رؤوف على حسن رأفت
الهواء يتنفسه الإنسان فيعيش
- فن الرسم يجرى فى شرايين الفنان وادائه العميق فيتأصل، فالخطوط الأولى دائما فى العبارة التصوير ـ الرسم ـ الجرافيك ـ التصميم ... إلخ هى الفكرة الأولى والأساسية للعمل الابداعى فى الوجدان والعقل .
ـ فالرسم بناء معمارى داخل كل عمل فنى جيد فرواد الفنانين على مر التاريخ كانوا رسامين من الدرجة الأولى فكانت إبداعاتهم باقية .
ـ فنحن أمام تجربة تستحق التحليل والتأمل فتحمل فى طياتها ومفرادتها مقومات هامة فى مجال الإبداع الفنى فقد إستخدم الفنان لفائف لمومياء حية أحياناً ولفائف حديثة أحيانا أخرى مستفيداً من التراث القديم فى صياغة تعبيرية خاصة مضافا إلى ذلك الزخارف الشعبية والرموز الشعبية التى تحتوى على دلالات هامة فى حياة الإنسان المصرى وخاصة فى حياة الريف منها : خيال المآتة الذى يعبر عن خوف الإنسان من أخيه الانسان خوفا من الجنوح لماديات العصر .
ـ وتمتاز أعمال الفنان باستخدام الرمز التعبيرى الخاص ، فالطائر أسود ينقر أحيانا أبيض ينطلق ، وهذا تعبير عن الخير والشر والحرية أيضا من خلال عنصر واحد ولكن بحكمه ظلية أدت إلى دلالات تعبيرية إنسانية عميقه ونرى الشطرنج والحبل الممزق ..... إلخ من رموز بتعبير قدير عن إحساس ووجدان الفنان تجاه قضاياه والأعمال تحتوى على شحنة كبيرة من الدراما الدفينة فى الأعماق مسترسلا فى أداء محكم داخل إطار فنى يتسم بالتشخيصية التعبيرية والرمزيه وفى أعمال أخرى كشف الفنان جلد الإنسان وأظهر القلب ليعبر عن مركز الحياة بتقنيات مرهفة ذات تناغم متصل بين الرمز والمحتوى وبين جماليات العمل الفنى ونرى الإنسان الآلى كيف يرى العالم من حوله وكيف يراه العالم فهى معادلة أتركها للمتلقى بالاستمتاع بالكشف عن الاجابة ؟
ـ فالفنان مزج مفردات شعبية وتشريحية وصناعية وإنسانية للتعبير عن فكرة إنسانية فى داخلهم يبحث فيها من خلال رموزه ودرجات ظلاله ومفرداته عن قيمة الحياة والسعى نحو حرية الإنسان .
ـ واستخدام الفنان تقنيات مختلفة يغلب عليها الرسم بالأبيض والأسود مع قليل من الألوان والبعض الأخر مستخدما الألوان المائية ` الجواش ` بأسلوب تشخيصى تعبيرى من خلال لمسات جزئية تتحول إلى جماليات فى الشكل والتعبير بسيطرة واعية فالخط واللون هما وسيلتان هامتان فى الحياة الفنان يبدع بهما أفكاره ويحولها إلى قيمة فنية متميزة .
أ. د / أحمد نوار
- ولعل اكثر العارضن عمقا واصالة هو الفنان ` رؤوف رافت ` الذى يواصل رحلة الملل مع موضوعه الذى اختار له اسم `بين جدران الملل ` مكثفا ذلك الاحساس الثقيل فى عدة لوحات ...
- وهو يحكم على أبطاله بالأنغلاق وراء جدران خرساء يتسلل اليها بقايا ضوء متعفن يزيد من رطوبة المناخ.. وكل شىء صامت صمت القبر. - الاشخاص يديرون ظهورهم لكى يتهامسو فيما بينهم .. الهمس يختنق فى الرطوبة الرمادية .. احدهم يقال الملل بلعب البلى مع نفسه .. أخر يتصدر اللوحة وهو متكىء على كتلة من جذع شجرة تجمعت فيها اثقال الدنيا .. وعلى صدورة قلادة تحمل رقما .. وكأنما تحول الانسان فى دنيا الملل الى رقم فى قائمة طويلة اسمها المجتمع المغلق ..
حسين بيكار
اخبار اليوم ديسمبر 1974
التعبيرية السياسية فى طرطور المهرج
* أعمال رؤوف رأفت ( 1948- 2005 ) خلف كواليس السيرك ..
- تختلف المعيارية الإبداعية للعمل الفنى بداية من قدرته على نسج كيانه من خيوطه التراثية، وحتى حلول الروح فيه من خلال الإنصهار مع معطيات اللحظة الراهنة، ولكن مالا شك فيه أنه يندفع نحو حيز التوهج كلما كان مبحراً صوب مرفأ زمنى عائم ، ليتبادل معه الحركة عند كل دوران وجودى، ليبدو كغواص ماهر يعى جغرافيا القاع، فيتجه إليه بعد اختراق سطح الماء فى أية لحظة يبغى فيها بناء أفق جديد.. ولاأدرى لماذا فى هذا الظرف الحرج من حياة الأمة، هرول قلمى إلى أحضان أعمال الفنان الكبير رؤوف رأفت ( 1948 - 2005 ) ربما لأنها تشاركنا الآن أنات الوجع ، وتنتزع من صدورنا ذلك الصراخ المحبوس، ومن حلوقنا تلك الزفرات المحمومة ، مثلما تشاطرنا أيضاً تهاليل النصرعلى نظام فاسد.. ولكن المؤكد أن هذه المسطحات الملتهبة إتكأت على واقعنا الراهن، رغم إنجازها منذ وقت فائت ، بما يفسر أنها كانت تقف فى المنطقة الإبداعية الإستشرافية التى تميز رؤوف منذ انتمائه للحركة التشكيلية بعد تخرجه من قسم التصوير بمعهد ليوناردو دافنشى عام 1973، ورغم هذا فقد خاض المجال التطبيقى العملى، إرتكاناً إلى دراسته الفنية، حيث عمل مديراً عاماً لشركة ` سنتر لاين ` للتصميمات والطباعة عند منتصف السبعينيات ، ثم عمله كرسام صحفى بمجلة أكتوبر بين عامى 1977، 1981، بما أكسبه مزيجاً من مهارة التصميم الفنى وطزاجة الرسم الصحفى وحيوية البناء التصويرى.. فإذا دققنا فى أعمال رؤوف التى أنجزها بين عامى 1999، 2000 سنجد أنه يرتكن فى بعضها إلى الرسم بالأحبار والأقلام الرابيدو على الورق، بينما يعتمد فى أغلبها على مهاراته التقنية فى التصوير الزيتى والإكريليكى على التوال والكرتون، حيث يندفع عبر تلك الوسائط المادية بطاقته التعبيرية الجامحة خلف كواليس السيرك، كملهاة مسرحية شعبية شائعة، يستطيع من خلالها الإشتباك مع الوجدان والعقل الجمعى ، علاوة على أنها قناة جيدة لتمرير أفكار الفنان عبر الرمز المانح لحرية التأويل عند مستويات التلقى المختلفة، سيما وأنه يمتلك وعياً سياسياً حريفاً، وهو مايمنحنا حق الإصطلاح على أعماله `بالتعبيرية السياسية ` كفضاء حر يولف فيه عناصره العضوية والهندسية ، ليصنع منها نصلاً حاداً يرشقه فى حائط الخنوع، مصحوباً برسالته المباغتة مفتوحة الدلالة، والتى يشكل مهرج السيرك ( البلياتشو ) فيها عمود الإرتكاز التعبيرى ، حيث يدفع به رؤوف إلى بؤرة الرؤية ، ثم يحشد حوله بقية العناصر، لإطلاق روح الفكرة من خلال سماته الشكلية والضمنية المألوفة فى التراثين المصرى والعالمى .. لذا نجد الفنان أحياناً يكثف رمزيته فى قطعة من ملابسه، مثل الطرطور، أو ملمح من تضاريس وجهه ، كالأنف المتكور والشفاه الغليظة، وهو مايشير إلى مرونة وتمكن بالغين فى توظيف الدالة التعبيرية .
- وشخصية المهرج عند رأفت تتأرجح فى إيماءاتها بين الملهاة والمأساه .. بين حرية الجسد وأغلال الروح، حتى أنه يرسمه بريئاً كالأطفال تارة، ومصفداً كالأسير تارة أخرى، إذ يبدو للحظات على قمة المشهد كحاكم متسلط وطاغية أبله، ثم ينحدر لقاعه مقهوراً ذليلاً تحت وطأة حراب الكرسى.. وتكاد تشعر فى كثير من الأعمال أن ذات الفنان تتوارى خلف شخصية المهرج، وتحرك من خلالها دراما الصورة وفورانها التعبيرى، بما قد يفسر ارتداء المهرج دوماً لذلك الرداء ذى الصبغة الشطرنجية التى يكسى بها رأفت أركاناً بارزة فى مسطحاته التصويرية.. ففى عمل `إستجواب` يظهر المهرج فى أسفله بجانب دراجته، وهو فى حالة إنفعالية، سقط على أثرها طرطوره الأحمر، وغاص فى الخلفية الشطرنجية الضبابية، بينما بدت فى أعلاه أنهر ثلاثة محشوة بنماذج نحتية تتراوح هيئتها بين وداعة الطيور واستكانة القدور، فى تناغم إيقاعى يجمع بين دورانها الجسدى و خمولها الروحى، ويتجلى هذا فى وجه الرجل المهرج الذى يختلط فيه الجهل بالإنتهازية ، كمزيج سيال يغمر حياتنا النيابية، وهو ما يتأكد فى عمل `المبايعة ` المنفذ بتقنية الرسم بالحبر الشينى على الورق عام 1991، والذى يكشف عن القاعدة الفكرية والمنهجية لمنجز رؤوف الإبداعى، حيث يجسد الحاكم ملفوفاً بأغلال شريطية فوق بزة أنيقة، يظهر منها رأسه الفاقد للملامح، والذى بدا هدفاً لمنقار ذلك الطائر المجرد المثبت من جناحيه بمسمارين ظاهرين، وكأنه فى حالة إصرارعلى الأكل من دماغ ميت، بينما جلس فى قاع المشهد ثلة من البشر، بدت البلاهة على وجوههم، متمثلة فى جحوظ عيونهم وغلظة شفائفهم وانبعاج رؤوسهم، وقد انبروا فى التصفيق التلقائى، دون الإلتفات إلى القابع على المنصة، حيث ظلوا ينظرون إلى بعضهم بجهل متجذر فيهم، جعلهم كمنحوتات خشبية تتوحد فى ملمسها وحسها وعقلها مع كراسيهم التى يجلسون عليها، لذا فربما أفصح الفنان فى هذا العمل عن القاعدة الفكرية التى بنى عليها ملامح السلطان فى معماره التصويري اللاحق، حيث شهوة السلطة التى تغلل جسده وعقله، وتميت رأسه، لتحولها إلى منهل للطيور الجارحة، وهو مايرسخ له رؤوف فى المشهد بانصراف أنظار الجماهير عن ذلك القائد المغلول، والذى بدا فاقداً لكل صلة معهم، بعدما دفعهم لغياهب جب الغيبوبة التى جعلتهم يصفقون ويهللون ، خارج دائرة الوعى السياسى .
