محمد محمود السيد رزق
بعد صراع مع المرض ورحل طارق النحاس وعاشق الحديد الفنان محمد رزق
- ورحل المثال الكبير الفنان محمد رزق، بعد صراع مع المرض، حيث أصيب منذ عام ونصف بجلطة فى المخ أثرت على حركته ويعالج منها ويصل إلى العلاج الطبيعى، ليصاب منذ شهر بجلطة أخرى فى القلب ليعود إلى المستشفى ويلقى ربه صباح يوم السبت 17 من أغسطس الجارى، التقيته فى آخر زيارة له فى المستشفى قبل وفاته بيوم واحد، وتحدث معى عن غياب الأصدقاء والفنانين عن السؤال عنه، بل والمسئولين أيضا.
- كان فنانا شابا رغم تجاوزه السبعين عاما، كان يحمل بداخله طاقة خلاقة حولت الخامات الصلبة الجامدة إلى خطوط لينة خلع عليها العذوبة والرقة .
- بداخله ملامح القرية التى نشأ فى طينها يشكله على سبيل اللهو، ولم يدر يوما أن ذلك سيكون الخطوة الأولى لمسيرة فنان سيصبح ذا شأن عظيم .
- للحديد شخصيته المميزة ومتعة التعامل معه بلغت مداها مع الفنان محمد رزق فهو يرى أن هذه الخامة يستطيع الإنسان أن يقطعها ويثنيها ويلحمها دون غيرها من الخامات كالرخام أو الخشب وغيرهما، فالحديد طيع مطيع بوسعك أن تجعله شفافاً - كالسور ترى الأشياء خلفه -ويمكن أن تجعله قاسياً، ليناً صارماً، فنان بلغ من الثقة ما جعله يبدع منحوتات ترتفع 15 سم وأخرى تزيد على 15 متراً وذلك فى التشكيل الحديدى الذى أبدعه لمصانع الحديد والصلب بالإسكندرية والذى يزن 24 طنا من هذه الخامة، وقد نفذ هذا العمل دون استخدام الورق وقد كانت أدواته 18عاملاً ينفذون ما يتراءى له فى مخيلته الإبداعية، شحذ محمد رزق نفسه بكتابة صفات الحديد على حائط المكان المخصص لعمل هذا التشكيل عام 1992من خلال ست آيات من القرآن الكريم، نفذ هذا العمل العملاق فى ستة أشهر.
- حالة عالية من الإبداع، تلك الثقة التى جعلته يبدع لنفسه- لا للآخرين - مجموعة من الخيول العملاقة والصغيرة المعبرة والتى يعتبرها مصباً هائلاً يخرج فيه طاقته وشحنته الانفعالية !
- فالحصان عند فناننا هو أفضل من يوصل اللحظة الانفعالية التى يعيشها سواء كان صغير الحجم أم عملاقاً فهو يحمل قيم التراث النبيلة، تعرف من خلاله حالة الفنان الشمولية تجاه أحداث حوله فنراه رشيقاً منطلقاً تارة، منكس الرأس تارة أخرى، يقف بكبرياء وشموخ، عالى الهامة فى زهو وانتصار، استخدم فيه حديد التسليح متراصا بشكل متواز أو قطع دائرية متجاورة تميز من خلاله وخرج عن الشكل التقليدى للنحت بالكتلة إلى تفريغها. قطع من النحاس تحمل شكل `الموتيف` داخل دائرة تزين الحصان العملاق توحى بتلك الأصوات التى تصدر أثناء سير الحصان المتزين .
- أسبغ الفنان محمد رزق الرقة والعذوبة والجمال على الأجسام الصلبة متنوعاً فى الأسلوب فهو يرفض الالتزام بالجمود لأنه متحرر حر الحركة فى الموضوع والأسلوب الذى تتعدد أشكاله لكنها تتعايش، فالتعبيرية والتجريدية والتحليل التكعيبى يحكمه صدقه الفنى ونظرته إلى الأشياء من حوله تثير حسه ليتفاعل مع أنامله التى يتركها مع قطعة النحاس والمطرقة تأخذانه من نفسه ليعبر ببساطة القروى الذى لا يزال يحمله داخله لتأتى محملة بالإيحاءات الرمزية المصرية الأصلية التى حافظ عليها من خلال المقولة التى وجهها إليه النحات العالمى نوربرت كريكى مدير أكاديمية دسلدورف بألمانيا بأن يظل فى مصر ويبدع من خلال مصريته فقد سافر محمد رزق إلى أوروبا عام 1972 من خلال منهجه فى أن يعلم نفسه بنفسه وأن يطلع ويتأمل ويثقف نفسه ليجد أنه متقدم فى فنه ووعيه التشكيلى عما يراه فى أوروبا إلا أن الاختلاف كان فى المناخ المهيأ للإبداع .
- لقد كانت الجائزة التى حصل عليها الفنان عام 1962فى مسابقة أقامتها وزارة الثقافة عن الثورة فى 10 سنوات وقد فاز فيها الجزار بالجائزة الأولى عن لوحة `إنسان السد العالى` لقد كانت هذه الجائزة التشجيعية بمثابة ميلاد الفنان محمد رزق وكانت كارت الدعوة للدخول من بوابة الحركة الفنية التشكيلية المصرية .
-اللوحة الرئيسية فى مدخل المبنى الرئيسى لجريدة الأهرام بالقاهرة أبدعتها أنامل فناننا شاعر النحاس حيث كلفه بها الأستاذ محمد حسنين هيكل عام 1969 ولهذا العمل قصة يرويها الفنان : ` لقد طلب منى الأستاذ هيكل هذا العمل الجدارى على سطح الرخام فى المدخل فقلت له أرسم عليه قصة القرن العشرين فسألنى : ماذا تعرف عن القرن العشرين؟ فأجبت : إنه عصر حرية الشعوب الفقيرة تتخلص من تبعيتها للشعوب الغنية، المرأة الضعيفة تتخلص من تبعيتها لاستبداد الرجل، ما يحدث فى المحاكم الشرعية على مستوى الأفراد يحدث فى مجلس الأمن على مستوى الشعوب! فقال الأستاذ هيكل : أنت لست رجل سياسة، أنت فنان وأنا أبيع أخباراً، أريد قصة الخبر وكيف انتشر عبر التاريخ بحثت فى الأمر - والكلام للفنان رزق - لمعرفة تاريخ تناقل الأخبار، وقد واجهت هذه المساحة لأول مرة خمسة أمتار مربعة وكان أكبر مساحة تعاملت معها لا تتعدى المتر المربع، جزأت العمل وجعلته ذا بداية ونهاية عبارة عن وحدات فى الحدود المسموح بها من مسطح لوح النحاس المطروح فى السوق ووضعت `الموتيفات ` المتنوعة من خلال هذه الأجزاء كعناصر ومساحات على الجدار الرخامى. كانت مواجهة الفنان لهذه المساحة الحائطية هى بمثابة نقطة انطلاقة نحو الأماكن العامة فأبدع 42 عملا فنيا ما بين الجداريات والتشكيل بالحديد فى الفراغ وذلك فى المؤسسات العامة والصحفية وفى الميادين والفنادق والمستشفيات والشركات والبنوك والوزارات والمكتبات العامة والقصور والمصانع والقرى السياحية عبر من خلالها عن قريته `سيف الدين ` بفارسكور بدمياط وما تحمله من عادات وتقاليد اختزنها بداخله، فأكد العلاقة بين النيل والزراعة والهواء الذى يجسد القرويات وكذلك عبر عن الحصاد تلك الدراما المصرية العظيمة والتى تفرش فيها الحقول بسنابل القمح والفلاحين و`حميرهم` فى معركة إنسانية أبدية أو تاريخية مع ذلك الحصاد.
- يقول الفنان : مازلت مخلصاً لقريتى التى لم تعد موجودة إلا فى خيالى، الوجوه الحنونة الطيبة لم تعد كذلك إلا بداخلى، كل مظاهر قريتى اندثرت وناسها الطيبون، أفراحها لم تعد كما كانت، اختزن الصورة القديمة، عندما أكلف بعمل ما فإننى اقترح مظاهر قريتى التى اندثرت.
- شاعر الربابة ذلك البطل الأسطورى الذى سيطر على خيال الفنان والذى تعايش معه منذ كان هو سيد القرية قبل الإذاعة والتليفزيون أبدعه الفنان على مسطحات النحاس بالطرق أو الحديد بالتجسيم .
- لقد كان للمرأة نصيب كبير فى أعمال الفنان من خلال القرويات والهواء يجسد أجسامهن تحت ملابسهن وقد عالج الفنان هذا الجسد مطروقاً وتمثال .
- وأقام الفنان محمد رزق أكثر من 17معرضاً خاصا كان أحدثها بقاعة قرطبة بحى المهندسين منذ شهور هذه المسيرة المعطاءة لهذا الفنان الذى أبدع لمصر العديد من الأعمال الخالدة بهذه الخامات الصعبة والتى تزين العديد من الأماكن العامة وواجهات العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة، ألا يشفع هذا العطاء فى تكريمه تكريما لائقا بمكانته بعد رحيله، وقد تركناه فى حياته دون تكريم.
محمد الناصر
نصف الدنيا أغسطس 2008
` معرض فى ذكرى ` شاعر اللوحات النحاسية
- معرض النحت للمثال الراحل ` محمد رزق ` بعنوان ( حوار بين الحديد والنحاس ) فى ذكرى مرور عام على رحيله ويضم المعرض مراحل مختلفة من اعمال الفنان التى انتجها بالطرق على رقائق النحاس مع التماثيل المجسمة ومنها حصان من حديد بالحجم الطبيعى .
- والفنان محمد رزق المثال يعتبر أحد نجوم الحركة الفنية الذين رحلوا فى العام الماضى.. ( ولد عام 1937 وتوفى عام 2008 ) وسيستمر المعرض حتى 26 فبراير الحالى.. وقد ولد بقرية ` سيف الدين ` التى تقع عند التقاء النيل بالبحر بالقرب من مدينة دمياط، وعاش خلال صباه ومراهقته محاولا تنمية مواهبه فى كل اتجاه، حيث نظم الشعر وكتب القصة ومارس العزف على الناى .
- وقد انتقل إلى القاهرة عام 1957 بعد ان حصل على شهادة الثانوية العامة، باحثا عن عمل، فبدأ حياته عاملا بشركة الحديد والصلب، ومارس الرسم، فشاهد رؤساءه بعض أعماله، فعينوه رساما عام 1959 بالعلاقات العامة بالشركة فى ذلك الوقت تعرف على رقائق النحاس التى ينتجها المصنع،فملكت عليه مشاعره، وبدأ يجمع قصاصات الواح النحاس ويسجل على سطحها بمطرقة صغيرة وجوه الفتيات القرويات، وقد أعجب بها الجميع، فوفروا له المناخ الملائم للإنتاج الفنى وأقام معرضه الأول عام 1964 ثم استقر على التخصص فى تشكيل لوحات النحاس المطروحة وعمل مجسمات منه، وتخلى عن النشاط الأدبى والعزف على الناى .
