عماد إبراهيم محمد خليل
عماد إبراهيم يعود مرة أخرى بأعمال فنية تجسد أعماق دفينة داخل الشخصية المصرية
- تمكن من تقديم حالة مصرية فريدة بفضل تتلمذه على أيدى رواد الفن أمثال محمد ناجى وأحمد صبرى وراغب عياد.. وكان يقلدهم فى البداية حتى وصل مع الوقت إلى نقطة انطلق منها .. وجسد نفسه ينظر إلى الزحام، يتأمله ولكنه لا يغوص فيه، ويبحث عن طريقة تجعله يستمتع به ويستفيد منه.
- بحث عنه فى الأحياء الشعبية وتفاعل معه فى الموالد والاسواق، وقدمه فى البداية بعين الناقد من خلال لوحة `آكل العيش ` التى تجسد الزحام والصراع فى أصدق صورهما من خلال طاولة كبيرة يعلوها آلاف البشر محاولين التقاط الخبز، ومنهم من يقع اسفل الطاولة بعد فشله فى الوصول.
- ظل شغولاً عدة سنوات بالزحام خاصة اذا كان هناك من ينتظر القطار ويقول : ` كنت أتربص القطار، انظر إليه وأتأمل البشر وهم يذهبون ويتحركون `، فشغلته مع قضية الزحام فكرة الانتظار : `هناك شئ فى حياتنا دائما ننتظره`.. كان يجلس فى المحطة ويراقب الناس، النائم والجالس والواقف، حتى يصل القطار فيتحول الهدوء والصمت إلى صراع يأخذ اشكالا مختلفة من الحركة : `جذبتنى هذه الحركة `، حتى انه انتقل معها للبحث عن إجابة للسؤال الذى شغله باله: ` لماذا يتحرك هؤلاء الأشخاص يوميا فى هذا الزحام؟ `، ففاجأته الإجابة بان هذا هو الانسان المصرى المكافح وراء لقمة العيش.
- مر القطار بمحطات عديدة حتى توقف عند قريى صغيرة فى قلب الصعيد، لينقل من خلالها الحياة فى الريف، وأبرز مظاهرها طاقة الفلاح المصرى : `عندما رسمت الريف أردت أن أقدم الحركة فيه، فكل شخص فى اللوحة له طاقة، حيث كسوت اللوحات بلون واحد ثم نسجتها مع الخط الأسود الذى يوحى بالترابط والعمق فى تلك البيئة `.
- وأصبحت المرأة الريفية بطلة فى العديد من أعماله، ليجيب من خلالها على سؤال حول ألوان ملابسها الزاهية، حيث وجد أن الريف به مساحات وفراغ، ولكى يظهر أى عنصر وسط هذا الفراغ لابد أن يكون بارزا من خلال الألوان. كما رسم الحيوانات والطيور كجزء لا يتجزأ من حياة الريف.
- لم تجذبه نساء المدن بكلاسيكيتهن، على حد قوله، بالمقارنة لامرأة الريف ذات الطابع العفوى :` لن تجد فى نساء المدينة من تحمل على رأسها الصحون أو الخبز أو حتى أبناءها وهى تسير بثقة دون خجل، فهذه الحركة وتلك القوة هما ما جذبانى إلى المرأة الريفية ` .
- الألوان دائما لدية رمز للطاقة التى تنبع من الحركة، فهى تخدم العمل الفنى اكثر من إبرازه، ` اللون هو أول ما أريد آن تقع عين المتلقى عليه بمجرد النظر إلى العمل `، ويمكن أن تجد لدية كتلة لونية زرقاء توحى بالصفاء وأخرى صفراء تعد مركزا للصراع داخل اللوحة، ويتخلل تلك الكتل اللونية الخط الأسود لابراز الوجوه داخل اللوحة، وليس لابراز الملامح حفاظا منه على مبدأ الكيان الواحد .
-فى بعض الأعمال تجده يستغنى عن الألوان مستخدما الأبيض والأسود لكى يخدم فكرة العمل، ولكن ذلك ليس اتجاها جديدا له، بل يقول :` دراما الموضوع أحيانا تحتاج إلى ذلك`، كلوحة معاناة الناس التى يحاول فيها العديد من الأشخاص فى مكان واسع التخلص من كتلة كبيرة.