- وفى مجموعة أعمال للفنان تحت عنوان `من خفايا السيرك` يظهر المهرج فى حراك إنسانى ينزاح معه الرمز مثلما يقتفى الظل أثر الضوء،فتجده فى عمل ( 1) مرة غارقاً فى قبلة توحدية مع جسد أنثوى بض، بين عدة لقطات لأجساد أنثوية شهية، بعضها يركب جواد الرغبة ، والآخر يتلوى لاهياً كالأفعى، وكلهن يسبحن فى جو أصفر عاصف، وأسفل العمل يقبع وجه المهرج، مستحماً بشلال ضوئى، فى حين تبارح الصورة عجلة صغيرة على متنها طفل مرسوم بعفوية، وكأن الذات تفر من صاحبها كما يفر الأسد من مروضه .. أما فى عمل ( 2) فينحنى المهرج مطأطىء الرأس تحت تأثير ضربة هائلة من قبضة شخص مفتول العضلات، وأمامهما إحدى نساء السيرك، وهى تتمايل مترنحة ، بينما اختفى وجهها خلف شعرها الطويل المنسدل، وكلهم يغطسون فى فضاء أزرق متدرج الدكانة، بما يوحى بالسقوط والإنهيار المتواتر.. وفى عمل ( 3 ) يبدو ذلك المهرج ذو الزى الأزرق الشطرنجى، والراكع أمام نفس المارد وهو زائغ النظرات، مصفداً بالحبال، مستسلماً لمصيره.. وفى هذا البناء التصويرى يتجلى التجسيد الحى للمتضادات التى تسكن عبيد العروش ، مثل العنفوان والوهن.. العزم والدعة، ليؤكدها تقابل بيولوجى آخر بين الثور العفى أعلى الصورة، والقرد الذى يرتدى الطرطور على رأسه، ويمسك الرق بيده اليسرى أسفل الصورة .. وهذه الأعمال الثلاثة ترسخ لتعبيرية سياسية لاذعة فى مشروع رؤوف رأفت الإبداعى، عبر قالب بنائى رمزى مهجن بنوافذ متناثرة لأوجه متمايزة للتأويل .
- ويكرس الفنان لهذه القسوة الناعمة فى عمل `لاعب الشطرنج` الذى يظهر فيه ذلك الوجه الممسوخ، والغارق فى مساحة حمراء دموية تكاد تبتلعه، بينما ارتكن نصف رأسه الأعلى إلى رقعة شطرنجية، ربض فى جانب منها قطعتا ملك ووزير بشكل متعاكس، كرمز لتبادل الخداع بين الحاكم والبطانة .
- ثم ينفجر بالون السخرية السياسية فى عمل `صراع السلطة ` لاثنين من المهرجين يقفان فى يمين الصورة داخل طوق كبير على خلفية سوداء، بينما فى اليسار يظل الكرسى الشطرنجى ذو الأرجل الرخوة هائماً فى مساحة ضبابية مضيئة شطرنجية أيضاً.. وفى هذا العمل يبرق الرمز ببعديه الجمادى والحى . . المادى والعضوى، والبعدان يصبان فى بوتقة الرسالة التعبيرية السياسية، والتى تعتمد هنا على المقابلة بين حركة المهرجين وسكون الكرسى، كركيزة تاريخية تعد من أبرز معالم الميثولوجيا العربية.. وربما كان النسيج الشطرنجى الرابط بين الكرسى وخلفيته الضبابية فى العمل، هو لتأكيد انسجام عرش الحكم مع فضائه الوهمى، أما المهرجان والطوق، فترسيخ فكرة استمرار الكوميديا السياسية داخل بلاط سلطوى هش، وهو مايتجلى على جسر الشهوة الإستبدادية الجوفاء فى أعمال `داخل جدران السيرك`، ` خيال المآتة `، `عرى السلطة ` كتجسيد لحالة الشبق نحو جسد العرش .. والمدقق ملياً فى أعمال رؤوف رأفت، سيجد أن عناصر الدائرة والعجلة والطوق تمثل البعد الزمنى للصراع داخل رحم المشهد، بما يمنحه دائماً الطاقة الثورية حسياً وحدسياً فى حالتى الحركة والسكون .
- ويظل رأفت يركض خلف المهرج، دافعاً به إلى مركز التعبير فى أعمال ` حلم النجومية 1، 3 `، `إنعكاس`، `إعتقال مهرج `، مختبئاً وراءه تارة، وموظفاً إياه تارة أخرى، وهو ماظهر جلياً فى سمات المهرج الشكلية التى كشف بها عن بعض كنائن نفسه، من خلال تصويره لعدة وجوه له بزوايا وبناءات وأداءات تعبيرية متنوعة، بين سخرية ملهبة وبهجة وهمية وخوف مستتر وحزن دفين ( أعمال المهرج من 1 إلى 6 )، حتى يصل به إلى قمة الدراما الظاهرية والباطنية فى عمل `حلم النجومية - 2 `، حيث يصوره داخل سراديب السيرك المظلمة، مرتكناً إلى عجلته، قابعاً تحت شلالين من الضوء الأبيض، أحدهما سقط عمودياً على رأسه، فى حين مال الآخر من أعلى صوب الضلع الأيسر للصورة، وقد اخترقا السواد كشهب عابر أضاء حيز المشهد، فى مباغتة خاطفة، ورغم هذا فقد بقى طرطوره الأحمر كنار اندلعت فى جنح الليل، وربما كان هذا التضاد الشكلى والضمنى بين النور والنار، هو ماجعل العمل يقف على الصراط الفاصل بين حلمى البلياتشو المقبل والمدبر.. بين طمعه فى الخلود الأبدى على مقعد السلطة، والحسرة الموجعة على الرحيل المنتظر.. ثم تتأكد فكرة هشاشة كرسى الحاكم البلياتشو فى عمل `نهاية مهرج `، والذى يسلط الفنان فيه نفس الضوء على رأس المهرج ذى الأنف الحمراء، وهو مسجى على ظهره، فى إيحاء بالوفاة الإنسانية والسياسية ، لتتحول أدواته إلى أطلال متفرقة ، مثل الطرطور الملقى بجوار رأسه كتاج نزع من سلطان، وملابسه المدلاة من الأريكة كبقايا كفن ، بينما كادت العجلة أن تخرج من يمين الصورة، فى ترميز لزوال الملك، والعمل يهبط بالدراما البصرية والروحية إلى سفح هرمها المشتعل ، فتنحو للإنطفاء مثل سيف غمد فى بطن الهزل السياسى . ويظل رؤوف رأفت يركض فى فناء الوطن، تواقاً للحرية بصحبة ذاته الثائرة، حيث يحاول وأد معاول التضليل الجماهيرى، والتنقيب عن جسد الحقيقة عبر قارىء صحف السراب، وذلك فى عمل `البحث عن خبر` الذى يجدل فيه ضفيرة إبداعية من الذات الفردية للفنان ومثيلتها الجمعية ، لمزيد من فاعلية الخطاب التعبيرى الرمزى السياسى الساخر، من خلال ذلك الشخص المتصفح لجريدة باللون الترابى المصفر، ترميزاً للتخلف الزمنى عن مواكبة العصر، حيث احتوت على إيماءات تصويرية، مثل علامة ( × ) والعين البشرية وأحد ألواح ضرب الرصاص، وقد ربط بين تلك العناصر بخطوط متقطعة وسط حشد جماهيرى أسود غائم حول الصحيفة، فى رغبة لتأطير لهيب سياط الحاكم الفكرية والمعرفية على شعبه، مثلما بدا ذلك أيضاً فى عملى `معاينة حادث فى الطريق العام`، ` إجتماع لجنة التخطيط ` .. ثم نجد الفنان وهو يميط اللثام عن سياط أخرى مازالت تلهب جسد الأوطان العربية، كما بدا فى عمل `رجل رقم 2405 `، إذ يكشف فيه عن قبح العولمة وتأثيرها على الخصوصية الإنسانية، عبر ذلك الوجه الرجولى الذى بدا متحولاً إلى سلعة مرقمة ، رغم اكتسائه ببزة أنيقة ، ورباط عنق أحمر متوهج، بينما احتفظ رأفت بمفتاحه الرمزى الماثل فى المنديل الشطرنجى المطل من جيب بزة الرجل، فى إشارة لعدم انتهاء اللعبة بعد، سيما وأنه استحضر فى يسار الصورة معادلاً رمزياً، تمثل فى الشوكة والهرم الفرعونيين، كجذور تقاوم فناء الجذوع.. ثم يؤكد الفنان هذا الصراع المحتدم بين المتاريس التراثية والعواصف الإستعمارية فى أعمال `النسبة والتناسب` ، ` الهدف `، ` عناصر من مخزون العقل`، ` البحث عن الذات`، حيث يبقى من خلالها على ذلك التناغم الموسيقى بين الرمزين الظاهر والباطن، إلى أن يميل صوب نزع القناع الإمبريالى كاملاً فى عمل `الحلم الأمريكى` الذى يدفع فيه بتمثال الحرية الشهير إلى بؤرة المشهد، فى هيئة عاهرة ذات ثدى ناهد عار، وشفائف حمراء غليظة، من أجل تجسيد حمأة رمزية صارخة لعهر الإدارة الأمريكية التى أمست تبيع الهوى للأمم العريقة، وقد ظهر التمثال مرتدياً البنطال الجينز، وعلى ساعده الأيسرالمرفوع لأعلى بعجرفة، طبع العلم الأمريكى، فى حين اصطف تحته طابور من البشر، كتبت أعلى ذراع كل منهم باللغة بالإنجليزية عبارة ( waiting )، بما يشير بوضوح للرغبة الأمريكية فى تركيع الشعوب، بناسها وحكامها وتاريخها وجغرافيتها، وهى الرؤية النبوئية التى أطلقها الفنان عند مطالع الألفية الثالثة ، وتتحقق رويداً حتى الآن على أرض الجبروت والطغيان، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بعدما سقطت ورقة التوت عن عورة رعاة البقر والحكام العرب فى آن واحد.. ورغم رحيل الفنان الكبير رؤوف رأفت عن حلبة الدنيا إلى فضاء العالم الآخر فى عام 2005 ، إلا أن أعماله ظلت رابضة عند النقطة الحدية على المنحنى التعبيرى السياسى، لتتبارى مع المتغيرات الزمنية داخل الملعب الشعبى، مرتدية زى الوعى اليقظ المتربص دائماً بكل عشاق القهر والسحق الإنسانى، عبر تسلح بالعزم العقلى والروحى المستعر الذى يعرى كتائب المهرجين، ويطيح بكل الطراطير .