- وفى عام 1965 حصل على منحة التفرغ للإنتاج الفنى من وزارة الثقافة، وامتد تفرغه سبع سنوات، وقد استقال من شركة الحديد والصلب عام 1969 بعد أن قضى أربع سنوات فى نظام التفرغ.. والحق بقسم الدراسات الحرة فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة لمدة عام واحد، ثم قام بجولة فى بعض العواصم الأوروبية عام 1972 لزيارة المعارض والمتاحف، وبعد عودته عمل لمدة عام واحد مستشارا فنيا بشركة `سيجال` وهى الشركة التى تنتج المصنوعات المعدنية المنزلية .
- وقد شارك فى الحركة الفنية المصرية بالمساهمة فى المعارض الجماعية بمصر وخارجها وفى بينالى الإسكندرية ومعرض الفن المصرى المعاصر فى بروكسل وباريس، ومعرض جامعة الدول العربية فى بيروت وغير ذلك من المعارض .
- كان فنانا مقلا فى إقامة المعارض الخاصة، وقد حصل على منحة التفرغ للمرة الثانية لمدة عامين 1978و1979، واستطاع فى هذه الفترة أن يقيم عددا من الأعمال الجدارية فى الأماكن العامة : على جدران مبنى شركة الحديد والصلب، ومبنى جامعة الدول العربية بالقاهرة، وشركة مصر للطيران، وفى مدخل مبنى جريدة الأهرام، ومقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وعلى مبنى فندق شيراتون القاهرة وفندق الميريديان `جراند حياة ` وفندق هيلتون القاهرة وغيرها من الفنادق والمبانى العامة .. هذا بالاضافة إلى النماذج التى يقتنيها متحف الفن المصرى الحديث ومتحف ` ليدتسة ` بمدينة براغ ثم لوحاته الصغيرة بـ غرف النزلاء فى عدة فنادق .
- وقد سافر عام 1987 إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث أقام سلسلة من المعارض لأعماله متنقلا بين خمس ولايات أمريكية مرافقا لمعرض رمسيس الثانى، واستغرقت هذه الجولة أربع سنوات، وعاد إلى القاهرة عام 1991 ليقيم معرضه التالى فى المركز الثقافى الايطالى عام 1992 .. وبعد ذلك قدم معرضا شاملا لابداعه فى قاعة الفنون الجميلة الملحقة بدار الأوبرا احتفالا ببلوغه سن الستين عام 1997 .
- كان فنان يشكل لوحاته النحاسية بأسلوب تعبيرى زخرفى، تغلب عليه الرقة والشاعرية، حتى اطلقنا عليه لقب ( شاعر اللوحات النحاسية ) ، فهو لم يحاول تقليد من سبقوه ، ولكنه استفاد من خبرتهم وتجاربهم ، فلمع كفنان متفرد، تنبض أعماله بواقع حياتنا وريفنا وتقاليدنا .
- أثناء عمله فى تشكيل لوحاته النحاسية تظهر ملامح العناصر التى يشكلها مغلغة بالغموض أولا.. ثم تتضح معالمها بعد ذلك : حسناوات الريف بقاماتهن الممشوقة يحملن الجرار، أو أبناء الصعيد وهم يتبارزون بالعصى، أو الفلاحين وهم يجمعون المحاصيل، فضلا عن الخيول العربية التى ترمز فى لوحاته للتحدى والتفوق والانتصار.. ومن هنا كانت أعماله محلية المذاق عالية المستوى .
د.صبحى الشارونى
المساء - 2009
محمد رزق عاشق النحاس
- مثلما تسلم محمود مختار أزميل النحات المصرى القديم لينحت فى الجرانيت رائعته الصريحة الخالدة ` نهضة مصر `استلم محمد رزق `مطرقة ` نفس النحات القديم ليكون أول ` طارق ` لتماثيل النحاس الصرحية ويحول مسار التعامل مع ` خامة النحاس ` من أسلوب ` الصب ` إلى أسلوب `الطرق ` المباشر على الخامة التى عرف أسرارها بدقة بالغة ليصنع منها تماثيل شامخة مازالت واقفة وشاهدة على إبداع صانعها الذى سيظل اسمه محفوراً فى ذاكرة الوطن .
- صحيح أن جمال السجينى هو أول من أعاد الاعتبار لخامة النحاس ولأسلوب الطرق المباشر، وأنه أول فنان معاصر يخرج ` النحاس المطروق` من ورش خان الخليلى `الزخرفة ` ليصنع من خلالها جداريات فنية فائقة الجمال والبراعة يعبر بها عن الإنسان المصرى المعاصر .. وهو انجاز إبداعى `مؤسس ` قدم به درساً بليغاً للحركة الفنية ليؤكد أن الفنان الأصيل هو من يستلهم حضارته ويطور أساليبها ويشتبك بها مع قضايا عصره مشكلاً ملامح المشهد الإبداعى لتصبح أعماله رافدا من روافد `الثقافة الوطنية `التى تشكل الوجدان المعاصر، ولقد سار محمد رزق `يرحمه الله` فى بداياته على نهج `السجينى` فى صنع جداريات النحاس المطروق ومن أهمها فى اعتقادى - جداريات ` قصة الخبز ` بمدخل الأهرام، و `الحصاد ` بمدخل الهيلتون، و `الحرية `على واجهة مركز الإبداع بالأوبرا، إلا أن رزق استطاع أن ينفرد بتطوير أدائه ليتجاوز مرحلة الجداريات إلى صنع تمثال كامل من `النحاس المطروق ` طرقاً مباشراً مستغنياً عن أسلوب `الصب ` المتبع ليصنع تماثيل عملاقة وجميلة من بينها خيوله الجامحة الضخمة، والفلاحة الواقفة فى شموخ بشرم الشيخ وعازف الربابة والكمان الأنثى بالأوبرا، وعامل الحديد والصلب الذى نفذه على الحديد المطروق والذى يقف فى شموخ متحديا زمن الخصخصة فى حديقة متحف الفن الحديث، وغيرها من أعماله الصرحية الجميلة المتقنة الشاهدة على وعى وثقافة وموهبة محمد رزق .
- `عاشق النحاس ` والمعبر بأعماله عن الإنسان المصرى بانتصاراته وانكساراته بأحلامه وأماله والأمة .. لذا سعدت عندما تجولت فى المعرض الذى نظمته أسرته بقاعة الفنون التشكيلية بالأوبرا، ووجدت نفسى لا أزال منبهراً بالموسيقى المنبعثة من حوار الخطوط القوية والحانية فى جدارياته، وبالشعر الذى تبوح به أعماله.. وبأصالة تكويناته وقدرته الفائقة على تطويع الخامة لتبوح بأسرارها معبرا من خلالها عن ` مسيرة الوطن ` ووجدتنى أردد بينى وبين نفسى وأنا عائد إلى بيتى : حرام أن تباع هذه الأعمال هنا أو هناك.. فلابد أن يضمها متحف خاص بإنجازات الرجل الذى وهب فنه وإبداعات روحه لوطنه .. وناسه .
- وأعتقد أن أقل تقدير للرجل هو أن تؤسس وزارة الثقافة لإبداعاته متحفا يحفظ للأجيال هذه الأعمال الفذة الجميلة التى هى جزء لا يتجزأ من ثقافتنا الوطنية المعاصرة .
أسامة عفيفى
مجلة الأسبوع - أكتوبر 2010
خيول رزق تسابق الفلاحين فى قاعة الفنون التشكيلية بالأوبرا
- ` رزق` الاسم الثانى لفنانى النحاس الكبير الراحل محمد رزق الذى عاش مع خامته المفضلة ويستنطقها ويستخرج منها الحياة المخبوءة داخلها عبر .. عاما منذ تعرفه إلى المعادن خلال عمله بشركة الحديد والصلب عام 1959وحتى عام 2006 الذى اشتد عليه فيه المرض فتوقف بعده عن العمل حتى رحيله فى اغسطس 2008 .
- فى قاعة العروض التشكيلية بدار الأوبرا المصرية، وعلى بعد امتار قليلة من تمثالية (الكمان وعازفا لها نموذج الربابة ) اقامت أسرة الفنان الراحل معرضا لأعماله، لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون أولها نموذج مصغر من تمثاله الكمان، الا ان النموذج يختلف بشكل ملحوظ عن النموذج الاكبر فملامح الامومة الايزيسية التى اختارها محمد رزق لكمانه الاكبر تنسحب تماما من التمثال الاصغر ليبدو أكثر نعومة وأنوثة رغم الضربات الحادة التى انطبعت عليه من مطرقة رزق.
- وفى مواجهته على اليسار تمثال لحصان ضخم يلخص خيول رزق الشهيرة التى تنتشر فى لوحاته وتماثيله .
- الرحلة فى المعرض تبرز حرص أسرته التى نظمت المعرض بمبادرة من زوجته د. الهام أبو الخير على تقديم جولة للزائر تلخص مراحل النحت وأساليبه لدى محمد رزق ففى هذا المعرض الذى يستمر حتى مساء بعد غد الاثنين، لا توجد سمة محددة يمكن الامساك بها فالتماثيل تتنوع بين الوجوه الافريقية التى ارتصت على احدى منصات العرض، وتماثيل الفلاحات الفارعة الواقفة خلف تلك الوجوه الافريقية فى أوضاع استعراضية واضحة تنسحب تماما من صورة الفلاحات والفلاحين المنهمكين فى صناعة الخبز فى اللوحة المعروفة بهذا الاسم، تلك الاوضاع التى ينتقل فيها رزق عام 2003 بعد مرحلة من التجريدية ظهرت فى أعمال التسعينات المتناثرة فى المعرض إلى مرحلة من التفصيل ولكن بحساب جعل من أوضاع شخوص لوحته (صناعة الخبز) اقرب لأوضاع مقدمى القرابين فى تشكيلاتهم على جدران المعابد الفرعونية لتكون التعبيرية بالتجريد فى خليط نحتى فريد يحمل امضاء محمد رزق .
- ويتناقض مع تلك المنمنمات الاسلامية والموتيفات الشعبية التى حفل بها الابريق النحاسى الرابض على منصة العرض متوسطة الطول المقابلة للوحة .
- يأتى المعرض بعد عامين كاملين من رحيل رزق شهدا مطالبات عديدة من أصدقائه ومحبيه بإقامة معرض لاعماله بالتعاون مع قطاع الفنون التشكيلية ممثلا لوزارة الثقافة .
- وتعلق د. الهام ابو الخير زوجه الفنان الراحل : لقد أقمنا بالفعل معرضا لاعمال محمد رزق بعد ستة اشهر من رحيله وبمبادرة كاملة من اسرته دون تدخل من وزارة الثقافة والآن وبعد عامين نكرر اقامة معرض لأعماله التى فى حوزة الاسرة فى سعى لتحويل المعرض إلى تقليد دائم اذا ما كانت هناك استجابة من الجهات الرسمية المالكة لقاعات العرض .
- وتؤكد زوجه الراحل للاهرام المسائى ان المعرض شهد منذ افتتاحه فى التاسع من اكتوبر الجارى زيارات من جنسيات وفئات عمرية عدة جاءوا لمعرفتهم بفن النحات الراحل أو رغبة فى التعرف على اعماله .وتضيف أن المعرض يضم اعمالا تعد هى الاخيرة له، حيث ظل يعمل حتى صعب عليه التعامل مع المطرقة مع اشتداد المرض عليه مما جعل المعرض فرصة للتعرف على تطور رزق الفنى واساليبه المختلفة فى النحت والتكوين .
