زوسر مرزوق
زوسر مرزوق ومعرضه الخامس والعشرون
- أقام المثال ` زوسر مرزوق ` معرضه الخامس والعشرين بأتيليه القاهرة للفنانين والكتاب ، بعد فترة انقطاع - كادت تطول - لولا انفعاله الغاضب على ما آل إليه المسرح المصرى ...إفلاس فى الفكر والخيال .. وألهمه هذا الغضب بتماثيل هذا المعرض .. وكان قد استغرقه المسرح سنوات ، تحول خلالها ` المثال ` إلى مهندس للديكور ومخرج لبعض العروض التجريبية . جاء غضبه الأخير حافزا لوصل ما كان قد انقطع مع ابداعاته الأولى فى فن النحت . ولم يكتف بأن يستلهم من واقع المسرح معرضا ناقدا له ، بل نظم سلسلة من الندوات ، جمعت بين نقاد المسرح وفنانيه ، استهدفت تشخيص حالته وطرح الحلول الممكنه لمشكلاته . ولأننى ناقد للفنون الجميلة ولست ناقدا للمسرح فسأكتفى بتقديم تجربته الابداعية فى مجال ` النحت ` .
- أقام معرضه الأول سنة 1965 ، بعد تخرجه فى كلية الفنون التطبيقية سنة 1964 . أذكر أن ذلك المعرض قد قوبل استقبالا حسنا لما به من موضوع محورى جرئ - نوعا ما - ولم يكن الحال وقتها قد وصل إلى الموقف الحالى، حيث انتصر الارهاب الدينى في إلغاء مادة ` الطبيعة الحية ` من الكليات الفنية .. على أية حال لم تكن تماثيله عن المرأة تحفل بالتفاصيل الوصفية ، فقد كان يراوغها بالتلخيص والتجريد الهندسى ، لكن لأن كل عطايا الأنوثة اسطوانية المعمار فقد غلبت على تماثيله الاستدارات . وبالغ بها عندما تكون المبالغات مبررة عند منطقة الحوض ومنطقة العفة . وفى تجارب لاحقة انفلتت تلك الاستدارات من أسر انتمائها إلى كيان الأنثى لتكتمل بذاتها فى منحوتات مستقلة . وتتشعع من أشكالها الكروية والبيضاوية ما يمتد بالاشارة إلى الجسد وإلى ثمار الطبيعة على السواء .
- واستعارة مجسماته من المرأة نعومة ملمسها.. وبدت فى طراوتها أقرب إلى مادة الكائن الحى منها إلى مادة الجماد التى يشكل بها الفنان عمله الفنى ، أكدها بأن أضاف إلى سطوح تماثيله ألوانا معبرة . وهو يعد من أوائل الفنانين المصريين الذين قاموا بتلوين أعمالهم - إن لم يكن أولهم - فبدت وكأنها كيانات حيه تتنفس وتنبض -على حد تعبير الفنان بيكار - وإذا كان من سبقوه من المثالين قد جمعوا فى العمل الفنى الواحد بين بنائية العنصر الهندسى ورقة العنصر العضوى فقد ضحى زوسر مرزوق بالعنصر الهندسى بصورة تكاد تكون ` كلية ` و إذا تصادف وأنشأ كتلة رأسية فإنه لا يبقيها على حالها بل يقاوم انتصابها بتهذيب حدودها الخارجية باقتحامات اسطوانية لولبية !.
- احتفاء بالأنوثة .. ونقد للمسرح !
- إذا جاز لنا أن نلخص تجربة معرضية : الأول سنة 1965. والأخير سنة 1999 فإنه يمكننا أن نقول : إن معرضه الأول كان احتفاء بأنوثة المرأة ، أما الأخير فكان نقدا ً لاذعا موجها ضد سلبيات المسرح المصرى الراهن ، الأول احتفاء لا يخلو -أحيانا - من الميل إلى الدعابة الناقدة ، أما الأخير فإن الميل إلى النقد كان صريحا عبر مشاهد مسرحية مؤداه بأدوات النحت الملون . من أمثلة الدعابة الناقدة فى مراحله الأولى ، تمثال من الجص المباشر (40× 40سم ) أنجزه فيما بين سنة 1966-1967 . وعنوانه يفسره وهو : ( الرجل لعبة المرأة ) تجلت المرأة مترامية الجسد ، مفعمة بالأنوثة ، تضع فوق فخذها الممتلئ ، متين البنية رجلا أشبه بطفل، أما معرضه الأخير الذى يحمل عنوان ` المسرح وآفاق العولمة ` فقد تناسلت من كياناته العضويه مشاهد مسرحية تحمل عناوين ، منها : `صراع ` حيث ينتظم المشهد ثلاث وحدات أو ثلاث قوى، تحتل مكان الصدارة بينها كتلة برتقالية تتنازعها قوتان : قوة اليمين ذات اللون الأزرق وقوة اليسار ذات اللون الأحمر . والكتل الثلاث المتصارعة لا تفصح عن هويتها . وما يظهر منها لا يجعلنا على يقين من حقيقتها إن كانت تنتمى إلى عالم الحيوان أم البشر .
- وينتقل الفنان إلى عمل آخر مستعينا بمبضع الناقد ، أسماه : ` ضغوط ` ويمثل العمل كيانات أشبه بالضفادع ، بعضها فوق بعض، ملونه باللون الأزرق الداكن ، تواجه مشاهديها بأفواه شرهة دامية . والعمل - كما هو واضح - صورة ناقدة لواقع يراه الفنان قاتما . ويدفعنا هذا التراكم العشوائى الغثيانى إلى ترقب لحظة سقوطه . ويواصل الفنان انتقاداته الغاضبه فى عمل آخر بعنوان ` خفافيش الليل ` يجمعها فى مظاهرة هتافية ، تقود غيرهن إلى ما هو بديهى : المجهول المعتم !.. غير أن المكاشفة النقدية ليست هى الوجه الوحيد فى معرض زوسر مرزوق ، فهناك من الأعمال ما يكشف عن لحظات من التأمل الوجودى ،. وتمثل تلك التأملات وصلا بمرحلة الثمانينات عندما بدأ يلون تماثيله ومجسماته . وهو يلون أعمال معرضه الأخير أيضا لكى يشدد بها من حرارة التعبير، مثل تلوين أفواه الضفادع بلون الدم ، لينفرنا من القبح ، والدلالة الرمزية للألوان : الزرقاء و الحمراء و البرتقالية واضحة فى تمثال صراع `واسقاطاته السياسية مقروءة أيضا .
- ويتجلى زوسر مرزوق ، أحيانا ، فيلسوفا وجوديا فى عدد من الأعمال ، مثل : تمثال ` احتواء ` حيث تبدو كتلة أشبه بالرحم ، محتويا كتلة جنينية تحيطها بالحماية من كل جانب . وفى عمل آخر تنفلت الكتلة الجنينية المستديرة وتدور بلا غاية و لا أمل فى التوقف . ويحيلنا العمل إلى خارج حدوده المنظورة فى الوجود والمصير الانسانى . - نظرة إلى ما فات
- على أن زوسر مرزوق يستلهم من الموروث الابداعى المصرى القديم ما يحاول به أن يؤكد أنه قادر على الانفلات ، أحيانا ، من أسر اجترار الذات ، فقد استلهم شكل المنحوتة المصرية الرائعة : منحوتة القطة .
- وعندما انتقلت من المتحف إلى معرض زوسر ظهرت بأسلوب زوسرى عضوى !. جسدها فى نصف دائرة اسطوانية ، تتكئ خلفيتها على مسطح الأرض - من ناحية - تتصل برأسها بالناحية الأخرى من المسطح ، تاركا بين كتلتيها : كتلة الرأس وكتلة الخلفية فراغا بينيا أشبه بقوس نصر !.
- سنوات التوقف !
- دعى زوسر مرزوق لاقامة معرض بمدينة نيويورك سنة 1983. وهناك فوجئ مفاجأة سارة ، عندما قررت لجنة فنية تابعة للأمم المتحدة اقتناء تمثال له عن الأمومة . ولما كان قد تعهد - شأن كل الفنانين المبعوثين للخارج بعدم بيع أى عمل فنى خارج مصر. فرفض الفرصة المتاحة له.