محمد كمال
جريدة القاهرة - الثلاثاء - 20 / 7 / 2004
بينما كان (محمود بقشيش) يصطحبنا معه في رسوماته بالأبيض والأسود إلى عتمة الليل لنشاهد معه مشاهد من بشائر مدنه - الخيالية - الجديدة والنور الباهر الذى يتسلل من خلف نوافذها وجدرانها الصماء، ليلقى بظلال حانية على أرضها الشاسعة، ليشيع جوا شاعريا مؤثرا.. ثم يأتى كل من (جميل شفيق) و (رباب نمر) و (محمد حجى) اللذين تغلغلوا في العالم الذاتي للرمزية الخاصة لكل منهم حيث قدموا نقلا تصوريا (ميتافيزيقيا) شاعريا عن حدود الإخلاص لمظاهر الكائنات الحية، والطبيعة، والانسان.. نجد في المقابل لهم (رءوف رأفت) يقدم لنا هو الآخر.. طرحا رمزيا (وثائقيا) شديد التعبير من خلال رسوماته التى عكست قضايا الإنسان السياسية والاجتماعية.. وانعكاساتها عليه بأسلوب يتسم بالسخرية والفجاجة المتعمدة أحيانا.. والفنان (رءوف) منذ أن تخرج فى معهد ليونارد دافنشى عام 1973 وسافر، ثم عمل بالإخراج الفنى فى مجلة (أكتوبر) عام 1981 لعام ونصف تقريب، ثم تركها ليتخصص فى اعمال التصميم والطباعة ولا يزال إلى الآن، لم تصرفه مشاغله الحياتية طوال هذه السنين عن ممارسة نشاطه الفنى فى الرسم والتصوير والتصميم، كلما سمحت الظروف بذلك.. وجدير بالإشارة أن الخبرات المعرفية والتقنية التي حصلها رءوف فى مجال التصميم والطباعة أثرت بشكل أو بآخر على فنه عموما والعكس أيضا صحيح فهو عندما ينجز عملا تصويريا نلاحظ مهاراته فى الرسم وبناءه المحكم فى التصميم، وعندما ينهى لوحة في الرسم لا يبتعد كثيرا عن استخدامه لتقنيات التصوير بالفرشاة واللون وأسس بناء اللوحة.. واللوحات التي أنجزها الفنان في مجال الرسم والتصوير تعكس رؤية الفنان وأسلوبه وتميزه، فهو لا يمايز بين رسم وتصوير وكلاهما متقارب في المستوى والقيمة.. ولو أن (الرسم) صار محل اهتمام خاص به في السنوات الأخيرة من الثمانينات والتسعينات، حيث رسم العديد من اللوحات بقلم الحبر الأسود (الرابيدوجراف) مستخدما تقنية الرسم بالأبيض والأسود وتفاعلات الظل والنور فى تبايناتها وتعارضها فى صياغة مواضعية وتكويناته المختلفة التى يعبر فيها عن أفكاره واسقاطاته الوجدانية حيال الواقع فى وطننا وخارجه.. ورسومه التى قدمها فى عرضه الأول، الخاص، فى مجمع الفنون بالزمالك عام 1990 وضمت نماذج من رسومه فى السبعينات والثمانينات إلى جانب الجديد فى الرسم والتصوير.. تطلعنا على شخصية جادة وملتزمة ولم توهن أرادته الفنية كفنان يريد أن يحتل موقعا مميزا فى الحركة التشكيلية.. كان المعرض الأول صدى طيبا فى النفوس.. شجعه على مداومة العمل الفنى بانتظام واقامة معارض منتظمة كل عامين فى المكان نفسه 92، 94، 1996.. جمعت بين الرسم والتصوير والأشكال المجسمة.. وكان الرسم دائما يحتل مساحة تزيد فى كمها وفى تأثيرها على العين والوجدان وكان يجمع بين مراحله الزمنية خيط رفيع وصفات أو خصائص مشتركة.. سواء من حيث الموضوع والأسلوب. وكلها تحفل بعناصر كثيرة من الاشكال والرموز- المتكررة والمتشابهة أحيانا - المستوحاة من الواقع الشعبى والتصور الخيالي، والتحريف والمبالغة المتعمدة والتعبير الساخر، والتجويد التقنى والميل إلى تأكيد الطابع الفردى فى تناول العناصر وفى بناء نسيج العمل الفنى بطريقة معاصرة.. وربما كان من اللافت للنظر للوهلة الأولى (الإنسان) أولا كتميه محورية لها مركز الثقل فى اللوحة وسواء كان الإنسان هنا فى حالة فردية أو فى مجموعات، ثم تجيء بقية عناصر الاشكال من مفردات شعبية أو صناعية أو حيوانية، لتشارك معا فى بناء العمل شكلا ومحتوى وبإلقاء نظرة على الرسوم المنفذة بقلم الرصاص والحبر الأسود، والتى اختار لها الفنان عناوين مثل: (الاختيار الأخير- قلم رصاص، 1974) وكان رءوف وقتها متأثرا بعالم الجزار (والحسد، حبر أسود 1990 والحركة الأخيرة 1990 وإنسان القرن العشرين 1991، وأحلام من ورق وديكتاتورية 1990 والهدف 1991 والمشهد الأخير والمبايعة والشطرنج) وغيرها من موضوعات الطبيعة الصامتة والعاريات فى لوحات (الخط والكتلة عام 1994).. سوف نجد الإنسان والطائر (الخفاش) متلازمين، كما أشرنا، الإنسان (الموميائي) الذى تحيط به اللفائف والأكفان أو الإنسان الهارب الى الغيب أو الإنسان السجين فى الزمان والمكان، فى كل مكان، حيث جعل منها رءوف نماذج ذات خاصية رمزية قادرة على تبرير كيانها المادي بنفسها وعلى حضورها المؤثر فينا.. فهى من ناحية تمثل تعبيرا ساخرا يتضمن إسقاطا سياسيا ذا طابع (تقريري) أو (وثائقي) دافعة للظلم السياسي.. ومن ناحية أخرى تجسد فكرة المأساة والأمل الضائع فى عالم يشكو من سيطرة القوة.. أما رسومه عن (العرى الجسدى) التى قدمها فى معرضه الرابع الخاص عام 1996 الى جانب لوحات التصوير. نجد فيها الفنان قد تخلى تدريجيا عن فكرة الطرح الميتافيزيقى للواقع الاجتماعي والإقلال من الرمز الخطابى واتجه نحو معالجة موضوع (العرى الجسدى) للمرأة كموضوع جمالى يقدم من خلاله، الجسد البدين للمرأة ذات الرأس الصغير ككرة المضرب (التنس) فى توحشه وهيافته وخشونته وفجاجته، وهى تقدم عرضا حركيا استعراضياً مفردا فى الفراغ، فى وضعات مختلفة، تقفز، تلهو بالطائرة والكرة، ترقص فى خفة، تحتج،تتألم، تروح، تجئ تنتظر، رغم ضخامة كتلة الجسد غير العادية فى هيئته التشريحية والجمالية، إلا أن رءوف أراد أن يلخص لنا معنى الغريزي والساخر والمحزن والمعبر والجميل فى الآن نفسه. اتبع الفنان التهشيرات الخطية السوداء الخشنة فى معالجة موضوع الجسد العاري - عكس الاستخدام الناعم المصقول فى رسومه السابقة - مما ساعد على إبراز الحس التعبيري للأشكال الانثوية الثقيلة التى تتحرك فى الفضاء الأبيض المحيط بها دون سواها.
د. رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر
أربع صور من منظور رؤوف رأفت
- معرض ( الألم فى الجسد.. وفى الروح أيضاً )
- تسلَّح رؤوف رأفت بالشجاعة والمثابرة وهو كمثل غيره من الناس، غارقُ فى أحضان الآلية، وفى فضاء نتوءات الواقع اليومى، منخرطُ داخل ذلك الصراع الأسطورى الذى نَشَبَ بين الزمن وبين التاريخ، بعد أن ظل رازحاً بين الفن وبين التكنولوجيا. فبينما كان الزمن هو التاريخ، إذ بهذا الزمن - فى سنواتنا تلك - يتجاوز النهاية ويتخطاها، ويقع خارج التاريخ.
- فى تلك الجَلَبَة الكونية احتفظ رؤوف رأفت `بنفس` الطفل الذى يحلم بعروسته الريفية، و ` بالبلياتشو` المتمرد على واقعة، وبتلك المربَّعات الشطرنجية التى تفضح المغامرة الإنسانية، ثم أخيراً بذلك الشوق المتلظَّى لجسد المرأة .
- خَطَا رؤوف رأفت خطوات واسعة منذ استهل تجربته الفنية فى التصوير قطع فيها أشواطاً بين النمط والمبتكر، وبين الأصيل والغائم، استخدم فيها دائماً تلك العناصر التى ظل وفياً لها من رقعة طاولة الشطرنج إلى الأجساد الملفوفة بالطَّيات القماشية، إلى ملابس المهرج وأقنعة المساحيق،، ثم إلى التشطير الهندسى فى النسيج الفراغى للصورة. ففى بعضها كان رؤوف رأفت قريباً للتعبيرية المأساوية عند عبد الهادى الجزار، وإلى الفنتازيا الهزلية عند جيمس إنسور، ثم إلى مضحكى الأطفال فى زرقاويات بابلو بيكاسو.
- ولكن ثمة ما جعل رؤوف رأفت متدفقاً، وممازجاً جسوراً بين التعبيرية، وبين الحداثة، ففى تجربته الأخيرة تلك وضع ` رأفت` خطَّاً فاصلاً بين رصيده ` المكون `، وبين تجربته الحالية التى أخذت فى اعتبارها آليَّة العالم بما فى ذلك أنماط الهيمنة التى عَبَرت وجه الأرض جمعية من البحر إلى البحر-، وبذلك جعل لفنه بُعداً ونَسَباً بين الاجتماعى والسياسى والعلمى والتقنى والتاريخى- وبذلك أيضاً انخرط رؤوف رأفت فى إشكاليات ` التزُّمن`، و` التزامُن`، التى التبست وفق بعضها فى عناصر بنيات الصورة، من زمن إلى زمن، وطىّ زمن.
- فى أعماله الأخيرة يلقى رؤوف رأفت نظرة جديدة على مفاتن هذا العالم. يُكيّف الذات وهو يبدأ فى مراجعة سُلَّم القيمة الجمالية. فهو فنان منولوج،، يجمع بين التجربة الحية المباشرة، وبين التجربة الرصدية للتاريخى.
- إن الغربة عند رؤوف رأفت هى بذاتها جمالية، وموضوع، يطرحهما فى كل جزء من مساحة الصورة. يحفل رؤوف رأفت بانتخاب المدى المساحى لعناصره فى سبيل إثارة الوهم. فى سبيل جعل العمق محسوساً حين يتماهى هذا الوهم فى بنية الواقع فيكون زمانهما زماناً واحداً.