- وأبدت د. الهام اسفها لبقاء اعمال رزق حبيسة مخازن لا تعى قيمتها موجهة نداء إلى محافظى مصر لنشر اعماله فى ميادين محافظاتهم خاصة وان محمد رزق لديه من التماثيل ما يصلح للعرض فى تلك الميادين لما تتميز به اعماله من هضم واضح لفن المعمار ولاستخدامه لخامة النحاس التى تقاوم عوامل الزمن والبيئة .
- وتنفى أن تكون وزارة الثقافة قد بادرت لعرض انشاء متحف لاعمال ومقتنيات الفنان الكبير الراحل معلقة انها كادت واسرتها يفقدون الامل فى تحرك من هذا النوع مبدية رغبتها فى أن تقدم الوزارة على تخصيص متحف واحد لكبار فنانى مصر التشكيليين يضم قاعات مخصصة لكل منهم لضمان الحفاظ على مقتنياتهم وتقديم رؤية بانورامية لتاريخ مصر التشكيلى الحديث عبر عيون فنانيها.
- وعن متابعة أعمال رزق التى تعرضت للإهمال والتشويه لدى بعض الجهات الرسمية فى مصر علقت بان أسرة الفنان تتابع ما يجرى لهذه الاعمال ما دامت الجهات المالكة لها لا تمانع فى ذلك، كما اكدت للاهرام المسائى أن أسرة الراحل على استعداد لصيانة اعماله الفنية حتى تظل معروضة بالشكل الذى يليق بإبداع واسم الراحل .
- ويتدخل الفنان محمد الجبالى المسوق الفنى لاعمال محمد رزق قائلا أن القوانين الدولية تضمن للفنان وأسرته بعد رحيله جميع الحقوق الادبية الخاصة بالحفاظ على ابداعه فى الشكل الذى ارتضاه له ملمحا إلى خطأ التدخل الذى قامت به بعض الجهات بإعادة طلاء تماثيل محمد رزق بالوان مخالفة لتلك التى اختارها الفنان لتماثيله .
سيد محمود
جريدة الأهرام المسائى- أكتوبر 2010
محمد رزق : مروض الحديد والنحاس عبر سنين التحدى والجمال
- ترويض الحديد والطرق على النحاس ..ظل هو عشقه الأول عبر 41 عاماً من الفن والإبداع ..صنع فيها الجمال وخلف روائع الأعمال النحتية والجدارية.. تشهد بعبقرية هذا الفنان الفطرى الموهوب الذى قهر الصعب وتحدى كل الظروف حتى حفر اسمه ضمن سجلات عظماء النحت المصرى المعاصر .
- وفى ذكرى مرور عامين على رحيله أحيت الساحة التشكيلية مع أسرة الفنان ` محمد رزق ` هذه المناسبة بمعرض استيعادى يضم نخبة من إبداعاته النحتية تمثل مراحل مشواره الفنى ..أستضافته قاعة الفنون بالأوبرا تحت عنوان ` عبر السنين ` .
- الواقع أن فناننا الراحل يستحق منا أكثر من هذا التكريم والتخليد فهو صاحب طريقة ومدرسة.. حفر الصخر حتى حقوق هذه الشهرة والمكانة التى لم يبلغها فنان غير أكاديمى آخر حتى أنه حصل على جائزة الدولة التشجيعية وهو فى الخامسة والعشرين من عمره .. وهو القادم من قرية ` سيف الدين بفارسكور بدمياط حيث تفتحت عيناه على الجمال وعرف كتابه الشعر والقصة والعزف على الناى وعاشر البسطاء والفلاحين وتعلم منهم التحدى والصمود فى مواجهه أصعب الظروف .
- حياة `محمد رزق` هى حلقات متصلة من العطاء والتحدى .. بدأها بالعمل فى مصانع الحديد والصلب بحلوان ثم قراره بالاستقالة والعودة للفن وأن يتلقى دروسه بنفسه على أيدى حرفيين وورش حى النحاسين .
- كما كان اختياره لخامتى الحديد والنحاس ليشكل منهما تماثيله هو درباً آخر من التحدى والإصرار على خوض معركة الجمال مع أقسى أنواع الخامات المعدنية وترويضها بطرقات أزاميله القوية التى أفرزت تموجات من الظل والنور واللعب بالغائر والبارز وتوظيفها فى صياغات وتشكيلات تعبيرية ورمزية لها أبعادها الاجتماعية والسياسية والإنسانية.وإبداعات معرض `عبر السنين` هى خلاصة تجربة جمالية فريدة .. تحاكى حياة الأسرة وتماسكها وتغازل جمال المرأة والفلاحة الأصيلة وتستعرض أياما من الحصاد والزروع وتجسد لقطات ومواقف مصرية متباينة ووجوها وبورتريهات تفيض بالمشاعر والأحاسيس المتناقضة لبسطاء وعمال وراقصين وراقصات، وترصد حركة الحيوانات والخيول فى خفة ورشاقة وأوضاع وانفعالات متباينة تفيض سحراً وجمالاً .
- ولا أملك إلا أن أذكر أجمل ما كتب عنه بقلم الراحل الكبير حسين `بيكار` الذى قال عن أعماله : ` إن رشاقة الخطوط تتماوج وتتلوى فى سيولة الموال ورقة الناى وتبرز آثار المطرقة فوق السطح وكأنها إيقاع نقرات الدفوف والطبول تزف المشخصات الراقصة فوق السطح المعدنى اللامع `.
ثريا درويش
جريدة الأخبار - أكتوبر 2010
منحوتات الفنان الراحل محمد رزق ( 1937 - 2008 ) : بين عزم الانتماء ومتانة الجذور
- سنحاول هنا عبر مغامرة نقدية أن نكشف عن كوامن الصورة عند رزق، والعلاقة الوطيدة بين خامته الآسرة وفلسفة بناء العمل المحتشد بالمفردات الريفية والشعبية التى احتفظ بها الفنان فى ذاكرته البصرية والوجدانية، كواحد من أبناء القرية بمحافظة دمياط .يستخدم محمد رزق معدن النحاس الأحمر بوسائل تقنية متنوعة بين الطرق على الألواح والصب، اعتمادا على ليونته وقابليته للتشكيل،علاوة على تفاعلاته اللونية مع الهواء الجوى تحت سيطرة الفنان دون تعرض للتلف أو التحول الكيميائى خارج القصدية الحرفية، وفى هذا السياق نجده يوظف الخامة بحوارات مختلفة بين الكتلة والفراغ، ومنها المنحوتة المستديرة ( round )، مثل بعض الحيوانات والطيور ووجوهه الأفريقية والمصرية، وهى التى يلجأ فيها إلى اللحام بين نصفى التمثال، بتفرد حرفى غير مسبوق فى تاريخ النحت المصرى المعاصر، إضافة إلى شرائحه المصبوبة برشاقة فى فضاء العمل، أما لوحاته البارزة المشكلة من الألواح النحاسية ( relief ) فهى الألمع بين أعماله، حيث يسكب إيقاعاته النحتية داخلياً وخارجياً فى كنف الأربعة أضلاع، بانسجام كامل بين أصول الصنعة والرسالة التعبيرية..فإذا أردنا اختراق الجدار التقنى لمحمد رزق، متجهين نحو فناء البوح الضمنى، سنجد أنه يتكئ على ثورية إنتمائية فطرية، تتدرج من المدار حتى النواة، إذ نلمح الولع بنسبه الأفريقى عبر ذلك الوجه النحاسى لأحد زنوج القارة بشفاهه الغليظة وأنفه المفلطح وحاجبيه المعقودين على جبين عريض متماوج كتلال صحراوية مكينة، وعينيه البارقتين كماستين فى جوف الظلام، وأذنيه الشارعتين فى التقاط صيحات التمرد البادية على قسمات وجهه المنهك بصفعات القهر والاستبداد والاستعمار البدنى والروحى، وقد نجح رزق فى رسم التضاريس النفسية للشخصية من خلال ملامح وجه يكسوه السواد كمحصلة لتفاعلات كيميائية وجوية مع جسم النحاس، ويعتريه الغضب كحصاد لانصهار ذات الفنان الثائرة مع الذات الأفريقية الفائرة، ويتأكد هذا الرمز المستتر بمثيله المتعين الظاهر فى ذلك الطوق الحديدى ذى الحلقة، والخانق لرقبة الزنجى، مطرزاً إياه بأبيات شعرية نظمها الشاعر محمد الفيتورى عام 1955، حيث يقول فيها : ولأن الحزن نار باردة تتمطى فى صدور من جليد بقيت أفريقيا مستعدة تخلع القيد إلى قيد جديد وربما بتأملنا للوجه والطوق والومضة الشعرية، نستكنه إيماءة من محمد رزق إلى السطو الإمبريالى اليورو أمريكى على أفريقيا من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها على مر التاريخ،فى نهم مستعر لسرقة خيراتها وثرواتها البشرية، وقد يلمح الفنان هنا إلى دور مصر بقيادة جمال عبد الناصر فى تحرير القارة واستعادة كرامتها المهدورة، خاصة وأن تاريخ القصيدة يأتى بعد ثورة يوليو 1952 بثلاث سنوات، لذا فمن خلال جناحى الرمز الظاهر والباطن فى هذا العمل، يمكن لنا أن نعى المقصد من تجاور بعض الرؤوس الأفريقية فى أعمال الفنان مع مثيلاتها لفلاحات مصريات،فى إشارة لذلك الرباط المتجذر الذى أسلفنا له.. وعند هذا المفترق نستطيع أن ندلف إلى مطروقات رزق البارزة، حيث الانتماء الإزاحى صوب النواة، متمثلاً فى توحد الفنان مع مفردات البيئة من طين وحيوان وطير ونبات، إضافة إلى العنصر البشرى من ذكر وأنثى كركيزة فى قلب المشهد الذى يشف عن خصوبة الأرض الولود وعزم الرجال الأشداء وصلابة النساء النواعم وحرمة الوطن الصابر، الأمر الذى يؤسس جسراً عتيداً بين البث والتلقى، معماره من ثقافة الاكتفاء ونزعة الاستغناء ونفحات الرضا وترانيم الخشوع، مرتكزاً على أعمدة من قدسية العمل وجلال الكفاح ووهج الضمير، وأظن أن كل هذه الروافد مجتمعة تشكل شلالاً مندفعاً ينحت الحس الثورى عند محمد رزق، بما يسمح بتصدير فائض طاقته إلى المشاهد عبر قواسم فطرية مشتركة فإذا تأملنا عمل ` الصمود ` عام 1967 والذى يرتكز تعبيرياً على ذلك الوجه المصرى العربى الناصرى، فى مزج إيهامى بين ملامح الزعيم وتضاريس وشوش جموع الشعب، حيث بدا الوجه مشدود الوجنتين.. منتصب الجبين .. محتد النظرة، وهى الظواهر التى وشت ببأس المقاومة وحرارة التحدى والرفض لهزيمة مباغتة، استفزت الهمم فى زمن قصير عقب النكسة، وقد نجح العمل على المستوى الرمزى فى استجلاء الانصهار بين القائد والجماهير فى لحظات وطنية فارقة، إشتبك معها رزق وجسّدها فى لقطة نحتية نحاسية بارقة، لم تكن إلا امتداداً فكرياً لأداء الفنان فى تلك الفترة المشتعلة قومياً .. وربما جاء هذا الفكر رافداً من حقبة المشروع الثورى السابق للهزيمة، وهو ما يتأكد فى عمل ` طرد الإنجليز` 1965 والذى يحشد فيه الفنان كتيبة من الفلاحين، يتقدمهم حصان يفترس آخر، فى استحضار لعنفوان الجهاد ضد المستعمر عبر مفهوم المُخَلّص .أما إذا نزعنا الدافع الأيديولوجى الرنان من بين ثنايا التكوين عند رزق، سنجد أنفسنا متجهين نحو مشهد مشبع بأريج الفطرة.. مغزول بخيط الانتماء.. يكون فيه الانتماء بمثابة اللحمة والسداه، إذ يحمل رمزيته الخفية فى رحم المدلول الجمعى، ويبدو هذا فى عمل `الفلاح والفأس ` 1981 - والمنفذ كذلك بتقنية الطرق على لوح نحاسى، حيث يتمركز فى بؤرة الصورة أحد المزارعين وهو يسير فى أرضه مقبلاً على العمل بهمة واستنفار، إكتسى بهما وجهه النحيف ورقبته مشدودة العروق كالأحبال وعضلات ساقيه المنحوتة كالجرانيت وكفه الأيسر القابض على الفأس بقوة، حتى أنها بدت فى حوزته كالبندقية فى حضن الجندى، وقد توارت بقية الجسد تحت جلباب فضفاض منتفخ بالهواء الناتج عن الحركة التى تجلت فى تباين وضع القدمين داخل البُلغَة، بينما اختفى شعر الرأس تحت عمامة محكمة، وقد ظهر الجسم على مستوى الملمس ناعماً بارزاً عن الخلفية الخشنة للوحة، بفعل دقات متجاورة من الأزميل، إقترب بها الفنان من ملمس فصوص الطين المتلاصقة، وأعتقد أنه عند هذه النقطة من التمايز البصرى الخالى من أى دوافع إنشائية خارجية، تكمن رمزية دفينة شديدة الخصوصية، تشير بأصابع عفية إلى الأرض كمصدر خالد لثمرات تقينا شر العوز وسؤال اللئام، وذلك عبر مقابلة تقنية بين ملمسين على سطح نحاسى واحد، يتسرب على أثرها الإحساس للمتلقى بالمزاوجة بين خصوبة الحرث وفحولة الحارث.. بين عزم الإنتماء ومتانة الجذور وعلى نفس النهج الفكرى والتقنى تأتى أعمال أخرى للفنان ، مثل ` العصا `، `التعتيق `، ` حمل الزمن `، `رفيق المشوار `، بينما نرى اختلافاً نوعياً لا يمس الجوهر فى عمل `الإرتواء ` 1986، والذى يجنح فيه رزق إلى الأداء التكعيبى الأملس لبناء تصاعدى يتشكل من الثلث الأعلى لجسد إحدى الفلاحات وهى تحمل فوق رأسها صفيحة منتفخة من فرط امتلائها بالماء، وقد ظهرت الخلفية أيضاً بلمسها الحبيبى الخشن، لتتبدل المزاوجة إلى مرادفة رمزية بين خصوبتى الأرض والأنثى .. بين ليونة الحركة ونداوة الطين.. بين رجرجة الماء ودلال الصبايا، وأظن أن لخامة النحاس هنا دور تعبيرى، إذ تساهم فى تكثيف الرسالة الرمزية عبر لمعان ينطفىء بعضه بالجنزرة الناجمة عن الإزاحة الزمنية المستمرة .. وقد تكررت تلك الآلية فى أعمال `ثلاث قرويات `، `جسد عارى`، `جسد تجريدى `، وكلها تختفي بالحضور الأنثوى الطاغى .. فإذا افترضنا جدلاً أن هناك ثمة علاقة مرئية فى الأعمال بين الفلاح والفلاحة على ذلك البساط الطينى الرطب، لاستطعنا أن نستبصر الصلة الرمزية الماثلة فى الذاكرة الشعبية بين الأرض والعرض، كتراث متجذر فى الشخصية المصرية . وفى استطراد للجدل الحوارى بين الذاتين الفردية والجمعية، ينتقل محمد رزق إلى البانوراما الحشدية فى عمل ` الخبيز ` 2002 ، مشيراً من خلاله إلى الطاقة التكاتفية فى صنع رغيف العيش، كرمز إضافى يكمل دائرة الإستقلال الذاتى، وقد اعتمد الفنان فى هذا العمل الجدارى النحاسى على الإيقاع الحركى الإحتفائى أثناء مراحل إنضاج الخبز، بداية من إعداد العجين وحتى إدخاله الفرن، مروراً بالتقطيع والتقريص والتبطيط والتطريح، وفى هذا الإطار نرى فى المشهد رجالاً من حملة الحطب وأجولة الدقيق ، ونساءاً يمارسن المناولة والإحماء جلوساً، وربما قصد الفنان من هذا التنوع الجنسى بين ذكر وأنثى أن يؤكد ثانية على الرمزية التكاملية على أرض وطن تميز عبر تاريخه بالوسطية والحرية وتوقير العمل كالعبادة، وقد شاركت خامة النحاس باحمرارها اللامع فى استثارة الحواس والذاكرة الإنفعالية نحو تلك العملية الحيوية، حيث استعار الحمية وصهد النار، ورائحة العجين الخمران والخبز الطازج، إضافة إلى اكتساء الوجوه بمزيج من تراب الفرن وعفار الدقيق وقطرات العرق ، وهى الطقوس اليومية التى لم تفارق أغلب باحات الديار الريفية المصرية حتى الآن ثم يستنطق رزق تلك القصيدة الكفاحية بمعزوفة حكاية فى عمل `شاعر الربابة ` 2000، والذى يتحول فيه إلى تقنية الشرائح النحاسية ، حيث يوظفها فى بناء تكعيبى للقَوّال وبَوّاح الربابة، وهى الآلة الموسيقية التى تعد بمثابة الديوان الغنائى للوجدان المصرى، وقد وصل الفنان فى هذا العمل إلى أعلى درجات `التراسل` بين الصوتى والبصرى عند مشارف التقاط نقيق الربابة أثناء طقس الفرجة المكتظ بأصوات متنوعة الرنين، مثل عزيق الأرض وحفيف الزرع وخرير الماء وصليل الصفائح وتكحيت البلغ وزفير الفلاحين وغناء الفلاحات، علاوة على `حمار محمد رزق الطيب `، رفيق الشقاء الذى يفصح عن انتمائه عبر جسده المرقوش بمربعات منتظمة وكأن شعره قد حلق للتو، وأذنيه المدلاتين وكأنهما ينصتان للمتلقى، وعينيه الممتلئتين بالحب والشفقة على المصريين من حمير النظام التى لا ترحم، لذا فقد تبدو حركة ذيله وأرجله دليلاً على فرحته بالحياه بين ذراعى هذا الوطن الذى سرقه قطيع من الحمير الانتهازية، وربما كانت فرحته كمثل نبوءة بابتلاع الأرض لهم، وتحويلهم إلى سماد يمنحها مزيداً من الخصوبة .. وخلال تلك الشكوى الحوارية بين المتلقى والحمار وفلاح مصر النبيل محمد رزق، ينتبه الجميع على صياح ذلك `الديك ` الرابض داخل سطح نحاسى دائرى، بريشه الوبرى الزخرفى، وكيانه البنائى الذى يجمع بين الواقعى والشعبى والأسطورى، وقد لعبت الدائرة فى هذا العمل دوراً رمزياً كونياً، أومأ به الفنان إلى العلاقة الأزلية بين النسبى والمطلق.. بين الشهادى والغيبى، ليظهر الديك داخل الإطار المستدير وكأنه يصيح بصوت محمد رزق نفسه، وهو فى حالة من التقمص الروحى، بدا فيها ثائراً لوطنه.. غائص القدمين فى طينة أرضه .. قابض اليدين على أزميله وفأسه.. مؤذناً لفجر جديد يستنهض به عزائم الانتماء بثقة فى متانة الجذور .
محمد كمال
مجلة ( الموقف العربى ) العدد 222 - أغسطس 2006
المثال محمد رزق بين الحديد والنحاس
- إن حلم أى رسام أو مثال مصرى هو أن يحيا من عائد فنه حياة كريمة ولا يتعرض لما تعرض له بعض كبار المبدعين العالميين أمثال` فان جوخ` و` دومييه، و` موديليانى` من شظف العيش.
- وإلى الآن لم يحقق هذا الحلم فى مصر إلا قلة نادرة ، نجحت فى تقديم أعمالٍ رفيعة فى مستواها الفنى، مستجيبة لحاجة رجال المال إلى إحاطة أنفسهم بما يمتع النفس وحاجة المؤسسات الاستثمارية إلى المظهر الجميل وحاجة المحافظات إلى نصب تذكارية تتباهى بها. من بين هؤلاء المبدعين الذين قدموا إلى حياتنا الاجتماعية فنا يجمع بين ` النافع` و` الجميل` المثَال` محمد رزق` الذى استعانت به مؤسسات عديدة لتجميل واجهاتها وأبهائها. وقد زين مدخل جريدة الاهرام ومدخل فندق هيلتون النيل وفندق مريديان وسياج بالجيزة وفندق ماريوت شرم الشيخ وأكاديمية مبارك للأمن والبنك الأهلى المصرى ومركز القاهرة للأشعة. وأنجز لمصانع الدخيلة للحديد مُجسَما حديديا ارتفاعه خمسة عشر مترا.
- بدأ ` محمد رزق` حياته الإبداعية محاولاً فى كتابة الشعر والقصة والعزف على الناى، كان ذلك فى قريته ` سيف الدين ` بمحافظة دمياط ، يتحدث عنها حديث العاشق قائلا: إن اللون الأخضر وسلاسة العلاقات البشرية كانت تملأ حياتى بأحلام مستقبل وردى، وكانت ` القاهرة ` بالنسبة لى محور تلك الأحلام، كانت تعنى: الالتحاق بالجامعة، النجومية الأدبية. وفى القاهرة تبخرت الأحلام، لم ألتحق بالجامعة بل التحقت بمصنع الحديد والصلب سنة 1957 وتعطلت محاولاتى الأدبية وارتبكت خططى حتى سنة 1962 .
- كانت صدمة القاهرة كبيرة ، ووجد نفسه محاصرا بكل ماهو مناقض لمرحلة القرية، فالقاهرة مدينة عدوانية بزحامها وفوضاها المرورية ونفاياتها المكدسة فى أحيائها الراقية والشعبية على السواء، غير أن القول الحكيم:` داوها بالتى كانت هى الداَء` كان نافعا له فتخفف من النفور إلى نوع من التعايش، كان من نتائجه أن استخرج من الظروف المغايرة ممكنات جديدة للابتكار. واستبدل اللون الأحمر (لون النار) باللون الأخضر واستبدل` دينامية` التحولات فى الصناعة بالاستسلام السكونى للحياة فى القرية. وشغف بشرائح النحاس وأغرته طراوتها بالاقتران بها ففعل، ومن يومها وحتى كتابة هذه السطور ظل وفيا لها.
