حوار جدلى بين الكاميرا والريشة
- شهدت الحركة الفنية من قبل مثل هذا النشاط فى المعارض ، فهناك أربع أو خمس معارض تقام أسبوعيا فى وقت واحد ، حتى أصبح من المتعذر ملاحقة هذا الفيض الغزير .. وهذه ظاهرة طيبة تشير إلى وفرة الفنانين التشكيليين ، وتزايد عددهم عاماً بعد عام .. وأن لدينا حركة فنية غنية ومتقدمة .. غير أنه من المؤسف أن ينجم عن هذا التكاثر تضخم من جانب الفنانين ، وضمور من جانب الجمهور وهى ظاهرة غير صحيحة ..
- .. إن ما نحتاجه اليوم هو جمهور على درجة من الوعى والتذوق يتجاوب مع هذا الإنتاج الغزير حتى لا تكون حركتنا الفنية عرجاء تمشى على ساق واحدة أو تتكئ على عكاز واه ..
- وفى قاعة إخناتون بالزمالك يطلع علينا الفنان ( على الغزولى) بمعرضه الذى يقدم فيه إنتاجه بعد غيبة ثلاث سنوات .. والفنان ` على الغزولى ` إلى جانب كونه فنانا تشكيليا، يحترف التصوير السينمائى ..
- أى أنه يعبر بالكاميرا والريشة فى نفس الوقت وبنفس القدرة والكفاءة .. ومعنى هذا أنه استطاع أن يوفق بين ألد عدوين فى الفن ، وهما الكاميرا والريشة .. كما أنه استطاع أن يعدل تماما بين الاثنين ، فينسى وهو يعبر بالريشة أنه مصور سينمائى ، ولكنه عندما يقف خلف الكاميرا لا ينسى خبراته التشكيلية التى يثرى بها تخصصه وهو ما لا يتوافر عادة عند الكثير من زملائه فى نفس المهنة ..
- والفنان (على الغزولى ) فى رحلته عبر السنوات الثلاث يمر بمرحلتين ترتكزان أساسا على الإنسان .. ولكنه فى المرحلة الأولى يوظف الإنسان فى التعبير عن حالة مأساوية عامة ، ويستخدمه كعنصر يشكو من خلاله سوء حالة المجتمع الإنسانى الذى حطمته الأزمات بمختلف ألوانها ، وهو لا يفصح عن نوع هذه الأزمات أو يحددها ، ولكنه يشير إلى درجة المعاناه مستعينا بالرمز والإشارة بلهجة ( ميلودرامية ) عميقة التأثير .. تبلغ أقصاها عندما يكون أبطال ملاحمه من الأطفال الذين يجردهم من مظاهر النعمة ، ويقسو عليهم بشتى ألوان الحرمان ، فينتزع إشفاق المشاهد انتزاعا ، وبرغمه على أن يكون له موقف أمام هذه الدعوة الصامتة .
- وتتميز هذه المرحلة بزرقتها الداكنة وقتامتها الموحشة ، كما تتميز بالغلو فى مسخ ملامح الأشخاص إمعانا فى التعبير عن عنف المأساة .. إنه نوع من الصراخ المكتوم يصل إلى الأعماق فى رفق ، ويمس الوجدان ، يغير الاستعانة باللهجة الخطابية التى تطغى على عمق الإحساس وضراوة الألم .
- أما فى مرحلته الثانية ، فهو يتخلص تماما من قتامة المأساة ويعيش مع الانسان حياته اليومية فى مناخ روتينى هادئ ، فيمثله فى السوق والشارع وعلى الشاطئ وفى رحلات المرح . وهو بهذا يطرق موضوعا واقعيا سبق أن عالجه الفنانون بصورة تقريرية فى الغالب . غير أن ( الغزولى ) يطل على هذا القطاع من الحياة من نافذتة الخاصة ، فيلونه بألوان ` الباستيلية ` الهادئة التى تتناغم فى رقة شاعرية خالية من الإبهار اللونى والحركى .. كما أنه يضفى على مشخصاته مسحة كاريكاتورية خفيفة يجسم من خلالها الشخصية المصرية الطيبة الراضية من الطبقات الكادحة .
- ويلاحظ فى لوحات ( الغزولى ) قدرته على التخلص من سيطرة الكاميرا ( الحركية ) عندما يجرد أشخاصه من الحركة تماما . فيبدون فى حالة استقرار وسكون ، وكأنما تجمدت أطرافهم فى وضعة ثابتة .. غير أنه حين يفعل هذا فإنه يفسح الطريق لنوع آخر من الحركة الداخلية للبروز والظهور ، وهى حركة المشاعر الوجدانية التى تذوب عادة فى ضجيج الحركة وصخب الانفعالات . ففى ساحات اللوحات الشديدة النقاء والصمت ، تطفو هذه المشاعر الجوانية الصادقة فى مصريتها لتلمس أعماق المشاهد الذى يرى نفسه شريكا حقيقيا لكل ما يراه .
