ويصا واصف .. 100 عام على عبقرية هندسية مصرية
* صاحب تجربة فطرية فريدة..
-عندما تذكر الهوية المصرية معماريا، يتبادر سريعا إلى أذهاننا الراحلين العظيمين رمسيس ويصا واصف، وحسن فتحى، معماريان من طراز فريد، صاحبا رؤية متفردة وأسلوب خاص فى طرح الأفكار والرؤى، ولعل أعمال المعمارى الراحل رمسيس ويصا واصف ظلت تحكى حتى يومنا هذا، وستظل نموذجا للأجيال القادمة عن المفهوم الصحيح لكيفية إبداع الفنان المصري، التى تشهد عليها أعماله، ومنها مركز الفنون فى الحرانية، ومتحف محمود ومختار للنحت فى القاهرة، وكنيسة المرعشلى بالزمالك وكنيسة الشهيد مار جرجس بميدان هليوبوليس، وبيته فى العجوزة، ومتحف حبيب جورجى، وغيرها الكثير، وبمناسبة مرور 100 عام على ميلاده، أقام قطاع الفنون التشكيلية بالتعاون مع أسرته، معرضا لأعماله بقصر الفنون، ناقلا للأجيال جانبا من إبداعاته وأفكاره وخبراته.
- واصف فنان ومعمارى مصرى من الجيل الثاني، ولد عام 1911، درس فى فرنسا وحصل على دبلوم الفن من أكاديمية الفنون فى باريس عام 1935، عاد بعدها إلى مصر ليبدأعمله الأكاديمى ويقوم بدور مهم فى إنشاء قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة بالزمالك مع المعمارى المصرى العالمى حسن فتحى، وزامله كأستاذ للفنون وتاريخ العمارة، ليكون العملاقان إلى جوار بعضهما يعلمون جيلا بعد جيل.
- ظل ويصا واصف يؤمن بأن قدرة الإنسان على الإبداع الفطرى لم تستغل كما ينبغى حتى وفاته، وكان هذا الإيمان دافعا قويا فى تشكيل هويته المعمارية التى تعتمد على تنمية حاسة الإبداع الفطرى عند كل إنسان أيا كانت درجة تعليمه ومؤهلاته، وكان واصف قد تأثر أثناء دراسته بالخارج تأثرًا كثيرا بالمنهج التجريبى فى الفن، مما دعاه إلى خوض تجربة فريدة فى قرية `الحرانية`على أطراف الجيزة، حيث قام بتقسيم مجموعة من أطفال القرية تتراوح أعمارهم بين 8 و 12 سنة إلى مجموعات عمل، وألحقهم بمركز فنون السجاد الذى أنشأه بالقرية، وقد اعتمد المركز على المنهجية التجريبية فى الفن، فلا توجد رسومات أو مخططات مسبقة لشكل العمل الفنى الذى يقوم به الصغار، بل كان الأمر متروكًا لملكة الإبداع الفطرى التى ولدت معهم بشكل تلقائي.
- اعتمد واصف على تنمية الحس الإبداعى عند الأطفال جنبا إلى جنب مع تنمية الحس المهني، حيث يجعلهم يبدأون بأنوال صغيرة وبعدد قليل من الخيوط، وبألوان قليلة، ونوعيات خيوط سهلة فى التعامل معها، وبمرور الوقت تنمو الحاسة الإبداعية ويكبر معها مقياس العمل ليصل إلى الأنوال الكبيرة التى يعمل عليها أكثر من فرد وبتنوعات من الخيوط والألوان تسمح بخروج أعمال إبداعية على درجة أكبر من التعقيد، وقد نجح المركز إلى حد كبير فى إعادة توطين فنون صناعة السجاد والكليم فى تلك القرية، وسريعا اكتسبت منتجات المركز شهرة عالمية وأصبحت حديث المعارض الدولية لما فيها من تلقائية فنية وحس أصيل، وقد طافت أعمال أطفال الحرانية كل دول العالم ونالت العديد من الجوائز كما نالت أسرة الفنان ويصا واصف جائزة الأغاخان عام 1983تقديرا لأعمال الفنان العظيم.