- طريق للصعود
- كان عام 1962 عاما محوريا بالنسبة له، ففيه قرر الالتحاق بكلية الفنون الجميلة ( القسم الحر) وهناك التقى برائد المطروقات النحاسية المثال` جمال السجينى` ويتحدث رزق عن ذلك الموضوع بقوله : ` توجهت إلى السجينى كى أتعلم منه تقنية النحاس، غير أنه نصحنى بأن أتعلم هذا وحدى وكان رأيه أن الفن لا يلقن. وتركت الكلية ولم أكن قد أمضيت بها أكثر من ثلاثة أشهر وتوجهت إلى شارع ` خان الخليلى` لمتابعة الصناع المهرة والتعلم منهم. وأستطيع التوكيد بأن هذا الشارع كان أستاذى الحقيقى. والعجيب أنه حصل فى نفس العام على جائزة الدولة التشجيعية فى النحت.
- وكان هذا الاعتراف الرسمى بموهبته حافزا قويا لمواصلته الانتاج الفنى والتفرغ له- فيما بعد- تفرغا كليا.
- أصداء
- أقام` محمد رزق` ستة عشر معرضا، قوبلت جميعها باستحسان النقاد. واحتفى به نقاد الأدب ونقاد الفن على السواء. كتب عنه الفنان الكبير` حسين بيكار ` فى بابه الأسبوعى بجريدة الأخبار، يقول:` إن ارتباط الفنان ` محمد رزق` ببيئته وأبناء بلده ارتباط جذرى ينعكس فى رشاقة الخطوط التى تتماوج وتتلوى فى سيولة الموال ورقه الناى، وتبرز آثار المطرقة على السطح كأنها ايقاع نقرات الدفوف والطبول تزف المشخصات الراقصة فوق السطح اللامع`. ومهما كانت الآراء التى أبداها نقاده ودرجة اختلافهم فى التلقى والتفسير فقد اتفق الجميع على أهمية هذا الفنان الذى لم يتلقى- ربما لحسن الحظ- أى تعليم أكاديمى ولم ينل درجة الدكتوراه التى يتسابق على نيلها أنصاف الموهوبين بالكليات الفنية. ولم يتسلح الا بموهبته وإصراره فقدم اضافة فى مجال المطروقات والمجسمات النحتية وأضيف إسمه إلى قائمة كبار موهوبى جيل الستينيات الذين لم يحصلوا على شهادات عالية ولم يتوظف بعضهم فى وظائف حكومية أمثال: عبد الرحمن الأبنودى ، سيد حجاب ، أمل دنقل ، ابراهيم فتحى ، عبد الرحيم منصور، يحيى الطاهر عبد الله ، جمال الغيطانى، ابراهيم أصلان ، خيرى شلبى ومحمد يوسف القعيد.
- عن فنه
- يختلف ` محمد رزق` عن كثيرين من الفنانين المصريين فى رفضه الالتزام بقالب جامد، يقبل الاجترار، لهذا تزخر لوحاته بالتداخلات الأسلوبية. لا تحدد مراحله ملامح حاسمة مثلما هو الحال مع مراحل ` بيكاسو`، بل تتعايش الأساليب فى إطار زمانى أو مكانى واحد: ففى معرض واحد نلتقى بأعمال تعبيرية حريفة ` Fauvisme ` إلى جوار مستنسخة اسلامية بالغة الدقة، أنجزها للدراسة البحتة إلى جانب أشكال تجنح إلى التجريدية الهندسية وأخرى تستلهم التكعيبية التحليلية. وعلى الرغم من ذلك التنوع فهى (أى الأعمال) تعبر عن جذر واحد هو الوطن المصرى بحالاته المختلفة. ويمثل الانسان محورا دالا على تلك التحولات. والإنسان هنا ليس إنسانا مطلقا، بل هو- تحديدا-الفلاح المصرى والفلاحة المصرية. ويتجلى هذا الوجه فى صور مختلفة تختلف باختلاف حالات الوطن، لهذا يظهر ثائرا أحيانا، سعيدا أحيانا أخرى، صامدا فى حالة ثالثة. وتمثل الجياد موضوعه المحورى الثانى، تظهر جامحة ومنكسرة ومختالة.. وهكذا تتحول من صورة لأخرى انعكاسا للمد والجزر فى ساحة الواقع السياسى المصرى.
- 1967
- أقام سنة 1969 معرضا بقاعة ` جوته` وكان المعرض صدى لمعاناة 1967 ومن أبرز أعماله مجسمات ثلاث، تحمل العناوين الآتية: ` الصمود ` و` الغضب` (1) و`الغضب` `2`. لوحة الصمود تلخص الشعب المصرى فى وجه ريفى- صرحى، مفعم بالغضب، متحفز للمنازلة. ويرتكز الوجه على رقبة عملاقة، غنية بالتضاريس. وتقوم الطرقات المتنوعة باثراء السطح. وتحفل اللوحة بتفاصيل دقيقة ومفاجأت غير متوقعة فى بناء الوجه بشكل خاص، فهو لم يقم بتحليل شكل بنائى- واقعى يلتزم النسب التشريحية للإنسان بل أنشأ وجها ينتمى إلى` العمارة ` وقد أعانه الأسلوب التكعيبى فى الأبنية التحريفية الحادة. ويتجلى ذلك على وجه الخصوص فى التحليل المثير للمنطقة أسفل الفم والذقن والحفر على الجبهة.
- وتمتد كتلة من الأنف إلى الصدغ لتشترك بدورها فى معمعة كتلة المستويات الخطية المتداخلة. وتتسع اللوحة لكثير من الايحاءات القصصية. وربما أدرك الفنان ذات الطابع الروائى لعمله فقدم نقدا ذاتيا تمثل فى عمل آخر يحمل نفس الاسم ويختلف معه فى التاريخ والأسلوب: نفذ العمل الجديد سنة 1985 وهو مسبوكة نحاسية على عكس العمل الأول الذى نفذ بطريقة الطرق على المعدن النحاسى. يرتبط العمل الأول بايحاءات رمزية، تمثل الشعب المصرى فى هيئة المزارع الشجاع. السمح، يحاكم حالة ` الهزيمة ` ويدعونا (نحن المشاهدين ) إلى التحدى، بينما يتحول الوجه الثانى ليعبر عن انسان عصر العنف. تنتمى المجسمة الأولى إلى ` النحت البارز` والثانية مسبوكة تنتمى إلى ` النحت المدارى` أو ` الفراغى` وهى تستعير من العمارة هندسيتها الصارمة وملامسها المجردة، غير أنه- كعادته فى المفاجآت- يزلزل هذا الكيان المعمارى بزلزال يفصل المقطع الأعلى من الفم عن المقطع الأسفل ويمزق جزءا من الوجه بحدة. ويعترف محمد رزق بقوله: ` كنت أريد لهذا التمزق أن يمتد، غير أن مساعدى صاح: قلبى لا يطاوعنى.. لا أستطيع مواصلة التشويه أكثر من ذلك.
- الكمنجات أحيانا !
- منذ خمسة عشر عاما نشرت دراسة عن الفنان محمد رزق فى مجلة ابداع وكانت تحمل عنوان` رزق عاشق المطروقات النحاسية`. وفى معرضه السادس عشر الذى أقامه منذ عامين تقريبا بقاعة دار الأوبرا وخارجها، حاول أن يكمل عنوان مقالتى فوضع لمعرضه عنوانا هو: ` وعاشق الحديد أيضا!.. ولم يعلق على عنوانى السابق اطلاقا، بل أراد لرده أن يكون عمليا فقدم ما يثبت به جدارته بعشق الحديد وما تزال تماثيله قائمة حتى الآن فى منطقة الأوبرا الجميلة، وقد بدا على الشخصيات التى عانت من آلام الحرب تحولات إلى الاشراق وكأنما ترحب- بدورها- بما يسمى بعملية السلام فى الشرق الأوسط ، ظهرت الخيول فى منطقة الأوبرا وقد تخلت عن توترها السابق وبدت هادئة، مختلة بجمالها، مزينة بزخارف من نحاس، يتلألا تحت وهج الشمس وازداد جمال الوجه الأنثوى تألقا. وانتقلت الأنوثة إلى شكل الكمان وتوحدت به فى تمثال جميل، نسيج جسده من مسامير حديدية مدببة، فى صعودها إلى الذروة أو هبوطها إلى القاعدة تشكل تموجات متصلة وبالقرب منها يظهر عازف الرباب منشغلا بآلته الشعبية. ولقد سبق لمحمد رزق أن نفذ بالنحاس المطروق هذا الموضوع. وعندما نقله إلى خامة الحديد كبَره إلى الحد الذى لامس به الشجرة القريبة. ارتفاع التمثال ثلاثة أمتار وخمسة عشر سنتيمترا.
- واقعية مغايرة
- ذكر المفكر الفرنسى الكبير ` جارودى ` فى كتابه الجميل ` واقعية بلا ضفاف ` أن الأسلوب ` التكعيبى` كان أكثر دقة وأمانة فى نقل الواقع من الأسلوب ` الأكاديمى` الذى يكتفى بنقل الزاوية الوحيدة المرئية، مغفلا الزاوية غير المرئية، فى الوقت الذى اهتمت التكعيبية باظهار ما هو مرئى وما هو مخفى من زوايا الموجودات الواقعية، جنبا إلى جنب على مسطح اللوحة. وحاول ` محمد رزق ` أن يطبق هذا فى موضوع ` العارى` وقدم سلسلة من تماثيل المسبوكة بخامة النحاس فى سياق معرض ` الأوبرا`. جمعت عارياته بين منظورين متخالفين فى ذات الوقت. الزاوية الواحدة تفاجئ العين بكتل أسطوانية بارزة وأخرى غائرة. ويشكل هذا التعارض ايحاءات أوسع مما نصفه بالشكل المحدب والشكل المقعر إلى الإيحاء بالحضور والغياب فى الكتلة الرئيسية التى تنتظم تلك الثنائية. ويبدو لى أن تلك المحاولات لم تزل فى طور التجريب وقدم فى معرضه عينات منها لنتأكد أن بمقدوره أن يواصلها ويطورها. وقد سبقه إلى تلك التجربة المثال ` جمال السجينى ` فى تمثاله البديع عن الفنان ` سيد درويش `.
من أصداء تمثال نهضة مصر
- من آثار العمل الفنى العظيم أن يكون محركا لنوازع الخلق لدى متلقيه من المبدعين المعاصرين واللاحقين والأمثلة الدالة على ذلك لا حصر لها وتحتاج إلى دراسة مطولة ليس هذا مجالها. واذا كنا قد ذكرنا ` أصداء تمثال مختار` عنوانا لتلك الفقرة فلأنه جذر قريب، قد تناسل بدوره من جذور عميقة، تشعبت شرقا وغربا وتألقت فى الجمالية المصرية القديمة واختار منها ` مختار ` تمثال ` ابو الهول ` ليرمز به إلى حضارة تشع نورها فى ثقافات العالم. واللافت للنظر أن كل الابداعات العظيمة قد اتخذت من المرأة رمزا لخصوبة الوطن، صارت عند مختار ` فلاحة ` وعند المثال ` محمد رزق`_ صاحب آخر التماثيل الميدانية ` بنت البلد`.
