .. أن ينفذ بالخرسانة البيضاء أيضاً .. وأن تكون مساحة القاعدة 30×30 متراً وارتفاعه خمسة عشر متراً ...
- وإذا كانت تلك ` المجسمات المعمارية ` التى فاز بعضها بالجوائز الأولى ` قد اتسمت بالأناقة والانضباط الهندسى والبهجة .. فإن منحوتاته ذات التوجه ` التعبيرى / الرمزى ` تتسم بالتلقائية وخشونة الملمس والدينامية .
- الملاك والفارس
- على النقيض من بساطة اللوحة الكنسية يفاجئك تمثال ` عونى ` بحركة صدامية صاخبة بين كتل شبه طائرة . والتمثال من البوليستر المباشر ، مقياسه 80×65 سم ويشبه اشتباك الكتل علامة × المزدوجة (××) وإمعاناً فى الحركة الصدامية فإنه يتخذ لمنحوتته نقاط ارتكاز متعددة لدفع الكتل فى الجهات المعاكسة .
- وتسهم خشونة الملمس فى إعلاء درجة سخونة الشحنة الدرامية الكامنة ... وقام لون الصدأ ليسهم بدوره فى الإيحاء فإن ما نراه قد جئ به من زمن قد اندثر إلا من ذاكرة الكتب المقدسة ...
- ولا يعنى استلهام المثال ` عونى هيكل ` بين الحين والحين شيئاً من التراث ` الدينى أنه من الفنانين الدعاه .. والحقيقة أن ما هو مشغول به فى المقام الأول هو اكتشاف أشكال نحتية تناسب أغراضه التعبيرية .. وهو يريد لمنحوتاته أياًّ كانت موضوعاتها، أن تكون مفعمة بالحركة والحضور المؤثر.
- ` والحركة ` فى منحوتاته لا علاقة لها بأسلوب الفن الحركى Cine tique ولا ترتبط بآلية الحركة الواقعية . فالحركة فى منحوتاته ` ايحائية ` وهى توحى دوماً بحركة ذات طابع صدامى .. فتمثال ` البراق ` على سبيل المثال ، يبدو مندفعا فى كل اتجاه فى آن واحد ، ويذكرنا بقول ` أمرئ القيس ` مكر مفر مقبل مدبر معاً `.
- ونفس الحالة تنطبق على تمثاله ` القنطور ` وهو كائن خرافى نصفه رجل، ونصفه فرس، وتحكى الأسطورة اليونانية التى أوجدته .. أنه كان ينتمى إلى قبيلة من المخلوقات التى تتصف بالتوحش والغلظة .. وبطبيعة الحال فإن الطبائع البدائية وما تتسم به من صدق ، لاقترابها من الغريزة قد راقت لكثير من المبدعين المحدثين فى العالم ` وعونى هيكل ` واحد منهم .
- وهو لا يحفل بالمشابهة مع الواقع حتى لا يصرف انتباه المشاهد بعيداً عن تجليات الفعل ` الدينامى` إلى هامشية قياس درجات اقتراب العمل الفنى من الواقع ومهارة الصانع .
- صائد المصادفات المتفردة !
- أتاحت له إحدى المصادفات السعيدة لقاء بكتلة من الرخام المصرى فى محجر رخام ` أدفو` ، زنتها مائتا كيلو جرام ، لونتها الطبيعية بألوان خلابة، أغراه جمالها بأن يحتفظ بها كما هى ...
- غير أنه قرر أن يصنع منها عملاً فنيًّا يحمل اسمه ولحسن حظه أنه ليس مثالاً ` أكاديمياً ` وإلا كان عليه أن يحطم جمال الخامة ، لكى يحصد حصاداً هزيلاً وهو الوصول إلى شكل تشبيهى ، يتبارى المشاهدون فى قياس درجات اقترابه من الأصل الواقعى ...
- وقرر أن يشطرها شطرين متكاملين ، ومن ثم يقوم الفراغ الهندسى البينى بفصل كتلتى الوجهين` الناعم والغفل` فصلاً ` حقيقياً ` ووصلاً ` إيحائياً` وكان عليه، احتراماً لخامة الرخام - من ناحية - وحرصاً على الثنائيات الملمسية لمنحوتات ` عونى` - من ناحية أخرى ، أن يصقل وجهاً واحداً ، وأن يترك الوجه الآخر على ما كان عليه فى اللقاء الأول من خشونة ...
- وبحس القناص الماهر ترك فى الفراغ البينى بروزا يتجه نحو ملامسة الشطر الآخر ويذكر - من طرف خفى - بتمثال ` القبلة ` لـ ` برانكوزى ` !.
- تمثال المسيح
- هو آخر تمثال للفنان`عونى هيكل` وقد انتهى منه قبل افتتاح المعرض بساعة واحدة . وقد استخدم لتنفيذه ثلاث خامات متباينة ، هى: ` الحديد` و` الرخام ` و` النحاس ` . وقد أعطى ` الحديد ` دور الركيزة المحورية ، فى شكل عمود من الصلب ينهض عالياً ، على قاعدة تشبه أصابع شوكة تنغرز فى الأرض، فيما تظهر ذروة العمود وقد توجت بدائرة شمسية ، تمتد أصابعها فى كل اتجاه ، بدلاً من أكليل الشوك المعروف .
- إشارة ذكية إلى تحول الآلام التى عاناها المسيح فى الأرض إلى نور يضئ العالم .. وعلى جانبى العمود الذى يرمز إلى جسد المسيح ، مثلثان يتجهان إلى الأعالى إشارة إلى الصعود السماوى .
- وأبقى الفنان على نعومة ونصاعة المثلث ` الرخامى` ، فيما أحدث فى النحاس ما يشبه تجاعيد بشرة إنسانية عجوز . أو قشرة أرضية جافة تنتظر من يرويها .. وقد اختار الفنان لتمثاله أسلوباً يجمع بين إيجاز الأسلوب التجريدى وأدبية الأسلوب الرمزى . وقد أعانه هذا الاختيار على أن يحتفظ لتمثاله بدرجة عالية من التركيز على كل ما هو جوهرى.
- البيان
- على الرغم من أن الفنان` عونى هيكل` يتمتع بخيال خصب فإنه يعترف بأنه أول المندهشين ، والمفاجئين بأعماله ، وفى البيان الذى صاحب معرضه كتب يقول : ما هذه الأشكال التى أصنعها ؟ .. أين أولها وأين منتهاها ؟ ...
- ويواصل تساؤلاته الحائرة واجاباته غير اليقينية بقوله : ما هذا الذى أجده أمامى بعد طول معاناة فى عملية الخلق والإبداع ؟ هل هى كوارث منطلقة مما يحدث ومما حدث من تدمير وتحطيم ربما !
- هل هى هياكل عظمية منزوعة النخاع تلتحف بأشكال أسطورية . تنطلق الانطلاق الأخير هرباً من الطغيان المعنوى والتخلف الفكرى ومشاعر الدونية والعجز واليأس؟.
- وربما كان من المناسب أن تختتم تساؤلات مثالنا المصرى` عونى هيكل` بعبارة للمثال الأمريكى الكبير` دافيد سميث 1906 -1963 ` وهى ` إن النحت يجب أن يكون حراً كالروح ، معقداً كالحياة `.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال : مارس 2001