محمد سيف الدين إسماعيل محمد وانلى
سيف وانلى وغنائية الألوان
- اننا لا نلمح عند سيف ما نلمحه لدى بعض الفنانين من خط ثابت متصل الحلقات ، ولا نلقى عنده اتجاها نحو تأكيد شخصيته الفنية عن طريق الالتزام منابع بذاتها من التراث المصرى أو فلسفة معينة تتعلق باتجاهات التعبير الفنى فى هذه البلاد ، فهو فنان التجرية الحره الطليقة ، صاحب التأثيرية .. واعتنق المنطق التكعيبى ، وتطلع نحو التعبيرية ، وأخذ يحلق فى عالم التجريد فهو دائم البحث عن اللغة التشكيلية التى يصب فيها عمله ، ودائم البحث فى لغة الأساليب .
بقلم : بدر الدين أبو غازى
من كتاب رواد الفن التشكيلى
فرسان البحر
- اذا ذكر البحر فى التصوير المصرى الحديث ، فليس من هو احق بالكلام عن عطائه فى هذا المقام بعد محمود سعيد اكثر من سيف وانلى الذى لم يكتف بان يستعير فى الوانه الصفاء والشفافية من بحر الإسكندرية بل كان ايضا مثل منارها وسفنها الغادية الراسخة ، ما يستحقه عن جدارة لقب ( فنان الإسكندرية ) وعندما نصفه بذلك نكون قد لمسنا ركنا جوهريا فى شخصيته وفهمنا علة ذلك التجدد والتنوع فى انتاجه . سيف وانلى كالإسكندرية ، بلده المنفتح على حضارات العالم . كل النسمات والرياح تهب على الإسكندرية جو الإسكندرية ذاته مشبع فى شكل اسطورى بتنوع فكرى متميز . لوكان سيف وانلى فنانا يعيش فى مدينة اخرى من مدن مصر لما بدا فنه فى هذه الصورة التى بدا عليها ، فقد تجاوبت لامحلية الاسكندرية جغرافيا وتاريخياً بمزاج سيف وانلى الذى لا يهدأ له قرار .
بقلم : د. نعيم عطية
من كتاب المكان فى فن التصوير المصرى الحديث
النهر يتدفق
- موهبة سيف وانلى ككاشف افاق مفتون بابداعات الفن الغربى ، كانت ديناميته وروحه القاق كنحلة لا تكف عن التنقل من بستان الى بستان لتلاحق منجزات الفن الحديث وتمتص رحيقه لتفرز عسلا ذا مذاق جديد الا انه كان اكثر اتساقا مع نفسه فى ذلك فلم يحاول أن يزوج هذه التيارات الغربية للمنجزات الحضارية فى فنوننا الموروثة .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( منجزات التصوير المصرى الحديث )
سيف وانلى ( رسام )
- تميز سيف وانلى بتنوع شديد فى انتاجه كفنان خلاق .. وكان يسابق الاتجاهات الفنية الحديثة والمعاصره التى ظهرت فى الغرب ، فاهتمامه بالفن العالمى الغربى كان اقوى من حرصه على الطابع المحلى ، وقد اشتهر بلوحاته المتميزة للراقصين والفنانين والممثلين فى عروض البالية والاوبرا التى كانت تفد الى مصر من مختلف دول العالم ، كما كان سريع التنقل بين مختلف المذاهب الفنية مضيفا اليها طابعا خاصا يميز اسلوبه الذى تنعكس عليه طبيعة مدينة الإسكندرية .
بقلم : د. صبحى الشارونى
من كتاب متحف فى كتاب
ساحر الالوان
- لقد رسم سيف كل شىء يحيط به .. اينما كان .. وفى اى لحظة نهارا أو ليلا وفى ظلام قاعات المسارح .. اساسا كان ينفذ أعماله بالألوان الزيتية أو الجواش أو الاقلام السوداء والملونه .. ولكنه كان يرحب بأى وسيط أخر يجده امامه .. بقايا فنجان قهوة .. رماد سيجارته التى لم تكن تفارق شفتيه ابداً مثل ابتسامته الطيبة الصادقة .. كان سخياً ثريا فى عطائه الابداعى .. لم يكن يعنيه كم ما يرسم وهل سيؤثر ذلك على اسعار أعماله فيما بعد .. أو تنقله من اسلوب الى اسلوب .. كان يشعر داخل ذاته بأنه فى النهاية يقدم نفسه وفنه الخاص به .. أحاسيسه الداخلية وترجمته للواقع برؤية جمالية سكندرية بحته .
بقلم : عصمت داوستاشى
مجلة الهلال أغسطس 1994
- على خشبه المسرح الأوبرا أكتشف سيف وانلى أن البشر نغمات لونية تتباعد وتتقارب فى لوحة الحياة .
- براعة فى البساطة رغم تعقيدات الحياة التى تواجهها .
- لوحاته لحن حالم .. زهرة بسيطة رقيقة تخفق أوراقها الرقيقة بحب الإنسان وتغنى للحياة .
- ميلاد فنان
- تقول شهادة ميلاد فنان الإسكندرية الكبير : ـ ولد سيف وانلى فى 31 مارس سنة 1906 واسمه الحقيقى محمد سيف الدين أما أسم والده فكان إسماعيل بك محمد وانلى أما والدته فهى عصمت هانم الداغستانى .. ولد على يد الداية التركية صالحه أفندى وجده السنجق محمد وانلى باشا .
- سيف هو الطفل الخامس بعد أربع بنات ولقد ولد أخيه ادهم واسمه الحقيقى إبراهيم أدهم فى 25 فبراير سنة 1908 أى بعده بعامين .