- واقترح على المسئولون بأن يكبر تمثاله الذى سيعود به وأن ينجز التمثال الآخر لهيئة الأمم المتحدة . ونفذه بالفعل فى مدة ستة شهور . واختار للتمثال خامة ارتبطت بالنحت المصرى القديم وهى خامة الجرانيت ، بمقاس 400سم×250سم ×150 واقتنته الامم المتحدة . وعند العودة سنة 1984 كان فى انتظاره كارثه . فقد اكتشف أن كل تماثيله ومقتنياته الشخصيه قد دمرت أو تلاشت فى ميناء الاسكندريه . وأحدثت تلك الكارثه دويا اعلاميا وقتها . ويستحق عرضها التفصيلي مقاله خاصة . ما يعنينا فى هذا السياق هو أن كارثه مثل تلك التى وقعت مع زوسر مرزوق كانت كفيله بايقافه إلى ما لا نهاية . وكاد يستسلم لها لولا غضبه من أحوال المسرح ، ذلك الغضب الذى أثمر إضافة جديدة إلى إبداعاته السابقة .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال- إبريل 1999
زوسر مرزوق وعالمه التشكيلى
- تطمح هذه الدراسة إلى عقد مقارنة بين زاويتى ابداع لفنان واحد وهو أمر صعب ومرهق، لكنى سأحاول أن أعقد تلك المقارنة فى عالم زوسر مرزوق (النحات) ومن ثم (مهندس الديكور المسرحى) وهما جانبان يكادان أن يكونا محفوظى بالنسبة لمن يعرف ويتابع خطوات هذا الفنان فى عالمه التشكيلى..
- ولعل اعتمادى على الجانب التطبيقى، من خلال هذه الدراسة أكثر من الاعتماد على الجانب النظرى بحكم تعاملنا مع عالم هذا الفنان، متعدد المواهب فاذا ما عقدنا المقارنة بينه وبين فنانى الديكور من أبناء جيله فلسوف نلحظ ان زوسر من حيث النوعية قد فاز بزاوية التميز ببعده الغائى وكذلك من خلال حوارياته التشكيلية. سواء كانت من زاوية الكتلة والفراغ - أو ما بين اللون وقيمة التواجد وحميمية فى التحاور مع ادواته، وهى المعطى التشكيلى.
- وإذا أجرينا مقارنه ما بين - الكم.. والكيف - فاننا سوف نجد بأن كلا من الكفتين متساويتان، فبقدر ما قدم الفنان كما من الأعمال، إلا أن هذا الكم يعتبر علاقة تشير إلى تمييز - الكيف والكيفية معا - علامات فى عالمه الذى خبرته انا عن كثب. ذلك هو عالم المسرح فى حياة الفنان زوسر، وبحكم تعامله مع المسرح كرجل مسرح فى المقام الأول، قد ميزه المسرح فى رأيى بخصيصة الممارسة العملية والمعملية فى آن واحد وخصصية الممارسة العملية والمعملية قد اعطت رؤاه فى الاعمال المسرحية التى قام بتصميم وتنفيذ ديكوراتها، جعلت رؤاه من حيث المعطى الدرامى تتحاور مع الممثلين، تلقى بمفاتيح الحوار الاستفهامى إلى الجمهور فهى تصدر من خلال عقل يعى ماللخط واللون من فلسفة، فاذا. فإن الفكر التشكيلى الذى يصدر عن عقل يطرح باللون، بالتجسيد الدرامى حواريات حتى مع اقدام المؤدين للأعمال المسرحية داخل الاطار التشكيلى، الذى ابتدعه الفنان مسلوب اللب بالمسرح، بالكتلة والفراغ، بالحوار التشكيلى فيرد عليه الفنان المفسر أو المترجم أو المعارض بالرؤية الاخراجية، بتوظيف هذا العالم التشكيلى، المتحاور بسلسلة من الاستفسارات تصل إلى الجمهور، تناوش فيه خصيصة المتذوق للفن الناطق بالفكر الجلى..
- هنا ينطق الفن التشكيلى، يهدف للتعريف والتواجد فى الزمان وفى المكان!؟ فاذا قارنا عالم زوسر مرزوق. وهو الدارس لكل الجزئيات فى عالم الفن بشكل عام فلسوف نجد انفسنا امام مثقف يتعامل مع كل المفردات بخلفية ثقافية شمولية، فإذا ما اقتربنا منه كانسان فاننا واجدين انفسنا أمام طفل غضوب، فى عينيه يسكن طائر الرعب من المستقبل، يسكن الخوف، ونجده فى سمت الزراع يرعى بذور غرسه فى أرض الجدب، حتى يستفيد الكل من النماء والخير حين يفيض عالم البشر..
- وعالم زوسر كفنان ديكور مسرحى, عالم ملئ بالاسرار، وان كان يتميز عالمه باسرار تمتلئ بالتميز والاسقاط. تميز عناصر الافكار فى عالمه التشكيلى، الذى يحدث تلك المعادلة الصعبة فى تعامله مع جميع الخامات البيئية الطبيعية ليصوغ منها رؤى حديثة تجبر الدراما على أن تعترف بها فى مكانة الصدارة والقداسة، واما عالمه كفنان تشكيلى وباعتباره من النحاتين المتميزيين بميزة تفرد بها، ألا وهى أنه اضاف البعد اللونى إلى الوحدة التشكيلية، والتعبير عن هواجسه الممثلة فى كل خطوة يخطوها فى حياته العملية، ألا وهو الانسان فى معاناته، وصراعه مع المفردات.
- وسواء كنا فى اقتربنا أو اغتربنا عن عالم هذا الفنان. إلا ان عالمه قد فرض علينا فى الاقتراب أو الاغتراب صفة التأمل والوقفة المتأنية أمامه كنحات اثبت قفزة قد ميزته عن أقرانه من أبناء الجيل الواحد أو من خلال أعماله الابداعية فى مجال الديكور المسرحى، أنه عالم مميز من خلال - الكتلة والفراغ - من خلال اذكاء القيمة الفكرية والفلسفية وتقديمها على القيمة الجمالية، وانبعاث هذا الكم من الغرابة فى عالمه النحتى، يماثله كم آخر من الانطلاق إلى عالم التميز فى الديكور المسرحى.. ولعل من أهم العوامل التى أعطت لأعمال زوسر التشكيلية المسرحية قوة الثبات على أرضية صلبة هو مدى الاخلاص فى النوايا وفى المتجه لتأكيد صلة بصرية وفكرية بين كل خطوة وأخرى يخطوها، مما يجعل لأعماله لا إطارا واحدا، ولكن عدة أطر من خلال فكر متطور بتطور رؤاه إلى موضوعاته التى يطرحها بالتشكيل المحمل بالأفكار وباختلاف طرق التشكيل فى عالمه وتنوع فى الآداء حسب ما تقتضيه حاجة الفكرة التى تولد فى ذهنه ومعرفته الدقيقة لأمكاناته الفكرية والتشكيلية فعرفنا عن هذا العالم التشكيلى الأثيرى بمدى تأثير النحت على المسرح بعد أن أضاف زوسر بعدا ثالثا كما قلنا وهو عنصر اللون على النحت فى عالم الكتلة والفراغ، وتلوين أعمال الفنان النحتية هو ثورة على الشكل السائد وانطلاقا إلى عالم المضامين التى تحمل أفكارا تنويرية للمتلقى فى مصر، أو عندما عرضت اعمال زوسر النحتية فى امريكا قبل ثلاثة أعوام مضت..
- وما دمنا أمام معطيات اللون فى التماثيل، فلندلف إلى عالم المسرح ثانية، ونظرة الفنان الذى نحن بصدد عالمه التشكيلى، ورفضه لهذا السيل السائد من اللامبالاة والمناهج التسطيحية التى تؤرقه دائما فكرة العودة إلى الغربة فى بلاد الفن والنور؟!
- وإذا استطردنا من قبيل المقارنة بين عالم زوسر النحتى وعالمه المسرحى فإن المسرح يقع عنده فى منطقة يمكن أن نطلق عليها منطقة العشق، عشق التماثيل، عشق الاخراج، عشق النحت، ثم عشقه للتأريخ عن الأزياء الاسلامية فى عمله الموسوعى الذى يشغله منذ أكثر من خمسة عشر عاماً..
- وإذا تركنا التعميم إلى التخصيص فإننا نتوقف عند رقم (240) عمل مسرحى قام الفنان بتصميم وتنفيذ ديكورات هذا الكم الهائل من الاعمال المسرحية سواء فى الجامعة - المسرح الجامعى - أو مسرح الثقافة الجماهيرية وما بين قطاع خاص ثم مسرح القطاع العام. ففى المسرح القومى نتذكر له علامات مضيئة فى عالم الديكور المسرحى مثل - انتجون، ست الملك، سهرة مع الحكومة، سيادة المحافظ على الهواء، المهاجر.
- وللمسرح المتجول جرنيكا والمزاد، ومن عروض من انتاج ديوان عام الوزارة -عرابى زعيم الفلاحين، وكلها اعمال يعتبرها المسرحيون من أهم العناصر بالغة الأهمية فى كل العروض الذى يشارك فيها إذ يضيف إلى كلمة المؤلف ورؤية المخرج ما لا يقل عن نسبة 50% أو 60% من نجاح العمل.
- ولعل أطروحاته تعتبر ثورة ملما بقدراته متمتعا بفرط ثقة تشكلت مع شخصيته حادة المزاج بجانب غضبها الطفولى فهو بجانب ثورته على النمطى السائد والبحث عن الجديد المستحدث يسير إلى الأمام فى خطوات المتشكك الساخط، ولعل زاوية السخط فى عالمه هى السبب فى انطلاقه لكى يطرح من خلال رؤاه انه لا أحد يقف فى طريق الفنان الجيد، الصادق، الذى يتجاوز بوجدانه حدود كل الصغائر فالعملية الابداعية فى عالم زوسر إذن قائمة على الحوار المتبادل بين الأوضاع الثقافية والاجتماعية السائدة فى المجتمع والتكوين النفسى والوجدانى فينعكس على عطائه كمبدع تشكيلى تؤرقه هموم جيله فنجد تجمعا بين التعبيرية والتجريدية حيث يهتم باظهار الفكرة الاساسية من خلال رؤية ذاتية بعلاقات جديدة مجردة، ولعل لجوء زوسر فى عالم الديكور المسرحى إلى الخامات - البيئية - سواء فى رائعة المسرح القومى، التى قدمت منذ سنوات وهى مسرحية (المهاجر) لجورج شحادة والتى استخدم فيها زوسر خامة (النخيل الطبيعى) ليعطى تأثيرا بيئيا يتحاور حتى مع فكرة (تمصير) أو احداث (اسقاطات آتى) للعصر والمكان فكان لتخريجاته التشكيلية فضل اضفاء صفة العمل المسرحى الاكاديمى، وهو يدرك أنه من الثابت ان الناس على اختلاف طبائعهم واحساسيسهم وقدراتهم مختلفون فى ميولهم كذلك فسلك بتحاوراته فى كل ما ابدع، فى رؤاه التشكيلية عالما فطريا من خلال لغة تعبيرية يجد فيها المشاهد نفسه، بطريقته الخاصة، التى تربطه وعالمه بحالة - التفرج - بعد ان يعيد الفنان المصدر للمتلقى فنه التشكيلى بما يعكس تفرد المشاهد بخصيصة النخيل والتعايش والمعايشة، والتجاوب الذهنى، والبعد الغانى وراء رؤاه الديكورية هو دفع لكل مشاهد على ان ينفرد كما يشاء باسلوبه الخاص فى التلقى.. والروابط الفنية فى عالم هذا الفنان التشكيلى حين نقارنه بأى من الفنانين التشكيليين فى الساحة المسرحية فاننا نجد أن له رؤيته الخاصة جدا فى نظرته للطبيعة أو للموضوعات الحية المحيطة به، وهو حين يرغب فى اتخاذها الهاما لعمله الفنى التشكيلى فلا يأخذها على علاتها، لا ينقلها نقلا مباشرا على اعتبار انها طبيعة فماذا يمكن ان يضيف اليها من عندياته..!؟
- إلا أنه يبحث لايجاد العديد من الزوايا والمرئيات المتصلة بتلك الطبيعة ويستخرج الجزء الذى يثير مشاعر تختلف عن تلك المشاعر التى تثيرها رؤية نفس المرئيات، وهى (كجزء من كل) ذلك لأن الجزء الذى يعزله الفنان هنا ويعمل فكره فيه، من خلال نظرته العميقة المتأصلة ليصبح الجزء فكرة فيه، من خلال نظرته العميقة المتأصلة ليصبح الجزء (كلا) فى ذاته ويتخذ من رؤيته المتأنية وضعا فراغيا جديدا..
- فالتعبير الفنى إذن فى عالم الديكور المسرحى للفنان زوسر مرزوق قد اكتسب خبرة جمالية. وتحاور النص المسرحى مع المدرك الجمالى وتفرد الجانب التشكيلى عنده بحدود القداسة فى الكثير من الزوايا، وعدم قبوله للحلول الوسط، وعدم قبوله، بل رفضه الحاد ان يطلق عليه كلمة - المصمم - وهو يعشق ان يكون منفذا لجميع ديكوراته التى قام بتصميمها إذ انه لا يشعر بالسعادة إلا وهو يحول من خلال لمسات اصابع يديه نشارة الخشب والسبداج والغراء واللون إلى مظهر الطين حتى يتشمم المتفرج رائحة الطين من خلال رؤية الفنان الصادقة فى التصميم أو التنفيذ وهو قد تفرد كذلك فى هذا المجال وتميز فيه..
- وأما عالمه كمثال فلقد كتب عنه غيرى ممن هم اقدر منى فى هذا المجال. لكنى حينما شاهدت له آخر أعماله النحتية وهو تمثال تخليد رجل الأمن المركزى، رجل الشرطة الذى نبتت له جناحان وهم بانقاذ طفل صغير من التعثر.. والغريب فى أمر هذا التمثال أنه أقيم داخل اكبر معسكرات الأمن المركزى على مستوى الجمهورية وهو تمثال أقامة من خلال كلمة ارتبط بها، ولم ينل اجرا، ولم يكلف المعسكر سوى الاسمنت وحديد التسليح، لكن التمثال (حدوته) اسطورية فهو بناء شامخ لفنان يتحدى حتى عوامل التعرية بخامات بدائية فتمثال ارتفاعه (عشرون مترا) اقيمت من حوله غابة من الدروع لتكون الحامى والواقى من الريح فتستعمل كمصدات له، بجانب بعدها التشكيلى والجمالى..
- وإذا ما وصلنا إلى عقد المقارنة بين زوسر النحات وزوسر التشكيلى فى مجال الديكور المسرحى فلا نجد ثمة فارق من حيث عالمه السحرى.. وعالم زوسر مرزوق ملئ بالأسرار، غنى بالابتكار، وكلها تنتمى إلى عالم من السحر، فهى تفيض بالجمال وبالخيال، انه عالم رجل لا يملك إلا الحب لعمله، والاخلاص له، فرأس ماله من تلك الرحلة المضنية سوى خامات والوان، وقبل كل ذلك افكار غاية فى الجرأة والتحدى.
- فعندما وضع يده على فكرة ان يصمم ستارة (بريمو) لمسرحية -المهاجر- ضمنها فكرة تعتبر رائدة فى مجال الديكور- المسرحى إذ قام برسم (طاووس) داخل إطار شهادة علمية نفذها بالزجاج الملون، المعشق بالرصاص، فكانت صرخة فى عالم الديكور المسرحى وكانت قفزة لم يسبقه فيها احد وله فضل الريادة فيها كفكرة لا تستسلم للسائد النمطى وانما حملها الفنان بالفكر وبالفلسفة مما يزيد من فاعلية التشكيل مع الدراما فى تناغم متحد فى عالم القيمة والجمال..
- ولعل ما فعله فى لوحة (جرنيكا) فى عرض مسرحى يحمل ذات الاسم قدمه المسرح المتجول قبل ثلاثة اعوام مضت حيث حول تلك اللوحة الشهيرة إلى منظور مسرحى يتم تكوينه على مراحل تتم بتنامى الدراما المقدمة فوظف التشكيل كما الدراما فى ضفيرة فكرية وفلسفية فى آن واحد.