- إثناء رحلته يعود مرة أخرى للزحام خاصة فى الموالد، التى كان يتردد عليها كثيراً: ` حضرت العديد من العروض حيث يأخذك صوت المزمار إلى أعماق التراث المصرى وتدهشك القوة والحركة والعصيان والدوران والإيقاع .. إنها حالة إنسانية `.
- يريد الفنان أن يجعل المشاهد يصمت أمام اللوحة ليسمع صوت ضجيج الناس وحركة التراب، وليندهش مما تفيض به اللوحة من عفوية وطزاجة، كما يريد أن يوصل له ما يفكر فيه الشخص وهو يرقص، فهو لا يقدم مجرد عرض بل يقدم أعماق وجذور داخل الشخصية نفسها.
(مروة السنوسى - حوار (عماد عبد الهادى
مجلة البيت - أكتوبر 2011
عماد إبراهيم .. ومعايشة المشهد
- يأتى المشهد فى لوحات عماد إبراهيم محملا بتلك الدرجة من الاقتراب والفهم والمحاكاة والتنوع فى التناول والأداء فالمشهد فى لوحاته يحمل ذلك الخليط الذى يجمع بين تلك السمات المركبة والتى تكون مفردات معايشته وتلك السلاسة فى التناول ووقعه وتأثيره على المتلقى والمتذوق دون أن يخل باستمتاع كل منهما بما يمارسه ويعتبر المشهد فى لوحات عماد إبراهيم متزنا مهما تطرق إلى مبالغات وخروجا عن النص التصويرى المألوف فهو من صنف المصورين المسيطرين على مبالغاتهم مهما تمادوا فيها كما أن مشهده من صنف المشاهد التى تنتمى إلى التوثيق المحمل بانطباعاته عما يسجله فى لوحاته دون الولوج إلى استعراضات إبداعية يلجأ إليها العديد من المصورين كما تنوع لديه منظور المشهد ذاته فى بعض الأحيان وفى بعض الموضوعات دون أن يفقد المتلقى إحساسه به .
- وقد صار نضوج الحالة الإبداعية لديه متوازيا مع انتقاله من حالة معايشة إلى أخرى وكذلك فى انتقاله من تقنية لأخرى إلا أن المعايشة للمشهد ظلت قاسمه المشترك فى كل تناولاته وهى ما أحدثت عنده ذلك التميز وأعطت لتصويره تلك المساحة الواسعة من البراح فأصبح مشهده التصورى من صنف المشاهد المرنة القابلة للحذف أو الإضافة دون الإخلال بالمضمون الخاص بالمشهد والمفهوم الخاص به كمبدع وما أحدث لديه تلك الميزة هو الحالة التصاعدية لمشواره فى فن التصوير ومراحله التى مر بها دون كلل أو ملل ومثابرته على طرح قناعته دون الالتفات إلى كلمات منتقد أو عزوف متلقى .
- وقد لعب التجريد واختزال التفاصيل فى مفردات المشهد لديه دورا إيجابيا فقد استطاع التعبير عن مشهده بيسر وسلاسة يحكمهما الإحساس وليس الحسابات دون الدخول فى تفصيلات مملة أجهز عليها إبداع وحرفية من سبقوه من جهابذة التصوير.فأظهر تعابير الفرح والحزن وما بينهما من درجات المشاعر من خلال لمسة فرشاة وأكد ساعة المشهد من نهار أو ليل وما بينهما من درجات الإضاءة من خلال حسن اختياره لمزيج ألوانه ودرجاتها وجاءت حركات شخوصه لتضيف موسيقى المشهد التى تأرجحت بين الصخب والهدوء وما بينهما من تفاوت لدرجات ومصادر تلك الأصوات وكذلك أتت ( بورتريهات ) عماد إبراهيم بروح شخوصه والتى أشارت إلى مناطق فى سلوكهم وطباعهم ولم يقتصر فيها على ملامحهم المميزة كما يفعل البعض من المصورين وكذلك تجلت حالات المعايشة لديه من خلال تناولاته لباقى طرحه والتى حملت رائحة المكان وأحوال أهله وهمومهم وأظهرت حالات البهجة والرهبة والرغبة وألقت الضوء على مخاوفهم وأحلامهم وأمانيهم والتى برزت من مشاهد مجموعة ( القطار ) ومجموعته عن ( العيد ) و ( ألعاب الصبية ) ومجموعة ( الانتظار ) التى أصر على إخراجها للمتلقى من خلال خطوط على خلفية من لون واحد متدرج تشعر المتلقى بتأوهات أصحاب الهموم وتنهداتهم .
- لقد أرتكز عماد إبراهيم فى كافة مشاهده على المزج بين ثلاثيته التى أصبحت تلازم أعماله وهى ( الصوت والضوء والحركة ) وقد ظهر ذلك جليا وبصورة كبيرة فى تجربته الأخيرة والتى ستكون قيد العرض منتصف هذا الشهر بقاعة ( الزمالك للفن ) والتى تعرض تناوله لمشاهده عن ( المولد ) والتى منحته ما كان ينقصه من مساحات البراح لطرح وجهة نظره عن تلك الحالة الصوفية المتخمة بالعناصر.. - فكثيرا ما تناول المبدعون تسجيل ورصد وتوصيف تلك الاحتفالات والمراسم والطقوس التى ترتبط ارتباطا شرطيا بميلاد الأولياء ومشاهير أهل الصلاح .. تلك الاحتفالات التى تنتشر فى طول مصر وعرضها والتى تتميز بها مصر عن غيرها من الأمصار والبلدان وتصاحبها تلك الاحتفالات التى يقصدها المريدين والموالين من كل فج .. لتلبية نداء ذلك الغائب الحاضر سواء كان صاحب مقام أو صاحب يوم ميلاد .وقد أهتم العديد من الفنانين والأدباء وغيرهم من أصحاب المعالجات الادبيه والفنية والتوثيقية بتسجيل تلك المراسم والطقوس التى اتخذت شكلا من أشكال العرف والاعتياد.. وقد تأرجحت حالات معالجة المتن فى الموالد ..بين متن مكتوب وآخر مصور أو اجتماع كلاهما فى معالجة واحدة تضم العنصرين .. ويأتى تناول ومعايشة (عماد إبراهيم ) كواحدة من تلك الإبداعات التى جاهدت لتضع معالجة ذات مفهوم خاص وخصوصية فى التناول وتميزا فى الأدوات والمفردات وصاحبتها تلك الهالات الصوفية التى صدرها للمتلقى فى سهولة منيعة وإسهاب غير ذى ملل .. مقدما من خلال طرحه مشهدا مركبا .. اختلطت فيه عناصر الصوت والضوء والحركة وأنتقل فى مشاهده وسط ثلاثتهم فى رشاقة تناغمت مع سلوكيات ومناسك ومظاهر وطقوس ليلة المولد بتفاصيلها وأضوائها ذات الألوان والوميض وضجيج مكبرات الصوت التى تتلاعب بها حركات الريح وانفعالات المريدين الجسدية والتى تصاحب حركاتهم مميزة بين ذلك المريد الحقيقى الهائم فى فضاء صوفى وروحى بحت وبين محتفل جاء للترويح وأصوات المنشدين وتغنيهم بسيرة صاحب المقام ..
- لقد نجح ( عماد إبراهيم ) فى فرض هيمنته على المشهد وانتزع من ملامح أشخاص لوحاته انطباعاتهم ومشاعرهم وبسط سيطرته على المشهد حركيا ولونيا وترك للمتلقى انتقاء واختيار ما يريد سماعه من ذلك البث المنطلق على خلفية المشهد المختلط الأصوات وجاءت انعكاسات ألوان أضوائه على مجاميع مشاهده بصورة زادت من واقعية إحساسنا بتلك السخونة والتى تصدرها تلك الحالة الصوفية والروحية الناتجة عن مزج تلك العناصر الثلاث ..أما مناظير مشاهده فقد قدم فيها نموذجا مزدوجا للتناسب فى العلاقة بين موقعه كمسجل للمشهد وبين مجاميع أشخاص المشهد من جهة وبين هؤلاء المجاميع وبعضهم البعض من جهة أخرى.. ونجح فى نثر أضواءه عليهم ليضع حدود وأبعاد مشهده فى تمكن ...لقد أشعرنى ( عماد إبراهيم ) بتلك الحالة الصوفية الرصينة ولآلاء أضوائها فى عينى وتحركت شخوصها أمامى واسمعنى أصواتها التى تأرجحت بين الهمهمة والنحيب والدعاء والذكر .
- لقد لعبت المعايشة دورا رئيسا فى أعمال عماد إبراهيم فصدرت لنا نموذجا بصريا عذبا ذو خلفية لموسيقى الخط واللون وحين ذهبت إلى توصيف لحالة إبداعه وطرحه فلم أجد سوى ( معايشة المشهد ) .
ياسر جاد
فتاة البرتقال... رسومات فنية على هامش موسم البهجة
- تفوح في أسواق مصر تلك الأيام رائحة ثمار البرتقال، تعد مُشتريها بالبهجات، وتُهنئهم بحصاد هدايا الشتاء، فالبرتقال ذلك المُلهم للصور الشعرية، وجد طريقه إلى قاعات الفن التشكيلي كثيمة للبهجة والحضور الطاغي؛ لكنه اتشح بسمة مُغايرة في المعرض الفني الذي يستضيفه جاليري الزمالك في القاهرة وعنوانه «فتاة البرتقال». صاحب المعرض الفنان التشكيلي المصري عماد إبراهيم، استلهم فكرته من مشاهدات حية له في قرية «مزغونة» أحد ضواحي محافظة الجيزة. فقد قادته إحدى جولاته الاستكشافية عن قصص تُلهم مشروعه التشكيلي، إلى سوق «الاثنين»، وهي سوق بقرية «مزغونة» موطن أحداث لوحاته، حيث تضج المنتجات الزراعية والمواشي، وتحتضن الخضرة حركة الفلاحين وحكاويهم، حتى قطعت حبل تأملاته «مشنّة» برتقال أُلقيت أمامه فغبّرت المكان بحبّاته، مُعلنة عن ظهور «فتاة البرتقال».
تتصاعد الدراما التي وجد التشكيلي إبراهيم نفسه مُسيجاً بها، بعد أن يُفاجأ بأن من ألقت «المشنة» هي فتاة بارعة الجمال الريفي، وصغيرة السن، يتم تعنيفها من قبل أهلها للعمل المتواصل في جمع المحصول وهي تقول: «مش ح أشيل»، ومن خلفها رجل بائس يمسك بعصا يضربها بقوة «شيلي يا بنت»، وهي تبكي وتصرخ. وما أدهش الفنان هو عدم اكتراث المارة وعدم تدخلهم، حتى علم بعدها أنها كانت تحمل ما هو أثقل من «مشنات» البرتقال، وهو ثقل أكبر في روحها بسبب إجبار أهلها لها على الزواج المبكر رغم أنها أقرب لعمر الطفولة، وهي تمثل بذلك حال مئات الفتيات من نفس بيئتها وعمرها وظروفها المعيشية.