- تنتمى أصول وانلى إلى بحر قزوين فكلمة وانلى هى أسم جزيرة فى القوقاز - أما أصول عائلة الداغستانى ( عائلة الأم ) فهى تنتمى إلى المغول وأمراء الداغستان وكما ذكر الفنان الراحل رشدى إسكندر فى كتابه ، كان منزلهما الذى ولدا فيه هو سراى عرفان باشا بحى محرم بك بالإسكندرية وسط الثراء وسعة العيش وحيث وجد كل من سيف وانلى وأدهم كل المظاهر الجمال تحيط بهما من كل جانب الحديقة والأزهار والأشجار والمكتبة العامرة بمختلف الكتب والأسطوانات الموسيقية - لوحات بالخط الفارسى ورسوم إيرانية وتركية ، وهكذا لم يخرجا من فراغ .
- لم يلتحق الأخوان وانلى بالمدارس وإكتفت الأسرة بدراستهما على يد مدرسين فى القصر ، وكان لوجود مدام إيدول مدرسة اللغة الفرنسية أثر كبير إذ وجهت اهتمامهما للمتاحف والرسم وأشهر اللوحات الفرنسية .
- فى أثناء ترددهما على أحد الأندية الرياضية لاحظ مدير النادى رسوما كانا يخططانها لبطل الملاكمة الإنجليزى ( جويكت ) فأعجبته رسومهما وطلب منهما رسوما أخرى لبعض الرياضيين وكأفا سيف وأدهم بساعة ثمينة لكل منهما .
- كانت هذه الحادثة أول مشجع لهما فى سن المراهقة ، وفى تلك الفترة يقول سيف إنه تعلق بعاطفة عذرية بمطلقة أسمها عفاف وكانت تكبره بعامين وكان عمره أربعة عشر سنه وبعد ذلك تعرف على ليليان ثم مايا وأخيرا بعد عشرات السنين إحسان التى تعلقت به فأحبها وتزوجها عام 1974 وكان عمره 67 عاما أما أدهم أخوه فكانت علاقته مع واحدة روسية أسمها فانى التى كانت تهتم به وبحياته والتى صادقته حتى وفاته .
- لم يكملا تعليمهما العالى فعمل سيف موظفا بأرشيف الجمرك بينما عمل أدهم بمخزن الكتب فى المنطقة التعليمية بالإسكندرية .
- نقطة التحول الكبرى فى حياتهما بدأت 1926 ففى زيارة للقاهرة قررا زيارة معرض جماعة الخيال التى أسسها محمود مختار مثال مصر العظيم ، فكان أن زاد إيمانهما بالفن بعد أن رأى سيف وأدهم تلك الأعمال الجميلة للرواد الأول وعادا إلى الإسكندرية وكلهما إصرار على دراسة الفن دراسة جادة ، ولم يكن استطاعتهما ماديا الإلتحاق بمرسم زانيرى الذى تتلمذ على يد الفنان محمود سعيد إلى أن دفع القدر بالفنان الإيطالى ( أتورنيوبيكى ) إلى مدينة الإسكندرية للمرة الثانية ليستقر فيها أربع سنوات كاملة من سنة 1930 وحتى 1934 لم يتخلف فيها أدهم وسيف وزميلهما أحمد فهمى عن الدراسة والتعليم . وقبل سفر أتورنيوبيكى ، وأثناء حفلة الوداع قال للفنان ( زانيرى ) أن الأخوين وانلى سوف يكون لهما شأن فى الفن فى الإسكندرية مثل شأن الأخوين ( بلينى جيوفانى وجنتلى بلينى ) فى البندقية ، وكان لهذه الكلمات وقع السحر على نفسيتيهما .
- كانت رحلة الفن شاقة للغاية بالنسبة لهما فقد كانت مرحلة نضجهما الفنى هى فترة ما بين الحربين الأولى والثانية وما تبعهما من ركود إقتصادى وما تلا ذلك أيضا من ظروف اجتماعية غير مستقرة بعد عام 1952 ثم حرب 1956 وقد كان من المدهش قوة الدفع الذاتية للمواهب المبدعة التى لم يكن المجتمع حينئذ ليلتفت إليها بسبب إهتمام المجتمع ككل بتدبير الحياة وإنصرافهم إليها .
- كان الفن بالنسبة لسيف وانلى وأيضا أخيه مساو للحياة ، وكانت الجماهير العاشقة للفنون ـ مصريين وأجانب - لا تترك مرسمهما خاليا فكانوا يترددون بإنتظام فلم تتركهما جماهير الإسكندرية فى وحدة . ولم يتركوا لهما مساحة زمنية للإنطواء أو الإحباط المدمر .
- لقد كان سيف وأخوه محبين للحياة وسط التجمعات الشعبية من نوادى ومراقص وحفلات أوبرالية أو باليه ـ وإستعذبا بالرسم فى المقاهى العامة وعلى شواطئ البحر وكان كلاهما يملك قوة فى تصوير الإسكتش السريع وأيضا التكوين السريع دون الإهتمام بالقيود الأكاديمية فى التنفيذ .
- للمرسم قصة
- لم يستطيع سيف وأخوه أدهم أن يدبرا مرسماً إلى أن تعرفا على صديق هو محمد بيومى الذى درس السينما فى ألمانيا والذى كان معجبا بهما محبا للفن . واتفق معهما ومع أحمد فهمى صديقهما على إستئجار شقة كمرسم لهم وفى 18 يونيو سنة 1935 بتدشين المرسم حيث حطموا زجاجة بيرة على عتبة الأستوديو ثم وضعوا بعضاً من زجاجها المهشم فى الأركان وجلسوا يرسمون جميعهم فيه .