- وحين لجأ إلى خامة (الحبال) لكى يكون منها فكرا تشكيليا أيضا لم يسبقه فيه احد فوظف خامة الحبال فى مسرحية مثل الوزير العاشق للثقافة الجماهيرية بالاسكندرية، واستخدامات أخرى لخامات طبيعية مثل شجر النخيل واستخدام اخشابها بشكل متميز سواء فى مسرحية -المهاجر- إذ رسم شجرة فى وسط المسرح هى رمز بقاء الحياء والحياة فى القرية، وللشجرة فى حياة زوسر التشكيلية على المسرح فلسفة وفكرة تحاور بها فى مسرحية (حلم يوسف) حين حول الشجرة إلى أم وبطن ام ورحم أم ورحم أمة باسرها، منها تتوالد الاجيال وإليها تعود لكى تخرج من جديد.
- وحين استغل زوسر الاماكن الطبيعية مثلما فعل فى مسرحية وليم شكسبير الشهيرة (هاملت) حول سلالم أكاديمية الفنون ومدخل المعهد العالى للفنون المسرحية بها وبواباته إلى قصر ومنصة للتمثيل فكانت فكرة مجنونة كانت سببا لانطلاق محمد صبحى مخرجاً متميزاً من خلال مهندس ديكور يثور دائما على النمطية وكانت ذات النظرة حين حول زوسر ساحة سيدى أبى العباس المرسى بالاسكندرية وسلالم المسجد إلى مكان للعرض المسرحى - رجال الله - وان يكون الجمهور لأول مرة على الأرض جلوسا فوق الحصير، وإذا فقد حول الساحة إلى مكان للعبادة من خلال فكر احيط علما بما للمسرح والدين من فلسفة وتعاليم.
- وحين استخدم الممثلين انفسهم فى تحقيق شكل السيرك المسرحى - كديكور بشرى - فى تجربته الاخراجية والتشكيلية أيضاً فى عرض مسرحية (احتفالية بنى شعب) والتى اخرجها للفرقة القومية لمحافظة الشرقية.
- ان زوسر مرزوق وعالمه التشكيلى ذلك العالم الذى شكل بالنسبة للفنان رحلة من الضنى يجرى خلالها ويلهث من أجل أن يخلق عالما يتحاور فيه لا الانسان فقط ، ولكن يتحاور معه جزء من الانسان.
- القدم مع المستويات (البرتكابلات) المسرحية، تتحاور فيه العين مع اللون المحيط بالمؤدى وبالمشاهد، بتحاور فيه البعد الغائى مع البعد الفلسفى فى ملحمة كورالية تسمو بالجميع إلى عالم الجمال .. ولا شك أن عالم زوسر مرزوق وواجباته نحو بناء وتكوين زاوية جديدة. أو فالنقل محطة جديدة. محطة وصول لجيل من التشكيليين، وان كان زوسر قد تفرد بين هذا الجيل بأنه المهاجر من عالم الجمود والنمطية فاعتبره النقاد انه المسرح المنحوت والنحت الممسرح. انه وافد يؤمن باعتماده على الكثير من المهارات، سواء ما يتصل باستعمال الادوات أو ما يتعلق بمعالجة تلك الخامات وتشكيلها والقدرة كذلك على صياغات لتكوينات متكاملة فى عالمه كنحات، ثم فى عالمه كمهندس ديكور مسرحى يبحث عن التكوين المتكامل والذى يؤرقه دوما ما هو جعله من أميز الوافدين لمحطة الوصول الكمالى.
بقلم : أمين بكير
مجلة : القاهرة (العدد 109) 15 أكتوبر 1990
الساكن والمتحرك فى نحت زوسر مرزوق
- يسيطر فكر المخرج المسرحى على خطة عرض الأعمال الفنية النحتية .. فى معرض زوسر مرزوق حيث يظهر دور ذلك الفكر الإخراجى المسرحى من خلال التسلسل الجغرافى فى عرض منحوتات المعرض .
- فإذا كان العرض المسرحى قائماً على فكرة أساسية أو مقولة يطرحها النص ويجسدها العرض ، فإن هذا المعرض يبدأ فى حسن استهلال بتمثال يكثف لنا مقولته، وهى حتمية تواصل الأجيال حتى لا ينفرط عقد هويتنا .
- وإذا كان العرض المسرحى يبدأ فتتابع أحداثه تتابعاً تصاعدياً فى المسرح التقليدى أو تتجاور أحداثه فى المسرح الملحمى ، فإن معرض زوسر مرزوق قد عمد إلى خلق نوع من تجاور المنحوتات وفق نسق التسلسل الدرامى ، حيث تتجاور المنحوتات مجاورة موضوعية ، إذ يقول كل تمثال مقولته الدرامية من خلال التكوين الحركى السكونى اللونى الضوئى والظلى ، لينتقل المتلقى انتقالاً مكانياً نفسياً وذهيناً إلى المقولة الدرامية التالية فى تسلسلها المتجاور مكانياً وموضوعياً ، بديلاً عن تتابع عرض المشاهد المسرحية وذلك أسلوب ليس غريباً على العروض المسرحية ألما بعد الحداثية التى تجتاح أوروبا وأمريكا فى مطلع عصر العولمة ، وإن لها إرهاصات سابقة على ذلك من حيث الزمن . فهذه الأعمال النحتية التى هى معادلات نحتية لمقولات درامية متجاورة تؤدى فى مجملها إلى المقولة الأساسية التى يعبر عنها بتمثالين أحدهما تمثال ( تواصل الأجيال ) الذي يستهل به المتلقى مشاهدته والآخر هو تمثال ( بلا نهاية ) الذى يشكل نهاية رحلة المتلقى فى معرض زوسر مرزوق . فكأن المتلقى واقع بين تأثيرين أو بين قوسين نحتيين أو بين جبلين فى رحلة استكشاف للمجهول الذى يقطع تواصل الأجيال وأدى بعالمنا المسرحى أو القومى إلى الدوران فى فلك فراغى أجوف إلى ما لا نهاية ، ذلك المجهول المتعدد الأشكال والأدوار المتوحد فى الفعل المضاد للطرح الموضوعى والتكوينى لفكرة تواصل الأجيال . ولعل فى العناوين التى اختارها الفنان زوسر مرزوق لتماثيله ما يكشف لنا عن طبيعة التجاور الدرامى للمقولات التى يتضمنها كل تمثال من تماثيل ذلك المعرض النحتى الدرامى أو المسرحانى .. فالتواصل ينقطع نتيجة مأساة ثم تتلوها ( شقاوة صغار ) فى شعبطاتهم وتسلقهم غير المشروع الذى أدى إلى فقدان الكيان الأساسى والحقيقى للمسرح المصرى ولهيبته ، وتوزع طاقته ، وتشتت النظرة إليه وانصراف النظر عنه إلى المحاولات التسلقية والصبيانية ، وتلك وجهة نقدية لمسيرة المسرح المصرى فى العشر سنوات الأخيرة ( مرحلة نفى النص وموت المؤلف والتخلى عن الريادات وسيادة شعبطات التجريب وشخبطاته ) وهكذا تتوالى المقولات الدرامية التى تعكسها أعمال زوسر الفنية ويؤدى كل منها إلى المقولة التى تليها وفق النسق الجغرافى عبر مسيرة التلقى فالشقاوة تؤدى إلى الضغوط الضفدعية المتنافرة والمشرعة أفواهها الدموية فى اتجاه الكيان الأساسى . ومن البداهة أن تؤدى الضغوط إلى صراع ، لذلك شغل تمثال ( صراع ) المستوى الخامس على خريطة المعرض فى هيئة تكوين أساسى فى المركز يتوسط تكوينين وكلاهما يحاول جذبه نحوه بالقوة وكأنه غنيمة أو تركة يتناوشها الطامعون بغض النظر عما يلحقونه بذلك التكوين الأساسى وهو هنا يمثل المسرح المصرى الذى يتجاذبه أو يتصارع من أجل السيطرة عليه تكتلان أحدهما تكتل الفنانين والآخر تكتل الإداريين ، مما أعاق حركته أو أًصابه بالشلل ، ويعلو دور التعارض اللونى بين كل من جهتى الشد والجذب المتصارعتين ليؤكد ذلك التعارض أو التناقض حيث يصطبغ لون كل جهه من الجهتين بلون الكتلة التى تجتذبه نحوها . ولا غرو أن الصراع يؤدى إلى إجهاض الولادة وذلك هو لب الإدراك الحداثى . لأن الحداثة نتاج للصراع مع الثوابت والسواكن فى محاولة توليد وتوالد معنوى وشكلانى دائم ، وسواء عمد زوسر مرزوق فى ترتيبه لتماثيله ترتيباً جغرافياً خاضعاً لدراميات الفكر وتجاور مقولاته الفرعية فى اتجاه مصبها الفكرى الرئيسى المتدرج تدرجاً خاضعاً لقانون السببية أو لم يعمد فإن ذلك النسق الحداثى قائم كمقدم التواصل سببه ( مأساة ) التهام الكتلة الرئيسية للكتل الوليدة فالشقاوة والضغوط والصراع والتوالد المجهض الذى أنتج نشاطاً طفيلياً أدى إلى الانسلاخ عن الأصل والأصالة ومن ثم المواجهة بين الثقافة وعصر العولمة حيث لا أحد يسمع أو يرى أو يتكلم الأمر الذى ترتب عليه وجود حالة انفصام للشخصية وهو ما يعكسه تمثال شيزوفرينيا المسبوق بتمثال ( لا نسمع . لا نرى . لا نتكلم ) والمتبوع بتمثال ( التحفز ) وهو متوالد عن تمثال الطفيليين ونتاج فعلهم وتطفلهم الذى سمحت به حالة التوالد المجسدة تجسيداً تشخيصياً فى تمثال ( توالد ) . ومن البداهة أن تقف البيروقراطية بالمرصاد لكل توجه صحيح فى مسيرة التطور والتقدم ولذا وضع زوسر تمثال ( بالمرصاد ) تال على تمثال ( البيروقراطيون ) وكان تمثال ( على مين الدور ) انتهاء بلا نهائية الدوران مع دوامة الفراغ اللانهائى .