تُبدد الحكاية الرابضة وراء اللوحات الانطباعات المُبكرة التي يُحيلنا إليها عنوان المعرض، بكل ما يوحيه من بهجة، لكنها بهجة تنحسر تدريجياً من المرور على وجوه «فتيات البرتقال» في اللوحات التي لا توحي أبداً بالبهجة، وإنما بالحزن والغضب، وجعلهن صاحب اللوحات في مواجهة بتعبيرات الوجه والجسد عن رفضهن للسوق الذي يضج بالبرتقال الناصع، مع حركة البيع والشراء. يقول صاحب المعرض لـ«الشرق الأوسط»، إن التقاطه مشهد «فتاة البرتقال» الذي عبر به مصادفة، دفعه إلى تقديمه عبر معرض فني، لمناقشة مشكلة حاضرة بقوة في المجتمع ويتم تجاهلها، على حد تعبيره. مضيفاً: «أنا مؤمن بأن معنى الفن هو تقديم وإلقاء الضوء على المشكلات والقضايا الاجتماعية والإنسانية بشكل رئيسي، في إطار جمالي وفني عن طريق معالجتي بأدواتي وخاماتي الفنية مثلما يفعل كاتب الروايات والقصص والشاعر عن طريق اللغة والصورة الفنية». يضم المعرض 25 لوحة بمقاسات مختلفة بعضها جداريات يصل طول أكبرها إلى مترين، يفرض لون البرتقال نفسه على أسطحها، قوياً ومُشتبكاً مع الألوان الأكريليك وأقلام الفحم وضربات الفرشاة. ومن المقرر أن يستمر حتى 10 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ويُعلق الناقد الفني علي حامد، في كلمة سجّلها في «كتالوج» المعرض بقاعة الزمالك بقوله: «لقد أحدثت فتاة البرتقال داخل الرسام صدمة نفسية، تشكيلية وتعبيرية، وتحولت من مجرد واقعة حدثت ذات نهار حار في سوق قروية في أثناء إحدى رحلاته الريفية الاستكشافية، وهو يبحث عن أفكار وأشكال وموضوعات للرسم والتصوير، لتصير رمزاً وتعبيراً وطريقة تفكير ورؤية جديدة مُغايرة للعالم من حوله، هو صار بعدها يخزن ما يمر به من مواقف، ويستمع إلى حكايات وحوارات وشغب البشر، فيتحول كل ذلك إلى صور درامية تشكيلية تُعبر عما يدور في المجتمع، متمثلاً ومتحققاً في حالة (فتاة البرتقال)».
يأتي معرض «فتاة البرتقال» بعد عدة معارض للفنان عماد إبراهيم، آخرها معرضا «الجهنمية»، و«المولد»، ويقول إبراهيم إنهما عن طقوس شعبية مصرية، ضمن اهتمامه بمشاهد الحياة الريفية المصرية اليومية مثل، أسواق القرية، والعمل في الحقل، وألعاب الأطفال.
منى أبو النصر
الشرق الأوسط : 1 ديسمبر 2018
اللاوعى الجمعى يُتشكل ولوحاته الكهفية
- عن معرض عماد إبراهيم الأسبق بجاليرى الزمالك:
- بنائيات شخوصه قائمه على التفكيكيه ثم الإلتئام العضوى
- كنت شاهدت منذ شهور قليلة معرض للفنان `عماد إبراهيم` أقامه بجاليرى الزمالك.. وظل فى ذهنى عن مدى قدرة حركته الإبداعية الخطية عبر القلم الجاف فقط التى أقام بها عالم إنسانى ضخم من الأحجام والخطوط والمعنى للوحات من التوال وليست ورقية.. وفكرت فى كيفية أن العمل الدقيق المبنى بالخطوط الرفيعة المتلاصقة قد يقضى على فورة الإبداع اللحظى فوق السطح الأبيض.. ومع عودتى على فترات لرؤية مكبره لتفاصيل صور لوحاته وبنائياتها من خطوط منتظمه متراكمه أو تهشيرية وجدت الفنان ينسج لوحاته رأسياً ويقيم معمار شخوصه ململماً جزيئات من الخط الصارم الأسود ليتسق ومعاناتهم.. ولبنائية لوحاته أراه قام بعملية إحلال لفضائياتها وبالإزاحه لدرامية الأسود وتفكيكه يعمل لإقامة الكتل بذلك التراكم الخطى التهشيرى بسن القلم الجاف وكأنه إلتقط اللوحة وشخوصها مجتمعة بقطب مغناطيسى سابح عبر فضاء داخلى لا نراه لكنه يذبذب الخط مع كل رؤية من أى زاوية إلى لوحاته الضخمة.
- فى لوحات ذلك العرض لم أجد فيه ما أسماه الفنان `لحن النور` فدفق دراميته شكلت إيقاعات خطية بالأسود موحدة الإتجاه الرأسى فى تجاور وليست لحنا لا بالأسود ولا بالأبيض.. وأعتقد أن إبداعه الأهم هو فى براعة إقامة بنيان لوحاته من شظايا الخط وبقدرة تفتيته للكتلة والروح والسطح نفسه دون أى ملمح للحن من نور بل جاءت الإضاءه كبقع ضوء مسلطه فوق الوجوه والأكف فلم تشكل لحناً من نور بل إضاءة لإدراك تفاصيل الوجوه.. ووجدته يجاهد لينتزع شذرات من ضوء رفيعة من بين عتمة اللون وعتمة حياة شخوصه ليقدم بأستاذية درامية إنسانية عالية ونافذة بصرياً فى تعايش والأجواء الكهفية وأيضاً تتواصل ورسوم `جويا` الأخيره لشخوصه الأكثر حزنا وإكتئابية.. ومجازاً بدى لي كأن المكان والزمان هنا صفر بين شخوص `جويا` وشخوص`عماد إبراهيم`.
- تفكيك اللوحه وإلتئامها عضوياً
- ما فعله الفنان `عماد` أنه عمد إلى تفكيك أسطح لوحاته الأبيض تقنياً وبصريا بالخطوط السوداء.. بينما فى المقابل قاومت شخوصه عملية التفكيك بمزيد من التلاحم الجسدى العضوى الذى قاد لوحاته إلى تلاحمها الجسدى والروحى.. ومن المفارقة أن قام هذا التلاحم الجسدى للكتلة والشخوص على الطبيعة الهشة بتقنية السن الرفيع والموحى بإحتمالية زواله.. لتبدو لوحات العرض كمعضله بين الدمار والخلق.. وتساؤل حول إن كان جلب شئ جميل للوجود يجب أن يصحبه أو يسبقه إنحلال؟.. وأيضاً لإحتمالية فكرة الزوال لماده اللوحة الهشه نجد أن تكاتفت الشخوص والمساحات الخطية لتعمل كحائط صد ضد الزوال فأكسبت لوحاته شجاعة وقوة هائله حتى ولو بدت من النظره الأولى هشة عابرة وذلك لأن الأقلام الجاف دائماً فى أيدينا ولم يسبق أن إختبرناها بجدية كمادة إبداع تصمد فى الزمن إلا أنها هنا فوق اللوحات إكتسبت صلابة وحضور قوى رغم مع بدى محال التماسك بخطوطه الرفيعة ككتله مصمته متماسكه إلا فى أعمال الحفر.. وبهذا التفانى والإتقان أقام `عماد إبراهيم` مشروعه الفنى أو مخاطرته الفنية بسن قلم رفيع والتى بدت منه كدعم عال للذات.. وحقق وعى خاص بتجربته فى بنائية اللوحات الضخمة من جزيئات رفيعة دقيقة تتسق مجازاً وحقيقة تكويننا وماهية التجربة الإنسانيه بأن كل ما هو هش يكتسب صلابة بالوجود البشرى وعناد الوجود رغم اننا مجرد تراكم خلايا لا مرئية.
- وبممارسة الفنان لتفكيك السطح الصورى قد يعكس الى درجة ما ربما لم يقصدها لما تهدف اليه ما بعد الحداثة من التحرر من خلال التفكيك المتعمد للهياكل.. إلا أنه بتجميع المفكك بدءاً بشظايا الخط ليقيم من المُفكك هياكله.. أنه أى قام بعملية عكسية بتجميع المفكك وليس بتفكيك المُجمع.. ولإقامة حالة من النشوء بروابط بصرية جديدة.. وبحركة داخلية مزدوجة للتركيب والتحلل في آن واحد.. وهذه التأثيرات تكفي لإلغاء `تغيير التضاريس` بما يعني أنه جرب عدة أحاسيس أثناء عمله على عدة نصوص بصرية في وقت واحد.. ولنا كمشاهدين يمكن إدراك عبقرية الخط وشذراته فى تحقيق التنامى من الذاتي الفردى حتى يبلغ التكامل الجمعى.
- اللاوعى الجمعى لشخوصه
- فى لوحات`عماد إبراهيم`هناك حركة متبادلة بين الخارج `الواقعي` والداخل `النفسي` بما ساعد من مجموع تعبيرات شخوصه المترابطة في إلهامنا عن العمل النشط للاوعي الجمعي بتكاتفهم في مواجهة الظلمه.. وبدا لى هذا أكثر فى زيارتى الثانيه للمعرض حيث إستشعرت بما بداخل نفوس شخوصه من حذر من الضياع أو فقد النفس فرادى داخل غابات من الخطوط الكثيفه المُهشره بلا حدود لعالم قابل للتلاشى فيه الزمن والماده.. وكان إنذارهم أن إستشعروا بقرب لحظة الموت وليس مجرد توقعها.