- وفى المرسم كانت تواجههم مشكلة الموديلات والمال معاً إلى أن عثروا على رجل عجوز ذى لحية وهو ثرثار بارع فى قص الحكايات والخرافات فكانوا يستحضرون الملابس المختلفة من عصور مختلفة ليلبسها ويجلس أمامهم كموديل .
- لقد كان مرسمهم مزاراً هاماً فكان يتردد عليهم ، د. زكى أبو شادى الذى كان يطلق على الأستوديو ( المحراب ) وكان الزوار الأجانب يساهمون فى تزويد المرسم بالكتب وخلافه وكانت المناقشات حول الفن والموسيقى والشعر كينبوع جميل لجو الإبداع الفنى .
- كانت مدرسة الباربيزون مثار إعجاب سيف وأدهم وهى المدرسة الفنية التى تهتم بتوجيه العواطف الرومانتيكية نحو الطبيعة وجمالها البكر وتهتم بإبراز الأحاسيس والمشاعر أكثر من الرؤية المواجهة الواقعية .
- فى هذه المدرسة يختزن الإنسان ما يراه ويعيد إخراجه مشمولا بغلالة عاطفية من المشاعر الخلابة وهى مدرسة شاعرية أكثر منها تصويرية .
- ولكن سيف وأخاه أدهم خرجا من المرسم إلى الحياة بريشتهما الغنائية إلى البحر وقوارب الصيد وأضواء الليل وشجاه والجلوس إلى البحر ليلا .
- توفى أدهم وانلى عام 1959 متأثرا بالسرطان الذى داهمه فى رئتيه ولحق به صديقهما الحميم أحمد فهمى بعده بعامين علم 1961 .
- أصبح سيف وحيدا وداهمته الأحزان ولم يخرجه من تلك المأساة سوى اهتمام شعب الإسكندرية به ومتابعته فى مرسمه وزيارات الفنانين والأدباء والكتاب ويقول كمال الملاح وصبحى الشارونى فى كتابهما أن سيف كان يتمتع بطيبة ملائكية وتواضع جم لم يعرف به إلا العباقرة ، وذكاء فطرى وبراءة طفولية رغم المشيب والوهن والصمت والسيجارة التى لا تفارق شفتيه وبسبب شفافيته البللورية ينجذب اليه كل من يجالسه .
- ناجى وسيف وأدهم
- توجه سيف وأخوه ليعرضا أعمالهما فى صالون أتيليه الإسكندرية ومعهما عدد كبير من اللوحات فالتقيا هناك بالفنان الكبير محمد بك ناجى ومن الفنانين الأجانب ( جود فرى ثورن ) و ( ريشارد ) ومدموازيل ( ساسون ) وعندما شاهد ناجى أعمالهما إلتفت الى أدهم وقال ( إن أعمالك تشبه أعمال الفنان المجرى جول بالنت ، وأوضح لهما أنه تتلمذ على يديه وأنه معجب بفنه أشد الإعجاب .. وأردف قائلاً إن هذه الأعمال تبشر بمستقبل طيب إذا ثابرتما على العمل والإنتاج وفى هذا الصالون عرضت جميع الأعمال التى تقدما بها للعرض فكانت مفاجأة بكل المقاييس حيث أنهما لم يكونا يتوقعان الموافقة على عرض لوحة واحدة منها .
- فى عام 1936 فاز سيف بالجائزة الأولى فى فن التصوير مسابقة محمود مختار التى كانت تنظمها وتتبناها هدى هانم شعراوى الرائدة الوطنية المصرية الكبيرة .
- منذ ذلك التاريخ صعد نجم سيف وانلى وبعد ذلك ذاعت شهرته من خلال إشتراكه فى كثير من المعارض التى كانت تقيمها الجاليات الأجنبية فى الإسكندرية بالإضافة الى المعارض التى كانت تقيمها جمعية الصداقة الفرنسية التى كان يرأسها السندباد المصرى الدكتور حسين فوزى رحمة الله . وهكذا عرض سيف فى المعهد البريطانى والجمعيات المختلفة وجمعية مصر أوروبا والجمعية اليونانية والإيطالية وغيرها .
- أثارت رسوم سيف وانلى وأخيه التى أنجزاها منذ عام 1946 إهتمام الكثير من عشاق الفن حتى أن مراسل جريدة لوموند الفرنسية الشهيرة قد ارسل تعليقاً نشر فيها فى العدد الصادر 22 يونيو 1956 وقد وصفهما بأنهما خلفاء ( لديجا ) مصور الباليه العظيم .
- على الجانب الإشتراكى عرض سيف وأدهم فى الصين فى بكين وفى روسيا بموسكو فى مهرجان الشباب . ساعدت قوة التمكن فى رسم الإسكتش على تسجيل اللقطة السريعة النادرة ، وفى كل رحلة كان إنتاجهما يتفوق على الوقت فإذا بهما يخرجان بآلاف الإسكتشات والرسوم واللوحات الزيتية من خلال زيارتهما لإيطاليا وأسبانيا وروسيا والصين وكل مكان يزورانه يسجلان انطباعاتهما .
- فى عام 1957 اختارهما أحمد عثمان عميد فنون الإسكندرية لتدريس التصوير بالكلية عند تأسيسها .
- رسوم النوبة
- فى عام 1959 زار سيف وأدهم النوبة مع مجموعة من الفنانين لتسجيل ملامح النوبة قبل أن تغرقها بحيرة ناصر والسد العالى بدعوة من وزارة الثقافة .
