أحمد محمد عبد المنعم الجناينى
الفنان المصرى أحمد جناينى عالمية الفن لا تتعارض مع المحلى والخصوصى
-أحمد جناينى فنان وشاعر وناقد تشكيلى من مصرعندما تلتقيه تشعر بأنك تدخل إلى عالم متعدد الجوانب والآفاق وحين تحاوره تدرك أن هذا الفنان يحمل بين جوارحه وعقله ملامح حضارية عربية ويشد كل إلى عالمه وتجربته بحميمية وعمق فهو فنان يقدم مقولات عميقة ويفتح أمام الآخر أفقاً رحباً ومتجدداً .
-أحمد جناينى لديه الكثير ليقوله فى الفن والحياة وقضايا كثيرة تشغل باله فى تأكيد الذات وتكريس قيم الخير والمحبة والحياة المعاصرة الخالية من الشر والحقد والبغضاء ، أنه فنان يحلم بعالم تسوده الحرية والكرامة والشفافية ككل فنان أصيل يؤرقه ما يحدث من كوارث خراب فى عالمنا المعاصر .
- ما نفتقده هو معرفة ما نمتلكه لا ما يمتلكه الأخرون ؟
-الفنون البصرية والفنون الإبداعية الأخرى ما هى حاجة كل منها للأخر؟
الإبداع أولاً وقبل كل شئ ليس - من جهة نظرى على الأقل - هدفاً فى حد ذاته .. لكنه فى الاساس وسيلة لخلق إنسان أرقى وهو وسيلة للوصول إلى ذات تحمل كينونة توحدها.. هو محاولة دائمة للوصول إلى حالة من التوحد الانسانى عبر لغة تحمل دلالات وجدانية نعجز غالباً عن الوصول بدونها إلى هذا الإنسان الأجمل والأرقى بداخلنا واللغات الإبداعية بشكل عام متداخلة ومتواصلة .. ومتفاعلة ولا يمكن لأى مبدع أن يخلق لغة إبداعية خالصة بمعزل عن لغة إبداعية أخرى .
- فالمسرح والتشكيل والسينما والشعر والقصة والرواية وكل صنوف الإبداع متفاعله معاً ولكن الأهم أن ندرك أن لكل لغة منها بطلاً يؤدى دوراً أساسياً فى تلك اللغة وتكون بقية الفنون الأخرى بمثابة لغات مساعدة لهذا البطل .. لا يمكن أن تكتمل لغة هذا البطل بمعزل عن تلك اللغات المساعدة .
- فالمسرح بطله الأساسى هو الحركة بمفهومها الابداعى وتؤدى الكلمة والتشكيل - والموسيقى جميعها دوراً مساعدا لا يمكن عزله أو تجاهله .
- كذلك الفن التشكيلى لغة بصرية ، البطل الأساسى فيها هو اللون والكتلة والخط والمساحة .. وكل ما يتعلق بتلك اللغة البصرية هو لغة ( بصر ) ولكن الموسيقى والحركة والكلمة والقصة والرواية .. جميعها تؤدى دوراً مساعداً تجاه هذه اللغة البصرية وهكذا لا يمكن تجاهل لغة إبداعية أيا كانت حين تتعامل مع الإبداع ..فلا يمكننى تجاهل الشعر أو الموسيقى أو المسرح أو السينما حين أتعامل مع التشكيل .. ولهذا فإن الإبداع هو بمفهومه فعل انسانى راق له الدور الأساس فى دفع الإنسان إلى محاولة التكامل والتوحد فى مواجهه الحياة .. بداخلنا الخير والشر الضعف والقوة جميع المتناقضات تسكننا لاشك ..ونحن فى محاولة دائمة لإيجاد حل هو بمثابة الجمع الكيميائى وليس الجبرى أو الرياضى لكل هذه الشخوص التى تسكننا كى نصبح فى حالة توحد كامل مع الذات لغة وفعلاً فنصبح لغة واحدة وهذا يعنى مصالحة مع الذات ، ويعنى بالتالى الاستغناء الكامل عن كافة الأقنعة ( الماسكات) التى نرتديها فى حراكنا اليومى وعراكنا الانسانى وهذا بالقطع لا يعنى سوى تطور حضارى انسانى نحن فى أمس الحاجة اليه.
- الفن حالة توحد انسانى مع الذات والمجتمع ..
- الفن لغة عالمية هل يتعارض ذلك مع الخصوصية المحلية؟ وكيف يصبح الفنان عالمياً من وجهه نظرك؟
- من الخاص جداً ندخل بوابة العام .. ومن بوابة العام ندخل عالم الكل .. نعم .. من الخاص جداً اقصد من كل ما هو ملتصق بالذات والوجدان تتكون تلك اللغة الإنسانية .
- وبالتالى لا يمكن ان يكون هناك فصل بين العالمية والمحلية بالعكس المحلية هى المدخل الحقيقى للعالمية .
- لا يمكننى أن أتفاعل وأحسن التفاعل مع العالم ما لم احسن التفاعل مع الذات .
- وصدق تفاعلى مع الذات هو مرآة حقيقية لتفاعلى مع مجتمعى المحلى، الذى من خلاله حتماً ستكون اللغة عالمية.. والعالمية هنا تعنى عالمية الإنسان والوجدان .
- ولكن لكل منا سوف تبقى ملامحه التى لا يمكن سلخها أو محوها أو إذابتها .. فرائحه الذات لا بد أن تظل مطلة من نافذة الوجدان فى العمل الابداعى كى يصبح عالمياً.
- على الفنان والمبدع ان يعى ذلك تماماً فى تجاربه الابداعية.
فالعالمية لا تعنى ان اتحدث بلغة الاخر ولا أن ارتدى أقنعة الأخر. لكن على أن استوعب الآخر ضمن لغتى الخاصة . وأن ( اعجن ) لغتى بمفرداتى .
- وفى اللغة الابداعية غالباً نحن نفتح الباب أمام (الحالة) وحين نتحدث عن الحالة فإننا بصدد موضوعات شتى يمكنها أن تدخل من نافذة هذه الحالة .. وموضوعات الفنان هى خصوصية مجتمعه وعالمه .. ولكن كيف يمكنك ان تقول ذلك عبر لغتك وعالمك وعبر اكتشافاتك الخاصة علينا أن نفهم أولاً أن الفن اكتشاف وخلق .. وهذا يعنى بالضرورة أهمية أن أضيف للغة الابداعية التى اتعامل معها لحظتها لا يمكن إلا أن أكون عالمياً لأننى اضفت للغة عالمية مفردات جديدة .. وتصورات جديدة !
- هل هناك هوية لفن عربى ؟ وكيف نحقق ذلك ؟
- كما قلت : إننا حين نتحدث عن الفن فإننا نتحدث عن الخاص جداً على الأقل وجدانياً.. وحين نتحدث عن وجداناتنا الخاصة فإننا بالضرورة نفتح الباب أمام هوية خاصة ..لذلك لا يمكن تجاهل الهوية فى الفن ..
- والهوية فى الفن لا تعنى غلق النوافذ والابواب على الابداع مطلقاً لكنها فقط تعنى أن أفهم مفردات الكتابة الابداعية تعنى الانصهار فى تلك المفردات، تعنى التوحد مع تلك الوجدانات .. تعنى التفاعل الكيميائى والفيزيقى مع التاريخ والجغرافيا والانثروبولوجيا .. بدون ذلك لا يمكن ان يكون هناك ابداع .. صحيح أن الفنون التشكيلية الحديثة جاءتنا عبر الآخر .. اتت من أوروبا عبر تكنولوجيا اتصالات عصر أوروبى لكن لا يمكننا على الاطلاق تجاهل الابداع الحضارى الذى غذت به حضاراتنا العربية هذا التاريخ .. نحن الاسبق ونحن الاقوى ونحن الاكثر ولوجا فى التاريخ ..لكننا فقط نفتقد للتنظير والتأصيل وقبل كل شئ نفتقد لمعرفتنا الحقيقية بأننا نمتلك ما لا يمتلكه الأخر ..نحن نمتلك الانسان ويعنى هذا .. اننا نمتلك مفردات الوجدان الذى من خلاله تتكون اللغة الابداعية هناك لغة ابداعية يمكن لها أن تكون لها رائحة التراث.. والتى لها رائحة الحرف العربى… ولها رائحة اللون الصحراوى … ولها كل ما يمنحها الخصوصية العربية فقط علينا أن نؤمن بذلك.