- حين نتحول إلى حقل إدراكنا نجد الأحداث هى الأخرى تتزامن. فمن جهة نرى مشاهدين يتعدى فضاؤهم زمان فضائنا، ومن جهة آخرى نتصور آخرين وقد تعدى فضاؤهم، فضاء الأولين فى الزمن.
- هكذا تولَدُ فكرة `المتزامن` بين عقل الصورة، وعقل المشاهد. إذ أن الصورة عند رؤوف رأفت ليست سوى عقل حِسَّى لجمالية تعترف بزمان واحد للجميع على السواء، زمان يجرفنا معاً إلى الحافة.
- فلنتملى أربع شرائح وجدتها هامة للكشف عن بنيات التجربة عند رؤوف رأفت من حيث هى قيمة ومفهوم.
- ففى عام 1992 أنجزت الفنانة العالمية `ماجدالينا أباكانوفيتش` Magdalena Abakanowicz` (1930) ، عملها النحتى الشيق ` الأظهر العزلاء `، وهو مكون من واحد وخمسين جزءاً لأظهر تبدو آدمية، ارتفاع كل منها يزيد قليلاً على77 سم قريبة قرباً يكاد يكون متطابقاً مع نسبة الجذع المعتاد لشخص ناضج، وتبدو الأظهر فى متحف ` لودفيج بكولون `. ساكنة فى مشهد مهيب على مساحة ما يقرب من مائة متراً مربعاً، فكأننا أمام جناَّز بلدى فى قرية من الصعيد المصرى ، وقد جلس الناس القرفصاء حتى استحالوا ظهوراً محتشدة بالحزن وبالألم، وبالاحتجاج، بل ثمة ما يترائى لنا بعضاً من تلك الأظهر وقد نُسِخَت فى شكل أوجه متغضنة الخلقة بدا فيها العمود الفقرى بمثابة الأنف من بداية أعلى الوجه - الظهر- وحتى نهايته.
- وحين أعود إلى لوحة رؤوف رأفت التى أنجزها هى الأخرى عام 1999، أجد ذلك التراسل الإنسانى فى محتوى التعبير بينه وبين ما جدالينا.
- قسم رؤوف رأفت المساحة التصويرية ذات السياق الرأسى إلى قسمين كرَّس فيها القسم العلوى لخمسة عشر شكلاً لحمامات نسخت ذاتها فى وضعه بشرية، أو لعلها هى الأخرى جذوعاً بشرية مثقلة بعيون مثقوبة-، فحين نتأملها إذا بها تلتبس على الناظر بين الحمامة والبهلوان مرة، وبين الحمامة وإمرأة ريفية مرة ، وبين الحمامة والأمومة ، وبين الحمامة وإنسان أعطى لنا ظهره كذلك.
- غير أنها جميعاً أشكال ثكلى رُصَّت على ثلاث درجات لونية مظلمة من الرمادى النائح-، بكل درجة منها خمس وضعات لخمس أشكال ملتبسة- فهى على هذا النحو تبدو- بإجمال- كما لو أنها جذوعاً لخمسة عشر جسداً. ثمَّة إذن ذلك السياق الذى يربط فضاء رؤوف رأفت مع فضاء ما جدالينا، ولكنه فضاء ينم عن ذلك التفرد الخاص الذى احتشد لكل واحد منهما على حدة فى صورة التعبير عند كليهما. فبقطع النظر عن قدر الإختلاف الجوهرى فى خامة التناول بين اللوحة التصويرية الإيهامية ذات البعدين عند رؤوف رأفت-، وبين العمل النحتى ذو الأبعاد الثلاثة عند ماجدالينا، إلا أننا نتوقف أمام فضاء المفهوم المشترك لكليهما، وعن غربة الإنسان فى هذا العالم وفى كونه أعزلاً مجرداً من السلاح أمام مصير جهنمى.
- يتفرد رؤوف رأفت بتعبيريته الأسيانه المليئة بالعواطف. فهو يلمس الأسطح لمساً بريشته، ويترك الأشكال لوحيها الملهم ، فإذا بدت عفوياً على الهيئة التى يريدها تركها لحالها إلى غيرها، وقد هشَّر حولها خطوطاً متغضنة بيضاء خشية الإلتباس مع الآخر.
- حين نتأمل العمل التصويرى عند رؤوف نجده وقد تمنَّى الوقوع فى هذا الخطأ الذى تمليه لحظة الممارسة، كون ذلك الخطأ الأخَّاذ بمثابة برهان محمَّل برصيد اللحظة الزمنية -، بل كونه كاشفاً لتزامن العناصر برغم اختلاف مجالها التاريخى.
- فى القسم الأسفل من صورة رؤوف رأفت هذه ، إذا به يضعُنا أمام ` مُعَادِلهُ الموضوعى `، حين جعل الجميل ذاته موضوعاً. فنحن فى هذا الجزء الباقى من لوحة رؤوف، نقف أمام رجل اختار له الفنان وجهاً ذو مقاطع مشتركة من بين أولئك الذين يمشون فى المدينة اللاهثة. فهو شخص قريب إلينا ومن بين ذوينا الذين اقتسمنا معهم العيش والتاريخ. له جبهة مثل جباهنا، وأنف وعينان تتأرجحان بين التسامح والغضب، ثم انطباق للذقن على شفتين مُتغضنتين هربت منهما نضارة اللحظة. بل هو حزين مثل حزننا القديم فى أعالى النيل، ليس لديه ما يرويه لنا سوى الشهادة على ما جرى ، ولذلك نراه رافعاً يمناه عالياً بينما امتشقت يسراه جزءاً من آلة لدراجة يدوية- ثم يبدو فى البعد الوهمى ذلك الطرطور المثلثى متأرجحاً على خلفية من مربعات طاولة الشطرنج. بذلك يفصح لنا رؤوف رأفت عن مونولوج متدفق لأخريات اللعبة. إنما هى المعالجات الضوئية بريشة اللون المعجون وقد ضربت الوجه من كل اتجاه حتى يحتفظ الوجه بصفات الزمن المصرى.
- تُذكّرنا ريشته هنا بمعالجات ` ديجا` فى تمثيل الحياة الداخلية لراقصة المسرح، بتلك الخصوصية التى تسمح لجميع الألوان بأن تُمحِى قوامها فى ` الرمادية `، ثم بتلك الدسامة المسامية التى تذكرنا بالقوام الشفاف فى أعمال `بونارد`، ثم بذلك الثقل التراجيدى الساخر الذى نتملاَّهُ فى بنائيات العناصر ذات الملامس الرهيفة المتوجسة فى تصاوير عبد الهادى الجزار.
-حين نلتقى مع الصورة التى أنجزها رؤوف رأفت فى نفس العام 1999، سوف نعتمد مرة أخرى ذلك النهج الذى يتأسس على التقابل بين تجربتين، تجربة الإنسان الذى وضعه رؤوف داخل دائرة ومربع ، والتجربة الأخرى التى أطلقها الناقد والمهندس المعمارى الرومانى بوليو فيتروفيوسPollio Vitruvius الذى عرف فى النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، حين اختار هو الأخر وضعه ذات سياق رياضى لرجل داخل مربع ودائرة معاً.
- فى صورة فيتروفيوس هذه تبدو النسَّب القابلة للقياس الجمالى بصورة جلية، باعتبار جسد الإنسان السوى الخِلقة هو المعيار الأول لعمارة المبانى حين يجرى اختيار نسبة الأجزاء إلى بعضها حسب نسبة الأعضاء إلى بعضها فى مناطق الجسد الإنسانى.
- رسم فيتروفيوس لهذا صورته الشهيرة التى كان لها أثراً حاسماً فى عصر النهضة بكامله، وربما حتى اليوم،، إذ صوَّر شخصاً باسطاً يديه وساقيه بحيث إذا قمنا برسم خط يلمس أطرافه الأربعة لوجدنا أنفسنا أمام مربع متساوى الأضلع تماماً، وإذا قمنا برسم دائرة تلمس هى الأخرى الأطراف الأربعة للمربع لكانت منطقة ` الصُرَّة ` فى الجسم الإنسانى هى ذاتها مركز الدائرة ، من هنا نشأت قاعدة القياس الكلاسيكية للجمالية فى شتى دروب الحياة البشرية. نعود الآن إلى لوحة رؤوف رأفت التى أنجزها عام 1999 حيث قدَّم هو أيضاً إنسانه ` الفيتروفى`.
- تملّى رؤوف رأفت مَرسُومة فيتروفيوس الشهيرة ، ولكنه بدلاً من أن يضع المربع داخل الدائرة كما فعل فيتروفيوس، فعل عكس، وبدلاً من الإلتزام بالقاعدة الذهبية لمعيار فيتروفيوس فى الشخص الواقف بثبات، إذا به يُمحيها ويرسم شخصاً جعله فى حالة الجرى اللاهث، وقد بسط ذراعية ومدَّهماً وثناهما فى جميع الأوضاع، بل جعل السيقان تعَّددِيَّة تسبق إحداهما الأخرى، وجعل الدائرة مزيجاً بين الكرة الأرضية، وبين دوائر موهومة لاحصر لها، وخلط بين مركز الإنسان فى القياس، وبين مركز الدائرة. فهو بذلك شخص سجين داخل دائرة تشبه اللحد وقد استدارت حوله من فرط علَّة التدوير-، بل هو ترس الإرتكاز الذى جعل هذه الدائرة تدور حول نفسها كمثل عجلة الماكينة فى الخلاطات الإسمنتية.
- فليس من مفهوم مقارب بين إنسان فيتروفيوس، وإنسان رؤوف رأفت سوى فى ذلك الشكل العمومى لإنسان يبسط ذراعية وساقية داخل دائرة أو مربع، وفيما عدا ذلك فإن رؤوف رأفت يقدم لنا هو الآخر معيار التناسب، والقياس-، إنما هى ليست بين الأجزاء وبعضها كما هى عند فيتروفيوس،، بل هى بين عذاب الإنسان وبين عالمه الجهنمى-، بين دائرة أرضية طينية اللون، وبين دائرة اختارت لدورانها محور ارتكاز لطاقة تعدل القهر والإغتصاب اليومى للإنسانى `.
- إن رؤوف رأفت يقدم للتو عالمه اللاذع، حين يستند على حافة الصورة التاريخية.
- إذ يقدم لنا زمنين ملتبسين فى نفس تلك اللحظة التى يهجس فيها العقل المتأمل بمدى الإحالة الزمنية بين الشكل وصورته الدفينة، بل وبخصوصية اللَّقيا بين الموضوع ونقيضه.
- فى النموذج الثالث، نعرض لرجال الفنان الأمريكى الألمانى الأصل ريتشارد لندنر (1901-1978) (Richard Lindner) ، حين رسم دائماً رجالاً يكشفون النقاب عن العالم التحتى لمدينة نيويورك .
- كان هو الآخر لاذعاً، مغرماً بالملهاة السوداء وهو يزيح الستار عن عالم الرجل الذى رسمه عام 1966 وأسماه ` الوسادة ` ( L.Orciller ). فهو رجل يبدو كالروبوت الميكانيكى، ويلبس فى يديه قفازاً جعلها تبدو ميكانيكية هى الأخرى ، وهو يشعل بيده الآليه هذه عوداً للثقاب بينما السيجارة معلقة فى فمه تنفث دخاناً كثيفاً. رسم ` لندنر` الرجل بأسلوب كارتونى حاد الحواف مماثلاً لمنهج التباين الظَّلى (السلويت)-، وقد ارتدى ملابساً عصرية من نسيج يبدو ذو طابع فضائى، وعلَّق فوق قميصه المقتحم الأخضر ربطة عنق مُغالية فى الزينة والزركشة، واختار شكل المثلث الأزرق المتساوى الأضلاع كخلفية ملصقة وراء الوجه الجانبى للرجل الذى يظهر لنا وقد غطته المساحيق العصرية.
- فنحن نشهد نوعاً من البوب ( الفن الجماهيرى)، ونوعاً من السوريالية المتكلَّفة فى تلك اللوحة المرسومة للندنر، بينما تعلوه وسادة سحرية.
- إنما هو رسمُ لوجه جانبى يعلن لنا عن رجل من طراز أولئك الذين أنتجهم الكمبيوتر. رجلاً يحمل تعبيراً شكلانياً خالصاً لمتواليات الآلية السائدة، والحداثة. فلو نحن عرجنا على لوحة رؤوف رأفت التى هى الأخرى فى سياق مماثل من حيث الرصد النوعى مثل الحركة، والوضعة الجانبية للوجه، وارتداء الملابس الكاملة لرجل حداثى الطابع، واختيار الحواف الحادة بحيث يظهر التباين الظلى جلياً للمشاهد ( السلويت)،، فإننا سوف ندرك على التو خاصية الإحالة المتبادلة بين رؤوف رأفت ولندنر.
- غير أن نقاط الإتفاق لا تخل بحجم الخلاف والإختلاف بين كليهما. إذ يتفرد كل منهما بأسلوب خاص فى إنتاج صفة الآلية والنمذجة والأسلبة بين كل منهما على حدة. فبينما الآلية تبدو واضحة فى القطع الكارتونى عند لندنر، نجدها على خلاف ذلك عند رؤوف رأفت الذى جعل الوضعه الجانبية للوجه ذات طبيعة كولاجية (قص ولصق) معبّرة-، وزاد على ذلك عنصرين هامين أولها ما لجأ إليه رأفت من ترقيم الوجه الجانبى للإفصاح عن الكم المنّمّط المسئول هو الأخر عن إنتاج رجله الحداثى،، والثانى هو ذلك الذى تمثل فى الشكل المرمَّز الذى اختاره رأفت خارج الوجه ممثَّلاً لمحتوى العلامة التجارية الشائعة التى تُسجّل الرقم الكمبيوترى ` لكود` السلعة من ذلك الذى نراه عادة مطبوعاً فوق كافة السلع الاستهلاكية والإنتاجية على السواء -، وبذلك جعلنا رؤوف رأفت نقف متأملين أمام حالة من البوب الشديد التكلف متمازجاً فى النهج التعبيرى، على النقيض من لندنر الذى اختار ` البوب` لذاته ممتزجاً بالسوريالية المغالية.
- وبينما نجد رجل رؤوف رأفت يعلن عن فحوى مفهوم الأخلاق التى تتصل ` بالإجتماعى ` حين نشاهد منديل الجيب العلوى مطوياً على شكل هرمين تم تقسيمهما هما الأخريان بمربعات طاولة الشطرنج، وكأنها قطع من بعض ملابس مهرج السيرك-، نجد الحال عند ` لندنر` مختلفاً، إذ يبدو رجُلُهُ وقد تم تركيب أجزاءه طبقاً للشروط المدرجة فى الكتالوج الكارتونى-، فليس من صلة له بالأخلاقى أو التاريخى أو الاجتماعى إلا على قدر ما تكشف عنه المساحيق فوق الشفاه، وعند الحاجبين، وفيما عدا ذلك فإن بقية عناصر الصورة تبدو وهماً غائماً.
- ليس من شك أن رؤوف رأفت متفرد برَجُله الخاص الذى رسمه فى تلك الوضعة الجانبية التى تكشف النقاب عن نوع من رجال الأعمال لشركات عابرة للقارات، زد على ذلك تلك المناطق الكولاجية التى عَمَد فيها الفنان إلى إظهار شكل ` الشوكة ` الفرعونية وقد جاورها فى الركن الأيسر أعلى الصورة ` هرم ` صغير بدا قريباً إلى نِسَب التكوين فى جهاز `المترونوم` المسئول عن إنتاج الإيقاع ، وحساب الزمن وتوليفه.
- غير أن تلك العناصر تظل قليلة الأثر برغم زمنها التاريخى الممتد-، ثمه مع ذلك ما يجعلها ماثلة وحاضرة ومستفزة لنطاق الأفكار،، طارحة جانباً من عناصر رؤوف رأفت المركزية فى علامات صورته الفنية ، ليست هذه فقط من بينها ، وإنما كذلك تقدير رؤوف رأفت للجسم الإنسانى الذى هو دائماً فى حالة وقوف لا يعرف الاضطجاع على النحو الذى يتميز به ` مور` أو` ماتيس`-، بل هو يقدم لنا إيماءات كالخطوط العضلية والغضروفية حول محيط الوجه الجانبى لكى تزيده افصاحاً وغموضاً فى وقت واحد.
- هكذا يتأتَّى لنا أن نرى قدر المفارقة، بل وقدر القيمة كذلك بين رجل رؤوف رأفت الحداثى الكولاجى، ورجل ` لندنر` الكارتونى المتمازج بالبوب.
- نعود الآن إلى تأمُّل النموذج الرابع والأخير فى منظور التصوير عند رؤوف رأفت. فى لوحتيه المميزتين عن ` النسبة والتناسب `، و` الهدف`، نتعرف على الإنسان عند رؤوف رأفت باعتباره `جسد`. إنما هو جسد تدخل فيه النفس وتخرج منه النفس، فيصير مرة ` جسدانياً `، ومرة أخرى `روحانياً `.
- يقدم لنا رؤوف رأفت تصوُّفاً يستعير برهانه من نقيضه وهو الجسد. ويبدو الجسد الخاضع للقياس عند رؤوف بمثابة اعتراض فى مواجهة الألم. باعتبار كَون الجسد مركزاً للحس الإنسانى، وللمسرحَة الآدمية، وللتبادل فى مستويات المشهد بين الخيالى والواقعى.
- نلمس تلك الصنميّة المصرية فى التمثال الفرعونى التى تستعير يقينها من ` الصمت الكلى`.
هو نفس` الصمت الكلى` الذى تتلقاه النفس المتطلعة حين تشهد جبلاً حجرياً فى مساحة الصحراء، جبل يحمل خشوع الصنم وشموخه، بمثل ما يحمل مفاتيح حكمة الحيازة ` للكلىَّ `. إذ ذاك ندرك الفارق بين ` الجزئية` فى وضعه التمثال الإغريقى، و` الكليّة ` فى الوقفة الصنمية الفرعونية.
- إنه هو نفسه الفارق بين أشخاص شليمر الممسرحين (أوسكار شليمر 1988- 1943) Schlemmer، وأشخاص رؤوف رأفت الذين يحملون مفاتيح الحكمة.
- عند ` شليمر` نمر كمشاهدين خلف الواقع، وعند رؤوف رأفت ندخل طرفاً فى هذا الواقع. إن كلاهما يستمد إطاره الشكلى من مجموعة الأشخاص ` الواقفين` حيث يعطى كل شخص منهم ظهره للآخر. وبينما يحرص شليمر على نِسَب الأعضاء الجسدية إلى بعضها،، نجد رؤوف رأفت يُسقِط ذلك من الحساب إلاّ على قدر فصاحة الحكمة.
- عند ` شليمر` نجد علاقة مُشَوَّشة ، ومُتعمدَّة بين المنظور وما وراء الطبيعة. فالأشخاص يقفون كالدُّمىَ الخشبية على مساحات مُمَسرحة من أول الرئاية وحتى نقطة التلاشى.
- تبدو شخصيات ` شليمر` مستديرة جوفاء، أنيقة القالب، ولكنها جميعاً ذات أنوف فطساء، وقد رُصت حول بعضها فى وقفة انتظار عبثية. ساعد على ذلك الحس الأملس للأسطح، والطابع البنائى، وإشاعة درجات متشاركة فى اللون الواحد حتى يغرق العمل فى متوسطات الضوء فى كل رقعة من الصورة.
- إن ` آرثر أداموف ` و` يوجين يونسكو` ، و` صامويل بيكيت`، يُدينون جميعاً بمسرحهم العبثى الذى قام بعد وفاة ` أوسكار شليمر`،، لوقُفات الأشخاص فى تصاويره ومنحوتاته التى راحت تنتظر من يجئ ليشهد على وجودها الحى حتى تتخلص من رداء الدُّمية. تنتظر هذا الذى لا يأتى أبداً.
-أما رؤوف رأفت فهو يضعنا أمام الواقع، فأشخاصه الواقفون ينتمون إلى نَسَب، وحضارة، وهم فلاحون حقاً، وإنما بأجساد عصرية، وعيون مصرية-، غير أن العصر اختارهم جميعاً ليكونوا من بين الأعداد المسلسلة.
- يضع رؤوف رأفت البيانات الحسابية الممغنطة فى خلفية الأشخاص حتى يمكن قياس شرائح الأعضاء البشرية-، ولكنه يتركهم فى حالة من التباين بين الظلّى والضوئى، وبألوان فارقة ومُدمَّجة لفنيَّة التصوير ذاتها، معاكساً فى نفس الوقت لعالم شليمر الحميمى الطبع.
- وأما أشخاصه فهم لا ينتظرون شيئاً كمثل الحال عند أشخاص شليمر-، ولكنهم واقفون للشهادة على العالم، وللسخرية من الكم المنمَّط، ورفض المحو.
- يشترك كلٌ من ` شليمر` و` رؤوف رأفت ` فى مجال آخر جدير بالنظر. إذ يحكم كلاهما ذلك الإطار ` الميتافيزيقى` الذى يقدم لنا صُوَراً للوجود تقف خلف الواقع، من خلال طرح المادة فى الشكل.
- وأما الفارق بين كليهما فهو يبدو واضحاً فى كون شليمر يقدم ` الميتافيزيقا ` فى العناصر المنتجة للصورة دون الوقوع فى مغامرة التفسير الشرطى الذى يرجَّح الخبرة الإنسانية.
أى أنَّ هذه الوضعَات الواقفة لأشخاص ` شليمر` لم تكن لتأتى نتيجة ` لسبب `، كما أنها لا تتوقع إجابة تالية على وجودها.
- ولكن الميتافيزيقا عند رؤوف رأفت هى محاولة طرح نظام ميتافيزيقى فى تشكيل الصورة. أى أنَّ الوضعات الواقفة للأشخاص فى أعماله تأتى من منظور الخبرة الإنسانية التى تجعل - طبقاً للمعرفة- لكل نتيجة سبباً. فرؤوف رأفت حين يقدم عالمه الميتافيزيقى لا يطرح الإحالة على المحال إليه دون أن يكون هنالك تفسير شرطى بالأساس. ولذلك، فهو يقدم الشخص مهرَّجاً أو بهلواناً أو خاضعاً لمقاييس الخبرة من حيث هو متسق مع عالم ساخر، ولكنه مُسبَّب.
- سُقتُ هذه النماذج المقارنة الأربعة بين الصورة التى ينتجها رؤوف رأفت، وبين الصورة المنتجة فى أعمال نظراء آخرين، حتى نكشف النقاب عن فحوى ذلك العالم الجوانى المتمازج عند فناننا الذى نعرض له هنا،، قاصدين إلى تقديم شريحة من قطاع الإبداع عند هذا الفنان الذى استطاع أخيراً أن يفصل بين عمله اليومى الآلى، وبين ذاته المتفردة.
أحمد فؤاد سليم
رؤوف رأفت واسهامه الإبداعى فى حركة التصوير المصرى المعاصر
- قرأت أن بيكاسو كان يرسم كل لوحة من لوحاته وكأنه يحاول إكتشاف فن التصوير من جديد.
- إكتشاف ماذا ؟ لغة جديدة، حقيقة جديدة، فن جديد؟ هذا صحيح. ولوعاش بيكاسو عمراً أطول لظل يحاول الاكتشاف.
- إن مجال الإبداع يتسع محيطة إلى ما لا نهاية، ومهما حقق الفنان الجاد من إنجاز يكون راضياً إلى حد ما لأنه يريد دائماً الأجدد والأحسن.
- هذا الفنان- الجاد- فى سعيه الدائم خلال العملية الإبداعية يحاول أن يجرب ويكتشف ويطور من أشكاله وتكويناته ومواضيعه وأسلوبة الفنى، حتى لا يجد نفسه يتحرك محلك سر داخل دائرة النمطية التقليدية.
- والفنان رؤوف رأفت الرسام والمصور المصرى المعاصر الذى تخرج فى معهد ليوناردو دافنشى عام 1973، يعتبر حالياً أحد الفنانين الذين يقفون فى الصف الأمامى لحركة التصوير المصرى المعاصر وخاصة مع جيله- جيل الثمانينات- الذين يمثلون تياراً حداثياً جديداً ومميزاً. وهو منذ أن تخرج عام العبور والإنتصار المجيد بعد هزيمة مؤسفة ومحزنة عام 1967. دأب على الرسم والمشاركة فى المعارض الجماعية دون إنقطاع حتى رغم السنوات التسع التى غير فيها مسار إتجاهه نحو العمل فى مجلة أكتوبر من 79-1981، ثم تركها ليتفرغ لعمله الجديد فى مكتبه الخاص بالتصميم والطباعة.
- هذه الفترة الزمنية غير القصيرة فى عمر الإنسان المبدع، التى توارى فيها عن الأنظار وملاقاة أصدقاءه الفنانون، وعن مواصلة الرسم بصورة جادة منذ ذلك الحين من عام 81- 1990. بسبب إرساء دعائم مشروعه الخاص واستقراره مادياً ونفسياً. لا يمكن استقصاءها بحال من مشوار حياة الفنان لأنها فترة سوف يتضح أهميتها فيما بعد على أعماله الفنية فى مجال التصوير عندما يحين الكلام عنها. ورغم إنشغال رؤوف بممارسة العمل الجديد لكنه كان يتحين الفرصة المناسبة ليرسم بالحبر الشينى (بقلم الرابيدوجراف) بتقنية الأسود على الأبيض مستفيداً من قدراته ومهاراته فى هذا المجال. أنجز خلال تلك السنوات القليلة عدد لا بأس به من الرسوم التعبيرية، التى عززت من مكانته بين الرسامين المصريين البارزين فى هذا الحقل وهم قليلون.
- عرض رؤوف سلسلة رسومه الرائعة فى معرض خاص ضم أيضاً لوحات تصويرية بخامات مختلفة. بقاعة أخناتون بالزمالك يتميز كل منهما بخصوصية فريدة، فى الرؤية والأداء والتكوينات. اختلفت بالطبع- نسبياً- عن تجربته الفنية فى السبعينات وأقول (تجربة فنية) لأنه كان لا يزال متأثراً ببعض الفنانين البارزين مثل ( الجزار)، حسن سليمان ، زكريا الزينى، ولم يبلغ بعد مرحلة الشخصية الإبداعية الناضجة المتميزة. ولم تبارح بعد حدود الواقع الشعبى الذى كان يستقى منه موضوعاته الإنسانية ذات المضمون الإجتماعى كالسحر وقراءة الطالع والزار وكتابات التمائم وعرائس الحسد والسيرك.. ومواضيع تعبر عن حالة القنوط واليأس والقدرية.. بالتدرج تخلص رؤوف من ذلك التأثير وإيجاد أسلوب فنى وتقنية خاصة به هو بدأت تتضح سماتها الجمالية فى العديد من الرسوم والتصاوير التى قام بتنفيذها فى صياغات وتكوينات مختلفة ذات نزعة رمزية تعبيرية فى أواخر السبعينات.
- فترة الثمانينات:
- كانت فترة الثمانينات فترة إنقطاع وعزلة- مؤقته- كما ذكرت من أجل البحث عن صيغة جديدة للعيش والاستقرار النفسى والمادى.. لم ينتج خلالها شيئاً يذكر، سافر رؤوف فى رحلة عمل إلى كل من: ألمانيا، ايطاليا، أمريكا.
- فترة التسعينات
- ما لبث أن أستقر رؤوف فى عمله الخاص ثم عاد ليزاول نشاطه الفنى من جديد فى الرسم- التصوير كلما سمحت الظروف بذلك أو كلما هو أراد ذلك. اسفرت تلك السنوات القليلة عن إنتاج مجموعة من الرسوم القوية المنفذة بتقنية الحبر الأسود (الرابيدوجراف) حملت عنوانين مختلفة مثل: (ديكتاتورية 1990 والهدف 1990 والمشهد الأخير 1990 الهدف 1991 والمبايعة 1991 واحلام من ورق 1991) وغيرها من المواضيع التى تعبر عن الظرف السياسى والاجتماعى. إلى جانب الرسم أنجز الفنان أيضاً عدد من لوحات التصوير مثل (مشهد وهمس السكون وموديل وخرافات قديمة وسكون وبين الواقع والخيال وتكوينات من عناصر الطبيعة الصامتة. وغيرها مستخدماً الحبر الأسود والباستيل والجواش (وسائط مختلفة) من العنواين المذكورة ومشاهدة الأعمال من الممكن إعتبار أن الفنان يستعمل بإفراط التأثيرات الناشئة عن الحياة اليومية بهذه الرؤية اللامنطقية للعالم التى تغلب برشاقة المنظور وتتعامل مع رموز بشرية غريبة تبدو عليها الدهشة لوجودها فى هذا المكان المسرحى وكأنها تمثل فى فيلم اللامعقول والتى تتوالى أحداثه عكس الواقع المرئى.. ومثال على ذلك لوحة ( المبايعة) حيث تشاهد فيها مجموعة من الرجال وهم جالسون إلى جوار بعضهم فوق مقاعد خشبية مصطفة أمام بعضها يحملقون فى بلاهة رافعين أكفهم إلى أعلى مؤيدين ومباركين قائدهم أو زعيمهم الواقف أمامهم كالمومياء مقيد بلفائف كتانية، غير قادر على الحركة والفعل، يعلوه طائر مجرد، مثبت هو الآخر بمسمارين (قلاووظ) من طرفى جناحيه حتى لا يقوى على الطيران.. إنه مشهد شديد السخرية ، يذكرنا بطقوس عبادة الفرد فى زمن القهر والاستبداد فى العالم القديم.
- فى عمل أخر بعنوان ( الهدف 1991) نشاهد مجموعة من الكائنات البشرية الضخمة العارية تندفع بقوة من مقدمة اللوحة إلى داخلها نحو المجهول. يؤكد قوة الاندفاع الخط المتقطع فى وسط اللوحة والخطين المستقيمين اللذان ينطلقان من أسفل إلى أعلى يتقابلا فى نقطة التقاء ليشكلا مثلث مختلف الأضلاع حاد الزوايا ينتهى عند خط الأفق، يتقابل مع مثلث أخر صغير ألا وهو الطائر المحلق فى الفضاء.
- أن الفضاء الشاسع الذى تجرى فيه المجاميع الإنسانية بإندفاع أشبه بالصحراء الشاسعة التى تنتهى بإنتهاء النظر عند خط الأفق ولا يوقف إندفاع تلك المخلوقات سوى طائر عملاق فضى بلا ملامح، فاردا الجناحين محلقاً فوق رؤوسهم.. ترى هل هذا الطائر الرامز إلى الحرية هو هدفهم المنشود أو دليلهم إلى عالم أخر خلف الحدود ينعم بالسلام والطمأنينة..؟ ربما.. هذا المشهد الذى يختلف فيه الممكن بالمحال لا نراه إلا فى أفلام الخيال العلمى أو الأحلام الكابوسية. فى رسوم تلك المرحلة بشكل عام يظهر رؤوف مهارة تقنية فى استخدامه لتهشيرات الأسود وترقيقات الأبيض والتقسيم الهندسى الصارم فى بناء اللوحة وتباينات الظل والنور والجمع بين عناصر التجريد والتشخيص التعبيرى فى أن واحد.
- فى رسوم أخرى نفذها رؤوف وقدمها فى معرضه التالى بقاعة أخناتون من عام 1993 بعنوان (الكتلة والخط) وكما هو واضح من العنوان أننا سوف نشاهد تشكيلات نحتية من الحجر. وهو إنطباع يحالفه الصواب إلى حد كبير. فالكتل هنا هى صور لأشكال نسائية عارية ذوات رؤوس صغيرة الحجم يعنى بلا عقل. والخط يعنى عنصر التشكيل الأساسى الذى صاغ به هذه الأشكال وجسدها على هذا النحو المبالغ فيه، فنشاهدهن فى وضعات طبيعية مختلفة وهن جالسات أو متحركات أو ممسكات بطائرات ورقية أو كرات يد أو يافطات عليها علامة × أو يلعبن بأطواق الهيلاهوب.. إنها صور أخرى غير معقولة لنساء على هذه الشاكلة، بدينات أو ساذجات، يلهون ويمرحن فى الفراغ المحيط وكأن لا شئ أخر يعنيهن من الحياة سوى ممارسة حياتهن بحرية غير مبالين بالعيون التى تراقبهن.
- فى الواقع ما يميز المنحوتات الأنثوية فى تجربة رؤوف من الناحية التقنية: التحرر الكبير من السطح المصقول والبعد عن التفاصيل الرتيبة وإطلاق حركة الخط بمعدل أسرع لتداخل الخطوط مع بعضها لتكوّن نسيجاً متضافراً من الظلال والأضواء يظهر جمال الشكل من الناحية التشكيلية.
- من الناحية التعبيرية: لقد كانت المبالغة المتعمدة فى النسب التشريحية وتحطيمها، والكشف عن المستور والممنوع فى هذه الشخوص اللامعقولة ليعطينا فكرة عن ميتافيزيقية الخيال التى تجعلنا نندهش، ونبتسم، ونتعاطف مع ذلك الجمال إنها نفس الشخوص تمارس أدوارها فى الحياة بالتبادل على مسرح الحياة إنما نحن ننتقل من صور الرسوم المتقنة بالحبر الأسود عبر مشاهد من الخوف والإستنكار والاحتجاج الصامت والسخرية واللا أمل.. الذى يعانى منه الإنسان اليوم.. إلى مشاهد أخرى فى لوحات التصوير تطالعنا تقريباً نفس المواضيع، أو نفس الإهتمام الخاص بميتافيزيقية فكر الفنان حول المواضيع ذات المضمون الإجتماعى لكن بصياغات متنوعة، متحررة، متطورة متنامية. مثال على ذلك لوحات: (المرأة والثور، الرجل والطائر، عزف التشيللو، عاريات، خرافات قديمة، شهوة، منظر من الجيزة، تأملات فى أوراق قديمة وغيرها..)
- نظرة تأملية على الأعمال الفنية نجد
أولاً: أن رؤوف استخدم فى تنفيذها وسائط متنوعة (حبر أسود، جواش، باستيل) Mixed Media لأنها تعين على التعبير عن أفكاره وأحاسيسه بسرعة نظراً لضيق الوقت وانشغاله بأعماله اليومية فى مجال صناعة الطباعة.
ثانياً: نجد أن مفرداتها الأساسية تحتوى على أشكال متنوعة ورموز متكررة رجل، أمرأة، ثور، طائر، عجلة اكروباتية، طائرة ورقية وعلامات، مجردة مثل: الدوائر، الأسهم، الأرقام، الأشكال الهندسية وغيرها. كما هو واضح أنها مفردات واقعية المظهر. لكنها محرفة ومبالغ فيها بعض الشئ- كما هو الحال فى جميع أشكاله- ليكتسب المحتوى أشكالاً جديدة للتعبير، أشكالاً تتجه إلى العودة- المتعمدة إلى ما هو قديم أو أسطورى بدائى. أن الطابع المحير المبهم الذى تتصف به دنيا الآلات والمعدات والتبدلات الاقتصادية والاجتماعية والتحايز الواضح بين شرائح المجتمع الواحد واستثراء ظاهرة التملق والتقرب الرخيص والأحساس بالقهر والعزلة وغيرها التى تعد من سمات العصر.. كلها تبعث لدى الفنان شوقاً غامراً للعودة نحو بدائية ترفض تملق الأحساس، والسطح المصقول، وتسعى إلى الوصول إلى البناء الداخلى المدهش للأشياء وتبحث عن العنصر الثابت فيها لا عن اللحظة العابرة لإعادة نضارة الشباب إليها، وتجديد المعنى السحرى الذى نسى منذ زمن بعيد.
- لذلك نجد أن لغة التعبير هنا عند رؤوف ليست لغة الخطاب المألوف عند بعض الفنانين المصريين المعاصريين. فهى تبلغ من الذاتية حداً من التميز الأصيل. وسوف نستشهد على قولنا بمثال من لوحاته (أنا والطائر جواش على ورق 34.5×25سم-1993). مكونات اللوحة عبارة عن إنسان يحتضن بين يديه طائر كبير الحجم ومن أعلى طائر أخر يحلق فى الفضاء وعلامة من علامات المرور الدائرية بغير كتابة أو رسم إرشادى مثبته على الأرض من جهه اليمين.
- الصياغة البنائية للشكل: تعتمد فى الأساس على تقسيم مستطيل اللوحة إلى مساحتين غير متساويتين الـ 3/1 ويمثل الأرض باللون الأزرق والـ 3/2 ويمثل الفضاء. يحتل الشكل الإنسانى والطائر الجزء الأكبر من المساحة الكلية. لإظهار المحتوى الرمزى والطائر الملحق الجزء الصغير من الفضاء الأبيض الثلجى.
- البناء الهندسى للوحة: من حيث توزيع الكتل والمساحات والظلال والأضواء والألوان.. متوافقة ومتوازنة.
- الصياغة التعبيرية تتضح فى فجاجة الأسلوب البدائى المعتمد من حيث التبسيط والتشويه والمبالغة والتلقائية والمنظور ومن أجل الكشف والتعبير عن محتوى إنسانى جديد وشكل جديد.
- المغزى الرمزى:
- هنا نتساءل عن المغزى الرمزى للعمل.
- ماذا يعنى علاقة الرجل بالطائر الذى يحتضنه؟ وخاصة أن عنصر الطائر من الرموز المتكررة فى العديد من اللوحات..
- وأى طائر هذا، من أى سلالة؟
- هل هو طائر العنقاء العملاق الذى كان المصريون القدماء يرون فيه المبشر بقيام كل نظام جديد، فأصبح يبعث على التفاؤل فى نفوسهم بإعتباره مبشراً بالأنباء الطيبة؟
- أم كما يعتقد البعض إنه جاء من مصدر بعيد سحرى فى جزيرة اللهب التى تقع خلف أطراف الدنيا حيث يسود الليل السرمدى وفيها ولدت الألهه، وعادت إلى الحياة، وجاءت إلى الدنيا وكان طائر العنقاء هو الرسول الرئيسى للأرض المقدسة التى يتعذر الوصول إليها؟.. أم أن هذا الطائر الذى يشبه طائرة الشبح الرهيبة التى أستخدمت فى حرب الخليج. رمز للقوة الغاشمة ونذير شر..؟ ربما وإذا كان كذلك فهل الرجل من القوة البدنية أن يمسك الطائر ويحتويه بين ذراعية؟.. أم هو طائر - الحرية- الذى أتى من عرش السماء ليحمى المقهورين والمضهدين على الأرض؟
- أم هو طائر (الخفاش) رمز الخوف الأبدى الذى كان يشاهده الفنان وهو صبى فى أسراب تحوم حول البيوت والأشجار بعد غروب الشمس ثم تنقض على فرائسها فى سواد الليل لتمتص دمائها.. هذا الطائر الثديى القبيح ، لم يفارق بعد ذاكرة (رؤوف) وأصبح يستعين به كثيراً فى لوحاته تجسيداً لمعنى الخوف الذى يستشعره هو أو الآخرون..؟ ربما.
- لقد أسهبت قليلاً فى طرح عدة تساؤلات عن المغزى الرمزى للطائر لأن رؤوف يستخدمه كثيراً فى أعماله فى الرسم والتصوير.
- إن من عادة الفنان أن يلجأ إلى إستخدام مثل هذه الرموز كنوع من التعبير عن خياله وأفكاره المستترة بإعتبارها وسيلة للتخاطب غير المباشر مع المشاهد للكشف عن الرسالة المتضمنة فى عمله الفنى. وللمساعدة فى تفسير عمل فنى- ذى طابع رمزى- يمكن للفنان أن يعطى بعض المفاتيح مثل وضع عنوان للمعرض أو عناوين للوحات وهو أمر يحرص عليه رؤوف دائماً عند إقامة معارضه الخاصة. لكن على أى حال ردات فعل المشاهد تعتمد فى المحصلة النهائية على تجاربه الخاصة.
- أثر التصميم والطباعة على أعمال الفنان الأخيرة:
إن إنشغال رؤوف بأعمال التصميم والطباعة على مدى السنوات العشر الأخيرة لم يؤثر فيه سلباً على إنتاجه الفنى رغم ما يتطلبه هذا الإنتاج من تفكير وجهد ووقت. بل على عكس المتوقع أن هذه الصناعة خلقت له تجربة حسية غاية فى الأهمية فى عملية (الترتيب والدمج والربط بين الصور الفوتوغرافية والألوان والكلمات التى تعتمد فى الأساس على التفكير والتخطيط. فلاشئ فى هذا المجال يخضع للصدفة والأهواء الذاتية، أنما للقلم والمسطرة والقص واللصق بأسلوب الكولاج لخلق مساحات هندسية مرئية ومتناغمة تسمح بإدراك علاقتها التشكيلية والجمالية وتذوقها بصرياً. ورغم أن هذا المجال أصبح فى وقتنا الحاضر يعتمد إعتماداً كبيراً على الكمبيوتر وتكنولوجيا الطباعة الحديثة والآلية التى تحقق الإنتاج الكمى لتفى بإحتياجات السوق.. إلا أن الفنان ظل على عهدة محافظاً على فطرته وإنسانيته كفنان تشكيلى وأن استخدام الأدوات البسيطة مثل القلم والفرشاة خير وسيلة للتعبير عن فكر وإحساس الفنان الإنسان.
- ومع هذا نستشعر أن الخبرة التى حصّلها ومازال، تسللت بدورها إلى أعمال الفنان وأصبحت أحد وسائله الفنية فى التعبير، بمعنى أن سطح اللوحة نفسه أصبح كصفحة المجلة أو الجريدة اليومية يخضع لعملية تقسيم هندسى (مستطيلات، مربعات، دوائر، مثلثات..) كأساس بنائى للعمل الفنى، ثم تأخذ عناصر الأشكال مكانها فوق هذه المساحات الهندسية التجريدية وفقاً لحسابات التوازن والتناغم. بالضبط كما يحدث عندما يقوم المصمم الصحفى أو المشرف الفنى بتوضيب الصفحات الداخلية لمجلة أسبوعية أو جريدة يومية. إنه يفكر جيداً فى كيفية وضع الصورة الفوتوغرافية مع الكلام (النص) مع العنواين بطريقة منسقة وجذابة تتيح للقارئ المتذوق الاستمتاع بقراءة الموضوع. هنا نتسأل بفضول من هو المشرف الفنى الذى قام بإعداد هذه الصفحة أو تلك وإخراجها فنياً على هذا النحو المميز؟.
- أن رؤوف فى أعماله الفنية الأخيرة (المهرج) إنتاج 1999 يظهر لنا تلك المهارة فى فن الإخراج لكن دون الاستعانة بالقلم والمسطرة والمقص والكمبيوتر إنما بالفرشاة واللون وسكين المعجون معتمداً فى ذلك على ذاكرة بصرية، على يد تتمتع بذكاء وحساسية والهام فى تلك الأعمال الفنية التى تمثل إضافة حقيقية فى مسار إبداعه على مدى ستة وعشرين عاماً - تطالعنا شخصية المهرج فى العديد من لوحاته المنفذة - هذه المرة بخامة الأكريلك ليس داخل السيرك كما أعتادنا أن نراه، أنما خارجه. والمهرج هنا ليس شخص بعينه، نعرفه حق المعرفة، لكنه أنا وأنت وهم، ونحن، كل منا بداخله (مهرج) من منا ليس بداخله، هم أو حزن أو ألم.. ومع هذا نمزح ونبتسم ونضحك من خلف قناع مستعار حفاظاً على كبريائنا وعزة النفس.. غير أن المهرجين أنواع فى حياتنا وهم كثيرون جداً. لقد أستعار الفنان شخصية المهرج وقدمها لنا كنموذج فى لوحات مختلفة ليستكمل بها شهادته - الوثائقية الساخرة على العصر.