- وكانت فلسفة ويصا واصف تدعوا للتكامل بين الطبيعة والإنسان، مشتركا فى ذلك مع رفيقه فى الفكر حسن فتحي، انعكس ذلك على مبانى المركز التى صنعت بيد أهالى الحرانية من قوالب الطين المجفف المتوافر بكثرة هناك، اعتمد ويصا واصف على معلمين لحرفة البناء من أقاصى صعيد مصر استعان بهم ويصا لتعليم أهل الحرانية كيف يبنون بيوتهم وورشهم، كما اعتمد عند توسعة المركز على خبرته بفنون العصور الوسيطة فى مصر، التى تحمل مزيجا فريدا يجمع بين العمارة الفرعونية والقبطية والإسلامية، وجعل أهالى الحرانية يبنون قبابا وأقبية من قوالب الطين المجفف باستخدام الأساليب القديمة بعيدا عن الأساليب الحديثة التى لا تحترم البيئة من وجهة نظره وتوظف الآلة على حساب الإنسان، كما أعطى الفرصة لحديثى الزواج من المحليين فى أن يمتلكوا الأرض المجاورة للمركز، ويصممون عليها بيوتهم الخاصة ويبنونها بأيديهم فحقق بذلك ارتباطا قويا بين الإنسان وبين عمله وبيئته يفتقده أهل الحضر الذين يسكنون مدن مسبقة التشييد.
- عند وفاة رمسيس ويصا واصف عام 1974 كان للمركز سمعة كبيرة وشهرة واسعة فى مختلف بيوت التصميمات العالمية، مما دعا زوجته وأولاده التعهد بالعمل والإشراف على المركز مستكملين حلم الفنان المصرى فى أن يصبح كل إنسان فى الحرانية فنان بالفطرة يخرج أعمالا متفردة يستحيل تكرارها مرتين تحمل المعنى الحقيقى للإبداع الفنى البعيدعن التنظير والمنهجيات المنظمة، كما نجح خلفاء ويصا واصف فى إضافة العديد من الصناعات اليدوية الأخرى مثل صناعات الخزف اليدوى والأغطية والملابس اليدوية.
- وبالقرب من مركز فنون السجاد والحرف المحلية، الذى يضم العديد من ورش العمل والفنون وصالات العرض، يقع متحف حبيب جورجى والد زوجة ويصا واصف وزميل مشواره الفني، ويضم المتحف عدة قاعات عرض تضم بين جنباتها معروضات متنوعة بين أعمال خزفية وفخارية ونسيجية، كلها من المواد المحلية وبأيدى أهل الحرانية، بالإضافة إلى هذا المتحف نجد متحفا آخر خاص بمشوار ويصا واصف الفنى، أسسته أسرته عام 1989 تخليدا لذكراه، وذكرى تجربته الفريدة لعلها تكون مصدرا لإلهام من سيأتون بعده.. يعرض المتحف لمسيرة الفنان ويؤرخ لتجربته من خلال المعروضات التى تضم النماذج الأولى لأعمال أطفال الحرانية وعدة مبان من تصميمه منها كنيسة المرعشلى بالزمالك وكنيسة الشهيد مار جرجس بميدان هليوبوليس بالقاهرة ومتحف محمود مختار.
أحمد سميح
روزاليوسف - 15/ 11/ 2012
105أعوام على الميلاد ... رمسيس ويصا واصف المعمارى الراهب فى قباب الشمس
منذ تخرجت فى كوكب الفنون الجميلة وأكملت دراساتى العليا بها وأنا أبحث عن سؤال ماذا حدث؟ هل فقدت الأمكنة عبق أزمنة مصر البهية، كيف أصبحت عمارة مصر كما نبصر؟ ولماذا تراجع دور الفنون شيئا فشيئا وتوارى خلف الحجب هذا البلد الكبير يصغر ويكبر القبح عاما بعد عام؟ لعل اليوم ونحن فى حضرة المعمارى الراهب فى محراب الأقبية رمسيس ويصا واصف أحد الرواد المبدعين الذين ملئوا زوايا مصر جمالا وفنا وأحدثوا تطويرا فى منظومة البناء ووضعوا أسس البنيان للعمارة المصرية الشعبية فى العصر الحديث حين نتأمل أعماله سترى مفردات التجريد بخصوصية محلية.
