ملتقى الأحجار .. وأمير البناء المركب
- يعد ملتقى الأحجار بحديقة متحف محمود مختار بالجزيرة مدرسة لفن النحت المعاصر فى الحجر بشكل دائم .. ونحن الآن نستعد للاحتفال بالنجوم التسعة للدورة الأولى الذين أبدعوا أعمالاً نابضة بالمشاعر وسيتم تكريمهم بتشريف الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة وإهداؤهم `الهرم الذهبى` شعار قطاع الفنون التشكيلية، وشهادة براءة إبداعية تقديراً لكل مثال على ما أبدعه، تاركاً تمثاله ليعيش بين الناس فى إحدى الحدائق العامة ، واليوم نلتقى مع المثال ` أمير الليثى` والمولود فى الثالث من شهر مايو العام 1976 بالسعودية والحاصل على بكالوريوس كلية التربية الفنية العام 1998 -وتمهيدى ماجستير بمعهد النقد الفنى العام 2000 - وشارك فى العديد من المعارض نذكر أهمها (صالون الخريف للأعمال الفنية الصغيرة ، معرض الطلائع الثامن والثلاثين العام 1998، صالون الشباب الخامس عشر العام 2003 ، وقد أبدع تمثالاً كائناً فى مدينة تشيترا Chitre بجمهورية بنما العام 2000-2001 ` كما شارك فى تصميم ديكورات `فيلم المصير` العام 1999، ومن خلال تأملنا أعمال المثالين التسعة نكتشف الكثير من القيم والمواهب الكامنة فيهم والمؤكدة على مدى أهمية تكامل الفنون وتوحدها وخاصة فنون صناعة السينما والمسرح فهى فنون شاملة تجمع تحت عباءتها الإبداعية الأديب والشاعر والموسيقى والفنان التشكيلى والمخرج وكاتب السيناريو ، والمثال أمير استطاع بقدرته الفكرية والفنية أن يحول الكل ` وهى الكتلة الحجرية الأصل ` إلى مجموعة من الحجوم المختلفة القياسات والأوضاع والأشكال أى حول الكل إلى جزئيات .. بمعنى تفتيت الكل وإعادة بنائه من جديد، وهذا لا يعنى أنه كان بناءا مسبقاً وتم تفكيكه .. ولكن كونه كتلة جسدتها التراكمات الزمنية والجيولوجية والتاريخية فى نسيج الجبال الحجرية الأبدية وايضاً كونها قطعة ذات حجم كبير اقتطعت من هناك ليقف أمامها المثال أمير وكأنه فى حوار -مع ندٍّ- لا تحده حدود دنيا أو عليا .. حوار المشاعر المتدفقة والتأمل والاستغراق الإنسانى والجمالى فى مسام هذه الكتلة .. حوار التحدى بين الروح والجماد .. حوار تتصارع فيه الأفكار وتتألق حوله تواترات الرؤى المتتابعة -بدون هوادة- للسيطرة والانتصار عليها والتحكم فيها والبدء فى اختراقها بواسطة الأنامل الأزميلية لتشكيلها، دون توقف الحوار بين الرؤية والروح والحجر ، فجمع الفنان بين أضلاع إبداعه، ثقافته المليئة بالموروث الفنى المصرى القديم والخطوط المعمارية المعبدية الحادة والمائلة فى الصعود .. فشكل الكتلة من أحد اتجاهاتها الرأسية والعرضية كأنها اختزال لواجهة معبدية تتوسطها أحجام مكعبية، منها الثابت فى الأرض ثم المتحرك إلى أعلى والآتى من الداخل ليلمس ضلعه المقابل لسطح الكتلة .. كأنه يتحرك بفعل طاقة كامنة فى أطرافه مما يضفى حركة وتناغماً يتزايد كلما تأملنا المثلث الأجوف العميق الملئ بالظلال القاتمة بفعل عمق وزوايا الضوء كأنه عمق ملئ بأسرار الحجر العتيق، ويعلوه مكعب آخر يتراقص فى ثبات وعكسىّ الحركة عن الآخر، يعلوه فراغ سماوى - وكأنه ينزلق إلى أعلى - وكأنما وجد الخلاص الكونى لينطلق فى ثبات الرؤية .. ولكن الفنان بذكائه وحلوله البنائية التشكيلية أيقن البعد التعبيرى الذى أضفى عليه كماً من العلاقات الرمزية، فخروج الجناحين من النصف العلوى للمكعب المنزلق ثبت من قوة البناء المركب والمعاكس لحركة الميول لـ (العلوى) بل احتضن الهيئة المعبدية فى حميمية وتوحد بفعل الخط المستدير للجناحين .. وبعنف، لكون الجناحين قد بثَّا الحركة فى حدود عليا فأحدثت تواتراً بصرياً ، كما أدت إلى إيجاد توازنٍ وتجانس بين الحركة المنزلقة والثبات المحكم ، وتكاملاً بين عضوية الخط المنحنى النصف دائرى وبين ثراء استقامة الخطوط الحادة والغالبة فى التمثال ، واتجاهات خطوط الكتلة النحتية التى تراكمت كونها بناءاً موسيقياً يداعب الفراغ السماوى بإيقاع بارع الأداء .. ويذكرنا هذا التمثال المثير جمالياً بالأحجار العملاقة التى بنيت بها الأهرام، والكتل الحجرية التى نحتت كتوابيت للموتى والأحجار المستطيلة العملاقة التى تربط بين أعمدة معبد القصر ، فالتراث المصرى القديم خلَّف بصمة غنية وثرية فى قاع ذاكرة المبدعين المصريين الذين أصَّلوا لفنونهم بعيداً عن مرض التقليد والاقتباس ، فالنحت المصرى القديم علمَّ العالم كله مبادىء الفن ، ومثالنا النجم أمير الليثى حفيد حقيقى للأجداد العظام فى عصر غاب فيه فن نحتى حقيقى .
أ.د. احمد نوار
جريدة الأخبار- 2004