- وببساطة شديدة قد تدنو من السذاجة الطفولية ليعالج الفنان تكويناته غير معتمد على البناء الأكاديمى التقليدى أو الإنشاء الكلاسيكى بهرمياته ومساراته ونسيجه المعروف ، وإنما يطرح عناصره . طرحا شبه عشوائى ، معتمدا على التوازن البصرى الذى تسيره فطرة غير عقلانية .. وفى غير كلفة تدعو المشاهد إلى التآلف مع هذا المناخ الحميم .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
فنان تشكيلى وراء الكاميرا
- كثير من عمالقة السينما العالمية ، سواء ممن مارسوا الإخراج أو التصوير أو السيناريو ، كانو فى الاصل فنانين تشكيليين.. وعندنا فى مصر عدد غير قليل من هؤلاء الفنانين لمعوا فى الحقل السينمائى وأثروه بما أضافوه من قيم جديدة كانت الشاشة تفتقر إليها ، أمثال يوسف فرنسيس ، وحسن فؤاد ، والتلمسانى ، وعلى الغزولى .. وغيرهم .
- ولا شك أن السبب الأكبر فى تفوق هؤلاء يرجع إلى ما اكتسبوه من خلال ممارستهم الطويلة للفنون .. التشكيلية وليس العكس - كما يتبادر إلى بعض الأذهان - فالمصور التشكيلى لا تثرى الكاميرا فنه .. بينما المصور السينمائى يكتسب خبرات لا حصر لها من معالجته للمشاكل التصويرية والتشكيلية البحتة التى يجريها بيده وعقله ووجدانه ، وبالتالى فهو ينقل هذه الخبرات إلى الكاميرا ، فتتحول من مجرد صورة تتحرك على الشاشة ، إلى لوحة فنية متكاملة لا تختلف عن اللوحة الفنية إلا باختلاف الوسائط فقط..
- ومن الأشياء الممتعة حقا أن تشاهد أعمالا فنية لأمثال هؤلاء الفنانين تكشف عن الخلفيات التى تساندهم أثناء عملية الخلق ، وتقفز بأعمالهم السينمائية إلى هذا المستوى الرفيع ..
- ولقد كان المعرض الذى أقامه الفنان التشكيلى والمصور السينمائى ` على الغزولى ` فى الأسبوع الماضى فرصة رائعة لمزيد من التعرف على هذا الفنان الذى لمع أسمه كمصور سينمائى وحصل على العديد من الجوائز فى تخصصه .
- وزائر المعرض وسط لوحات ` الغزولى ` لا يستطيع أن ينزع من رأسه أن الفنان صاحب هذه اللوحات مصور سينمائى ، ولا يستطيع مقاومة الرغبة الملحة فى عمل مقارنة بين اللوحات المعروضة وبين الكادرات التى سبق أن شاهدها لنفس الفنان على الشاشة الفضية .. وربما كانت هذه المقارنة من دواعى عدم الاستمتاع بما تتضمنه اللوحات من غزارة فكر وإرهاف حس وقوة تعبير ، وبالتالى اهتزاز التقييم بسبب اختلاف الوسائط .
- إن الفنان هنا يتعامل مع اللوحة مباشرة ، بصماته منطبعة على كل لمسة ، أنفاسه عالقة بالسطح ، نبضه يسرى فى شريان كل خط .. الفرشاة تلامس اللوحة من أحد طرفيها ، وهى مثبتة بين اصابعه بما فيها من نبض وحس من طرفها الأخر ..
- وللفنان هنا حرية كاملة فى التعبير و التصرف .. العناصر التى يستخدمها لا تخضع للقيود المادية التى تشدها إلى الأرض وتربطها بالمكان والزمان .. إنها عناصر مطلقة متحررة ، من صنع الخيال . وليست وليدة الواقع .. عناصر يكفيها الموضوع وتلونها الأحاسيس ويغذيها الفكر .. وليست عناصر حقيقية تؤدى دورها التمثيلى أمام الكاميرا..
- إن مساحة اللوحة التى يتحرك فيها الفنان تختلف طولا وعرضا .. وليست مقيدة بالحيز الثابت المفروض على شاشات السينما فى جميع انحاء العالم وإن كان يحكمها قانون واحد ..
- والفنان ` على الغزولى ` لديه الكثير الذى يستطيع قوله من خلال ألوانه الرمادية الزرقاء.. إن خياله يزداد خصوبة فى الأضواء الليلية الخافتة التى يغلف بها مأساة الإنسان ، وكذلك فى رعشة اللمسات التى ترتجف فى قلق فوق السطح الخشن .. وفى المخاوف التى يرسمها فوق وجود مشخصاته الهزيلة هزال القطط الضالة فى الشوارع الخلفية ..
- وهو يملك ناصية الصنعة فيتحدث بها بطلاقة ويفصح من خلالها عن آرائه التى يعلنها بلغة مهذبة وبصوت خفيض غير صارخ ، إنها نوع من الشكوى الهادئة وليست تمردا ثائرا أو أى ضرب من ضروب الاحتجاج الغاضب العنيف ، ولذلك لا مفر من أن تشارك الفنان بكائياته وتعاطفه مع القضايا الإنسانية ، وهى المنطق الذى يبدأ منه أى تصرف إيجابى بحثا عن الحلول .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى