عبد المجيد الفقى أحد أعمدة فن النحت المصرى
- رحل فى الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر عام 2012، الفنان النحات ` عبد المجيد الفقى ` عن 67 عاماً ، وهو يعد أحد أهم فنانى النحت على مدار الحركة التشكيلية المصرية .. ولد ` عبد المجيد الفقى ` فى يوم 7 مارس 1945 ، وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة قسم النحت عام 1969 ، ثم درجة الماجستير فى النحت عام 1977 ، ثم الدكتوراه عام 1987.
- خلفت الحضارة المصرية القديمة تراثاً مبهراً فى فن النحت ، ويبدو للمتأمل لذلك التراث أن هذا الفن كان عند أجدادنا القدماء ليس مجرد حرفة على هامش الحياة ، بل كان جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، وحرفة منتشرة بين الناس .. وتدلنا التماثيل الفرعونية الرائعة التى قاومت عوامل الفناء لآلاف السنين فى شموخ وصلابة على مدى الحذق والمهارة والقدرة الفنية المذهلة التى لا يمكن أن تنشأ من فراغ، بل هى نتيجة حتمية لازدهار ورقى فى الذوق والجمال والحس الفنى الرفيع الذى تمتع به مبدعوها..
- وفى بلد يزخر بذلك التراث النحتى الذى أصبح مصدر إلهام لفنانين عالميين ، فإنه يعز علينا ألا نرى تواصلاً بذلك التراث، ليس عن تقليد واقتفاء له، وإنما محاولة للوصول أو حتى الاقتراب من عظمته وقوة إبداعه ..
-كان حلم كل نحات منذ المثال الراحل ` محمود مختار` أن يقدم إبداعاته فى خامة تخلد أعماله ..البعض لجأ إلى خامة طبيعية كالخشب والحجر ، والبعض الآخر وهم الغالبية اكتفت بالتشكيل فى الطين، ثم صب نسمة من الجبس .. واقتصرت التماثيل البرونزية على الاعتماد على الصب فى خارج البلاد ،فى إيطاليا أو فرنسا أو إسبانيا وهذا لم يتحقق إلا لقلة من الفنانين القادرين أو أن تكون الأعمال بتكليف من الدولة آنذاك .
- من المعروف أن لكل فنان أسلوباً خاصاً يتفق مع نمط حياته ووجدانه وانفعالاته ، فأول ما يستدعى الانتباه فى العالم التشكيلى للمثال ` عبد المجيد الفقى ` أن المفردات التى يتكون منها هذا العالم تكاد تنحصر فى مفردات مأخوذة من البيئة الشعبية المعاصرة .. كالطيور والمشاهد الريفية ، مفردات منقولة من تراثنا على امتداده .. ولعل فى هذه الخصية تكمن أصول ( بكارة الرؤية البصرية ) التى نزعم أنها لهذا الفنان بمثابة زوادة حميمة لا تنفد ، أغنته كما هو واضح من مجمل أعماله عن افتعال التجريب أو الانحناء لسلطان التأثيرات الغربية أو غير ذلك مما يمسخ إنجازنا الفنى ، والحضارى بوجه عام.
- هذا التضافر الوثيق بين ( معنى) العمل الفنى كرسالة وجدانية وفكرية وطريقة تشكيله ، عبر خامات وأساليب مجردة ، هذا التضافر يمثل إنجازاً نادراً على مستوى الإبداع الفنى فى كافة المجالات ، تلك هى براعة ` الفقى` .
- هذا فنان لا يفتقر إلى التجريد ولا يتحاشاه ، ولكنه حريص على إيجاد مساحة للرائى يتآلف فيها مع العمل ، من النظرة الأولى ، ودون أن يخل هذا باستقلال العمل ( كتعبير فنى) عن الواقع ( كمصدر لمفردات هذا التعبير ). وكأنه ، من ناحية أخرى ، يتعمد إحالتنا بشكل مستمر إلى مرجعه، الذى هو بيئتنا وتراثنا ، عالماً نتلمس فيه إمكانات الجمال والإشراق التى التقطتها عيناه . كما أن الانتماء إلى الجماعة ، والسعى إلى اكتشاف الذات من خلالها ، والانتماء إلى عالم البسطاء يتفق أكثر والتكوينات وطرائق التشكيل البسيطة والواضحة. إن ما يقدمه هذا الفنان ليس محاكاه للواقع القائم ، بل إن عالم فنى خاص .. يستنهض من ذاكرة الشعب البصرية واقعاً أكثر أصالة وجمالاً ، وينفتح رغم خصوصيته على وجدان الجماعة وحياتها.
- نادرة هى تلك الأعمال الفنية المصرية الحديثة ، التى تأخذك من الوهلة الأولى إلى ما اصطلحنا على تسميته بـ ` الأصالة `..