- واذا كان ` مختار` قد اختار خامة الجرانيت التاريخية لتكون جسدا لفكرته عن النهضة فقد اتخذ ` محمد رزق` خامة الصناعات الثقيلة: ` الحديد` لتكون جسدا يعبر به عن موضوع تمثاله وهو: ` مصر السلام`. لم يحظ تمثال ` رزق ` بالظروف التاريخية والرومانسية التى أحاطت تمثال ` مختار`، وقد ثبتت تلك الظروف فى الذاكرة القومية الطابع الاستثنائى لظهور تمثال نهضة مصر ودور الشعب المصرى، بكل طبقاته وشرائحه فى جعل التمثال حقيقة واقعة. أما بالنسبة لتمثال ` محمد رزق ` فقد نفذه الفنان بتكليف من محافظ جنوب سيناء اللواء ` مصطفى عفيفى `، والتمثال موجود حاليا أمام مبنى الحكم المحلى بمدينة ` شرم الشيخ ` وتم تركيبة فى شهر ابريل سنة 1998، ارتفاعه فوق القاعدة (380سم). واذا كان العمل الفنى ( وهو هنا التمثال) يمثل لقاء بين الفنان والنموذج والخامة فلابد من تمدد العمل الفنى إلى تلك المنابع الثلاثة والاتصاف بمميزاتها: ` طراوة الجسد الأنثوى` للنموذج الحى وصلابة خامة الحديد ورؤية الفنان. وقد كشفت المرأة التى جسدها لبنت البلد عن شخصية الفنان نفسه، ففى الوقت الذى انصرف ` مختار ` عن الايحاءات الحسَية للمرأة حرص ` رزق ` على إبرازها، مثلما فعل ` ديلاكروا` فى رائعته ` الحرية تقود الشعب` عندما عرى ثدييها الممتلئين اشارة للخصوبة (والمرأة هنا هى فرنسا) وقبل كل هؤلاء فعلها مبدع تمثال ` نصر ساموتراس` قبل مولد السيد المسيح بثلاثة قرون. وعلى الرغم من صلابة خامة الحديد فقد نجح ` رزق` فى ابراز الايحاء بطراوة الثديين وجمال استدارتهما. وقد استغل الفنان امكانات الشرائح الحديدية الصغيرة فى خلق ملمس يشبه النسيج المخملى، تستقر فوقه كرات العقد الذى تتقلده المرأة. ولم يصرفنا اقتراب الفنان من النسب والتفاصيل الواقعية للمرأة وطيور الحمام عن الرموز التى كان حريصا على الاشارة إليها . وقد قام الفضاء المحيط بالتمثال بدور لافت فى الايحاء برمز ` السماوات المفتوحة ` والاتصال بثقافات العالم مع التمسك بالجذور القومية فى ذات الوقت .
بقلم : محمود بقشيش
جريدة الهلال : مارس 2000
- هناك حكاية تروى ، لست أذكر أين قرأتها ، غير أنى أرويها لما بها من حكمه يقال إن أميرا أو حاكما - لعله صينى - طلب من فنان شهير أن يطلعه على إبداع منه غير مسبوق ، فأجاب الرسام بثقة تشبة ثقة السيد `فوج` بطل قصة `جول فيرن` رحلة حول العالم فى ثمانين يوما قال إذا أردت ذلك الجديد فموعدنا معه العام القادم فى نفس اليوم ونفس الساعة والنزم الأمير بشرط الفنان وجاءه فى الموعد المحدد وسأله عن الرسم فما كان من الفنان إلا أن أحضر ورقة بيضاء وريشة غمسها فى الحبر الصينى ، وبثلاث لمسات رسم طائرا !.
- كاد الامير أن يعد ذلك إهانه له لولا ان الفنان قام بفتح خزانه كبيرة بها الأف من الرسوم الملونه وغير الملونه وقال للأمير :تلك هى التجارب التى قمت بها خلال العام الماضى ، وهذه هى النتيجة وشرح له مراحل تطورها .
- أطلعه أولا على لوحة لطائر ، ينطبق عليها تعبير الجبرتى ودهشته عندما التقى برسوم الفنان دريجو أحد فنانى الحملة الفرنسية قال وهو يصور الأدميين تصويرا يظن من يراه أنه بارز فى الفراغ مجسم يكاد ينطق وفى كل مرحلة جديدة كان يتجه الرسام الى الأقلال من التفاصيل مكتفيا بما يراه جوهريا الى أن بلغ أعلى درجات الإيجاز والبلاغة قصار بمقدروه أن يرسم طائرا بثلاث لمسات فقط .
دراسات نقدية..-
- تذكرت هذه الحكاية أثناء تأملى مجموعة ضخمة من الصور الملونه لأبداع المثال `محمد رزق` المقيم حاليا بالولايات المتحدة الأمريكية إن مراحلة الفنية تكاد أن تكون تطبيقا حرفيا لتلك الحكاية ومثلما فعل الفنان الصينى فى بداية تجاربة عندما إقترب إقترابا تسجيليا من الواقع، نفذ محمد رزق مجموعة من الدراسات الدقيقة ، تفاوتت فى إقترابها من الأصل الواقعى من أعماله التى وصل بها الى أعلى درجات الدراسة `الأكاديمية` مستنسخة من إبريق `مروان بن محمد` الموجود حاليا بالمتحف الأسلامى بالقاهرة وهو ابريق بديع الشكل يميل رجال الأثار الى نسبة صناعته الى الفن الفارسى والتزم محمد رزق بنفس تقنية فنان ذلك العصر فى طريقة الطرق واللحام وكبره ، عن الأصل ، سبعة وعشرين مرة وعلى الرغم من أن أحد الدوافع لهذه الدراسة كان استعراض المهارة والتميز ، فإن معاودة الأتصال بالحوار معه أمر لا غنى عنه إن الجديد لا يأتى من فراغ وليس قفزا فى فراغ ولو تأملنا على سبيل المثال مطروقتين من مطروقاته النحاسية يربطهما اسم واحد هو `الصمود` ويفصبها زمن يقترب من العشرين عاما لظننا للوهلة الأولى انهما لفنانين مختلفين غير أن شهادة الأنتماء الى فنان واحد ، تتضح شيئا فشيئا ، أثناء التحليل أنجز العمل الأول أو الصمود الأول فى أعقاب حرب1967 والصمود الثانى أنجز عام 1985 بعد التحولات الكبرى فى بنية وتطلعات المجتمع المصرى فى الوجه الأول اقتراب من الملامح الخارجية الواقعية دون الالتزام بحرفيتهما .
- أما الوجه الثانى فقد تخفف من التفضيلات الواقعية وانحاز الى البناء المعمارى دون أن يقطع الطريق على نفسه مع التعبير الرمززى ، وجه الستينات وجه فلاح مصرى يرتكز على رقبة عملاقة غنية بالتضاريس تغرى المشاهد باستخراج تداعيات قصصيه ورمزيه ، والوجه يبدو فى هيئته شامخا ، شجاعا وهو `البطل` الذى كنا فى أشد الحاجه اليه فى ذلك الوقت البطل القادر على مواجهة حالة الهزيمة والداعى الى الأحتشاد والثقة بالمستقبل رغم كل شىء أما وجه الثمانينات فهو وجه بلا وطن وجه إنسان الكرة الأرضية سبيكة من النحاس ، متعددة الملامس صريحة غير أنه يفاجىء هذا الرسوخ المعمارى بزلزال يفصل المقطع الأعلى من الفم عن المقطع الأسفل ويمزق جزءا من الوجه بحدة ( وكان يريد لهذا التمزق ان يمتد ، غير أن مساعدة صاح قلبى لا يطاوعنى لا أستطيع مواصلة التشوية إن تلك المسبوكة تترك فى النفس توترا لا يستطبع المشاهد المرهف الانفلات منه وتترك أثرا يصعب نسيانه وايحاء قويا بأن صمود الثمانينات صمود ممزق مشكوك فى امره على النقيض من صمود الستينات القائم على مواجهه الخسارة التى كان يظن أنها عارضة .
الطابع الدرامى والطابع الغنائى ..-
-يتبادل الطابع الدرامى والطابع الغنائى التطريبى المواقع فى مجمل انتاج ` محمد رزق` وربما كان هذا الامر طبيعيا بالنسبة لمعظم الفنانين .
- يحتشدون أحيانا من أجل عمل درامى ويلوذون أحيانا أخرى بواحة التطريب والغناء .. أملا فى عودة موفورة الصحة الى الجانب الأخر! يمثل وجه الانسان عند رزق الوسيط الدرامى ويمثل الحصان والطائئر وجذع المرأة ركائز الطرب ومن أبرز غنائياته مطروقات ` عناق الخيول` وصراع الديكة وكما ينتقل من الدراما الى التطريب وبالعكس ينتقل من استخدام للخطوط الحادة والمسطحات الحاسمة الى الخطوط اللينة المقوسة ففى تلك المطروقات المشار اليها تسود الخطوط اللينه . أما فى مطروقاته ذات الطابع الدرامى فإن الخطوط المستقيمة .الحادة . تسود واذا كات تبادل المواقع بين تلك المقابلات ظل حتى الآن فإن تطور موقفه من الكتلة والتفاصيل التعبيرية يبدو أو يكاد يبدو مستقيما فبعد أن كانت الكتلة لدية كتلة مستديرة يحيط بها الفراغ من كل جانب كما فى كتلة الحصان المجسم الذى انجزه عام 1980 وبغض النظر عن المشكلات الفنية المعتمدة التى نجح فى علاجها فإن العمل يقترب من تفضيلات الحصان الواقعى فى حين أن رأس الحصان الذى أنجزه عام 1985 قد تخلص تماما من شكل الكتلة المستديمة الى نوع أخر من الكتلة يقوم الفراغ بالأسهام فى تكوينها بإكمال ما توحى الكتلة من اتجاه وإشارة وإضطره التركي فى جوهر فن النحت بإعتباره حوار بين الكتلة والفراغ أن يتجاوز التفاصيل الوصفية واكتفى بتلصيق شرائح النحاس كما ظهر الانسان مشك .. من الانابيب والكرات المعدنية وتشارك مفرده الطائر نفس ايقاع تطور المفردات الاخرى غير أن خط التطور هذا والذى قلت عنه بأنه يكاد يكون مستقيما لايخا.. من بعض الاستعدادات للحن جميع مضى وربما لضرورات تتجاوز حدود حرية الفنان .
- من أهم لوخات الطيور ثلاثية الحرية تتسق شكلا ومضمونا يجمع فى ثلاثيته طابع القص دون أن تستدرجة لغة الأدب والتلخيص الذى لا يقطع الصلة بين الشكل واصوله الواقعية والاناقة التى تتورط فى التزيينية تشكل ثنائية الحمامة والقضبان محور اللوحات الثلاث فى اللوحة الأولى يظهر ايحاء بشكل حمامة مندفعا فى مواجهه القضبان وتبدو اثار القضبان الكابحة فى جسد الطائر وفى اللوحة الثانية تظهر نتيجة تحدى الطائر للقضبان أما اللوحه الثالثه فتمثل مسطحا مصقولا كالمرأة ليس به سوى خطوط الضبان الحادة ووجه المشاهد بالبطبع ويصل بثلاثية الى نتيجى مؤلمة هى ألا أمل فى سلام وربما أراد أن يجيب علينا بمجمل انتاجة .
- بقوله : بل انتقال دائم بين الحزن والسعادة!