ونلحظ المساحات تنقلك بسلاسة من حيز إلى حيز. فى رحابة وود ستدور فى زوايا حميمية من طمى النيل الذى ألقى اليه بعصا موسى فنجا بالعمارة من التغريب، حين تدخل الى قدسك لتبوح بالسر هو الذى نسج من خيوط الشمس المذهبة أيقونة الريف المصرى بكل عناصره من وحدات نباتية وحيوانية بمجموعات لونية حيوية وطازجة فصعد ليدق أجراس العيد فى كنيسة السيدة العذراء ويتلمس فى حناياها المحبة وينشد أنشودة المسيح عليه السلام `على الأرض السلام وبالناس المسرة` ليبشر بعمارة الأرض للإنسان ويؤكد عبر مسيرة بالغة الثراء اذا أردت البناء فعليك بناء الإنسان أولا قبل كل شي..
أقم منظومة من خلايا بشرية تضع حضارة ممتدة لا تبنى حجرا فيصم عنك ناحتوه هذا درس علمنا إياه حسن فتحى ورمسيس ويصا واصف الذى تميز أسلوبه الفنى بالمزج بين الطراز القبطى المصرى والنوبى القديم ليمزجه عبر عناصر التكوين عبر الخط والزاوية والقبة والطاقات والفجوات والأقبية والردهات، لتدخل من الواجهات فى رهبة وقداسة الكتلة الى الحيز الداخلي، يتسلل اليك خيط الشمس كمصدر إضاءة طبيعى عبر فتحات مدروسة بدقة ليتنفس المبنى ويرشدك لرحلتك الآثرة ويمنحك السكن والألفة ويبعث فيك طاقة من السكينة والامتنان.
طاف رمسيس ويصا واصف فى عالم الحداثة دون تغريب حيث تلقى تعليمه فى عاصمة النور باريس وعاد مع رفيق مشواره صاحب الطريقة حسن فتحى فأسسا قسم العمارة بمدرسة الفنون الجميلة آنذاك ودرس رمسيس مادة تاريخ العمارة، فوضعا اللبنة الأولى لمدرسة المصرية الشعبية،فلكل منهما نكهته الخاصة التى تفوح بعبير زهرات اللوتس على وجه الأبدية وكأنهما فرعان للنيل نبعا من وادى الملوك بالبر الغربى ينحتان على ضفاف النهر مسلات العصر الحديث ليفكوا شفرات المصرى القديم بلغة التصميم وعبر الدوائر والفتحات والمداخل فى صمت يملئوا الأرض غناء وبهاء.
وقبل أيام مرت الذكرى105 على ميلاد رمسيس ويصا واصف، الذى ولد المعمارى فى 2من نوفمبر 1911.
لعل مرور تلك السنوات يفتح أسئلة ما زالت عصية على الإجابة كيف كنا وكيف أصبحنا؟ فالحديث عن عمارة مصر حديث ذو شجون ولنتجاوزه قليلا إن استطعنا لنغسل أعيننا بعمارة كانت تشف الروح وتأسر الوجدان .
والده هو السياسى الكبير والنائب الوفدى المخضرم ويصا واصف والذى كان محبا للفنون، فى عام 1930 درس فى مدرسة الليسيه الفرنسية ، ثم سافر الى باريس وحصل على دبلوم الفنون الجميلة بباريس ودبلوم الدولة الفرنسية فى الهندسة المعمارية عام 1935.
مما أثر فى منجزه الفكرى والفنى وظهر ذلك فى تأثير بالمدرسة التجريدية لكن ريادته أكسبته أسلوبا فنيا خاصا تجلى فى أعماله المعمارية والفنية.
فسافر فى رحلات صيفية الى أوروبا عام 1937 حتى 1958 لزيارة المتاحف الفنية للوقوف على منجزات الحداثة ونظريات العمارة فى كل من إيطاليا وبلجيكا وفرنسا واسبانيا وشمال افريقيا وسويسرا.
بعد عودته من فرنسا، شيد منزله فى منطقة العجوزة بالقاهرة، (كان مقرا لمؤسسة دوم والمركز الثقافى التركى) وكما اعتاد ويصا على السفر فى فترات متقطعة إلى عدد من الدول الأوروبية خلال تلك الفترة للتعرف على العديد من المدارس الفنية مكتسبا منها خبرة إضافية،وقد ظل ويصا أستاذا فى كلية الفنون حتى منتصف الخمسينات، ساهم خلالها فى بناء عدد من الأبنية العامة والخاصة فى القاهرة مثل كنيسة العذراء، بالزمالك وكنيسة مارى جرجس بميدان هليوبوليس، ومتحف حبيب جورجى، بالإضافة إلى متحف النحات محمود مختار تكريما له بعد وفاته.
سالى رياض
القاهرة 2016/12/13