- وإستطاعا أن يقدما رسوماً غاية فى الجمال والروعة فأصدرت الوزارة بها كتاباً بثلاث لغات لتوزيعه على مختلف بلاد العالم وقد أدى دوره فى المساهمة فى إنقاذ آثار النوبة الشهيرة .
- سيف والمسرح
- صمم سيف الكثير من ديكورات المسرح مثل شهرزاد ـ مهر العروسة ، أوبريت ( بلياتش ) و ( كارمن ) و ( لاترافياتا ) و ( لابوهيم ) ويقدر إنتاجه الفنى من اللوحات الزيتية بثلاثة آلاف لوحة زيتية وأكثر من خمسين ألف إسكتش سريع ولذلك فقد إنتشرت أعماله فى مختلف أنحاء العالم .
- رسوم الباليه وفن الإختزال
- كانت رؤية سيف لراقصات فرق الباليه الزائرة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية قد فتحت أمام عينيه عالم الأضواء الفنية وكانت رؤيته لها رؤية فرشات تتراقص فى مهرجان السناء والضوء بالمجموعات هى مجموعة من اللمسات الإيقاعية والحركة تكفى فلا أهمية للكتلة فهذه الأجساد الطائرة تتواءم وتتوافق مع ريشته الطائرة التى تنثر الألوان وفق قانون متعة اللون والضوء والواقع أننا نحس بأن فرشاة سيف هى التى تتراقص على اللوحة . إن فن سيف وانلى فى تصوير الراقصين هو فن الإقتناص السريع والإختزال للشكل واللون والإيقاع هو فن الترجمة الفورية للإنطباعات البصرية يقول سيف عن رسومه للباليه إنه يرى أحياناً خطوط المشهد على الورق دون أن يرسمها وليس عليه إلا أن يجرى ريشته عليها دون أدنى عناء ، وهذا يوضح قوة الصورة الإرتسامية .
- الموسيقى والبحر
- أحب سيف البحر وقد ذكر الموسيقار الراحل مدحت عاصم صديق عمره أن أسعد أيام سيف هى التى كان يقضيها أمام البحر يسمع منه أنغاماً لم يكن يسمعها سواه .
- ويروى مدحت عاصم أيضاً عن سيف أنه كان دائماً يقول له ( أنا موسيقى أبضاً أعزف الألوان على سطح اللوحات البيضاء ) وفى حديث عام 1978 تحدث لعايدة رزق عن البحر ، يقول سيف ( ملك هو البحر .. أشعر وأنا على ظهر مركب أننى فى حضرة ملك .. وأى ملك .. عينى لم تعد تراه .. لأنه داخلنى وملأنى فغرقت فيه ..علمنى الألوان كلها ونسماته فى لوحاتى ) .
- ويقول سيف عن الإسكندرية ( تلك المدينة العبقرية .. علمتنا الفن والأدب والموسيقى .. علمت محمود سعيد وسلامة حجازى وسيد درويش وعلمتنا أيضاً كيف نعشقها ) .
- ويقول سيف عن الإلهام :
- كل شئ مصدر إلهام فى الكون لكننى ضعيف أمام الأديرة والراهبات والكاتدرائيات .. بيكاسو قال ذات مرة ( أنا ألهم من الطين ) ، وقد علق العقاد عليه قائلاً : ( إذا كان الطين هو ملهمه فأى فن هذا ) . غير أن فن سيف كان فناً مرتبطاً بالشكل أكثر من الاهتمام الموضوعى أو الفكرى ـ العين تتحرك أولاً قبل العقل فكانت يده وخبرته الجمالية تسبق الإهتمام بمضمون العمل ـ فهو من هذه الزاوية يعتبر من أوائل الفنانين الذين جعلوا اللوحة موضوعاً جمالياً أكثر من أى شىء وكانت سرعة تنفيذ الإنطباعات تساعد على ذلك وقد فتحت أعماله أيضاً أعين تلاميذه لفهم تلك العلاقات الجمالية بين تسطيح الأشكال وبين الخطوط والنقط فالإنسان فى لوحاته ذو بعدين .
- المرسم
- بالقرب من شاطئ الإسكندرية على طريق الحرية كان مرسم سيف وانلى وكل سكندرى يعرف المرسم كما يعرف مكان عمود السوارى وتمثال سعد زغلول وضريح أبو العباس ويستطيع أى إنسان أن يذهب الى مرسم سيف وانلى فى أى وقت وبلا موعد ـ وسوف تجد لديه دائماً خليطاً من الناس سفراء أو ممثلون وكتاب وراقصات باليه ووزراء .. جميعهم يتحدثون بين بحر اللوحات فى كل مكان بالمرسم .
- كان المرسم الأول أسسه سيف وأدهم عام 1932 فى شارع توفيق - والثانى فى شارع الدكتور محمد رأفت . أما المرسم الأخير والذى أنتقل إليه عام 1960 فى طريق الحرية .
- سيف حلو الحديث وجمله القصيرة أشبه بقطعة حلوى أو زهرة . فعندما سئل عن حياة الألوان واللوحات يرد قائلاً : ( قبل أن تكون الحياة كانت الدنيا لوحة ، وخلق الله اللون ثم الصوت ثم جاء بعد ذلك الحرف وفى البدء كان اللون الأبيض .. ثم الون الأسود والأحزان .
- وعن الطبيعة يقول : ( إننى أعيش فنى . أذهب وأجىء مع الطبيعة ، وفى الطبيعة مع البحر .. وفى البحر الأمواج ، والصيادون، والشاطىء والطرقات والحوارى ، ذات البلاط المربع الذى يعلو ويهبط ، وتشم فيه رائحة الزمن.
- نلاحظ فى كلماته تلك الصورة الذهنية الرائعة التى يرسمها متنقلاً بجمله الصغيرة من البحر الى البر الى الزمن فى رشاقة ويسر .. هذه الصورة الذهنية هى صورة إرتسامية نتجت عن عشرته الطويلة لمدينة الإسكندرية وهى شديدة الشبه بمنطق الصورة عنده .
- الصورة الخيالية
- يقول أوسكار وايلد عن علاقة الطبيعة بالصورة الطبيعية : ليست الصورة ، لكن الفنان هو الذى يجمل الطبيعة والخيال هو الذى يخلق الصورة ويقول سيف وانلى البحر الذى فى لوحاتى فأنا عشت فى الميناء الشرقى والعجمى وأبو قير ، وأنا أرسم الإسكندرية بألوانى الخاصة عنها .. أنت تشعر أمامها أنها الإسكندرية رغم أنها ليست بألوان الإسكندرية وقد لا تكون فيها تفصيلات المكان ولكن فيها روح وشذاه .
- التفاصيل فى بعض الأحيان ( رغى ) وثرثرة لا لزوم لها المهم هو تكوين موسيقى بالألوان .. ، الألوان كالألحان لا تعرف الطريق المسدود .. فالألوان ترفض أو ترقص ـ تعارض ، تبكى ، تنحنى .. الألوان تطيع ..الألوان تغنى .. تتألق.
وراء كل عظيم
- ويضيف سيف وانلى ـ ( يقولون أن وراء كل عظيم إمرأة ، يقصد به، إمرأة تكفل لها الحياة الطيبة أو تجمع أعماله أو تقدمه للناس ، لأن الفنان بطبيعته خجول . وفكتور هوجو كانت له زوجة متعبة لا تعرف قيمته الى أن تعرف على إمرأة أخرى كانت تجمع كل قصاصاته وتحفظها ، فترك زوجته تعيش وحدها مع عشيقها فى الدور العلوى من المنزل وعاش هو هنيئاً فى الدور الأرضى منه مع محبوبته .
- تقدير الفن
- يقول سيف أن كليمنصو رئيس وزراء فرنسا وقت الحرب العالمية الأولى ، تصادف أثناء إشتراكه فى مؤتمر الصلح المنعقد فى باريس عندما علم بأنهم يعدون لعرض لوحة ( الطحالب ) أحد أعمال مونيه فأجل الإجتماع وذهب الرجل بنفسه ليختار لها مكاناً مناسباً بين المعرضات .
- كان لفوز سيف بجائزة الدولة التقديرية عام 1973 وقعاً رائعاً على أهالى الإسكندرية فهذا هو إبنهم المحبوب قد ناله التقدير أخيراً رغم فوزه قبل ذلك بكثير من الجوائز ـ غير أن التقديرية كانت جائزة العباقرة فى ذلك الوقت . وبدأت صورته وأحاديثه الكثيرة تنشر فى مختلف الإصدارات الصحفية وعرفت أعماله الدراسات التحليلية الدقيقة التى كشف عنها النقاد وقد أجمع الجميع على أنه صاحب الريشة الغنائية وأن لوحاته هى نوع من الفانتازيا اللونية. ولقد سافر سيف كثيراً وتنقل عارضاً لأعماله التى وجدت فى الخارج كل تقدير وإهتمام فى كافة أنحاء العالم .
- وفى 2 فبراير عام 1979 طار سيف الى السويد بصحبة زوجته إحسان مختار وكان يعانى من شلل نصفى أصابه قبل ذلك بعام وكان شتاء عام 1979 شديد البرودة فى أوروبا ، لكن الفنان كان قد تعاقد على إقامة سلسلة من المعارض فى الدول الاسكندنافية فكان سيعرض فى السويد فى إستكهولم ثم أوسلو عاصمة النرويج ثم كوبنهاجن عاصمة الدانمارك. لكن الأيام لم تمهله فقد توفى سيف فجر يوم 15 فبراير فى إستكهولم أثر نوبة قلبية حادة فى مستشفى ( كالورانسكا ) .
- وفى الإسكندرية شيعه أهالى الإسكندرية بالدموع الى مثواه الأخير فى 20 فبراير عام 1979 .
بقلم : مكرم حنين
مجلة شل
سيف وانلى.. الفنان الذى نسيناه
- نكتب عنه اليوم ليس بمناسبة مولده أو وفاته وانما لمسة وفاء له .. اسمه بالكامل هو .. محمد سيف الدين وأبوه هو اسماعيل بك محمد وانلى.. أما الوالدة فهى عصمت هانم الداغستانى بينما كان جده هو السنجق محمد وانلى باشا.. وعائلة وانلى من منطقة بحر قزوين.. وانلى اسم جزيرة فى القوقاز اما عائلة الداغستانى فهى تنتمى الى المغول حكام وامراء دولة الداغستان.. وكان منزلها قصرا كبيرا هو سراى عرفان باشا بحى محرم بك بالاسكندرية وعلى الرغم من الجو الثقافى المحيط الا ان الاسرة وقفت حائلا دون تشجيعه مع شقيقة ادهم للرسم خوفا عليهما من انتشغالهما عن المذاكرة فتحول الرسم عند الاخوين وانلى إلى عملية سرية استمرت لفترة من الزمن حيث كان طريق الفن غامضا وشاقا فترك أثر واضحا على مسار حياتهما فوجد سيف نفسه موظفا بارشيف جمرك الاسكندرية كما عمل ادهم مديرا لمخزن الكتب بالمنطقة التعليمية بالاسكندرية.. ويعتبر سيف وانلى من ابرز هؤلاء الفنانين الاستقلاليين فقد كون تجريته الفنية ونماها بجهوده بعيدا عن الدراسات الاكاديمية والمعاهد والبحوث وجاهد من اجل اكتساب التجارب والخبرات الفنية وظل يعمل دون ان ينتمى الى اتجاه بعينه أو إلى جماعة من الجماعات التى اخذت تتكون وتعتبر هذه المرحلة من أهم مراحل انتاج سيف وانلى التى مضى بها فى طريق ادجار ديجا 1834- 1917.. الذى اشتهر من خلال لوحاته المعروفة لراقصات البالية ولقد لقيت هذه المرحلة التقدير حتى ان الناقد الفنى لمجلة لوموند الباريسية قال:` لم تكن نتوقع اطلاقا منذ وفاة ` ديجا` ان يقتحم أحد ميدان رسم البالية وقد سد سيف هذا الفراغ فى اقناع وتشهد اعماله فيما يتعلق بالمشاعر وترجمتها وتحليله للحركة والنور المسرحى الدقيق بموهبة قديرة .. وخلال عامى 1959-1960 تمثلت اعمال سيف فى رسم القرى والمعابد والسكان فرسم بيوت النوبة بالوان هى اقرب لاستخدام الموسيقى لالحان شعبية وسجل احساسه المباشر للتجربة من خلال طوافه بموالد النوبة ووقوفه عند بيوتها وتطلعه إلى سمائها المتألقة.
بقلم :عادل ثابت
جريدة : الحياة المصرية 2-5-2010
أسطورة.. سيف وانلى
- مشاهد أوبراليّة.. نساءُ بحرى.. راقصة باليه، وجسدٌ عارٍ. مزجٌ فريد لفارسٍ حاملًا (سيف) على جوادٍ (أدهم).. تجربة تشكيليّة بارزة خلال القرن الماضى، فرضت نفسها على الساحة، بما يليق بإبداع فنان وكبرياء إنسان. عند الحديث عن سيف وانلى (محمد سيف الدين إسماعيل وانلى)، يجب علينا ذكر أخيه الأصغر بعامين أدهم وانلى (إبراهيم أدهم وانلى) رفيق ريشته ومشواره الفنّى، والذى ترك الحياة مبكرًا قبل أخيه الأكبر بعقدين.
الأخوان السكندريّان تلمّسوا بدايات خطاهم مع الفن التشكيلى من قصص معلّمهم الفرنسى خلال سنوات دراستهم الأولى فى مدرسة حسن كامل، وككل الفنّانين الأوائل، أراد والدا سيف وأدهم أن يحصل ولداهم على تعليمٍ «جدّى» بحسب مفهومهما عن تلك الجدّية، لكن فى عام 1925، ودون علم الوالدين، التحق الأخوان بدروسٍ للفن فى مرسم الإيطالى أوتورينو بيكى، بعدما وجدا أن الالتحاق بدروس أرتورو زانييرى- أحد أساتذة الفنان محمود سعيد- كانت فوق طاقتهم المادّية.
عمل الأخوان لسنوات فى القطاع العام لتغطية نفقاتهم، فيما يشقّان طريقهما إلى ممارسة الفن الذى يحبّانه. وبنهاية 4 سنوات فى مرسم «بيكى»، أصبح سيف متمكّنا من مهاراته بشكلٍ جيّد، غير أن الاعتراف العام بفنّه لم يكن حظى بمكانته بعد.
استأجر الأخوان وانلى استديو فى مبنى يملكه الأمير يوسف كمال بمبلغٍ رمزى كدليل على دعمه، وهو المكان الذى أصبح بعد ذلك ملتقى ثقافيا، يجمع المثقفين والرسامين البريطانيين ومحبى الفن، لتبادل الأفكار والمعرفة، وخلال ذلك تأثر الأخوان بمدرسة باربيزون الفنيّة، وهى حركة فنيّة نحو الواقعيّة العاطفيّة.
فى عام 1936، نال سيف وانلى الجائزة الأولى لمسابقة مختار، برعاية هدى شعراوى. وبعد 10 سنوات فى 1946، بوصول سيرك تونى إلى الإسكندرية، انبهر الأخوان بالأجواء، وقضيا ساعاتٍ فى رسم الحيوانات والراقصين، وبفضل ابن عمهما الذى أصبح رئيسًا لدار الأوبرا، أتاح لهما الفرصة لزيارة المبنى لرسم راقصات الباليه والمسرح والمشاهد الأوبراليّة.
عام 1950، حظى الأخوان بأول معرض فردى لهما بالمتحف المصرى للفن الحديث فى القاهرة، وقد لقّبهما صحفى فرنسى بـ«أحفاد ديجا» (إدجار ديجا، فنان تشكيلى فرنسى). ومع بداية إنشائهما، أعطت وزارة الثقافة منحة مدى الحياة للأخوين لتكريس كل جهدهما للفن وهو ما مكّنهما من ترك وظائفهما الأخرى.
أسطورة.. سيف وانلى
مضى سيف وانلى فى تجريب وتطوير أنماطه الفنية بين الانطباعية والتعبيرية والواقعية والتكعيب فيما يعمّق تجربته مع العناصر الميتافيزيقيّة، وبهذا قدّم سيف ما يقدّر بأكثر من 3 آلاف لوحة وأكثر من 8 آلاف رسم طوال حياته.