بقلم : محمود بقشيش
مجلة : الهلال ( أكتوبر 1989 )
محمد رزق.. عاشق المطروقات النحاسية
-(عن الفنان)
- بدأ `محمد رزق` حياته الإبداعية محاولاً فى كتابة الشعر، والقصة، والعزف على الناى كان ذلك فى قريته `سيف الدين` بمحافظة دمياط، يتحدث عنها حديث العاشق قائلاً: `إن اللون الأخضر، وسلاسة العلاقات البشرية، كانا يفعمان حياتى بأحلام مستقبلى الوردى فى `القاهرة`؛ الالتحاق بالجامعة. النجومية الأدبية، وفى القاهرة `تبخرت الأحلام، فلم ألتحق بالجامعة، بل التحقت بمصنع الحديد والصلب عام 1957، وتعطلت محاولاتى الأدبية تماماً، وارتبكت خططى حتى عام 1961`.
- كانت صدمة `القاهرة` كبيرة، فقد حوصر بكل ما هو مناقض لمرحلة القرية، فالقاهرة مدينة عدوانية، وإن مارست العدوان بطريقتها الخاصة!.. غير أن القول الحكيم: `داوها بالتى كانت هى الداء` كان نافعاً له، فتخفف من النفور، إلى نوع من التعايش، وبالعادة استخرج من ظروفه الجديدة ممكنات جديدة للابتكار، فاستبدل اللون الأحمر - لون النار - باللون الأخضر، واستبدل `دينامية` التحولات فى الصناعة بالاستسلام `السكونى` للحياة فى القرية، وشغف بشرائح النحاس الرقيقة، والصلبة، وأغرته بالاقتران بها ففعل. ومن يومها وحتى كتابة هذه السطور ظل وفياً لها، وما أن يُذكر أحدهما حتى يتداعى الآخر إلى الذاكرة! وجاء عام 1962، وكان عاماً محورياً بالنسبة له، ففيه قرر الالتحاق بكلية الفنون الجميلة (القسم الحر)، وهناك التقى بفنان النحاس الرائد `جمال السجينى`، ويتحدث الفنان عن تلك المرحلة قائلاً: `توجهت إلى السجينى` كى أتعلم منه تقنية النحاس، غير أنه نصحنى بأن أتعلم هذا وحدى، فالفن لا يُلقن، فتركت الكلية ولما أمض بها أكثر من ثلاثة شهور، وتوجهت إلى شارع `خان الخليلى` لمتابعة الصناع المهرة، والتعلم منهم، وأستطيع التوكيد بأن هذا الشارع كان أستاذى الحقيقى` والعجيب أنه حصل فى نفس العام على جائزة الدولة التشجيعية فى النحت. كان هذا الاعتراف بموهبته دافعاً قوياً لمواصلة الإنتاج الفنى، وتفرغ له فيما بعد تفرغاً كلياً.
- (آراء بعض نقاده)
- أقام `محمد رزق` أربعة معارض، قوبلت جميعها باستحسان النقاد والجمهور، واحتفى به نقاد الفن التشكيلى، بل نقاد الأدب أيضاً، مثل الناقد الأستاذ `محمود أمين العالم`، الذى تناول إنتاجه تناولاً أدبياً، فكتب(1): `محمد رزق يطرق النحاس طرقات من نوع آخر، تحس فيها بألحان الآلات الموسيقية إحساساً بصرياً! تحس بالمطروقات دراما، حية، تعبر، وتفيض بأعماق التجربة البشرية`.... `ولهذا ففى مطروقاته قصة أحداث بشرية كبيرة، قد تعبر عنها لفتة سريعة، أو حركة مبتكرة، أو إيماءة موحية. ومن حركة الأشياء، من بناء الأشياء، من موقف الإنسان إزاء الأشياء يصنعها ويصوغها ويسيطر عليها من العمل والصناعة والإرادة الإنسانية يستخلص محمد رزق ألحانه، ثم يروح يصبها بل يستخرجها بطرقاته الموهوبة على صفحة من نحاس`، أما الفنان، الناقد `حسين بيكار` فكتب عنه فى بابه الأسبوعي بجريدة الأخبار: `إن ارتباط الفنان `محمد رزق` ببيئته، وأبناء بلده ارتباط جذرى ينعكس فى رشاقة الخطوط التى تتماوج وتتلوى فى سيولة الموال ورقة الناى، وتبرز آثار المطرقة فوق السطح كأنها إيقاع نقرات الدفوف والطبول تزف الشخصات الراقصة فوق السطح المعدنى اللامع`، وقال عنه الفنان `حلمى التونى` تلاحظ فرقاً كبيراً شاسعاً بين أوائل الأعمال التى تتسم بالخطابية والتزويق الذى يقل فيه العمق والإحساس الفنى، وبين أعماله الأخيرة التى بلغ فيها درجة كبيرة من البلاغة الفنية والتعبير الرقيق المرهف `ومهما كانت الآراء التى أبداها نقاده، ودرجة اختلافهم فى التلقى والتفسير، فقد اتفق الجميع على أهمية هذا الفنان، الذى لم يتلق - ربما لحسن الحظ - أى تعليم منهجى، ولم يحصل على شهادات، ولم يتسلح إلا بموهبته وإصراره، فقدم إضافة فى مجال المجسمات النحاسية، التى بدأها الرائد `جمال السجينى` وأضيف اسمه إلى قائمة موهوبى جيل الستينات، الذين لم يحصلوا على شهادات، ولم يتوظف بعضهم فى وظائف حكومية أمثال: عبد الرحمن الأبنودى، سيد حجاب، أمل دنقل، إبراهيم فتحى، عبد الرحيم منصور، يحيى الطاهر عبد الله، جمال الغيطانى، إبراهيم أصلان، خيرى شلبى، محمد يوسف القعيد.
-إن فطريته، وسماحته الريفية، تنعكسان على مجمل رحلته الفنية، فتطالعنا أعماله ذات الطابع التعبيرى، والرمزى الحريف. بانعكاس مايدور فى الواقع الاجتماعى والسياسى المصرى انعكاساً صادقاً، وتحفزنا فى كثير من الأحوال إلى الصمود، والتحدى، ويشترك مع `السجينى` فى أنهما يعبران عن قضايا الواقع المصرى، ويختلفان فى طريقة التناول، ففى حين يتجه `السجينى` - فى مطروقاته النحاسية - إلى `تجميل` الشحنة التعبيرية، والحرص على الأناقة، مستعرضاً قدراته الأكاديمية `فى بناء الشخوص، يواجهنا `محمد رزق` مواجهة مباشرة بأشكال محمومة، لا تتوقف بنا عند حلية مهدئة. بل تتنوع فى عطائها، ودرجة بلاغتها. كانت أعماله، فى مرحلة الشباب، عالية النبرة، ثم صارت، فى مرحلة الكهولة ترجمة لقول `النفرى`: `إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة` وتحكى أعماله حكاية الآمال العريضة التى عاشها جيل الستينات ثم سقوط الأحلام الوردية.
- (.. وعن فنه)
-يختلف `محمد رزق` عن كثيرين من الفنانين المصريين فى رفضه الالتزام بقالب جامد متكرر، فمراحله الفنية تزدحم بالتداخلات الأسلوبية؛ لا تحدد مراحله ملامح حاسمة، بل تتعايش الأساليب فى إطار واحد، ففى معرض واحد نلتقي بأعمال تعكس تعبيرية حريفة، إلى جوار مستنسخة إسلامية أنجزها بقصد دراسة لون من ألوان الفن الإسلامى، إلى جوار أشكال تجنح إلى التجريد، وهكذا... وفى تقديري أن رفضه أن يوضع في قالب يُعرف به يتسق مع حرصه على أن يكون صادقاً مع نفسه. وربما كانت وجهة نظره أن الحياة أكثر تنوعاً وخصوبة من أن توضع فى تابوت فنى، وبالتالى متنوع الأساليب يعنى تنوع زوايا النظر للحقيقة الواحدة، وبالنسبة لمثال النحاس فإن الحرص على التكرار. يضعه فى إطار صانعى القدور. (وعلى الرغم من التداخل الأسلوبى فإن موضوعاته ثابتة. محورها الإنسان، شاعراً متألقاً، أو حزيناً، وفلاحاً صامداً أو ثائراً، وريفية سعيدة، أو وجهاً غاضباً، أو نازفاً، أو مشوهاً. ومن موضوعاته الرئيسية الأخرى الجياد الجامحة أحياناً، والمنكسرة أحياناً أخري. الصفة الثابتة، أيضا فى مجمل أعماله هى `الحركة`، التى تأتى تارة من الخطوط المتماوجة، المتصلة، وتارة عن طريق التحليل التكعيبى، حيث الانتقالات المفاجئة بين النور والظل وبين الإنسان والجياد، تظهر بعض الحيوانات الأخرى ظهوراً غير متكرر مثل الديك، والعنزة، والثور.
-الأعمال الفنية..
-..لنتأمل الآن عدداً من أبرز أعماله الفنية، ولنبدأ بمعرضه الثالث، الذى أقامه بقاعة `جوته` عام 1969، وكان صدى لمعاناة 1967، ومن أهم أعماله الممثلة لمحنة الوطن مجسمات ثلاث، تحمل العناوين الآتية: `الصمود` و` الغضب`(1)، والغضب`(2) لوحة `الصمود` تلخص الشعب فى وجهٍ ريفى صرحى، ممتلىء بالغضب والإصرار، متحفز للمنازلة. ويرتكز `الوجه` على رقبة عملاقة، غنية بالتضاريس، ويقع فى مستويات خطية، متداخلة، وتقوم الطرقات المتنوعة فى إثراء السطح، وتحفل اللوحة بتفاصيل دقيقة، ومفاجآت غير متوقعة فى بناء الوجه بشكل خاص، فهو لم يقم بتحليل شكل بنائى، واقعى، يلتزم النسب التشريحية للإنسان، ولكنه أنشأ وجهاً ينتمى إلى `العمارة`، وقد أعانه الأسلوب التكعيبى فى الأبنية التحريفية الحادة، كالتحليل المثير للمنطقة أسفل الفم، والذقن، والحُفَر على الجبهة، والأسارير، وتمتد كتله من الأنف إلى الصدع، لتشترك بدورها فى معمعة المستويات الخطية المتداخلة، والمتصلة، والمتنوعة الملامس، فى رفع نبض الحركة، وتتسع المجسمة لكثير من الإيحاءات القصصية. ولقد أدرك الفنان ذلك الطابع، فقدم نقداً ذاتياً تمثل فى عمل آخر يحمل نفس الاسم، ويختلف فى التاريخ - فقد نفذ `الصمود` الجديد عام 1985 - كما يختلف معه فى الإنشاء، فقد نفذ العمل الأول بطريقة الطَرق، ونُفذ العمل الثانى عن طريق السباكة. يرتبط العمل الأول بإيحاءات رمزية؛ الشعب المصرى. المزارع الشجاع.. السمح.. يحاكم حالة `النكسة`، ويدعونا إلى التحدى، بينما يصبح `الوجه` الثانى تجسيداً لمحنة إنسان عصر العنف. تنتمى المجسمة الأولى إلى `النحت البارز`، والثانية `مسبوكة` تنتمى إلى `النحت الفراغى`، بل هى أقرب إلى العمارة، بهندسيتها الصارمة، ومسطحاتها الصريحة، و`ملامسها` المعمارية، غير أنه يفاجىء هذا الرسوخ المعمارى بزلزال يفصل المقطع الأعلى من الفم عن المقطع الأسفل منه، ويمزق جزءاً من الوجه بحدة، كان يريد لهذا التمزيق أن يمتد، غير أن مساعده صاح: قلبى لا يطاوعنى.. لا أستطيع مواصلة التشويه!، والواقع أن تلك `المسبوكة` تترك فى النفس توتراً لا يستطيع المشاهد المرهف الانفلات منه. إذن، فصمود الثمانينات صمود ممزق. مشكوك فى أمره. على النقيض من `صمود` الستينات، القائم على مواجهة الخسارة التى كان يُظن أنها عارضة.