- والأصالة فى معناها القريب ..هى الخصوصية المصرية المستوعبة بعمق لتراث فنى طويل وممتد بطول آلاف السنين .. وبعرض حضارات عدة فرعونية وقبطية وإسلامية .. والأصالة بهذا المعنى ليست قيمة من السهل احتواؤها إلا بثقافة عميقة ووعى شديد .. وهذه الأصالة كما تتبدى فى نسج ملامح هذا العالم ذى الأصول المصرية الفنية تتأكد أيضاً فى تمثل واستيعاب خامات البيئة ومعطيات المكان على المستوى الحرفى..
- هذه المعانى ، وما يجرى على منوالها ، هى ما تستدعيها المشاهدة الأولى - مباشرة - لأعمال الفنان المتميز ` عبد المجيد الفقى ` سواء فى منحوتاته أو مطروقاته النحاسية .. إننا أمام فنان استطاع إثارة الدهشة فى أعماقنا ، فى زمان سئمنا فيه من بلادة النموذج ، ورتابة التقليد .. سواء كان هذا النموذج غربيا أو مصريا .. وسواء كان التقليد لغيرنا أو لأنفسنا .. فأعماله تعكس انصهاراً مدهشاً للعديد من عناصر البيئة فى تخيلها الفطرى وطزاجتها العفوية .. مع مستويات شديدة التقدم والرسوخ فى براعتها التقنية التى لا تكاد تبين من فرط رهافتها وخفائها .. والجميل أن يتحقق كل هذا بوعى فنى معاصر لا يغيب عنه المنجز المعمارى والتقنى للفن الحديث ..
- وإن احتواه الفنان - هذا المنجز - كمكتسب ضمنى فى صياغة عالمه الخاص واللافت بتعدد مصادره وبقدرته على استيعاب هذه العناصر والمصادر فى رؤية مصرية، صافية جداً للعالم لا يغيب عنها التراث الجمعى والشعبى ، وللتراكمات الإبداعية والفنية والرؤية لحضاراتها المختلفة ..
- عبر منحوتات الفنان الراحل ` عبد المجيد الفقى ` يمكن أن نرى أن لديه صيغة فنية مصرية ليست مستعصية على الحل إذ مد الفنان جذوره وجسوره - بعمق ودربه وثقافة وفهم واستيعاب- مع فنونه القومية وطوابعه الحضارية .. لا ليحقق مجرد قص ولصق خارجى لهذه المعطيات .. وإنما ليتواشج معها جوهرياً فى صيغة جديدة تحقق له - ولنا - هذا الإنجاز اللافت بأصالته ومعاصرته معاً.
- استطاع ` الفقى` أن يحقق المواءمة بين دراساته الأكاديمية لفن النحت وأسلوب النحت فى التراث المصرى والتراث الشعبى فكان الكثير من أعماله على مستوى أستاذيته وأغلب أعماله النحتية تعالج قضايا قومية أو اجتماعية أو تذكارية وكان الفقى ` يتمتع بروح طموحه وإيمان بأن ممارسة الفن التشكيلى وبخاصة النحت يمكن أن تكون وسيلة علاجية لكثير من أنواع الانحرافات .
- إن قدرة ` الفقى ` تبدو واضحة فى تعبيره عن طريق الإحجام عن كل ما تمتلىء به نفسه من أفعال، ويعطى لنا عبر أعماله أعظم برهان على صدق موهبته..يتراءى ذلك فى استنباطه الأشكال بتآلفها أو موضوعاتها واختصاراتها. فموضوعاته الفنية ظلت تهيمن عليها النزعة التأملية والروحانية المستمدة من حضارة مصر القديمة ، بتماثيلها الصرحية وطقوسها الجنائزية وأساطيرها ورموزها وعلاقتها بالزمن والعبور إلى العالم الآخر.
- عندما يكون الحديث عن الفنان ` عبد المجيد الفقى` فإنه يعنى ( عالم الإنسان) المسحوق المكبل بالهموم والآلام ، عالم ` عبد المجيد الفقى` يفجعنا ويشعرنا بإنسانيتنا المعذبة فى كل زمان وكل مكان .
- ( الإنسان ) هو معظم ما تناوله ` عبد المجيد الفقى ` فى منحوتاته وكان لديه قدرة فذة على التأثر ، ومهارة عالية فى التجسيد وحرفة فنية واعية.
- لقد خرج ` عبد المجيد الفقى ` عن المألوف ولم يقتصر فى إبداعاته على مشاهدته فى بيئته المحيطة به ، بل انطلق إلى آفاق إنسانية رحبة يصول ويجول مصوراً فى كل مكان ، مما أعطاه قيمة وقدراً تجاوز بهما الحدود الإقليمية وحلق إلى آفاق عالمية . فهو دائماً يشعرنا بالمتعة الفنية للقيم الجمالية التى يجسدها فى إبداعاته.
- لقد استطاع ` عبد المجيد الفقى ` بجهده وبحثه المتواصل عن قيم فنية معبرة ومؤثرة أن يحفر اسمه بعمق إلى جانب خيرة من أنجبت أمتنا من فنانين تشكيليين .
- فى أعمال ` الفقى` نرى شمولية إنسانية ، وعمق عنيف ، وثورة الكبرياء وكبرياء الرفض ، معانى كثيرة تجسدها مميزة الكتلة الخارجة من مرسمه .
- `عبد المجيد الفقى ` الذى أدرك وبشكل مبكر طبيعة دور الفن وعلاقاته المتشابكة فاختار التزامه الموضوعى بوعى استطاع عبر تجربته الفنية الواسعة وعبر تطوير دؤوب للتقنية تقديم أرقى ما يمكن أن يقدمه الفن فى عالم يمور بالحدث دون السقوط فى استهلاكية الشعار أو تكرار الذات الفنية .فالمرحلة عنده نتيجة قائمة تحمل جنينها الآتى ، وهو فى تجربته الواسعة تلك لا ينتمى إلى مدرسة الجزء إلا ليستفيد من نتائج الكل ، وهو لا يلجأ إلى التفصيل إلا ليصل إلى الشامل . تقنيته تستفيد من كل الممكنات لشحن المناظر والمنظور عبر جدلية العلامة والانفعال المطلوب.
- ذلك هو باختصار فن ` الفقى` ، الذى اتفق معظم النقاد التشكيليين على أنه يمثل علامة بارزة فى الحركة التشكيلية المصرية.
- من أهم العوامل التى أعطت أعمال ` الفقى ` النحتية قوة الثبات على أرضيه صلبة هو توكيده التام على إيجاد صلة بصرية وفكرية بين كل خطوة وأخرى يخطوها ، مما جعل لأعماله إطاراً واحداً وإن اختلفت طرق التشكيل والأداء حسب ما تقتضيه حاجة الفكرة التى تولد فى ذهنه .
- من أهم ما يميز ` الفقى ` معرفته الدقيقة، لإمكانياته الفكرية والتشكيلية، فهو يحسب هذه الإمكانيات بدقة رياضية ، ويعلم تماماً متى يبدأ ، ومتى يقف.
- ثمة قانون فيزيائى شائع يقول إن ( لكل فعل رد فعل مساو له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه) . ويبدو لى أن معظم الفنانين المبتكرين كانوا من الذين يستوعبون الأفعال المضادة ويجيدون الرد عليها بأدواتهم التعبيرية الخاصة.. غير أن هذا لا يلغى أن هناك نمطاً ثانياً من الفنانين هم الذين يستكينون لواقع الفعل فيمتصونه كالمطاط ثم لا يلبث أن يهدأ كل شىء .. هذا النمط من الفنانين لا يضيف إلى محصلة الابتكار الفعلى للبنية التشكيلية إلا تراكمات هلامية سرعان ما تنسلخ عن جسم الزمن ..
- الفنان ` عبد المجيد الفقى ` ينتمى إلى النمط الأول من الفنانين .. نمط المبتكرين المبدعين الذين يدأبون وبجهد كبير من أجل إضافة الجديد إلى ما هو منجز على صعيد الخلق فى الفن التشكيلى ..
- يحتل الفنان` عبد المجيد الفقى ` مكانة بارزة ، على الخريطة الراهنة لحركة النحت العربى الحديث ، وذلك منذ بدأت أعماله تطل على الجمهور وتلفت الأنظار.
- إذ إنه يقدم وباستمرار عملاً مختلفاً ، تكتشف مذاق تميزه الفنى، ` الفقى ` أحد الأعمدة الراسخة فى مجال الفن التشكيلى المصرى ، له من الأعمال ما يعكس فكراً إنسانياً راقياً وذوقاً فنياً عالياً وصنعة محكمة .. يغوص فى أغوار الذات الإنسانية ليخرج معاناتها إلى الضوء ويجسدها تمثالاً.
- فهو صاحب رافد أسلوبى واثق ومسيطر ، وفى تمثاله الواحد قوة حضور ، فأعماله إسقاط تشكيلى إلى الداخل وإلى الخارج معاً.
- كل عين تقابل أعمال ` الفقى` تشعر بالاحترام والتقدير والمصداقية المؤثرة .. فأعماله تتبنى الحزن الإنسانى واليأس الإنسانى والتفجع الأسطورى ، وتصرخ للخلاص . إن أعماله النحتية رعشة صادقة تضطرب لكل الآلام الحقيقية فى عصرنا ، إنه موهبة نادرة ينبغى الاحتفاء بها ووضعها كعلامة حية فى ثقافتنا ، بل ينبغى وضعها خارج دائرة المنافسة الضيقة الأفق .
- القاعدة النحتية التى تبناها فن ` الفقى ` هى توظيف رموز تنطوى على قدر كبير من الخاصية الدرامية . وما تبرزه هذه الرموز هى الالتواءات والحركات المحسوسة للجسد النابض الحى..
- إن فن ` عبد المجيد الفقى ` سيبقى شامخاً وملهماً ، برؤية فلسفية رصينة .
- وإن كان قد فارقنا بجسده فستبقى أعماله مخلدة لتحكى لنا عن فنان ذو موهبة قلما تتكرر وتحكى عن علامة بارزة فى الحركة التشكيلية المصرية.
بقلم : د . إيناس حسنى
مجلة الخيال : العدد ( 35 ) فبراير 2018