وفى دراسة صدرت ضمن سلسلة «ذاكرة الفنون» عن هيئة الكتاب، يربط الناقد صفوت قاسم بين عدم حصول سيف وانلى على شهادات دراسية عليا، وبين تصويره الشامخ لنفسه بأساليب متنوعة فى أكثر من لوحة بشكلٍ ماثل ما فعله (رامبرانت) فى لوحاته الأخيرة، حتى إن «قاسم» قارب بين صورة سيف لنفسه عام 1933 بقبعة شابهت تلك فى لوحات رامبرانت، فيقول: «بينما تميزت هذه النوعية من لوحات رامبرانت بلمسات لون سميكة للغاية، نجد أن صورة وجه سيف تميزت بطبقات رقيقة من الألوان التى غلب عليها هارمونى اللون البنى- الذى كان سائداً أيضاً فى أغلب صور رامبرانت الشخصية- فإن سيف اعتمد فى تنفيذ لوحته على أداء سريع متمكن، واحتلت رابطة العنق وسط اللوحة، بلونها الأسود الذى يجذب العين إلى مركز التكوين».
اسم أدهم كان مقترنًا دائمًا باسم أخيه سيف، وهكذا الاثنان، لكن البعض يفسّر اختلافهما فى توقيع اللوحات بمنحى آخر، إذ إن أدهم كان يستخدم اسم عائلته «وانلى»، بينما سيف كان يكتفى بأحرف اسمه الإنجليزية «Seif»، ويرجع البعض ذلك إلى انعدام الأمان شيء ما من ناحية سيف مع ثقة أكبر من ناحية أدهم. ورحل الأخ الأصغر عن التجربة قبل سيف بعقدين، حيث رحل أدهم فى سنٍ صغيرة عام 1959.
وتوفى سيف وانلى فى استكهولم، يوم 15 فبراير1979 ثم نُقل ودُفن فى مسقط رأسه.
أحمد يوسف سليمان
المصرى اليوم : 19-8-2017
- لقد كان ` سيف ` من ذلك النوع الذى صهر نفسه فى بوتقة المعرفة ، يدفعه إلى ذلك عشق عارم للانطلاق . فهو مغامر بطبيعته يأبى أن يقف على الشاطئ متفرجاً ، بل يدفعه فضوله لأن يستقل مركبه ويتوغل فى اليم لعله يعثر على جزيرة ضالة أو صيد ثمين .. ولم تكن أسفار ` سيف ` فى بحور الفن ضرباً من القرصنة ، بل كانت نوعاً آخر من النهم الفكرى ورفضا للاستقرار والتجمد . وهى طبيعة سكان الشواطئ . إذ لا ينبغى أن ننسى أن ` سيف ` ابن الإسكندرية المفتوحة ميناؤها دائما لاستقبال السفن من مختلف الجنسيات تفرغ ما فيها من سلع لتملأها من منتجات مصر سلعاً مقابلة وفق قانون التبادل والمقايضة . وهكذا كانت دائماً الإسكندرية فى موقعها الجغرافى والحضارى تعطى وتأخذ .. ولقد انعكست هذه الطبيعة بدورها على الفنان ` سيف ` الذى كان يستقبل كل تجربة عبر البحار بتعطش شديد ، فينغمس فيها كل كيانه .. وهذا هو سر ما نراه فى إنتاجه من ثراء وتعدد النوعيات التى هى من معطيات مزاج تجريبى يرفض الرتابة لا بدافع الملل وإنما رغبة فى الكشف عن آفاق جديدة . والطيور المهاجرة لا تلام عندما تترك أعشاشها فى الشتاء بحثا عن أماكن أكثر دفئا غير عابثة بطول المسافات وأخطار الطريق .. حتى يأتى الربيع .
- إن سرعة الهضم وسهولة الاستيعاب وطلاقة التعبير والقدرة على الغوص وطول النفس من صفات الفنان ` سيف ` التى مكنته من العطاء فى كل مرحلة أحسنها وتقديمه مادة حية نابضة ذاتية الجوهر . عصرية المظهر . عالمية المخمر . وهى التى مكنت
( سيف ) من ملء حياتنا بإبداعه المتجدد وتمثيل واقعنا الحضارى المتطور فى الداخل والخارج أشرف تمثيل .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
اعترافات ريشة قصيرة جدا..
- نحن لا نتبين أطوال العمالقة إلا عندما نحاول أن نرق إلى مستوى أكتافهم فلا نستطيع.
- وقد لايكفينا سلم أو سلمان أو ثلاثة لكى نبلغ مستواهم الرفيع ، عندئذ ندرك أننا فى القاع ، وأنهم يلامسون السماء .. وقد يتنازل العمالقة أحياناً فيخفضون من قامتهم ، وينحنون تواضعاً أو إشفاقاً حتى لا يشعرونا بالفرق الهائل بيننا وبينهم .. وقد يعز علينا أحياناً أن نعترف بهذا القصر خجلاً أو حسداً أو عناداً .. ولكننا عندما يذهب العمالقة وتخلو منهم الساحة فلا يبقى غير الأقزام ، عندئذ ننتزع الاعتراف من بين أضلعنا انتزاعاً ، لنستبقى بين جنبينا ولو قدراً ضئيلاً من فضيلة الاعتراف بالحق .
- وعندما خلت الساحة من العملاق الكبير` سيف وانلى` أحسسنا ساعتئذ بالفراغ الذى كان يشغله .. أحسسنا بشىء كبير أفلت من أيدينا ، وكأن تيار الكهرباء قد انقطع فجأة فغمر الظلام بعض حجراتنا ، وأن قيمة هائلة كانت تملأ دنيانا ذهبت عنا ليزداد إحساسنا بالظمأ والجوع والوحشة .
