معرض ( مسارات جيزيه ) عن أمل يكاد يختفى
- لا يقدم معرض `مسارات جيزيه` للمصورة رنا النمر صورا بقدر ما يقدم لنا مقترحا لعين أو لطريقة فى الرؤية تتكشف ملامحها شيئا فشيئا فى الصور. العين التى تقترحها صور النمر هى عين لا تبحث عن نماذج الجميل فى الواقع، ولا ترغب فى رسم معالمه أو استكناه طبقاته، وإنما تسعى ببساطة لتوثيق غياب عنه . فهى تنظر إلى الواقع الجامد حتى تعثر على الفرجة التى ينفتح فيها هذا الواقع فيطل منها أثر مقاومة من يسكنوه من خلال تفصيلة بسيطة.أسلاك من مصابيح النيون البيضاء معلق عليها ما يشبه فانوس رمضانى أحمر وبرتقالى، الفانوس يتأرجح وسط بنايات من الطوب الأحمر الكابى، أو أكاليل من الورود الحمراء والصفراء أمام محل ورود تؤطره عناقيد خضراء وخلفه سور رمادى لمنطقة سكنية.
- تفاصيل حياة الغائبين عن المشهد الذى تعرضه الصور، سكان هذا الواقع، هى ما يظهر أن عين النمر تهتم به فى هذا المعرض وتسعى إلى العثور عليه، تفاصيل هشة مثل طاقية برتقالية مطرزة بالأزرق تتدلى بسلام فوق حبل غسيل، أو أكياس غزل البنات الزاهية الألوان المسنودة على حائط فى حارة ناعسة تركها صاحبها وذهب ربما ليشرب جرعة ماء أو ليستريح بجانبها، أو الكيس الأزرق الملقى بإهمال على رصيف بجوار أشجار مزروعة بانتظام، أو حوار الجرافيتى الصامت على أحد الجدران حيث تظهر مساحات مرقطة لكلام مشطوب بمسحات لونية فاتحة وأخرى داكنة.هذه التفاصيل وغيرها هى هدايا المعرض المغلفة فى ورق سوليفان شفاف، هدايا تمنحنا الأمل لأنها تكشف بشاعرية مرهفة عن إمكانية خروجنا منتصرين ولو للحظة من معركة الواقع الطاحنة .
- لا تسعى صور النمر من خلال البحث عن أثر الغياب وتوثيقه إلى كشف آليات التغييب بقدر ما تسعى إلى رصد أمل يكاد يختفى أو لا نكاد نلحظه فواقع منطقة الجيزة التى تشكل مسرح معظم صور المعرض هو واقع محاط بغلالة ترابية وتحدده عمليات اجتماعية معقدة تركت ندوبا واضحة فى جسده،عمليات مثل الترييف والتحضر، أو انفجار الأحياء العشوائية مصحوبا بنشأة أحياء أخرى منظمة على تخوم المدينة القديمة وسط هذا الواقع الكابى والموحى بخراب لا مفر منه تظهر فجأة حديقة شيطانية مفعمة بالحيوية فى الباحة الخلفية لمبنى صغير بائس من الطوب الأحمر، أو تطل علينا أضواء بنايات قيد الإنشاء فى حى قد يكون أحد الأحياء الفقيرة المتاخمة للطريق الدائرى، هذه البنايات غير مكتملة الواجهة بعد لكن غرفها التى نراها من الخارج مزينة - من أجل الإعلان عن وجود شقق خالية للبيع فيها - بأنوار زرقاء وخضراء وبرتقالية وحمراء تكسر ملل أنوار الإضاءة الصفراء القادمة من الشارع.
- ألوان الأمل فى مواجهة رمادية الواقع ليست هى فقط ما يجتذب عين النمر، فهى لا تبحث عن التناقض وإنما عن البقع الرخوة فى الواقع التى تحدث فيها أشياء يمكن أن تكون باعثة على الأمل أو على الأقل على الابتسام - كالتعليق الذى تقدمه لنا بعض صور لمعرض على الوضع ما بعد الحداثى للمدينة، حيث نرى فى أحداها تمثالا حجريا لدينا صور صغير تظلله الأشجار ويقف بجوار بوابة أنيقة لعمارة يصعب تخمين مكانها، أو نرى فى صورة أخرى عيش غراب حجرى يقف بجوار ما يبدو أنه طيور بجع حجرية تفر مذعورة من السيارات المسرعة المارة، وفى خلفية هذا المشهد العبثى نرى عمارات حديثة البناء .المدينة فى أطوارها العليا وكما أنتجت جحيم المناطق العشوائية، أنتجت أيضا الفراديس الاصطناعية للمدن الجديدة، والتى تنمو كالفطر على تخومها فى إحدى الصور نرى فى المقدمة أعدادا كبيرة من أجولة بلاستيكية محشوة بما يبدو أنه مخلفات تليها بعض الأشجار القصيرة تطل من ورائها ما يمكن أن يكون برج قلعة مستنسخة من قلاع القرون الوسطى الأوروبية، قلعة لا يمكن أن تكون مشيدة سوى فى إحدى المدن الجديدة التى تتزايد على طول التخوم الغربية من الجيزة .
- بساطة الصور وعرضها كما هى بدون أى معالجات أو رتوش ينقل تركيز المشاهد من الصور إلى العين التى تقف وراء الصور، ويدعوه إلى تجربة هذه العين عمليا .عندما يسير المرء غريبا فى منطقة سكنية لا يعرفها ثم يرى منديلا بنفسجيا ملقى على أحد الأرصفة فتهدأ وحشته، أو عندما يقف المرء أمام مكتب موظف بيروقراطى هوايته تعطيل المراكب السائرة ثم يتطلع حوله فيجد مكتبا صغيرا فى الركن مغطى بمفرش أخضر موشى بخطوط زرقاء وعليه علبة مناديل فتهدأ أعصابه قليلا، أمام مثل هذه المشاهد أعصابه قليلا، أمام مثل هذه المشاهد يتذكر المرء عين رنا النمر ممتنا لفسحة الأمل التى أتاحتها.
هيثم الوردانى
أخبار الأدب - 25 /3 /2012