- ماذا عن التواصل الابداعى التشكيلى بين البلدان العربية مسببات القصور والطموحات؟
- لازلنا حتى الان رغم التطور التكنولوجى ووسائل الاتصالات الحديثة وعالم الانترنت وضخامة المؤسسات الثقافية فى الوطن العربى إلا أننا حتى الآن لم نصل بعد إلى تواصل ابداعى تشكيلى بين الاقطار العربية بالشكل الامثل .. ولا أعنى بذلك أنه ليس هناك ثمة اتصال..ولكن اعنى انه ليس ثمة تواصل .. وفارق كبير بين الاتصال والتواصل .. فى المفهوم والدلالة ..نحن بحاجة إلى تواصل ابداعى عربى هذا التواصل لا أعنيه بالمفهوم التظاهرى قدر ما أعينه بمفهومه الابداعى ومفهومه التجريبى والتفاعلى، التواصل يعنى من وجهه نظرى استمرار البحث والتجريب والتعاون .. والاستنفار والتأصيل . والتنظير لهذا الفعل الابداعى القصور الحقيقى هو فى مفهوم المؤسسات لعملية التواصل، هناك خلط بين التواصل والمهرجانات. نحن نمتلك كعرب لغة وجدانية واحدة .
- هناك جسور وجدانية وابداعية وتاريخية وجغرافية وانسانية مشتركة، فقط علينا أن نفهم كيف نعبر هذه الجسور ثم ( ندشن ) معاً لفلسفة ابداعية اكبر وأعمق. مازالت المؤسسات تتحرك بمفهوم المصلحة الفردية وليس بمفهوم الفلسفة الجمعية لتكوين رؤية ابداعية فاعلة كثيرون جداً هم المبدعون العرب الذين غطتهم وخبأتهم ظروف اجتماعية واقتصادية فحجبت ابداعاتهم عن بقية الجغرافيا العربية..نحن بحاجة لكشف الغطاء عنهم ..
- نحن بحاجة للتفاعل معهم نحن بحاجة للتواصل معهم. وهذا لن يتم بمفهوم المهرجان ولكن قد يتم بتنسيق العلاقة بين المؤسسات والجمعيات والنقابات والاشخاص الحراك لابد أن يكون فاعلاً.. ولابد أن نصدق أنفسنا عن رسم خريطة المجتمع الابداعية . من خلال زيارتك المتعددة لسورية ما هى ملاحظاتك عن التجربة التشكيلية السورية ومقارنتها بالتجربة التشكيلية المصرية ؟
- الحديث عن الحركة التشكيلية السورية يعنى الحديث عن ضلع مهم من أضلاع الحركة التشكيلية العربية.
-فسورية تمتلك ما يؤهلها لتدشين قلعة تشكيلية تؤصل لمفهوم ابداعى عربى حداثى .
- الهوية فى الفن ليست فى إغلاق النوافذ بل فى فتحها وإضافتها.
- وفى زياراتى السريعة لسورية شرفت بالتعرف عن قرب على مجموعة من الفنانين السوريين المهمين .. وكان لى شرف اللقاء مع معظمهم فى لبنان حيث جمعتنا ملتقيات تشكيلية بلبنان ، وقد سبق لى أن كتبت عن الحركة التشكيلية السورية فى محاولة سريعة لرصد فعل الجمال التشكيلى فى هذا القطر المهم ونشر ذلك بمجلة المحيط الثقافى التى تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر وتاريخ سورية الحضارى منحها أسس الدعامات لهذه التجربة فخرجت بكم هائل من المصورين والنحاتين الذين اعتمدوا فلسفة الابداع جسراً حقيقيا للعبور إلى الإنسان ورصد مشاعره وطموحاته .. واشكالاته .. هذا التاريخ الممتد عبر آلاف السنين هو نفسه خط الصلة والتشابة بين سورية ومصر .. ثمه تشابة كبير بين التجربتين فى مصر وسورية .
-فى امتداد جذورهما بعمق التاريخ ، وآمل أن يكون هناك تنسيق وترتيب للحركتين السورية والمصرية عبر نقابة التشكيليين بمصر ودمشق وعبر وزارتى الثقافة المصرية والسورية وعبر الجمعيات الفنية الخاصة لابد أن يكون هناك تواصل بين الحركتين التشكيليتين .
- خصوصية تجربة الفنان الناقد والشاعر أحمد الجناينى ما هى حدثنا عن محطاتك المهمة ؟
- الفن حالة خلق انسانى أرقى يحمل كينونة توحده ..
- كل ما امتلكه كان وسيظل دوماً جسراً أعبرعليه للوصول إلى خصوصيتى التشكيلية والابداعية .. لقد اعتمدت تماما على فلسفتى الخاصة فى المسألة الابداعية للوصول بها إلى الحد الأدنى من علاقتى بذاتى ..كنت صادقاً تماماً فى عبورى نحو الذات، تلك اللوحة بالنسبة لى كانت وسيلة لخلق انسان اجمل، أبحث عنه عبر ذاتى وذات الآخر .. القصيدة عندى لوحة اكتبها لاكتشف منها وعبرها انسانى المغشى عليه من الحزن والالم والفرحة والسعادة.. وهذا الكم الهائل من القوة والضعف الذى يسكننا.
-عبر محطات متعددة حاولت تلمس ذاتى وذات الآخر لأدشن لجسر نعبر عليه سوياً معتمدين اللون والمساحة والشكل وأيضا المفردة الشعرية .
عبد الرحمن مهنا
الثورة الثقافى 2004
إطلالة على تصويرات الفنان التشكيلى المصرى/أحمد الجناينى الإنسان أساسى فى صياغة العمل
- أثناء مشاركتى فى `سمبوزيوم عالية ` وبعد ذلك فى سمبوزيوم اهدن فى لبنان عام 2002 كان أحمد الجناينى/ من مصر أول فنان عربى، أتعرف إليه فى هذين الملتقيين.. لفت انتباهى بأعماله المميزة.. اقتربت منه ووقفت بجانبه مرات عديدة.. أرقب صنيعه الفنى دون أن أقطع عليه خلوته.. شعرت بعمق انشغاله وتوحده مع ذاته وجديته.. كأنه ناسك فى معبده . - يبدأ بفرش سطح لوحته أو جانب منها بطبقة من الماء، يعقبها بطبقة من لون اختاره بعناية ، غالبا ما يكون داكنا وبهدوء وتحكم عقلانى يتعامل مع عفوية ناتج اللون ، الذى تمدد من الماء .. لتبدأ مرحلة أخرى قوامها استفزاز المكون بمجموعة لونية جديدة دخلت تبحث عن مواقع لها وترسم مسار العمل وتوجهاته . - المشهد هنا يتطلب ضبط الأعصاب والترقب نتيجة تبدلات تطرأعلى ايقاع الألوان والأشكال التى تحدثها . -إن خامة الأكوالير التى يستخدمها فناننا تحتاج إلى مهارة خاصة فيها الكثير من الخفة وسرعة التحكم . - فى النهاية تبدو اللوحة من حيث الشكل على هيئة فروع لونية خارجة من جذعها الرئيسى .. لتشكل مع فضاء واسع وحدة تعاضدية تفرض وجودها كلوحة وليدة لها نكهتها الذاتية . - ما الذى تحمله أعمال الجناينى ؟ - فى قراءة متأنية لأعماله التى أنجزها فى ملتقى (عالية واهدن ) … وأخيراً فى ملتقى اللاذقية - رأس البسيط - إضافة إلى أعمال حملها معه من مصر .. وما حصلت عليه من صور للوحات سابقة جعلتنى أقف على تجربة غنية لها تاريخ طويل نسبيا بين تجارب الفنانين التشكيليين فى مصر والوطن العربى . - إنه يرسم حالات من أشكال متعددة تأخذ توجهها من نقطة بداية يحدد موقعها.. وبالتدرج تنهض هذه الحالات بمساحاتها وخطوطها وفراغاتها لتشكل وجوداً متجانساً، تطل منه هيئة إنسان بدور فاعل أو مفردات مستقاه من الواقع ، وبصيغ مبتكرة تحمل ذات الفنان والجانب الوجدانى والفكرى فيها ، وقد يبدو هذا جليا فى ذلك النسيج اللونى وحركته .. وما يفرزه من تغيرات سيكولوجية تفصح عن انتماء حقيقى للمكان والزمان ، وتفصح أيضاً عن وعى ثقافى بحقائق المحيط القريب والبعيد .. - إنها عملية توازنية يسعى الفنان إلى تحقيقها والوصول بها إلى المتلقى لأحداث الأثر المطلوب . - إن عملية التوحد بين القيم التشكيلية والخامة ، وبين روح الماضى والمعاصرة دفع بالنسيج اللونى لأن يكون بالواجهه ، سواء كانت الخامة ترابية أم زيتية، على أن قوة تأثيرها تتوقف على وقع الشحنة التعبيرية التى تنبعث من الخامة والفنان معاً، أو التى قادته إليها مواجهه ما ، فى مشاعر حرة تبحث وتنقب هنا وهناك ، ومع هذا أعتقد أن المحرك الأساسى المنظور منه على الأقل يبقى وقفا على قدرة النسيج اللونى فى عكس حالة المشاعر والرؤى .. إن تأمل الأعمال الزيتية وأعمال الأكوالير تظهر فروقات لا يستهان بها فى صدى الرؤية البصرية أو الموسيقا الصادرة عنها ، وهذا يؤكد رغم وحدة المشاعر عند الفنان أن الخامة لها مؤثراتها الخاصة على الفنان والمتلقى معاً .. يبقى أن اللغة الموسيقية المسموعة جيدا فى أعمال (الجناينى ) هى لغة بصرية بالنسبة للمتلقى وهى بمثابة الشرك الذى يتم من خلالها اصطياد المتلقى دون التخلى عن القيم التشكيلية الأخرى التى هى - وحيال سطوة الإرسال الموسيقى البصرى للنسيج اللونى - أساسية فى عملية التكامل ..أنها موجودة وتشارك مجتمعه فى تكوين الأثر والتفاعل معه، فالخط الذى رسم ليفصل بين مساحتين لونيتين أو الذى جاء محصلة لتجاورهما هو إحدى القيم التى يمكن أن تمثل جسداً إنسانياً .. بصرف النظر عن ارتباطه بالموضوع .. كما أن الفضاء الذى يحيط بالأشكال سواء كانت تجريدية أو تحمل ملامح تشخيصية هو قيمة تشكيلية متحصلة من هذه الإحاطة، وأن قيمة كل من الفضاء والشكل تتحدد على أساس العلاقة الترابطية بينهما، لذا فإن المتلقى المتذوق والعارف بأبعاد الثقافة البصرية لا يقف أمام تشكيلات السطح فى اللوحة فحسب ، بل يصطحبها معه فى رحلة العمق ليعود منها بالذى يبهر ويجمل ويؤثر . - تتميز أعمال/ الجناينى بوهج اللقطة وسرعة الإيحاء والغنى التقنى، ولوحته بشكل عام تأخذ بالعنصر البشرى كمحور أساسى فى صياغة العمل ومحموله الحياتى ... إنها اختزال لتعبيرية رمزية تحمل ربما خصوصيتها . - أحمد الجناينى فنان مصور وباحث جمالى فى التشكيل، له العديد من الدراسات التشكيلية والنقدية والثقافية ، رئيس تحرير سلسلة الترجمة والنقد الصادرة عن جماعة `رؤى للإبداع `، من مواليد الدقهلية فى مصر ، بكالوريوس هندسة 1977، عضو نقابة الفنانين التشكيليين وجماعة ` الأتيلييه ` فى القاهرة والإسكندرية ، له العديد من المعارض الخاصة والجماعية داخل مصر وخارجها ، وهو مشارك فى العديد من الملتقيات التشكيلية ، حاصل على العديد من الجوائز منها : جائزة أولى بمعرض `هيئة الفنون والآداب ` فى الإسكندرية عام 1990، جائزة أولى فى معارض ` قصور الثقافة `أعوام 1991، 1992، 1993، جائزة ثالثة فى ` بينالى بورسعيد ` عام 1994.. له مقتنيات لدى وزارة الثقافة ولدى الأفراد فى ألمانيا ، بولندا ، العراق ، بريطانيا ، هولندا ، فرنسا ، لبنان .
جمال عباس
جريدة البعث السورية
التشكيلى والشاعر المصرى أحمد الجناينى الجمع بين النص الشعرى والعمل التشكيلى يجب أن يكون كيميائيا وليس رياضياً
- جرب مرة أن تسكب روحك فى مساحة بيضاء تشاكسها مساحات اللون الدافئ وتحفظها طزاجة الذاكرة .. - جرب مرة أن تختصر الزمن والعلاقات والذاكرة وفى كلمة واحدة تموت عندها الحروف وتعجز رعشة الأنامل عن تصويرها… ` هذا ما جزبه الشاعر والتشكيلى المصرى أحمد الجناينى ألوانا وكلمات، والمقطع السابق مأخوذ من آخر إصداراته الشعرية ` قليلاً من عصير الروح ` ... - الجناينى يقول لـ ` تشرين ` : تجربتى تقوم على التصالح والمزج بين المدارس الفنية وأيضاً فى استثمار الأجناس الإبداعية الأخرى التى تفتح نوافذها لبعضها اليوم سواء كتبت شعراً أم شكلت لوحة مستفيداً من موضوع `وحدة الإبداع ` علماً أننى ضد ترجمة إبداع بإبداع آخر ، فالجمع يجب أن يكون كيميائياً وليس رياضياً.. إلى تفاصيل هذا الحوار: المنطقة الوسطى - المعروف عن تجربة الفنان أحمد الجناينى التشكيلية، أنها بدأت سوريالية، لكن بمفردات عربية ، هل نعرف كيف تم لك ذلك؟ - السوريالية كانت أول ما بدأت فيه تشكيلياً هذه السوريالية كان أن طورت عليها ما يكسبها القيمة العربية ، بحيث يكون لها سمات خاصة بالمفردات التشكيلية العربية من موروث وميثولوجيا وغير ذلك بهدف الخروج بها من أوروبيتها لتتماشى مع الفكر العربى . - تحديداً ..كيف تم هذا ` التعريب ` ؟ - كما هو معروف فالسوريالية الأوروبية تقوم فى مجملها أو تنشأ فى منطقة اللاوعى ، عندى نشأت فى المنطقة الوسطى بين اللاوعى والوعى ، أى أن يكون أو يتعامل المبدع هنا بوعيه وبلاوعيه ، أى لا يكون مغيباً تماماً عن إبداعه ، هنا فتحت نافذة جديدة لاستخدام مفردات من المنطقة العربية عبر لغة سوريالية تحمل الروح السوريالية الغربية فقط ، لا سيما أنها فى التشكيل العربى القديم ` فرعونى وفينيقى` موجودة، لكن دون أن ينتبه لها أحد ، خذ تمثال أبى الهول مثلاً..!! - ولاحقاً ماذا حصل ؟ - بعد ذلك قمت بمصالحة بين هذه المدرسة السوريالية - وبين التجريد ، وبينها وبين التعبيرية ، والانطباعية وغيرها من المدارس الأخرى ، تم ذلك دون قصد ، تجاوزت القيود النقدية بتحديد المدارس الصرفة ، واشتعلت على هذا المزج ..حيث أقمت جسور تواصل بين هذه المراحل الإبداعية ، ما أتاح لى تقديم تجربتى بشكل حقيقى ، حيث أشير ولو بقليل عن ماهية التجريد بطريقة أكاديمية . التصالح - لكن تخليت عن هذا الأمر فى النتاج التالى من تجربتك ؟ - لم أتخل عنه وإنما نتج وعبر تكنيك فى خامة ` الأكوارل ` - المائى - التى اشتغل بها الآن ومنذ خمس سنوات نتاج مغاير فقد توصلت من خلال هذه الخامة ، إلى الطاقة الرقيقة فيها والتى لا تقبل التفاوض فيها مع الأخطاء ، حاولت أن أخرج تكنيكاً مختلفاً يصالح بين الأساليب التى انتهجتها ، تكنيكاً منحت لأجله `منحة التفرغ` لمدة أربع سنوات من قبل المجلس الأعلى للثقافة فى مصر ، للوصول إلى مرحلة خاصة تحمل سماتها كمدخل للغة بصرية بمفرداتها العربية . - لكن التنوع فى الأساليب ألا يشكل خطراً على الهوية الشخصية للفنان ؟ - على العكس تماماً ، التنوع غنى للتجربة ، وهذا ظاهرة صحية فى الإبداع ، لأنه يشكل عملية بحث بالدرجة الأولى فى التكنيك - الخامة -للوصول لملمس بصرى مختلف ، ولكن مرحلة أسلوبها وتكنيكها ، لكن كل ذلك يجرى ضمن خصوصية عامة شاملة لكل هذه الأساليب والمراحل .. شخصياً لا أحب أن أضع نفسى أسير مدرسة معينة وتكنيك واحد تم التعارف عليه ، أرى أنه على المبدع أن يطور فى هذه الأمور ليجد رؤيته الخاصة! - رغم المغامرة فى البناء على الإبداعات المنجزة ؟ - أرى أن المغامرة تنسق مع فلسفة الإبداع، فالمبدع هنا تماماً كمن يمشى على حبل مشدود ، فوق هوة مجاهيل وغيبيات ` يمشى المبدع وهو معبأ بشحنات عالية جداً وسط منطقة الوعى واللاوعى بين الضباب والوضوح وإن قد يحصل ثمة خسائر ، لكنها فى كل حالاتها لا تساوى شيئاً أمام الاكتشافات الجديدة التى تحقق للفنان التوازن بين ذاته وذاته ، بين أفكاره ومشاعره ، فى اختزال الخط الواصل أو المسافة بين العقل والقلب إذ سيحصل بعد ذلك على اتزان نفسى وفرح روحى كبير .. على حبل مشدود - لكن قد تكون هناك خسائر بألا يكتشف الفنان شيئاً ؟ - بالنسبة للفنان الحقيقى لا يمكن أن تكون هناك خسائر من هذا النوع، لأن لكل مغامرة إبداعية واشدد على `ابداعية ` ستكون أو تشكل إضافة للذاكرة البصرية والخيالية ، وفى كل الحالات إضافة جديدة للعمل الإبداعى الذى سيأتى لاحقاً، وهى بالتأكيد تختلف عن `المبدع` العادى الذى يدخل المغامرة من دون رصيد ، المسألة فى الأساس تعتمد على وعى الفنان عبر هذه الرحلات التجريبية للوصول للوحة تشكيلية جديدة .. فاليوم كل نوافذ الإبداع تفتح على بعضها ، فاللوحة ليست تشكيلية صرفة وإنما فيها شئ من الموسيقى والمسرح والدراما ..فثمة وحدة إبداع لا بد أن يستفيد منها التشكيلى فى هذه اللوحة الجديدة.. - تذكر أن ثمة وحدة إبداع وعلى التشكيلى أن يستثمر بعض جوانب الإبداع الأخرى ، وأحمد الجناينى تشكيلى وشاعر أيضاً ، ومؤخراً أصدرت `قليلاً من عصير الروح ` المجموعة الصادرة عن `كتاب المرسم` مع عنوان فرعى هو ` ديوان من الشعر التشكيلى` .. أسأل عن ماهية هذا الشعر التشكيلى؟ -أولاً : لابد أن نتفق على موضوع وحدة الإبداع ، وعندما نتفق على هذا الأمر ففى النص الإبداعى أياً كان جنسه، سنلمس مختلف أنواع الإبداع، لكن هناك مسألة البطل فى النص ، فحين ارسم لوحة تشكيلية ، يكون البطل هنا هو اللغة البصرية، وتكون اللغة الشعرية داخلية، وأيضاً لغة المسرح والموسيقا، أما فى القصيدة فتكون البطولة للجملة الشعرية للصورة اللغوية، فيما تكون بقية اللغات داخلية ومساعدة فى النص، والعلاقة الجدلية التداخلية بين الفنون محددة فى كتاب `روحانية الفن` ومن المعروف أنه كان فى المغرب العربى تقوم أعمال فنية ، كأن تكتب القصيدة فى موازاة الاشتغال على صورة بصرية ، الشاعر يكتب القصيدة ، والتشكيلى يعيدها بصرياً.. الفضاء الشعرى -هنا أسألك عن رأيك فى المعارض التشكيلية التى تجسد القصائد ففى سورية كان ثمة معارض لفنانين كانت قصائد الماغوط ، ونديم محمد تشكيل فضاءات لها ، وأسألك أيضا ، لماذا دائما كانت اللوحة تتكئ على القصيدة وليس العكس؟ - سأجيب من نهاية السؤال . مسألة أيهما يأخذ من الآخر ، لا يمكن تأكيدها ،فالمسألة مفتوحة هنا، فقط الوعى بلغة البطل السائدة فى `النص ` أما أن ينحاز للغة البصرية، أو للجملة الشعرية وغيرها من بقية الفنون ، وهى حالة تواصل ومثاقفة إبداعية للوصول للغة إبداعية متكاملة فإذا سحبت من المسرح اللغة التشكيلية -الديكور- والموسيقية، ماذا يبقى منه ..؟ البطل فى المسرح كما هو معروف الحركة ، لكنها الحركة التى تعتمد على الخشبة على توزع الكتلة والفراغ.. والشعر والتشكيل لهما حضور واسع ومتداخل فى دواوينى التى هى دواوين من الشعر التشكيلى . - لكن قد يصل الأمر بالتشكيل ليكون موتيفاً أو ترجمة للقصيدة تشكيلياً ؟ - هنا المشكلة أنا ضد ترجمة إبداع بإبداع آخر ، فالمسألةهنا ابتداع وليست إبداعاً ، لأنها تكون فعلاً ذهنياً لا أكثر، اللوحة هنا بالنسبة للقصيدة ليست ترجمة ، بل هى نص مواز للقصيدة نشأ بعد تفاعل التشكيلى بالقصيدة وانفعاله بها ، الأمر الذى أدى لنشوء لوحة تشكيلية موازية وليس ترجمة .. - وهنا أيضا لابد أن أفرق بين الترجمة والاشتراك مع الشاعر لإنتاج نص جديد، حيث يكون الجمع ما بين النص الشعرى والعمل التشكيلى جمعاً كيميائياً وليس رياضياً ، أو جبرياً .. إذا هناك قراءة لنص الماغوط أتأثر به فانتج نصاً شعرياً موازياً .. السير قفزاً - سأعود لمسألة المدارس الفنية ..قرات مؤخراً لفنان وناقد تشكيلى من الرواد فى سورية وفيه يؤكد أن التجريد نشأ نتيجة لفشل الفنانين فى التجسيد .. فما رأيك ؟ - أنا أخالفة الرأى، ذلك أن التجريدية مرحلة لا يمكن تجاهلها فى الإبداع ، وهى مرحلة متطورة جداً ، والخطأ ليس فى التجريد، بل الخطأ فى الذين مشوا فى الفن عن طريق القفز أو قفزاً ، وبعيداً عن الأكاديميات، ذلك أن التجريد فتح المجال لبعض المبتدئين الذين لم يصلوا بعد لحالة من الدراسة الأكاديمية ثم قفزوا هروباً باتجاه التجريد.. ذلك أنه للوصول للتجريد ، لابد أن يكون الفنان اختمر تشكيلياً، ثم بدأ بالاختزال بجمل جديدة تحمل شحنات إبداعية مختلفة ، للأسف يظن البعض أن التجريد يفتح المجال لأنصاف المبدعين .. - لكن هناك فناناً تلقائياً لم يدخل الأكاديمية ومع ذلك قدم فناً رائعاً ؟ - هنا الأمر مختلف فالتلقائية أو الفطرية مدرسة خاصة تعتمد على عفوية التعبير وعلى ثقافة إنسانية ، بل قد تفسدها الأكاديمية، وما أشير إليه بخصوص الدراسة الأكاديمية ، أن المعرفة هنا لا تفى على الإطلاق، إذا لم يستطع تطويعها واستخدامها . - الفنان الحقيقى هو من يقدم رؤيته البصرية بعد اختمار وتراكم ثقافى طويل .. - وأخيراً .. أسألك عن مساحات اللون الواسعة فى لوحتك.. وعن تجربة جديدة قدمتها فى ملتقى الشجرة التشكيلى الذى تقيمه وزارة الزراعة فى سورية ، وهى الرسم لحاء الأشجار ؟ - بالنسبة للون استخدمه مباشرة على سطح اللوحة ، والألوان لدى تتفاعل مع السطح مباشرة لا سيما بالمائية منها، إذا لا أدخل العمل إلا عندما تكون الشحنة على أطراف أصابعى.. وبالنسبة للشق الثانى من السؤال فالتجربة كانت غنية للغاية أن أتعامل مع مقاطع من جذوع الأشجار المهملة فى الغابات السورية . حيث تحولت مخلفات غابات الفرنلق إلى تحف فنية ، ويعود ذلك لطبيعة عملى وأسلوبى الذى يميل للفانتازيا والرقة ..