- إن أول ما داهمنا هو أفول تلك الطيبة الملائكية التى يندر أن توجد فى بشر، وذلك التواضع الذى لا يصدر إلا عن العباقرة ، وهذا الذكاء الفطرى الذى يتخفى وراء براءة الطفولة التى يكللها الوهن والمشيب والصمت المهيب.. وتلك الشفافية البلورية التى تظهر عين ما تبطن ، فلا ترى سوى طيف خارجه عين داخله ، وظاهره عين باطنه ، فتأمن إلى كل بادرة تبدر منه ، وتصدق كل كلمة تصدر عنه.
- كان الطابق الذى يشغله سكنا ومرسما أحد معالم الإسكندرية ، وبؤرة إشعاع ودفء، ومزارا يؤمه الناس من كل صوب ،القلب والباب مفتوحان دائماً لاستقبال المريدين والأصدقاء والمعجبين من المصريين والأجانب الذين بلغهم نبأة قبل أن يروه ولن تملك وأنت فى حضرة ذلك العملاق ، ووسط هذا الفيض من اللوحات التى تطل عليك من كل جانب ، وفى كنف تلك الرعاية الصادقة الصادرة من نفس لا تعرف النفاق ولم تمارس سوى الحب والعطاء ، لا تملك إلا أن تحس أنك غارق فى حضن دافىء حميم يعيد إليك ثقتك فى نفسك وفى الإنسان.
- وما أمتع الساعات التى يقضيها عشاق الفن فى مرسم ` سيف وانلى ` المعلم الكبير، حيث لا تمل العين ولا النفس مما تسمع أو ترى .. الكلمات القليلة التى تنساب من شفتى الكهل الوديع حكم بالغة تسمعها من طفل جاوز السبعين ، ومن فيلسوف حنكته التجارب .. والكلمات الكثيرة التى تلاحقك من المهرجان اللونى الذى يحيط بك محاضرات قيمة فى الفن وفى الذوق الرفيع وعمق الفهم والخصوبة فى أعلى مستوياتها ، بالإضافة إلى الموهبة التى هى منحة نادرة من منح السماء ، فلا تخرج من هناك إلا وقد أضفت جديدً إلى معلوماتك ، وتعلمت درساً كنت تجهله..
- ولا تملك كذلك أمام ذلك الثراء الفاحش ، وهذه الثروة الطائلة التى حققها هذا الرجل العصامى بجهده وعرقه إلا أن تنحنى إجلالاً وإكباراً .. ولا أقصد بالثراء هنا رصيده فى البنوك والمصارف ، وإنما رصيده فى التجربة الذاتية النابعة من موهبته وإصراره وحبه ، وما يتلقفه من هنا وهناك من العطاء الإنسانى الكبير .
- أنت فى حيرة .. هل تقضى وقتك متأملاً تلك الروائع التى تزدحم بها الجدران ؟؟ أم فاحصاً تلك القصاصات التى تحتوى على خمائر وخواطر وعجالات بلا عدد.. كل منها نواة للوحة قد تولد فى أى لحظة ، أو متصفحا الألبومات التى تضم تدريباته اليومية التى تبهرك بتنوعها فتتساءل من أى بحر يغترف هذا الرجل الأسطورة ؟!.
- جلست ذات مرة أقلب ألبوماً يحتوى على مائتى لوحة تتناول موضوعاً واحداً .. كل لوحة تختلف عن الأخرى اختلافاً تاما فى تأليفها وفكرتها وتركيبها وأسلوبها .. معرض كامل بين ضفتين من الورق المقوى .. وعندما طويت الصفحة الأخيرة قال لى ` سيف ` هل تعرف كم من الوقت استغرقته هذه الرسوم؟؟ أجبته .. سنين .. قال أسبوعاً واحداً فقط!!
- بخور العالم كله لا يكفى لكى يحسد هذه الطاقة الخلاقة والقدرة الخارقة والفيض الغزير ..ولكن سبحان من يرزق من يشاء بغير حساب ..
- ويعجب الذين يشاهدون روائع ` سيف وانلى ` وخاصة المحترفين والمخضرمين، يعجبون كيف ومتى بكل هذا ؟؟ وتأتى الإجابة بما لا يصدقه عقل ..إنها حافظة غير عادية وراء هاتين العينين ( المغوليتين ) .. فى ثوان يدون ملاحظاته فوق تذكرة أتوبيس أو علبة سجائر ، أو هامش جريدة ، أو أى قصاصة ورق .. ثم يذهب إلى مرسمه وبين جنبيه شحنة تظل محتفظة بحرارتها إلى أن يسقطها فوق لوحته طازجة بليغة رنانة .. فيها كل الثقة والبراعة والصدق ورفاهة الحس ..
- قال لى ذات مرة .. هناك فرقة بالية عالمية تقدم عروضها فى دار الأوبرا .. اذهب وسجل انطباعاتك لعلك تعود بتحقيق صحفى مرسوم ننشره لك فى مجلة آخر ساعة..
- وذهبت متأبطاً كراسة وقلماً .. وجلست فى مقاعد المتفرجين ، ووقفت بين الممرات ، وتسللت إلى الكواليس خلف الستار.. وتناولت القلم استحثه أن ينطق ..أن يجر خطا .. ولكن القلم أصابه الشلل.. كان كالجراد الذى كسرت قوائمه ، فشلت حركته..
- وعدت كلما ذهبت بالصحائف بيضاء وأنا أشد إيماناً بأن تصوير البالية محرم إلا على الأخوين ` سيف وأدهم وانلى ` ومن قبلهما المصور الفرنسى الكبير ` ديجا` ...
- مرة أخرى .. لا يدرك أطوال العمالقة إلا الذين يحاولون أن يرقوا إلى مستواهم ولن يتم لهم ذلك لأجل سيقانهم القصيرة .. القصيرة جداً.
بقلم : حسين بيكار
من كتاب آفاق الفن التشكيلى
|