- فى إحدى لوحاته شخوص ثلاثة مغمورة بالظلام كأنهم داخل كهف نفسى ومادى مظلم يتطلعون الينا ويجاور وجودهم كتله أخرى من الظلام كأنه نسيج عنكبوتى يتنقل نسجه من منطقة لأخرى ممتصاً بخيوطه الدقيقة الأجساد البيولوجيه كأنه يلتهمها داخل محيط من الدخان؟.. أو كأن أسنان أقلامه الرفيعة هى أيضاً تجرح سطح توال اللوحة لتخلق حالة من التوتر مستمر بين البؤس العضوى والديناميكية الموحيه للخربشات الخطيه فى تداعي بين إعادة تجريد الواقع وتصور الخيال.
- ورغم تكاتفات الأسود ندرك إنفلات شذرات ضوء متلصصه وكأن خلف لوحاته مساحات من الضوء الأقرب للضوء القمرى وبدى هذا الضوء خارجى بارد منعزل عن شخوصه والمشهد كله كمجرد ستاره خلفيه مسطحه.. وهذا يحدث فى قليل من لوحاته أن يأتى الضوء كديكور من مصدر خلفى.. وفى لوحات أخرى نجد الضوء مُسلط من مصدر أمامى غير مرئى ليُضيء فقط الوجوه أو الاكف.. ومتجاهلاً فى بنائياته أي اسقاط ضوء أو ظلال تشريحية لأجساد شخوصه حتى لنكاد نتصور تلك الأرواح مسجونه فى جسد واحد وفى عيونهم تتمثل عمق ألفتهم الروحيه.. فهل أمام أعماله يمكننا التحدث عن التكامل المثالي للجسدى الروحى؟.
- ويبدو أن علاقة الفنان والبسطاء مختزنة فى وجدانه لذلك ظهروا بقوه وببساطه لاحقاً متكاتفين فى لوحاته معرضه رغم معاناتهم وإلتزامهم الصمت صبراً أو حكمه وكأن هناك ليس بالداخل سوى أحشاء ويأس وفى الخارج وجوه مضيئة لا يخفونها وقد قام الفنان بتوسيع وصقل تعابيرهم حتى أننا قد نتمكن بعقلنا ملء لوحاته بألوان من مشاعرهم وأحلامهم.. حتى أنهم يكادون يتنفسون .. ومن مجموع مشاهد شخوصه وصلابة المعاناه نجدهم لا يصورون أنفسهم قدر ما يحاولون تحرير من يشاهدهم من عذاب الصمت الذى إصطبغ حياتنا بحاله من الوجم الجماعى.
- النقيضين الأبيض والأسود
- بدى جمال شخوص الفنان`عماد` رغم أنهم بالأسود وقليل من الأبيض المًضئ بإحساس المشاهد بأن هناك طبقات مختلفة لشخصياته.. فالطبيعة البشرية ليست أبيض وأسود فقط.. وأنهم دون اللون تحقق وجودهم كاملاً.. وبظهور تلك الشذرات المضيئة يتأكد أن العالم المرئي ليس سوى ضوء مُلقى على الشكل المعتم.. وهذه المعزوفات الخطيه الدقيقة بالأسود بحضور الأبيض تجعلنا أمام اللوحة يجب أن نفكر بالأسود والأبيض كما نراهما.. مع إعتبار أن الحضور الإنسانى الطاغى لشخوصه تخطى منطقتى النقيضين الأسود والأبيض دون تخطى التعبيريه الشديدة وما يتكشف بهما من جوانب مختلفة من وجودية شخوص اللوحة ووجودية الفنان نفسه.
- خرجت من معرضه بعد الزياره الثانيه موقنه بأن أي شخص ليس أسود أو أبيض وأننا نغير عقولنا لتعمل بشكل أفضل فقط عندما تبدو الروح بداخلها حقيقية لها قدرة تحمل صعاب الحياة.
بقلم : فاطمة على
جريدة : القاهرة 11-2-2025
|