على الراعى
جريدة تشرين - دمشق 2005
لوحات فى الأقصر تمزج الشعر بالتشكيل
- أما حكاية فندق ` المرسم ` ، فلا تخلو من شعرية تليق باللوحات التى تزين جدران بهوه الواسع .كان الفندق بيتاً مصمماً على الطراز العربى القديم.له حوش داخلى ، تتشعب من مركزه أروقة تتراص على جانبيها غرف تطل على نيل الاقصر من جهة البر الغربى .مالك الدار هو الشيخ على عبد الرسول ، الذى لم يبرحه حلم أن يتم كشف أثرى فرعونى على يد مواطن مصرى وعلى نفقته الخاصة .ظل يكافح بيروقراطية مصلحة الآثار المصرية ، طيلة عمرة الذى انقضى عام 1988 ، من أجل الحصول على تصريح بغيه كشف سرداب مقبرة الملك سيتى ،الذى اكتشفه أبوه محمد عبد الرسول مع الإيطالى باتيستا جوفيانى بلزونى الذى كان جاء للبحث عن منابع النيل .ويعود الفضل إلى الشيخ عبد الرسول فى اكتشاف كثير من الآثار الفرعونية فى الأقصر ، تلك المدينة التى وصفتها الموسوعات بـ ` المتحف المفتوح ` لكونها تضم ، وحدها ، ثلث آثار العالم .كان ذلك الشيخ فى الثمانينات الماضية ، يتجول مع الرئيس الأمريكى جيمى كارتر ليرشده إلى أماكن الحفر التى تحتها الأثر .وبسبب هوس الشيخ عبد الرسول بالفن، ابتنى هذا البيت عام 1945 وخصصه لاستضافة الفنانين المصريين مثل فكرى الجزار وحامد ندا وعز الدين نجيب وسواهم، ليقيموا ورش رسم، مستلهمين النيل ومقابر الفراعنة ووادى الملكات ومعبدى مرنبتاج ورامسيوم المجاورين للبيت، ذاك الذى ما لبث أن تحول إلى فندق يحمل الاسم ذاته (المرسم).
- قدم الجناينى فى معرضه ثمانى وثلاثين لوحة ما بين الأكواريل والأكريليك .الجديد فى هذا المعرض هو مزاوجته بين الشعر والتشكيل ، ليس من باب الترجمة التشكيلية للكلمات الشعرية ، أو الترجمة الشعرية للتكوين التشكيلى، بل إن الحروف العربية التى تنسج القصيدة تمثل جزءاً أصيلاً من التكوين البصرى للتشكيل ، بمعنى أن محوها يخل بالاتزان التكوينى للوحة .والجديد أيضاً أن هذا التكوين ` الشعر - تشكيلى ` ابن بكليته للفنان الجناينى لأنه يكتب الشعر عطفاً على كونه تشكيليا. يقول الجناينى إن للحرف العربى فى لوحاته حضوراً بصرياً حتمياً ، يسبب انتزاعه خللاً جوهرياً فى البناء التشكيلى .وهنا بوسعنا أن نقول إن القصائد القصيرة السابحة حروفها فى نسيج الخطوط والألوان ، تقف كهيكل تأسيسى للوحة ، على المستويين المضمونى والجمالى .فكلمات القصيدة تحمل، فى شكل أو آخر، مضمون التشكيل، كما أن تكوين الحروف العربية سيموطيقياً يقف بانحناءاته واستداراته واستقامته بوصفه ` البطل`فى متن التشكيل اللونى . هذه التجربة تختلف مثلاً عن تجربة فنان الخط العربى التونسى نجا المهداوى الذى صنع مع الفنان التشكيل مضمونياً على دلالة الحرف ، بل اكتفى بالمجاورة الجمالية الشكلية بين رسم الحرف العربى ضمن خطوط التشكيل واللون .
- المقطوعات الشعرية تنتمى إلى قصائد الومضة `الفلاشية ` القصيرة ، وهى من ديوان ` على جناح فراشة ` لأحمد الجناينى ويصدر قريباً مرفقاً ببعض لوحات الفنان .على تلك اللوحات نقرأ : ` ليس من حقى أن أثور / حين تغلقين فى المساء هاتفك / لكننى / سأكتشف طريقة أخرى لهيكلة الاتصال / عبر نازك الملائكة / وربما درويش / وصوت فيروز المحاصر / فى دمى ` .أو : ` أنا والموت / لصان / كان يسرق من القلب عمراً ويهرب /وكنت بصمت شفيف /أفتش على لحظة أشتهيها ` ثم نقرأ : ` صبى غضبك على ساحلى /وامنحينى موتاً جديداً ` . أو : ` فى المساء / اغمضى شفتيك القرمزيتين / سيكون العالم ساكناً / وربما / لا أستطيع النعاس ` ...
- بهذه التجربة ود الجناينى أن يختبر كم الطاقات الخبيئة داخل الحرف العربى مضمونياً وسيموطيقياً وجمالياً، حينما يقف الحرف كركن ركين من بناء اللوحة البصرية .
فاطمة ناعوت
جريدة الحياة - 2010
سريالية الشرق من التاريخ إلى الأسطورة الشعبية
- كان الحلم دائماً منذ خلق آدم وحتى اليوم بمثابة الماء الذى يرطب جفاف الحياة الإنسانية ويمدها بمزيد من الخصوبة. كما كان الحلم أيضاً هو النافذة التى استطاع الإنسان من خلالها الهروب والإفلات من سطوة الواقع وقسوته ليشكل مثاليته الخاصة ويرتب عالمه من جديد ، والحلم كان ولم يزل منبعاً فياضاً للإبداع طوال تاريخه ومصدراً ثرياً لألهاماته المتواترة على مستوى الشرق والغرب رغم إختلاف منطق استخدامه من قبل كل منهما . والحلم على منحنى الوعى يقع بين الغيبوبة واليقظة وبينهما مناطق متفرقة تشكل حالات متنوعة لإرادة تكوين الصورة . ففى الغرب إعتمد مبدعوه على القطيعة بين الواقع والحلم وإلغاء أى مرجعيات سابقة فسقطت بعض أعمالهم فى هوة الهلاوس وقد كان هذا مع بيان أندريه بريتون ورفاقه عام 1924 وهى المجموعة التى سميت بالسورياليين كمصطلح التف حوله الضمير الجمعى العالمى حتى الآن ، ورغم امتداد تأثيرهم داخل عالم الشرق والعالم العربى خاصة إلا أن هناك من وعى ثقافته الشرقية بعمق وإدراك لعمادها القائم على الحس الروحانى والرباط البيئى مع الاحتفاظ بالحلم كمصدر أساسى لنكهة الصورة ولكنه الحلم اليقظ الذى يغوص فى الواقع ليصطاد منه أنفس جواهر السريالية الشعبية وهو ما يميز سريالية الشرق عن مثيلتها فى الغرب ومن هؤلاء الفنان الرَّحال أحمد الجناينى الذى ينتمى إلى هذا الخط الفكرى من بداياته فى السبعينات وحتى الآن ، ورغم جنوح رحلته إلى منعطفات تعبيرية أخرى إلا أنه ظل وفياَّ للحلم كقط مدلل يمده بكل أسباب الدفء دون الإنفصال عن معطيات واقعه اليومى المعاش كدم يجرى فى عروقه وبين ثنايا لحمه .
- البحيرة الدافئة بين الواقع والحلم :
- لم يكن ارتماء السريالين الأوربيين فى أحضان اللاشعور والهواجس إلا رد فعل تجاه الواقع المؤلم ، فهم فى ذلك الوقت لم يكونوا قد أفاقوا بعد من تأثير الحرب العالمية الأولى . أما الشرقيون فيتميزون غالباً بالرباط الوطيد تجاه الواقع مع الإندفاع لاستكشاف ماوراءه نتيجة ولعهم بالغيب لذا يتفرد حلمهم بالانتباه والوعى والسيطرة على الروح فى المجال المدارى للنفس لذلك أسميت سرياليتهم فى تحليلات أخرى عن الفنانين شاكر المعداوى ورباب نمر وعصمت داوستاشى بسريالية اليقظة والتى يقع مصدر إلهامها فى البحيرة الدافئة الكائنة بين الواقع والحلم دون السقوط فى أسر أى منهما وأحمد الجناينى من الفنانين الذين يسبحون فى نفس البحيرة بحكم تركيبته ووجود مرسمه فى منية سمنود إحدى قرى محافظة الدقهلية حيث رائحة الحياة الشعبية بإنسانها البسيط المكافح المندى جسده بعرق العمل والجناينى لا شك أنه فنان من طراز هؤلاء . يستمد الفنان طاقته التعبيرية من مفردات البيئة المحيطة ومن أهمها البيوت التى يستخدمها دائماً فى أعماله كمفرده تشكيلية متناغمة الإيقاع على مستوى التكوين واللون يُحمَّل الفنان أيضاً بيوته بروحه السريالية فتراها أحياناً وجوهاً بشرية وأحياناً أخرى بقايا أجساد آدمية تطير فى فضاء ليل سرمدى ملتحمة مع النخيل تحت ثوب أبيض من ضياء القمر ، وهذا الثوب الأبيض يلازم البيوت فى أعمال الجناينى كأنه حلة من نور حتى التى تقفز خارج الحيز السريالى كما سنرى فيما بعد . والبيوت فى الأعمال غارقة باستمرار فى بحر من الصمت لا يشقه إلا صوت الكائنات التى تعبر إلى نطاق الصورة من أى من أركانها مثل القط والتمساح والسمكة ، وهذه الكائنات هى بالضرورة غير نمطية وغير مألوفة فى أغلبها إلا فيما أكسبها الفنان من ألفة ، وهى تتغير حركيَّا داخل المشهد بتغير حالات الحلم الواعى .
- وفى مجموعة أعمال الفنان ` جدلية الحياة والفن ` التى يستخدم فيها تقنية إزدواجية الصورة يؤكد من خلالها العلاقة الأزلية بين الواقع والحلم وبين الفن ومصادر استلهامه ، ففى هذه المجموعة يفجر الإطار الداخلى ويدفع ما بداخله إلى الإطار الخارجى وهو أسلوب يحرك المتلقى من منطقة رتابة الرؤية إلى حيز العقل الناقد والتداخل مع نسيج العمل إضافة إلى النغم البصرى الذى تولده تلك الإزدواجية ، ففى أحد الأعمال لإمرأة غارقة فى حمام من اللون الأبيض بملمس الثياب وتقع فى النصف الأسفل من الإطار الخارجى للعمل كاملة الجسد إلا من الرأس التى يحل محلها إمتداد ذلك الثوب مخترقاً الإطار الداخلى للعمل وكل هذا داخل تكوين يجمع البحر والأفق وقارب صغير وسيادة كاملة للون الأزرق ، وهذا العمل يحرك العين بشكل ديناميكى من أسفل إلى أعلى والعكس ومن الواقع إلى الحلم والعكس من خلال رؤية متقطعة ومجمعة فى آن ، وتتكرر نفس التقنية فى أعمال أخرى نجد فيها الجناينى مشبعاً بروح سريالية متغيرة الطاقة تروح وتجئ بين الواقع والحلم بين الحقيقة والخيال ، وهذه الطاقة تتوهج عند نقطة منتصف الوعى ، ورغم سيطرة الحلم عليها إلا أنها محكومة بتوجه تعبيرى شديد الصلة بمعطيات البيئة والظرف الإجتماعى وهى السريالية التى يتفرد بها فنانو الشرق .
- التاريخ والأسطورة والرمز الشعبى :-
- يستخدم أحمد الجناينى إضافة إلى تداعيات الحلم ومفردات الواقع عنصراً جديداً لم يستخدمه السرياليون من قبل إلا فيما ندر وهو الموروث التاريخى مختلطاً بالأسطورة الشعبية . يستخدم الفنان الأهرامات كعنصر أساسى مع عناصر أخرى ثانوية فى حوار بين التاريخ والحلم وبين الزمن واللحظة ، ففى إحدى لوحاته استقر هرمان باللون الأحمر يمين الصورة بينما فى يسارها امرأة تضع قدمها اليسرى داخل قارب كرمز للعبور فى الحلم وقد سكنت قدمها اليمنى على سطح الماء الذى يحتوى كل العناصر ، والعمل يستدعى فيه الفنان التاريخ ليتحول إلى دلالة زمنية تحتضن الحاضر ، وهنا يتجلى التاريخ كمعبر ذات خصوصية بين الواقع والحلم . وفى عمل آخر يستخدم هرماً واحداً فى أسفل الصورة يخترقه قارب ويتوجهما الهلال كدلالة رمزية لبداية الخير كما هو ثابت فى الموروث الشعبى ولكن الفنان هنا يحاول كتابة بعداً جديداً داخل فضاء الحلم كرغبة ذاتية منه فى التجاوز واستشفاف ما وراء المرئى فيه ، وفى هذا العمل يلتحم الرمز الشعبى مع الدلالة التاريخية مع الحس الأسطورى فى جو من الحلم وكأنه فى الزمن السحيق . والأسطورة الشعبية تعتبر ركناًّ مهماًّ فى أعمال الجناينى حيث يستخدمها كأحد منابع الخيال لإكمال دائرة الحلم ، ففى عمل له بعنوان ` من وحى الأساطير ` اضطجعت امرأة ممشوقة القوام على مجموعة من البيوت الريفية المغلقة النوافذ والمحشوة بالصمت يطرزها بعض النخيل بينما اكتست قمم تلك البيوت بردائها النورانى الملازم لأعمال الفنان باستمرار ، وقد طالت هامة المرأة السحاب واستقر رأسها بجوار القمر فى حين تسللت بعض الكائنات التى تحمل غرابة وألفة فى آن إلى الصورة بجوار المرأة ، وهذا العمل يذكرنا بالأساطير الشعبية القديمة التى كانت تعرض المرأة فيها جسدها لضوء القمر لمزيد من الخصوبة والإنجاب ، ولأن الأسطورة ترصد الواقع بأدوات خيالية فقد استخدم الجناينى المفردات البيئية الواقعية من بيوت ونخيل ونساء وقمر فى شكلها الأسطورى وأحاطها بهالة سريالية محطماً القيود الفيزيقية للمشهد كله ومن ثم أعاد ترتيبه من جديد فى بناء حدسى ثلاثى الأبعاد من الواقع والأسطورة الشعبية والعمق السريالى المتمثل فى المرأة التى تفترش الكون من الأرض إلى السماء علاوة على الكائنات التى تحمل بين جنباتها الألفة والغرابة وهما متناقضان طالما سكنا أعمال الجناينى واللون فى هذا العمل مزيج من الأخضر والأزرق والأوكر وهى الألوان التى تشكل عنصراً بارزاً فى البيئة المصرية بشكل عام ومنية سمنود بشكل خاص حيث طين الأرض والمساحات الخضراء المنبسطة والنيل الذى يبرق مبتسماً للشمس كعقد ماسى تدلى على ثديى تلك القرية الصغيرة الساكنة .
- وتكررت تلك المنظومة الثلاثية فى أعمال أخرى تغيرت فيها بعض مفردات الواقع مثل عمل ` المرأة والديك ` الذى يقف فيه ديك على ركبتى امرأة جالسة نصف عارية وخلفها طائر بجوار آنية فخارية بينما اختفى رأسها داخل مربع أزرق وحل محله طائر آخر وقمر وفى هذا العمل يبرز الجناينى قيمة الصراع الجنسى بين الذكورة والأنوثة فى مناخ واقعى أسطورى سريالى تكرر كثيراً فى أعماله . والتضاد بين العناصر عند هذا الفنان يمثل نقطة مضيئة خفية هى العازف الحقيقى لموسيقى العمل الداخلية فهى سر الكون كما ذكر الصينيون قديماً من خلال فلسفة ` الين اليانج ` القائمة على المتضادات والمتقابلات وهذه النقطة أيضاً هى سر البقاء والخلود . والجناينى فى إبرازه لتلك المتضادات ينأى بها عن مثولها داخل السلالة البيولوجية المتجانسة وإن كانت المرأة قاسماً مشتركاً فى معظم الأعمال فعلاقاته تتمحور فى ثنائيات ` المرأة والديك ، والمرأة والقط ` ، ` المرأة والسمكة ` وهذا التضاد البيولوجى إستخدمته الأسطورة الشعبية وخاصة الشرقية منها قبل ظهور السريالية فى أوروبا لذا استطاع أن نصف أعمال هذا الفنان بـ` السريالية الشعبية `. ويؤكد الجناينى هذا النهج فى عمل ` فلسفة الميلاد ` الذى تظهر فيه بنت صغيرة شعبية تعلو وجهها بعض علامات الشقاء الممزوج بالبراءة داخل قبو بينما القبو المجاور تناثرت فيه كمية من البيض فى جو من اللونين الأوكر والرمادى ، وفى هذا العمل يحاول الفنان تجسيد الميلاد كقيمة تتجاور دائما مع الموت وتتصارع معه كما تفترض عجله الصيرورة البوذية أو البهافاكرا ` Bahavakra ` ، والإختلاف البيولوجى فى العمل من بيض الطيور إلى البنت ذات السمت الشعبى يعطى الصورة نغماً حدسياً مستمداً من القيمة المطلقة للميلاد والموت والتى اكتسبت هذا المطلق من اختلاف النوع ` الإنسان والطير ` ، وما يزيد من موسيقى العمل اعتماده على نسبيات الواقع الدافئة التى يلتف حولها الضمير الجمعى فاحتشدت الرؤية بأكثر من متضاد مثل الميلاد والموت والنسبى والمطلق وهى المدركات التى تسكن رحم الروح وهى أيضاً التى تميز أعمال الجناينى بوسائطها الفكرية والتقنية المتنوعة.
- وشم البراءة على الحائط السريالى :
- يعتبر الواقع هو الخيط الذى يستخدمه الجناينى فى نسج شبكته السريالية التى يصطاد بها لحظته الإبداعية الحالمة . فإذا تأملنا مرة أخرى البنت الشعبية فى عمله ` فلسفة الميلاد ` لأدركناكم أن هذه البنت بملامحها الفطرية متجذرة فى أرض الواقع التى يعيش عليها الفنان وأنا أعتقد أن هذا العمل تحديداً كان إرهاصاً لتجربة الفنان مع ألعاب الطفولة والتى يتحول فيها الحلم من الحالة الأسطورية إلى التيمة الشعبية التى تعتمد على صناعة البطل كركيزة أساسية ثابتة فى السيرة الشعبية بشقيها السحر والحلم مع الحفاظ على الرائحة السريالية فى العمل . فى هذه المجموعة من الأعمال يحتفظ الجناينى بالعنصر الأساسى لبناء الصورة عنده وهو البيوت المضيئة والمتراصة فى صفوف غير منتظمة تحمل عفوية الريف ، وقد حل محل عناصره السابقة من مرأة وقمر وأسماك وقطط ونخيل عناصر جديدة من أطفال متشحين بأردية من البراءة والغنائية الرومانسية يمارسون ألعابهم الشعبية مثل ` الحجلة ` ، ` عنكب ` ، ` الثعلب فات ` ، ` فتحى ياوردة ` وفى هذه الأعمال حافظ الفنان على المسحة السريالية التى تميز أسلوبه منذ البداية ، فتجد الأطفال أحياناً وقد أوشكوا أن يستخدموا البيوت أثناء لعبهم ككرات من ضوء يدفعونها لبعضهم البعض ، وأحياناً أخرى يناجون بعضهم من فوق هضاب بالغة الإرتفاع التحموا معها فبدت فى أرجلهم كالأحذـية ، كما حرص الفنان أيضاً على الحس الشعبى فى أعماله والمتمثل فى بساطة الموضوع وسلاسه وتلقائية التناول داخل أجواء القرية الخالية من التعقيد المعمارى والزحام البشرى . والمدقق فى أعمال الجناينى الطفولية سيجد نفسه أمام علامتين بارزتين الأولى أن الغالبية العظمى من أطفاله من البنات ومن المحتمل أن يكون قد تأثر اجتماعياً وإنسانياً بالمناخ المحيط به خاصة إذا علمنا أنه أب لأربعة بنات ، وإذا عدنا إلى أعماله السابقة فسنجد أن المرأة أيضاً كانت تسيطر على معظمها وهو ما يؤكد أنه يجد ضالته التعبيرية فى الأنثى بشكل عام كعنصر حيوى رطب قادر على توصيل الفكرة ، أما الثانية فهى أن العنصر الأنثوى عند هذا الفنان يتوحد بالأرض الدافئة ليصيرا معاً رمزاً خفياً للخصوبة والإنبات ، ففى عمله` أغنية النخيل` تظهر نخلتان تخترقان السماء والنخلة معروف أنها رمز للخصوبة فى التراث الشعبى ، وتحت هاتين النخلتين طفلتان صغيرتان توحدت كل منهما مع نخلة وكأنهما قد تحولتا إلى جذور للنخلتين ضاربتين فى أحشاء الأرض ، وفى رقة وعذرية كبيرتين راحت ثلاثة بنات فى البعيد يغادران الصورة من ركنها الأيسر السفلى وظهرن كـأنهن بلح تساقط من النخلتين تأكيداً لحالة الخصوبة ` وإذا وضعنا أيدينا على هذه النقطة اللامعة فى أعمال الجناينى وهى نقطة الرباط بالأرض ` لوجدنا أنه عندها يتوهج أداؤه لأنها هى التى تميزه كسريالى بيئى ينطلق دائما من باطن الطين حاملاً مفرداته إلى عالمه الخاص ، وهذا أيضاً هو ما يميز أغلب فنانى الشرق والمصريين منهم خاصة بميلهم الشديد للإلتصاق بتراب الوطن والطيران فى سمائه ، والجناينى يقف خلف أطفاله دون تدخل كبير مما يسرب للأعمال قدراً عالًيا من لغة الحب والعشق بين ثنائياته من الأولاد والبنات وبين البنات أنفسهم وهذه اللغة عند الفنان هى لغة وجدانية استشراقية يكتب بها ملامح بطل الصورة المستقبلية مثلما كان يكتب الحكواتى فى السيرة الشعبية وهذه التجربة فى رأيى تنحدر من مرحلته السريالية الغارقة فى الذاتية إلى حيز جديد من الإرتباط بالمواطن واستكشاف واستجلاء القادم كجزء أساسى من الموروث الشعبى ، كما أن الليونة والطراوة الحسية لهذه التجربة كانت نتيجة منطقية لبساطة التقنية فى مرحلة وسيطة هى التى تعامل فيها مع الورق والألوان المائية المعروفة بخاصيتها الذاتية فى صنع الشكل بنفسها داخل نطاق سيطرة الفنان وهى المرحلة التى وصل فيها الجناينى إلى أقصى درجات الإختزال والتكثيف من خلال بقعة وخط ومساحة بأبجدـية بسيطة الشكل عميقة المضمون ، ورغم ما قد يبدو للرائى أن تجارب هذا الفنان منفصلة عن بعضها البعض إلا أننى أرى أن بينها جميعاً وشيجة هى الوتر السريالى الواصل بين الواقع واللاواقع . بين الحقيقة والخيال ، بين الحسّى والحدسىّ وبين الغيبىِّ والشهادى ، وهذا الوتر يصدر رنيناً يتفرد به مبدعو الشرق ، وهو نفس الوتر الذى يلعب عليه أحمد الجناينى محكوماً بمكتسبه المعرفى مدفوعاً بطاقته الروحية كأحد طيور الشرق الطليقة .
بقلم : محمد كمال
من كتاب دراسة تشكيلية فى صلب الهوية
الجناينى .. عاشق اللاموجود
- على ضوء معرضه الأخير فى الزمالك يستدعى الفنان المصور أحمد الجناينى الدهشة فى عالمه الفنى الذى يطلسمه برموز لا تعرف منها غير ما يريدك أن تراه ، رجل ، امرأة ، وجه ، زهرة ، مركب ، شجرة.
- يرى أن الفنان الحقيقى هو الذى يشبك حلمه مع واقع مجتمعه ليقدم رؤيته البصرية بعد اختمار وتراكم ثقافى طويل .وذلك ما ناله عبر سنوات بدأت بعد ميلاده فى ` منية سمنود` بمحافظة الدقهلية ، إلى أن ترأس مجلس إدارة أتيلية القاهرة للفنانين والكتاب ، عاشقاً فكرة أن تكون فناناً، لا يعول على دراسة أكاديمية جامدة .
- تخرج فى كلية الهندسة عام 1977 وإلتحق بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فى قسم الدراسات الحرة ليتلقى توجيهات الفنان حامد عويس ، مدة عام ، ثم يسافر إلى ألمانيا متفرغاً للفن فيتعرف على الفنان الألمانى ` فريد ريش هارتمان ` فيرشحه لمعرضه الأول بـ ` نورد هورن `.
- فى صباه كانت حصة الرسم هى ملاذه الأول والأخير ، كى يتنفس بلا خوف ويتناسى أشياء كثيرة لها علاقة بالخوف من أن يصبح يوماً مثل هذا الرجل - مدرس التربية الفنية - الذى يحمل شاكوشه ومسماره وورقا فى لون عتمة المساء! حيث بدأت قصته من خلال نافذة زجاجية بالطابق الثالث تطل على فناء مدرسة ` منية سمنود الإعدادية المشتركة ` . يمتد الجسم النحيل خارج النافذة ممسكا بيد عصب النافذة ، واليد الأخرى تتوسل بالفرشاة أن تمنح المساحة اللون الذى تريد، حتى جاءت اللحظة الفارقة أمام الشاشة الصغيرة .حتى كان` الولد` يرقب فيلم عن ` مودليانى` عندها فقط فهم الولد الصغير صورة الفنان الذى تمنى وقال:` لن أغامر أبداً ولن ألتحق بكلية الفنون ، لكننى سأبحث فى شوارع أوروبا عن ` مودليانى` ،هذا الحلم الذى بداخلى الآن.
- فالفن بالنسبة للجناينى حالة خلق إنسانى أرقى تحمل كينونة توحده ، وموضوعات أعماله هى كل ما يمتلكه ، إذ كانت وستبقى جسراً يعبر عليه للوصول إلى خصوصيته التشكيلية والإبداعية .هو يرى اللوحة ` وسيلة ` لخلق إنسان أجمل ، وإنها هى وجهه الذى يطل به على هذا العالم ، وحسبه أن من يشاهد لوحته يعرف أنها لوحة مصرية ، وأنها له حتى دون توقيع.