- نشاهد لوحة : تظهره وهو يمارس حركة بهلوانية فوق دراجة اكروباتية بعجلة واحدة وعلى يمينه تمثال نصفى لوجه أراجوز- المهرج الشعبى - ترى وهل هناك فرق بين الاثنين، وجهين لعملة واحدة.
- ولوحة: تظهر لاعب سيرك جالس على مقعد عال يمسك بكرباج يضرب به فى الهواء ليحدث فرقعات استعراضية ايذاناً بدخول البلياتشو إلى الجمهور المنتظر ليؤدى فقرته الخاصة هذا ما نراه.. أما المعنى الرمزى المستتر خلف المظهر الواقعى يمكن إدراكه من خلال السوط (الكرباج) رمز القهر والمذلة و ( العجلة) رمز الحركة والزمن.
- و(البلياتشو) رمز الإنسان الضعيف المهان والذى لا يفعل إلا بأمر. انها الحياه، سيرك دائم.
- ولوحة: تظهر بهلوانان يلعبان بطوق كبير، وعلى يسارهما كرسى ملكى وثير أو يبدو هكذا ومن وراء خلفية مضيئة مزخرفة.
- المعنى المستتر: أن هذين البهلوانين أو الشخصين العاديين فى زى البهلوان يؤديان حركات استعراضية أملاً فى الفوز بهذا الكرسى الوثير رمز القيادة والسلطة والنفوذ..
- ولوحة: تظهر شخصية البلياتشو فى حالة نوم عميق خلال ساعات الليل بعد يوم شاق من العمل. لكن فى الحقيقة نراه مستيقظاً، ومؤرقاً، لا تغفل له عين.
- فى تلك اللوحات وغيرها التى تتناول شخصية المهرج (البلياتشو) أو (الإراجوز) نشاهد وجوه تملؤها الدهشة والابتسامة الطيبة ووجوه تتألم فى صمت حتى لا يلاحظها أحد.. ووجوه تبدو عليها علامات الآسى والمرض التى تعقب البكاء الطويل.. وقلوب مليئة بشعور قلق بوجود ظلم ما ينبغى أن يلام عليه المجتمع..
- إن روح الفنان رؤوف الإنسانية العطوفة عمقت استبصاره المتعاطف بنفسية شخصياته الإنسانية التى بدت هذه المرة فى صور (المهرج).
- يذكر أننا خلال تأملنا للأعمال سوف نلاحظ استخدام الفنان للأرقام، والرقم مدلوله اجتماعى فى تمييز المواطنين عن بعضها، وهذا يعنى أن كل مواطن له رقم فى بطاقة الهوية، فى السجن، فى المستشفى، فى جواز السفر فى التليفونات ........، فى العمل، فى سجلات الكهرباء.. الخ.
- فى جميع مراحل حياتنا منذ ميلادنا حتى وفاتنا سوف نحمل ارقاماً.. واستخدام رؤوف لها استخدام رمزى ساخر يتضح ذلك فى لوحة (بورترية رقم 2405).
- من الملاحظ أيضاً الاستخدام المتكرر للطوق أو الدائرة للدلالة على الحركة والزمن. والعجلة التى تعتبر لزمة من لزوميات لاعب السيرك أو المهرج وكذلك المخروط والسهم وعلامة × رمز النفى أو الاعتراض وغيرها الدال على العديد من المعانى.. تلعب دوراً بنائياً وجمالياً فى التكوينات المختلفة وبدونها يحدث خللاً فى البناء العام للوحة فضلاً عن أنها أصبحت لزمة من لزوميات الفنان الضرورية التى لا غنى عنها مثل التوقيع.. إن رؤوف وهو يقدم لنا تلك الرؤية الميتافيزيقية ذات المضمون الاجتماعى لا يستعين بدراسات مسبقة ، أنما يرسم بحرية كاملة تتيح له أن تتكشف فى نفسه جميع نماذجة وتتولد تولداً طبيعياً بحيث تتوافق وعقله ومزاجه الخاص يعينه هذا على استخدامه الواثق للون. وهو هنا مفتاح لعدة مستويات من التفسيرات فى اعمال الفنان على سبيل المثال، ساعده استخدام اللون الابيض الثلجى الخفيف فى إحداث مستويات رقيقة من الشفافية أما الاستخدام السميك له بالفرشاة أو سكين المعجون فوق درجات ساخنة أو باردة ولم يشتد جفافها بعد ابراز مساحات منبسطة يمكن تفسيرها على أنها جدار أو فراغ أو ضوء وعلى الاخص حين يتم تكثيفه فى مناطق معينة من الصورة.. وكذلك فإن بسط لون أحمر- دم الغزال - خلف شكل لامرأة عارية تمتطى ثور هائج.. يمكن تفسيره على إنه رمز للحيوية الجنسية. واللون الأسود عند تغطيته لمساحة عريضة من السطح دليل على الليل أو المجهول أو الحزن.. وهكذا يمكن تفسير استخدامات اللون الرمزية على اساس المساحة والكثافة والموائمة مع الاشكال بعضها البعض. كما أن للون قيم بنائية وتعبيريه أيضاً ولا سيما فى تدفقه وهو يطمس كثيراً من التفاصيل أو يمر عليها مروراً سريعاً لكى يترك المجال للتعبير عن الاحاسيس والافكار المتواترة.
- محاولة التجريب فى أعمال رؤوف رأفت
- التجريب يتوقف على الطريقة العقلية التى تنحصر فى أختيار وجهة النظر الخاصة وتحديد الموضوع، وصياغته على نحو غير مسبوق فى أعمال الفنان السابقة، من أجل فتح آفاق التجربة واستمرارها بابتكار أشكال جديدة ذات محتوى جديد.
- وللتجريب طرق عدة منها: استخدام وسائط جديدة فى التعبير كأن يقوم الفنان بتصنيع عدد من الكراسى الشعبية ذات الزخارف البارزة ووحدات الخرط الارابيسكية ويرسم على مساند الظهر والمقاعد بعض الموضوعات الانسانية الميتافيزيقية، مستعيناً ببعض المهارات والحيل التكنيكية التى اكتسبها من الممارسة التى تحيل الفراغ الحقيقى لظهر الكرسى - فى واحد من اعماله المجسمة - إلى فراغ تصورى وكأنه بذلك يحافظ على الفراغ الواحد المادى، بعده مستويات ايحائية. أو أن يرسم موضوعاً شعبياً - عرج على تناوله فى مواضع سابقة قديمة على مسند الظهر بحيث يبدو متجانساً مع الزخارف وشكل وتصميم الكرسى ذو الطلاء الذهبى.. انها نوع من الفنتازيا المرحة التى تتوائم بين الشكل والوظيفة والجمال.. وفى محاولة أخرى يسعى خلالها الفنان إلى تجسيم اشكاله الإنسانية بعمل نماذج نحتية لوجوه انسانية توضع فوق قواعد خشبية، وأخرى مثبتة على نسيج القماشة الصلبة وتبدو وكأنها تطل من داخل نافذة ضيقة لسجن.. الموضوع مآساوى، كما هو واضح دون الخوض فى تفاصيل. أنه هنا يحاول أن يخرج بنماذجه إلى حيز الفراغ و ان يوجد علاقة تشكيلية بين المجسم والمسطح، بين الحقيقى والوهمى لكى يجسد فكرته حول الخوف والرعب والعدمية التى يقاس منها الانسان المعاصر.
- وهناك محاولة أخرى للتجريب وتقوم على فكرة (التميمة الواحدة أو الموضوع الواحد) كما هو موضح فى المهرج ( البلياتشو) التى سعى خلالها الفنان بوسائله الفنية والتقنية إظهار قدراته على التفكير والتخيل والتنفيذ بطرق عدة، دون تكرار لتحقيق أكبر قدر ممكن من النتائج المرضية التى تقفز بالتجربة إلى مستويات أعلى من الابداع.. قد لا يستكمل الفنان محاولة بدأها وقطع فيها شوطاً ويعرج على محاولة أخرى تستمر معه حتى ينتهى منها... أى كان فالتجريب نشاط جمالى جاد يدفع بطاقات الفنان من اعماقه وفيض موهبته ليتبؤ مكانه مرموقة بين مصاف الفنانين الكبار... هكذا هو الفنان رؤوف رأفت.
- خلاصة القول أن اعجابى وقناعتى الخاصة برؤوف الصديق والفنان الانسانى الجاد دفعنى لأن أكتب عنه قدر ما استطعت بموضوعية، وعلى قدر اجتهادى.. وأن أستمتع أكثر بأعماله وأتذوقها على نحو غير عادى.
د. رضا عبد السلام
- قدم لنا رؤوف رأفت مهرجاً تكسو ملامحه الحزن وهو يتهادى خلال لوحاته العديدة، حتى أنه ليخيل إلينا أن تلك الأنف الحمراء اكتسبت ذلك اللون من شدة ما يقاسيه من صراع داخلى لمرارة آلامه وأحزانه.
- وكى يجعلنا الفنان نعيش ذلك الواقع ونستلهم أحواله أتى لنا بتلك الأشياء التى تلازم المهرج دائماً لأداء دوره وهى العجلة ذات الإطار الواحد وذلك الحبل الذى يسير عليه بخفة ورشاقة دون أن يقع وأيضاً تلك الأسواط وربما كنا سنتغلب على ذلك الشعور الذى يداهمنا بأننا أمام حالة من التعبير والتغيير الرمزى إذا كان ما نشاهده أمامنا يشع بصورة أكبر بالحركة التى تشبه تلك التحولات المسرحية وتلك الأصباغ التى يضعها الفنانون على وجوههم.
- وأمام أعمال الفنان رؤوف رأفت نجد أنفسنا نتذكر تلك التصوير التى قدمتها الفنانة ماجى هابلنج عن الفنان الكوميدى العظيم ماكس وول، غير أن الفارق هنا يحدد فى إقتناع الفنان رؤوف رأفت بأن الرمز له دلالته الكافية كما أن الرصيد الثقافى والتاريخى للمهرج كافياً لجعل المتلقى مستلهماً للفكرة والرسالة، لذا فإن رؤوف رأفت يترك شخوصه كى تتحدث عن نفسها بصورة أكثر تعبيرية وواقعية.
- ومثل كل الأعمال التى تصدمنا فى البداية كى تدفعنا دفعاً إلى إستلهام الموضوع وإخراج رد الفعل التلقائى فإن هذا المعرض يؤكد على طموحات الإنسان الزائدة عن الحد والتى تتناسب تناسبا طردياً مع وعيه بذاته وقدراته،
إننا أمام حالة متقنة من الإبحار خلال الشكل.
بقلم : نيجل ريان
الأهرام ويكلى 23- 29 ديسمبر 1999
|