- أن هذا الترتيب الموضوعى لتماثيل زوسر فى معرضه الخامس والعشرين يخلق ما يمكن أن يطلق عليه بالإطار الدرامى الواهى الذي يربط الموضوعات الفرعية بالموضوع الرئيسى فنبدأ بالتواصل وننتهى إلى الدوران فى الدوامة الفراغية الكونية نتيجة لأننا لا نرى . لا نسمع . لا نتكلم . مما أدى إلى الانتظار القلق ( على مين الدور ) .
- إن موضوع المعرض هو موضوع مسرحى بالكامل من ألفه إلى يائه ولتأكيد ذلك يضع زوسر مرزوق خلفية سوداء لمعرضه الحداثى الإطار ، والمتأرجح بين التجريد والتشخيص والحداثة وما بعدها فى بعض التماثيل ، وخاصة تمثال ( شيزوفرينيا ) الذى يتخذ شكل رسغ يرتفع باطن كفها ليمسك الإبهام والسبابة فيها بوردة إمساكهما بريشة أو قلم ، على حين تنفرد الأصابع الثلاثة الباقية منتصبة إلى أعلى على هيئه توحى بالتوعد ، مما يخلق تعارضاً معنوياً بين فكرة التودد وفكرة التوعد فى منظور واحد ، كذلك ينتهى النصف السفلى ( كوع الرسغ ) نهاية أقرب إلى شكل سمكة وحشية ، ويظهر التعارض فى اتجاه الحركة حيث يصبح للحركة فى هذا التمثال اتجاهان أحدهما يندفع عكس الاتجاه الآخر ، أحدهما هجومى والثانى سكونى ينطوى على حركتي التودد والتوعد المتناقضتين . وبذلك يتجاوز زوسر قاعدة أساسية في مجال النحت الذى يعتمد على نقطة ارتكاز واحدة هى مناط اتجاه عين المشاهد ، مهما يشتت نظراته فى أنحاء التمثال بتكويناته وكتله وفراغه . إلا أن زوسر يجعل لهذا التمثال ( شيزوفرينيا ) نقطتى ارتكاز ، ربما لتأكيد المعنى على حساب قاعدة أصولية فى فن النحت . ولا شك عندى أن للمسرح دوراً أساسياً فى هذا الخروج أو التجرؤ ذلك أن زوسر تعامل مع منحوتاته هنا انطلاقاً من قانون فن آخر ، إلى جانب تغليبه للموضوع على حساب القاعدة الأصولية ، وليس على حساب الشكل الفنى، إنما هو يتبع القاعدة العامة فى فن الإبداع أو التأليف عامة تلك التى تنطلق من موضوع أو فكرة مجردة تستدعى الشكل بدلاً من التزام حدود الشكلانية فى النحت حيث الشكل أولاً والشكل ثانياً والشكل أخيراً .
- الحركة والتحريك في منحوتات زوسر مرزوق الدرامية :
- يأتى التحريك من خارج الكتلة ولكن الحركة تنبع من داخل الكتلة ذاتها كحركة إرادية ، لها باعثها الداخلى وفى أعمال زوسر النحتية التى تضمنها معرضه الخامس والعشرون قطع نحتية ذات ملامح درامية تشكل فيها الكتلة الرئيسية دور محور الصراع وتشكل فيها الكتل الجزئية الخارجية التى تقتحم عالم الكتلة الرئيسية المحورية دور محرك الصراع ، بذلك تتشكل الصورة الصراعية للعمل النحتى من صراع الكتلة المحورية فى مواجهة هجمة الكتل الطفيلية الدخيلة التي تفرزها ، وذلك ماثل في تمثال ( الطفيليون ) الذى تواجه فيه الحركة حركة أخرى مضادة لها فالكتلة الرئيسية مقيدة بقيد مادى من أطرافها السفلية والعلوية ، وباطنها مفتوح دون إرادتها والطفيليات تتناهشها وتنتقص من جزئياتها وذلك كله يشكل تحريكاً ، وهو تحريك لأنه غير نابع من إرادتها ، ولكن حركة الطفيليات المقتحمة لباطن الكتلة أو الجسم الذى شقت بطنه فهى حركة إرادية داخلية نابعة من الطفيليات ذاتها، فهى مظهر من مظاهر سلوكها الغريزى ( إرادة الحياة ) حيث لا حياة للطفيليات بغير توالد متطفل على حياة أصابها المرض أو العطب . من هنا تضمن التكوين النحتى فى هذا التمثال مظاهر الحركة ومظاهر التحريك معاً. ويتضمن تمثال ( صراع) مظاهر الحركة ومظاهر التحريك ايضاً حيث تتجاذب كتلتان جانبيتان مختلفتان كتلة رئيسية تحتل مركز التكوين لها مظاهر الثبات والرسوخ مما يعكس حركة مقاومة إرادية نابعة من ذاتها فى مواجهة محاولات تحريك طرفى التنازع والصراع عليها ، بهدف حيازة أحد الطرفين لها ، كما تشكل عملية جذب الطرف الأيمن من الكتلة الرئيسية المقاومة نوعاً من محاولة التحريك للكتلة الرئيسية وللكتلة لها ، وتمثل حركة الجذب المعاكس فى تمثال ( النعامة و .. ) حيث تخفي النعامة رأسها في الرمال وبإرادتها وتهجم الكتلة الهلامية المتوحشة عليها لتصبح كتلة النعامة فى وضعها ذاك بين مخالب الكتلة الهلامية الوحشية ، فإذا كان إخفاء رأس النعامة فى الرمال إرادة ، وكانت هجمة الوحش الهلامى أو العولمة إرادة تشكل كل منهما حركة نابعة من ذات كل من الكتلتين إلا أن كل حركة منها هى محاولة تحريك للطرف الآخر تواجهها حركة مقاومة مستميتة ، فبين الابتلاع ومقاومته تكمن مظاهر الحركة والتحريك فى تلك المنحوتة لتكتمل فيها الصورة الدرامية .
- الحركة والسكون والثبات في تمثال ( لا نسمع . لا نرى . لا نتكلم ) :
- وإذا كانت الحركة والسكون والثبات ثلاثية مزدوجة الحضور فى الزمان والمكان فإنها أيضاً المظهر الدال على الوجود الفاعل فى المطلق وفى المقيد معاً وعلى الرغم من أن تمثال ( لا نسمع . لا نرى . لا نتكلم ) الذى هو من حيث المظهر الخارجى أو الإطارى عبارة عن ثمرة ثوم مكبرة أو متضخمة بحكم كونها - هنا - عملاً فنياً لابد من المبالغة فى تجسيده وإبداعه إلا أنه يحمل بداخله طاقة كامنة ومقيدة وممسوك بتلابيبها حتى لا تنطلق خارج حدودها الإطارية التى قيدت بداخلها . وإذا كانت من وظائف ثمرة الثوم فى الحياة المعيشة فى مصر على مر عصورها منذ فجر التاريخ هى التطهير وتنقية الدم ، فإن اختيار الفنان زوسر مرزوق لهذه الثمرة ليبدع استيحاء من شكلها الطبيعى عملاً نحتياً يحبس فى داخله الطاقة الإنسانية الخلاقة لائذة بالصبر أو التصبير ومتخلصة من الشحنة الانفعالية الحرقانية - بلغة علم النفس - وفى حالة كمون لم يكن اختيارا عشوائياً أو تلقائياً فحينما تشعر الطاقة الإنسانية الخلاقة بأنها تتسرب وتتجزأ وينفلت منها عنصر من عناصرها فإن فى لوذها بوسائل الحماية وعملها على تنقية مادتها حفاظاً على جوهرها يصبح أمراً حكيماً ، إذ أنها تتوقف عن مظاهر الحركة أو أطرها الخارجية مع أن الحركة قائمة . وكامنة أو ساكنة فليس معنى عدم اهتزاز أغصان الأشجار أن الرياح غير موجودة . إذن فعدم الرؤية عدم السمع وعدم القول هو نوع من الادعاء تأكيداً لموقف مما هو حاصل على مستوى الواقع المعيش فالرؤية والسمع حاصلان والتعبير عن حدوثهما قائم وماثل لكن التعبير عن عدم إعلان موقف رافض لذلك المرئى المسموع والمرفوض هو الكامن والمدخر والمتحفز عندما تحين لحظة التفجير الخلاق .
- فالسكون إذن هو إرادة ادخار الحركة أو تعمد تأجيل مظهر وجودها الفاعل . مع أن حالة الانفصام أو الشيزوفرينيا قائمة فى التمثال التالى فى ترتيب الأعمال النحتية لهذا العرض ، إلا أن ذلك الانفصام لا يخص الطاقة المفكرة الكامنة فى تمثال ثمرة الثوم حيث الادعاء بعدم الرؤية أو السمع أو الكلام وإنما الانفصام خاص بالفعل الرسمى بالإرادة القادرة على المنح والمنع ، والتى يجسدها تمثال شيزوفرينيا الذى يستوحي الفنان إطاره الخارجى استيحاء سيريالياً إذ أنك ترى فيه صورة ذراع ممتدة فى استعلاء لتمنح الغير فى المطلق أو قل لتمنح الفراغ الأثيرى رمزاً للجمال وللمودة تمنح الكون كله وردة ؛ فإنك فى الوقت نفسه ترى فيه وحشاً بحرياً شرساً ينطلق فى حالة سباحة غطسية نحو الأعماق السفلي بنصفه العلوى الذى هو على هيئة اليد المانحة ، وذلك يذكرنى بالمنح التى تقدمها دولة كبرى على رأس النظام العالمى الجديد إلى دول العالم الثالث فهى تقدمها بأطراف أصابعها بينما يتراجع زندها إلى الخلف رجوعا ارتداديا يجر الدولة الممنوحة نحوه ويجتذبها إلى داخل كهف نظامها أو نفقها المظلم. وعلى المستوى التشكيلى وجمالياته فإن عين المتلقى هى الممنوحة وهى المغرر بها . وهى التى يجتذبها مركزا الثقل أو مناطاً التشكيل التعبيرىالساحر والماكر معاً إلى أعماق كهفها المسحور تمهيداً لإفتراسها على مهل فى خلوة دموية . ولأن الأنفصام صفة فى المانح ليس صفة فى الممنوح المغرر به ، لذلك نجد له وجوهه الظاهرية التى يجسدها التمثال التالى له فى بروتوكلات التلقى فى معرض زوسر مرزوق للمنحوتات الدرامية وهو التمثال المعنون بـ ( البيروقراطيون ) فهو تكوين هلامى تمتد أذرعه الأخطبوطية المتحوصلة على حواصل وغدد دموية منتفخة من طول ما امتصت دماء العاملين المخلصين أو هواة العمل الخلاق والمبدع . فالتكوين يشغل الحيز كله وله عيون فى كل اتجاه . حتى أنك لا ترى فى ذلك التكوين المخيف سوى الأذرع الأخطبوطية والأعين المتناثرة فى كل أنحاء رأسه والكروش الحمراء المتحوصلة على خلاصة جهود هواة العمل الخلاق والمبدع والمخلص ، وهي كروش محاطة بالأذرع الطويلة - حسب الصفة التى يحلو للدولة العبرية أن تطلقها على نفسها . وهنا يصبح من حق كل من شاهد ذلك المعرض الصرخة التحذير والنذير أن يتساءل ترى على من يحل الدور ليتوافق تساؤله مع عنوان التمثال الأخير .
- ومن مكر اللقطة الفنية للفنان زوسر مرزوق ، ودقة اختياره النابعة من خبرة الفنان لديه وقوعه على نموذج الذبابة الذى يستوحيه ليعبر من خلاله عن المضمون ألما قبل الختامى لمعرضه أو رحلة التلقى فى عرضه المسرحى النحتى .
- فمن الخصائص الحياتية للذبابة الحط الفجائى المنحط على كل موجود مع خفة الانطلاق منه إلى الانحطاط المنقض على غيره ، دون وقفة تساؤل ذبابية ( على من الدور ؟) إنما التساؤل الاستنكارى هو من طرف المتلقى الناقد دون غيره إن زوسر لا يترك المتلقى يذهب كما جاء بعد أن استمتع بما شاهده وتفاعل مع قيمة الموضوعية والجمالية ، وإنما يفعل ما يفعله العرض المسرحى الملحمى السمات والأهداف ، إذ يحض المتلقى على أن يكون له موقفاً ما تجاه ما عرض عليه عن طريق الفن الإبداعى المخصوص وفق شروط ذلك الفن النابعة منه للظاهرة الحياتية فى مجتمع أو بيئة بعينها ، حتى يقف منها موقفاً نقدياً يستحسن الحسن ويستفز من القبح وينفر منه . وذلك بالقطع لا يصل إلى المتلقى دون أن يظهر الشائه فى الجميل والجميل فى المشوه من اللقطة أو الإبداع الذى صوره أو شخصه أو جسده وعرضه من ثم على المتلقى المشارك لا المتلقى المستهلك اتخاذ موقف ما من فضية معروضة عليه .
- وقبل أن يترك المتلقى المعرض فإنه لا يتركه متشائماً بتأثير السلبيات الظاهرة الاجتماعية فى المستوى الأعم أو سلبيات الحركة المسرحية المصرية فى المستوى الخاص من تأثير الخلفية السوداء أو المدى الأسود المحيط بتلك الظاهرة الاجتماعية أو المسرحية السلبية . فإن الفنان زوسر المدرك لدور الفن الحقيقى الذى يبشر ولا ينفر فقط والذى يستشف ويوعز بأفق التوقعات ويشير من طرف خفى إلى المأمول لذلك يترك جزءاً من خلفية تماثيله مساحة بيضاء لا سوء فيها تمتد حتى باب الخروج من قاعة العرض .
- غير أنه يستوقفه وقفة أخيرة أمام تمثال بلا نهاية فى دائرية الفكرة الأساسية وراء رحلة التلقى وهى التى تتضافر فيها فكرة تواصل الأجيال الذى يوقفه لا نهائية الدوران فى فلك ظاهرة الانفلات والفساد والتسيب .
- المقولة الدرامية بين تمثال البداية وتمثال النهاية :
- يوحى الضوء والظل فى العمل النحتى الذى تعمد زوسر أن يطلق عليه ( بلا نهاية ) والذى يضعه من حيث الإخراج العام لأعماله النحتية فى معرضه الأخير .
- يوحى التناغم بين الضوء والظل بالحركة اللانهائية للتكوين الكروى الصغير المصمت فى داخل دائرة مفرغة أكبر فى محيطها الداخلى الزلق والمدرع بمحيط خارجى خشن وأكثر سمكاً .
- ويطبع التدرج اللونى من الأسود إلى الرمادى فالأبيض فى نعومة تمازجها داخل التكوين اللونى للتمثال مع درجة من اللون البنى التى توهم بها الإضاءة الخارجية المنعكسة على عين المشاهد يطبع بصمته على وجدان المتلقى بالإضافة إلى البرودة التى تنتقل انتقالاً لا شعورياً إليه بتأثير ذلك التدرج اللونى المتناغم إلى جسد المتلقى فتصيبه برعشة فنية خفيفة بفعل اللون الفضى وإذا بالضوء الداخلى للتمثال بتأثير الإضاءة الخارجية المنعكسة عليه يضع المتلقى أمام دوامة تجتاح الكرة الصغيرة المصمتة المنزلقة فى سرعة فائقة داخل ذلك التجويف الكروى المفزع ، بما يعكس لا نهائية الدوران فى الفراغ الداخلى لذلك التكوين الكروى الزلق ، وبما يوحى بضآله تلك الكتلة الكروية الصغيرة المصمتة فى هذا الفراغ الكبير .. الواسع.
- غير أن الفنان لا ينسى أن يعكس أمله فى انزلاق الكرة الصغيرة المصمتة خارج إطار ذلك التجويف الفراغى فى محاولة الانفلات من أسر تك الدوامة الفراغية ، وربما ساعد اللون الفضى لذلك الفراغ أو التكوين اللانهائى المجوف مع الانفراجة أو الانحرافة فى ناحية من نواحى ذلك التجويف الدائرى الفضى على احتمال انزلاق تلك الكرة الصغيرة المصمتة وهى المعادل النحتى لعالمنا المسرحى وإن شئنا قلنا عالمنا المصرى أو العربى ، وبذلك فهو يرى أن هناك أملا فى الخلاص .
- وتلك هى قيمة الفن الحقيقى أن يترك الباب موارباً أمام بصيص النور المأمول أن يتسرب شعاعه من عالم المستقبل .
بقلم : أبو الحسن سلام
مجلة : إبداع ( فبراير 1999 )
زوسر مرزوق.. رؤية نحتية متميزة
- مدخل عام
- لعل فن النحت، هو من أعظم ما قدمته الحضارة المصرية القديمة إلى التراث الإنساني، إذ بقى شاهداَ على عبقريتها بتفرده وغناه وتنوع ملامحه، واتساقه كنتاج لطبيعة زراعية مستقرة، وكضرورة لعقيدة مقدسة، فقد حفظت الطبيعة الزراعية له ملامح واضحة وخطوطاَ محددة، وعلاقات حميمة بين استقامة النماء، ورحابة الامتداد الأفقى الصريح، مما صنع لدى النحات المصرى القديم، إدراكاَ عالياَ للاتزان والنظام وهندسة، كما حقق له التنوع فى الديانات المصرية، كعبادة أوزوريس وعبادة رع وثورة إخناتون الدينية، تعددا فى الملامح والأشكال، برغم إطاره النمطى, وقوانينه البنائية الثابتة... فقد أرست الدولة القديمة، من خلال عهود أسراتها المتتالية، دعائم النمط المصرى فى النحت، المبنى على العلاقة الحميمة بين رسوخ الكتلة وصراحة الخطوط المحددة لها ورشاقتها معا. وتعبير ملامحها عن الجلال والنبل والاستقرار، من خلال نتائجها النحتية، كتمثالى زوسر وخفرع، محققة درجة عالية من التوفيق بين هندسة البناء ومثالية التعبير.
- ثم أتت ثورة إخناتون بعد ذلك، لتفتح بواقعيتها أمام الفنان، طريقاَ للتعبير عن العواطف والانفعالات، محققة واقعية تعبيرية متحررة، دون الإخلال بقوانين البناء وخصوصية الحس المصرى.
- ويختتم النحت المصرى رحلته، بتلك التماثيل الصريحة الهائلة `بأبو سمبل`، التى اجتمعت فيها مقومات النحت المصرى القديم، وبراعة التوفيق بين الشكل والخامة والتعبير معاَ.
- ويأتى الإغريق بعد ذلك بالهلينية إلى مصر، ليخلفوا بتماثيل `التناجرا` الجنائزية الرقيقة الدقيقة، إضافة لرحلة النحت بمصر، تمثل انتقالاَ له من فن للحكام (الآلهة) إلى فن للعامة.
- وتنتقل مصر إلى العصر القبطى، ويتحول النحت إلى حليات معمارية، أو منحوتات بارزة خشبية وحجرية وعاجية، نحتها المصرى بأسلوب مباشر متواضع، ذى حس شعبى، يحمل رموزاَ دينية بسيطة، وقدراَ عالياَ من التعبير.
- ويبدأ العصر الإسلامى بعد ذلك ليضفى على النتاج الفنى حساَ جديداَ تجريدى الملامح، مرتبطاَ بالعقيدة، حاملا مضمونا توحيديا، يأتى من تكرار وحداته وترددها فى استمرار لا ينقطع، فتبدو وقد `جهلت` فى بناء سرمدى أعظم هو `الله`. ومع أن الحضارة الإسلامية لم تترك نتاجاً نحتياً مميزاً بين فنونها، فإنها خلفت منحوتات مرتبطة بالعمارة والفنون التطبيقية، بدت برغم ارتباطها هذا، ذات ملامح متفردة وحس غنى تجلى فى تلك الأفاريز الخشبية التى كانت تزين الأبنية، حاملاً أشكالاً لشخوص وطيور وحيوانات متداخلة مع تراكيب زخرفية لينة من النباتات المتحررة إلى خطوط أرابيسكية، تملأ السطح كله فتثريه بالحركة الموحية والتبسيط والتخليص البليغين.
- كما تمثل النحت الإسلامى فى تلك الكتابات المنحوتة بارزة فى أحجار بناء الجوامع والأضرحة والأسبلة، وقد تحولت إلى إيقاعات جمالية، توافق فيها الشكل مع المضمون.
- ثم توقفت رحلة النحت فى مصر مع مجىء الغزو العثمانى، وإن ظلت منحوتات الفنان الشعبى الفخارية وفى عرائس المولد مستمرة، ولكنها لم تستطع أن تملأ غياب الفن المصرى الرائد، وظلت مصر عاجزة عن التعبير عن نفسها بأسلوبها الأصيل الممتد منذ فجر التاريخ، حتى بدأت ثانية فى مواصلة رحلة النحت مع مطلع القرن حينما أنشئت مدرسة الفنون الجميلة عام 1908، وجاء `محمود مختار` طليعة المتخرجين منها، ليكون بداية الوصل التاريخى، بما حمله نتاجه من استلام واع للتراث النحتى المصرى العظيم.
- وتدفقت بعد ذلك النتاجات النحتية المصرية الحديثة لفنانين أكفاء، تنوعت التجارب والأبحاث لديهم، وغنيت بمزاوجة الوعى بالتراث مع مفهوم المعاصرة.
- ومن بين هؤلاء يبرز اسم الفنان `زوسر مرزوق` كواحد من أفضل فنانى جيل النحاتين الحديثين الثالث بمصر.
- التجربة
- تمتد تجربة الفنان `زوسر مرزوق` منذ أن تخرج من الفنون التطبيقية فى عام 1964 وحتى الآن، قدم فيها العديد من الأعمال النحتية المتنوعة من حيث الهيئة ومنطق التناول، بل ونوعية الخامات المستخدمة، بحيث شكلت فى مجموعها رؤية خاصة واعية لمفهوم النحت الحقيقى، كشكل إيجابى يتعامل مع الضوء الساقط عليه كعنصر هام، ويؤلف مع الفراغ المحيط علاقة تبادلية، حيث ينفصل عنه تارة، منغلقاً مع نفسه بخطوط قوسية تحيطه، أو يلتحم به تارة أخرى بنتوءات تنتشر فيه ، بما يشبه الغزو له.
- وبين جسارة الغزو للفراغ والتحوط ضده، ظلت النتاجات جادة، ملتزمة إلى حد كبير بمنطقة التناول الأكاديمى للنحت ككتلة دائرية وفراغ محيط، مستفيداً أثناء ذلك بنتاجات العديدين من فنانى النحت الكبار الحديثين، وعلى رأسهم كل من `هنرى مور` فاستفاداته من الطبيعة كمصدر إيحائى رئيسى للأشكال مهما تجردت و`ألبرتو جياكوميتى` بشخوصه التعبيرية الغازية بامتداداتها للفراغ المحيط بها، و`برانكوزى` بتراكيبه المداعبة فى تنوع الضوء الساقط عليها بكتلها الصماء وأشكالها المبسطة بلا تفاصيل فى بلاغة صاهراً معطيات تجاربهم فى رؤيته الخاصة المتنامية معه فى منطقية بعيدة عن الطفرة.