- أما المجسمة الثانية فعنوانها `الصمت` نُفذت عام 1968 - وإن كنت أفضل أن أطلق عليها عنوان `الغضب` فسطحها ملىء بالحفر، والالتواءات وسطحها غير مستقر، غير متمركز، فى بؤرة محورية، زاخر بتجاعيد الطًرقات الدقيقة، والطرقات الشبيهة باللطمات الساحقة على سطح يوحى إليك بأنه سطح عجينى لا سطح نحاسى. ولاشك أن هذا يكشف عن براعة الفنان وقدرته فى السيطرة على الوسائط. تمتلىء صفحة المجسمة بالوجوه الغاضبة الصامتة تذوب الخطوط الفاصلة بينها، كما تذوب مع أرضية المسطح، فسطح المجسمة يشبه مولداً لكيانات تتضح أحياناً فى شكل الوجوه المشار إليها، أو تغمض أحياناً أخرى، مجسدة تضاريس تتراوح بين الغائر والبارز، ويلتقط من تلك الوجوه المتجهمة وجهاً واحداً يملأ به لوحة `الغضب 2`، ويستخرج منه مستويات خطية، وتنويعات ملمسية، متداخلة تداخلاً عنيفاً، ويخلق بتضاريس الوجه المتباينة جواً محموماً بالتوتر، وتدهش كيف نجح الفنان فى الاحتفاظ بتلك التعبيرية الحريفة مع خامة تحتاج إلى دقة، وصبر شديدين. قدمها بنفس الحيوية التى يقدمها رسام فى جلسة واحدة. ويعود فى الثمانينات - وبالذات عام 1986 - ليقدم مجسمة حول نفس الموضوع: الغضب. غير أن غضب الثمانينات اكتفى بالتلميح، والإشارة، منصرفاً عن المبالغات العاطفية، مرجحاً كفة البناء المعمارى القائم على المسطحات المستقيمة، الصارمة، فى حين تختفى أى إيحاءات بالشكل العضوى للكائن الحى. ليس أمامنا سوى المستقيمات الطولية. والعرضية والمائلة، ونوايا الفنان التى تلمح ولا تصرح. (اتسم `غضب` الستينات بالمبالغات العاطفية، واتسم `غضب` الثمانينات بالبنائية الهندسية، والواقع أن هذا التناقض لا يمثل تغيراً فى موقف الفنان الجمالى فحسب، بل يؤكد التطرف الشديد والانتقال الحاد من النقيض إلى النقيض، فعالمه التشكيلى لا يعترف بالدرجات الوسطى التى تربط الأبيض بالأسود، وسنعود بعد قليل إلى هذه النقطة لتفسيرها. من موضوعات الفنان الرئيسية `المرأة العارية`، ولكنه يلتقط منها الجذع فقط، ولقد ظهرت بصورة باهرة فى معرضه الثالث عام 1969، حيث قدم نماذج تتراوح بين التجسيم الفراغى، والتجسيم المسطح، ولقد نجح نجاحاً لافتاً للنظر فى المجسمات الفراغية، التى حفلت بالخطوط المنحنية، والمتماوجة، والحلزونية، الموحية بطراوة، وحيوية الأنوثة. يمتلىء الجذع فى المواضع التى يتعين الامتلاء فيها، ويخف فى المواضع المناسبة، حاذفاً عائق الذراعين أمام انسيابية الإطار الخطى وفى الذروة يفاجئنا بانقسام، سرعان ما يلتئم، فى خط متماوج ينصف `الشكل`، موحياً لنا بكيانين إنسانيين يتعانقان. إن رهافة اللفائف النحاسية، وإدراكك بأنها مجوفة، يضيف إلى السلاسة خفة، ورشاقة، وإيحاءً بذوبان `الشكل` فى الفراغ. ذلك الفراغ الذى رسمه الإطار الخطى، فجاء متحالفاً معه.
- نلاحظ أن الخطوط المنحنية، والخطوط المستقيمة تتبادل البطولة فى مجمل أعماله الفنية - وإن مال أكثر إلى الخطوط المستقيمة - فالعمل الواحد يسوده، وبصورة كاملة - فى معظم الأحيان - إما الخطوط المستقيمة وحدها، أو المنحنية وحدها، ولكنهما لايجتمعان إلا نادراً، فى محاولات سوف نتوقف عندها بعد قليل.
- الخلاصة : إن ذلك النوعين من الخطوط لا يتواجهان، أو يتحاوران، ومن ثم فهو يقفز تارة إلى `الأبيض` وتارة أخرى إلى `الأسود` دون أن يعبر المسافة الفاصلة بينهما. إن مجموعة الجذوع المجسمة فى الفراغ مجرد جملة تأملية فى سياق عاصف، لهذا عندما تنتقل تلك الجذوع إلى المجسمات المسطحة ترتفع النبرة العاطفية، يساعده على ذلك الممكنات التعبيرية لمسطح النحاس، التى تتيح لمن يمتلك عواطف جياشة من الفنانين أن يتوغل، أو يغوص فى أسطح اللوحة إلى أقصى الدرجات المتاحة، كما فعل فناننا، ويرتفع بالمسطح إلى حده الأقصى. (وفى عمل من أعماله الجميلة، يستعرض حشداً مختلطاً من الأجساد الأنثوية، لا نتبين فيها كياناً مفرداً، بل على النقيض تشكل تلك المفردات كياناً كلياً صاخباً بالحركة. علاقة الشكل بالفراغ علاقة فعالة. يشتبكان. فالفراغ الغائر يظهر، أحياناً، مرسوماً بحدود الشكل وأحياناً، مكملاً للبروز. من هنا دبت الحياة فى اللوحة، تزيد منها اختلاط الأجساد، الداغم للحدود. هو لا يصف ولكنه يضعنا فى قلب حالة تشكيلية، لا تجد العين معها ضرورة للتوقف أمام جزئية من الجزئيات، فكل واحدة تسلمك للأخرى، وهكذا، غير أنه حدد مسرحه بمحطات نهائية فى الجانبين.
- يحتل موضوع `الخيول` مركزاً مرموقاً فى إنتاجه الفنى ويأخذ نفس التوجهات الأسلوبية، التى صاغ بها بقية موضوعاته؛ التقلب بين شاعرية الأقواس، والتموجات وبين صلابة الخطوط المستقيمة، وصراحة المسطحات العريضة، بعض خيوله تتسيدها الأقواس، والمنحنيات، والخطوط المتصلة والأشكال المقعرة، والمحدبة المموسقة، كما فى لوحة `خيول`، التى أنجزها عام 1983. تمثل اللوحة أبرز سماته - أعنى الحركة. والحركة فى هذا التكوين حركة دوامية متصلة، فرأسا الجوادين يشكلان بؤرة الدوامة، ومركز الانتشار، فتخرج من جوف الدوامة دوامة أخرى، كما تنشأ دوامات فى جسد الجواد الأمامى، لا تستهدف التحليل بقدر ما تواجهنا بأشكال جديدة، ومثيرة، ومن التباديل والتوافيق يتكون تكوين ذو طابع غنائى غير أن الانسجام لا يدوم، فسرعان ما تلم بخيوله نفس المصائب التى تصيب الوطن، فينكسر شموخها، ويغزوها الجفاف، وإن التقينا ببعض الاستثناءات مثل `رأس جواد` التى أنجزها عام 1985، ووصل بها إلى درجة عالية من النضج، فتخلص من التفاصيل ونجح فى إنشاء كتل فراغية عن طريق ثنى والتصاق المسطحات النحاسية، وإيقاعات النور والظل، والفراغ المرسوم بين المسطحات، وعلى الرغم من عنايته - فى هذا العمل - بالحسابات الرياضة لم يفلت منه التعبير.
- وتترد نفس الملامح الأسلوبية فى موضوعات أخرى كالشاعر الشعبى الجوال، حيث يتجلى بحالات تعبيرية، تتراوح بين الانطلاق، والانطواء، كما تتراوح بين الإغراق فى التفاصيل والاكتفاء بما هو جوهرى، غير أن كفة التلخيص، الذى يقترب من التجريد قد رجحت فى مراحله الأخيرة، وبشكل خاص فى مجموعة أعمال تعتمد اعتماداً كلياً على حوارية المواسير المستقيمة والكرات المعدنية، وهى من الأعمال القليلة التى تجتمع فيها الخطوط المستقيمة والخطوط المنحنية. أعطانا بمواسيره خطوطاً صريحة، وحواراً ذكياً بينها وبين الفراغ الناشىء عنها، والموحية، فى نفس الوقت، ببعض الوحدات الزخرفية الإسلامية، ونجح فى استنطاق مواسيره تعبيرات متباينة، ففى مجسمة بعنوان `المهزوم` يواجهنا بشكل إنسانى يتلقى ضربات من مصدر مجهول، وفى ثنائية `انسجام` نشعر أننا أمام رقصة `فالس` لعاشقين، وهكذا...
- (ثلاثية الحرية)
-وهى ثلاث لوحات تتكامل، يبلغ بها `الحكمة التشكيلية` - إن صح التعبير - ففيها ينسجم الشكل مع معطياته التعبيرية. يجمع فى ثلاثيته: طابع القص دون أن تستدرجه لغة الأدب، والتلخيص الذى لا يقطع الصلة بين الشكل وأصوله الواقعية، والأناقة التى لا تتورط فى التزيينية. تشكل ثنائية `الحمامة والقضبان` محور اللوحات الثلاث. فى اللوحة الأولى يظهر إيحاء بشكل حمامة، مندفعاً فى مواجهة القضبان، وتبدو آثار القضبان الكابحة فى جسد الطائر، وفى اللوحة الثانية تظهر نتيجة تحدى الطائر للقضبان؛ جَسَدّ ممزق، وترسم حدود الأشكال المقطعة نسخة سالبة للقضبان، أما اللوحة الثالثة فتمثل مسطحاً مصقولاً كالمرآة، ليس به سوى خطوط القضبان الحادة، ووجه المشاهد بالطبع، ويصل بثلاثيته إلى نتيجة مؤلمة، فالسعى إلى `الحرية` محكوم عليه بالفشل، وهى لا توجد إلا فى منطقة النوايا الطبية.
- وهكذا تختفى الإشراقة القديمة فى أفراحه الريفية، والتغنى بالعمل، والخيول الطليقة، ومواويل المغنى الشعبى. يختفى كل هذا، مستسلماً للحزن؛ تنكسر الخيول، ويتمزق المغنى، وتغيب ليونة الجذوع النسائية، ويغلب عليها الجفاف، والحدة، وتشبه رؤوس حراب متقاتلة، بعد أن تلاشى الوئام، والمحبة، وتاه الحلم الوردى، ولم يبق غير الانطواء والإجادة فى الأداء!
بقلم : محمود بقشيش
مجلة : إبداع (العدد 8 ) أغسطس 1986
|