- الجناينى لا يرتبط فى إبداعه بالأسلوب الصرف أو المنهجية والخط الثابت موضوعاً أو تقنية ، معتبراً أن عكس ذلك يدخله إلى حيز محدد يغلقه على ذاته ويغبن مشاعره وحريته فى الإبداع ما يؤطر طاقته الإبداعية يؤكد أن تجربته الفنية لا تقف عند حدود مدرسة فنية بعينها ، طالما أمكنته الطاقة الداخلية من الجمع بين مدارس عدة ، مستثمراً الأبواب المفتوحة بين المذاهب الإبداعية المختلفة فيما يراه من وحدة الإبداع على الرغم من كونه ضد تعريف إبداع من خلال إبداع وآخر .
- أما القصيدة فهى لوحة يكتبها ليكتشف منها وعبرها إنسانيته المغشى عليها من الحزن والألم والفرحة والسعادة .وهذا الكم الهائل من القوة والضعف الذى يسكننا عبر محطات متعددة وحاول تلمس ذاته وذات الآخر معتمداً على اللون والمساحة والشكل وأيضاً المفردة الشعرية.
- كما كان للجناينى فى الخط العربى استفادة خاصة من خلال الشعر ، استشعره هو ، قائلاً: ` إن للحرف العربى فى لوحاتى حضوراً بصرياً حتمياً، يسبب انتزاعه خللا جوهرياً فى البناء التشكيلى لأعمالى الفنية ` .وإن كنت أرى أن استعمال الجناينى للخط العربى شعراً فى أعماله ليس من قبيل استكمال البناء المعمارى ، وإنما هو عوز لتأكيد الحالة الشعورية ، وخروج الطاقة الداخلية ، التى لا تستوعبها الأشكال والألوان ، وتوضيحاً لذلك من قولة : إننى أمارس الفن التشكيلى وكأننى أحلم ، لأن الحلم ينتج دائماً كرد فعل لصراعات داخلية تولدت من المجتمع ، فالحلم والواقع وجهان لعملة واحدة وليس هناك فصل حقيقى بينهما .
- لذلك نجده يهتم بدغدغة وجدان المتلقى ، دون الاهتمام بموضوع اللوحة لذاتها ، حيث إنه يعتبر أن العمل الفنى لا يكتمل فى صورته النهائية إلا بعد الوصول للمتلقى ، من خلال الارتباط بين العمل وثقافة المتلقى وإدراكه.
- وربما يظهر ذلك بوضوح فى أعمال معرضه الأخير بالزمالك ، والذى سينقله قريباً إلى أتيليه القاهرة ، حيث إنها المرة الأولى التى يعرض فيها أعماله بالألوان المائية فقط ، وفيها يمزج الخط العربى داخل بناء اللوحة دون أن يكون الأساس منه أن تقرأة ، فالخط هنا علامة لونية ، خط حر راقص ، لا يرتبط بقاعدة أو مساحة ما ، وإنما هو ذلك الشعر الذى يحمل كماً آخر مضاف من الدفقة الشعورية لديه ، فالجناينى يكتبه على سطح اللوحة وهو يقرأه لنفسه كأنما هو مغمض العين ، إلى أن ينتهى بإخراج كتله مشاعره ، فيتنهد ويترك اللوحة بعد أن يتأملها جيداً.
- ولقد عدد الجناينى تلك التجربة تحت ما اصطلح عليه بنفسه ` ديوان من الشعر التشكيلى ` فجأء بـ ` عشرون رمحاً من أرق ` و ` نقوش على جناح فراشة ` ليربط بين الرسم والتصوير وبين الشعر ، مؤمناً كما ذكرنا بوحدة الإبداع.
- والجناينى لا يتعامل مع الخامة تبعاً للوفرة أو الندرة أو حدود الحيز المتاح للإنتاج ، وإنما تبعاً لما يمكن أن تعبر عنه كل خامة بطبيعتها ، وقدراتها أن تتحمل مشاعر الوعى واللاوعى معاً ، مشيراً إلى أن فلسفته فى استخدام الخامة يعتمد كلياً على شكل وطبيعة الشحنة التعبيرية التى قرر أن يتعامل معها ، ويقف مواجهاً لها فى مغامرته والتنقيب عن تفاصيلها، وأن يخوض فعلاً مغامرة للبحث عن الذات ضمن لغة بصرية خاصة ، لغة محملة بأسرارها وليس من السهل الدخول إليها دون فهم ووعى بماهيتها.
بقلم : مجدى عثمان
جريدة : القاهرة ( 29-11-2022)
الفنان أحمد الجناينى ( 1954) من الرومانسية إلى الوجودية
- الرؤى الحداثية لم تعد حكرا على من تربوا وكبرو فى الفناء الخلفى للبيت الأوروبى ، فثمة أجيال من الفنانين المصريين ولدت من رحم الحقول والحارات والخيالات الشعبية ، ومن صلب الطبيعة والخامة بأصولهما الغفل ، بدون العبور من بوابات الغرب أو حتى من بوابات الأكاديمية ، مخضبة حداثتها بالموروث الضارب فى أعماق الزمن أو تأملات الوجود، قادرة على استمناه عوالم بكر، تشكل مردودها الأخير أساطيرها العصرية الخاصة، التى تستوعب العالم القديم ثم تتجاوزه ، لتطل على عالمنا المعاصر نافذة وناقدة معا لكشف واقع الإنسان فيه ، فيكتسب الفنان بذلك مصداقية الصفة التى ينبغى أن يتحلى بها .. كونه ضمير عصره الفنان أحمد الجناينى - الذى شق طريقه فى الحركة الفنية منذ الثمانينات من خارج أبواب كليات الفنون ، حيث تخرج أساسا من كلية الهندسة قسم ميكانيكا السيارات - يأخذنا عبر لوحاته إلى رحلة رومانسية الظاهر وجودية الباطن ، بعيدة عن الإسقاطات الفكرية على الواقع المعاصر، وقريبة إلى مرتبة الحلم والشعر الصوفى ، والتبتل فى قدس أقداس الطبيعة ، مع نفحات غير قليلة من عبير المرأة التى قد تبدو معادلا للحياة أو للوجد الإلهى كما نعرفهما فى إشراقات الصوفية ، أو هى بالأحرى - رحلة فى سديم بللورى طيفى الألوان وهو بحد ذاته المبتدأ والمنتهى ، ولم تكن مصادفة أن يختار الألوان المائية وحدها وسيطا للتعبير عن هذه الرؤية الشعرية فى معرض بكامله منذ التسعينيات لكنه عندما لجأ بعد ذلك إلى ألوان الأكريليك والألوان الزيتية حافظ على نفس تأثير الألوان المائية ، فلا مجال فى تلك اللوحات للإمساك بجسم الأشياء لأنها تتأبى على التجسيم ، كونها أشكال نورانية تتماهى فى المحيط الكونى اللامتناهى ، وإن كان ثمة مايجسده الفنان من معنى فهو معنى الحرية ، حرية الروح إذ تتحرر من أسر المادة وتحلق بطلاقة عبر الآفاق وكانت المرأة وسيلته لتحقيق هذا المعنى بشتى حالاتها حالمة ، أو عاشقة أو هائمة فى وجود مطلق ومع ذلك فثمة عدد من اللوحات يباغتنا فيها الجناينى بأجسام بشرية كأطياف ملفوفة بالقيود أو الأكفان، تقف عاجزة مبتورة الأذرع ، متطلعة نحو قوة غامضة كى تنقذها من سجنها الروحى ، وثمة كهوف مظلمة تفغر أفواهها، وأمامها تقف أطياف الشخوص الشفافة، لا نعرف هل هى مسحوبة إليها بقوة شفط مجهولة كمصير قدرى محتوم ،أم هى خارجة منها فتقف مشدوهة أمام فيض النور .. وهذا ما يجعل مهمتنا صعبة لو نظرنا إليه كفنان تجريدى أو سريالى أو ميتافيزيقى ! إن الجناينى - الذى كان حتى وقت قريب أقرب إلى السريالية وكأنه من نسل سلفادور دالى، وكان فى بعض مراحله عاطفى المزاج ، أعنى تلك العاطفية المجانية إن جاز التعبير، أصبح يمتلك اليوم طلاقة تعبيرية لاتنبع من طرف الفرشاة وحبكة الصنعة، بل تنبع من ذؤابات حالة الوجد الشعرى، إذ يذوب الشكل فى مزيج ألوانه الزرقاء فى أغلب الأحيان حيث تشع إشعاعا موجياً لايستجدى إلتفاتك إليه وهو مكتف بذاته المترعة بالإشراق، وإن ظل الظمأ فى عيوننا ونحن نلاحق تقلباته الوجودية وشطحاته الهيولية بين المجرات .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|