- النتاج
- والحق أن أعمال `زوسر مرزوق` على تنوعها، تنحصر فى أربع مراحل رئيسية انتقل فيها من التشخيص الواقعى، إلى التجريد التعبيرى فى بلاغة، ومن الطين الفخارى للخشب، مروراً بالحجر والجص والبوليستر كخامات نحتية متعددة، مما أضفى على التجربة فى مجموعها غنى تجريبياً مغامراً:
- فقد بدأ مع منتصف الستينات فى مرحلته الأولى تشخيصياً مباشراً، يستلهم أشكال الشخوص فى الطبيعة ليقدم تراكيب واقعية ذات حس تعبيرى، انعكس عن تلك السطوح الخشبية التى تؤلف الأعمال، والتى تتأتى من استخدامه للطين فى تشكيل الأعمال وتركه لأثر فعله الأدائى بأصابعه على سطوح التماثيل. وتعد تلك المرحلة، بداية للبحث، لم يتبلور خلالها شىء متميز، إلا فيما أضافته من خبرة فى الأداء وفى التعامل مع البناء النحتى.
- وينتقل بعد ذلك إلى مرحلته التالية مع أواخر الستينات وبداية السبعينات، وقد تخلص من المباشرة التسجيلية، متحولاَ إلى التأليف التركيبى الذى يتحاور فيه التشخيص التعبيرى بالتجريد البنائى حواراً متعادلاً، يمتزج فيه هذا بذاك، دون رجحان لأى منهما على الآخر.
- وهو فى هذه المرحلة يقوم بالتحوير فى الشكل الإنساني، مبسطاً فى ملامحه، وملخصاً فى التفاصيل الطبيعية فيها، مؤلفاً من تعدد تلك الشخوص المبسطة تراكيب بنائية، لا يهم فيها الموضوع المثير الأول قدر ما يهم الإيقاع الذى تحدثه الأشكال فى الفراغ بنتوءاتها والفراغات البينية التى تحتويها، فهو يستوحى مثلاً شكلى امرأة ورجل يتحولان إلى كتلة واحدة متشابكة تتناثر فيها الفراغات، فتبدو كأنما قد تحولت إلى خطوط متنوعة بين الغلظة والتحول، تتشابك فى بناء ديناميكى تنتقل العين بين أرجائه قى تناثر غير منتظم، محققاً بذلك قدراً من الحيوية فى البناء العام للشكل، وإن بدت كثرة الفراغات والتداخلات مثيرة لقدر من التشتت إزاء التمثال، كما بدا المعنى التعبيرى طاغياً إلى حد جعل شكل الكتلة النحتية يأتى فى درجة تالية له.
- ولم يستمر ذلك طويلاً، فقد انتقل بعد ذلك إلى مرحلته الثالثة، التى تعد البداية الحقيقية لتبلور التجربة لديه وتفردها.. حيث يبدو مع منتصف السبعينيات، وقد تخلص من تعدد التفاصيل فى الشكل وكذلك كثرة الفراغات البينية وإثارة البصر عن طريق الانتقال بينها، متحولاً إلى إحداث ما يبدو كالإغلاق للخط الخارجى المستمر محيطاً بالأشكال، بحيث يصنع كتلاً مصمتة، خالية من الفراغات البينية، تبدو فى تواجدها كأنما هى مفروضة فرضاً على الفراغ المحيط محيَدة إياه، متجردة من موحيات المباشرة التعبيرية، مجردة فى بساطة وبلاغة معاً، فالضوء ينزلق عليها فى استمرار، دون تقطع محدثة إيحاءً بحركة مستمرة، تؤكدها ملاسة السطوح واقترابها فى شكل من الأشكال الكروية والبيضاوية.
- ولعل أهم ما فى تلك الفترة تعامله التجريبى مع عديد الخامات المتنوعة، حتى غير النحتية، أو التى لم يسبق استخدامها فى النحت، فبجوار الخشب والحجر، يقوم باستخدام الأسمنت مخلوطاً بأحجار وزلط، فى عمل ما يسمى بالنحت المباشر، أو البناء المباشر دون المرور على عمل قوالب كما هو متبع فى استخدام خامات غير حجرية أو خشبية، حيث يقوم بالتشكيل المباشر باستخدام عجائن الأسمنت مؤلفاً أشكالاً مستوحاة من أشكال الطيور والأسماك وأشرعة المراكب والحلزونات، مجرد استيحاء لإيقاع الشكل فى الفراغ، وعلاقة سطوحه بالضوء الساقط عليها، دون التزام بالملامح الطبيعية لتلك الموحيات، فهى بعد التجرد من هيئتها فى الطبيعة، تنتظم فى بناءات تحمل بجوار الإيحاء بالثقل والرسوخ، إيماءات بحركة دوارة حول محور رأسى تارة، أو حركة صاعدة حلزونية الهيئة، أو حركة `نطاطة` تحدثها الكسرات المستديرة والمتناثرة فوق أوجه هرمية الشكل، تبدو كأنما تدور فى تتالِ حولها فى اتجاه متعامد مع اتجاه حركة صعود أوجه الهرم المثلثية لأعلى. وهكذا يصبح الشكل الخالص، المتجرد من المباشرة فى التعبير، والمتحول عن الطبيعة المرئية نحو بلاغة التجريد هو محور بحثه، يتساوى فى ذلك أن يؤلف شكلاً حلزونياً أو كرة.
- ومع أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات تبدأ فترة إنتاجه الرابعة الفاضحة، التى بلور فيها رؤيته النحتية، وأضاف إليها، ما يعدّ غير مسبوق فى تاريخ النحت المصرى، وهو إضافة اللون للكتلة، بحيث يصبح الشكل البنائى وإيقاع الحركة فيه وموحيات التعبير واللون معا، شيئاً واحداً متكاملاً.
- فى تلك الفترة الأخيرة يبدو وقد استكمل أدواته، وأصبح الشكل هو التعبير بذاته، وليس حاملاً له كالوسيط، أى أن فعل الفن هنا أصبح فعلاً تعبيرياً بليغاً لا نستطيع أن نتبين فيه انفصالاً بين شكل ومضمون قدر ما نستشعر أنه تثبيت للخطة مشحونة بالتوتر فى شكل، وبأدوات تصنع جميعها كلاً واحداً، ذابت فيه استلهامات الطبيعة داخل بناءات ذات ملامح تعبيرية مجردة.
-فتوالد شكل من آخر، أو جثوم كتلة ثقيلة على كرات تنوء بها أو التفاف كائن ضخم حول كرة ساكنة، أو نمو إيقاع راقص متصاعد أو انطلاق حركة غازية لأعلى من السكون، كلها تعبيرات تتشكل فى هيئات مساوية لها تماماً من حيث الكتلة ومعالجة السطح وكذلك اللون المتنوع بين السخونة النارية الحادة، وبرودة الالتماع المعدنى المائل للخضرة أو الزرقة.
- فالأمر إذن لديه أصبح حواراً خالصاً بين شحنة انفعالية وهيئة تتشكل فيها تلك الشحنة، دون لجوء للتذرع بالتعبير الأدبى، على أساس أن وسائط التشكيل لا يجب أن تصبح أوعية سلبية لحمل تعبير خارجى، وإنما الشكل والتعبير معاً هما شىء واحد لا فواصل بينه.
- ولعل أبرز ملامح الشكل لدى زوسر هو ذلك التواجد الإيجابى الواضح فى فراغ سلبى محيط، حيث يصنع السطح الخارجى للأشكال استدارة تفصله ككتلة عن الفراغ المحيط، حتى لو امتدد الشكل فيه رأسياً أو أفقياً. كما أنه يبدو أيضاً حالة `وشوك` على الحركة، وذلك الوشوك من شأنه إضفاء توتر تعبيرى عالٍ على الشكل، توتر يزيد قدر التعبير دون أن يجره فى صرخات المباشرة وسذاجتها.
- كما أن الأصول الإيحائية الأولى للأشكال، والتى تتأثر من الطبيعة ثم تتجرد من ملامحها، تجعل الأمر ليس مجرد لعب بالأشكال العفوية، تسفر عن طريق المصادفة تراكيب فحسب، وإنما قدرة واعية تتيح استخلاص قانون بنائى له ثقل وبه موحيات حركة نابضة، وقادر على التعبير فى آن واحد.
بقلم : د. /فاروق بسيونى
مجلة: إبداع ( العدد 11) نوفمبر1986
|