`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
جميل شفيق بدوى
عزيزى جميل
- كان لقاؤنا بعد هذه الفترة الطويلة من الزمن مثيراً ` أثار لقاؤنا بعد زمن طويل ذكريات الستينات . والستينيات فترة هامة فى حياتنا الثقافية ومن أغنى الفترات بالنسبة لإنتاجى الفنى وكنت أنت فى ذلك الوقت طالباً بكلية الفنون الجميلة ورأيت أعمالك لأول مرة عندما كنت تزورنى فى مرسمى وبيتى بشارع أبو المحاسن الشاذلى بجوار مرسمك وبيتك .
ـ ولم تسعدنى الظروف بعد ذلك بلقائك لأسباب لا أذكرها وبقيت فى نفسى صورتك مرتبطة بطموحك وصدق رغبتك و أمانتك فى مواصلة الطريق .
ـ وبعد ذلك كنت أرى لك أعمالاً قليلة وبشكل متقطع غير مستمر ولا يمكن أن تدان أو تلام على هذا فالظروف كانت صعبة فى أواخر الستينات وفى السبعينيات ومن المستحيل أن ينمو الفن ويستمر فى مساره الطبيعى فى مناخ غير صحى .
ـ أما بالنسبة لرسومك الأخيرة بالأبيض والأسود فقد أدهشنى انك عثرت بداخلك على هذا النور فى نفسك التى لم ينجح أن يفسدها هذا الزمن الصعب وتلك الظروف المتراكمة التى عشناها أن يخرج هذا الشعور بالنور شئ مستحيل إلا بالتواضع والأمانة وليس من الغريب أنك لجأت إلى الأبيض والأسود ولم يهرك اللون ولكن هو النور الذى يهمك .
آدم حنين


فى الوقت الذى يبحث فيه الفنانون عن الأصالة والحداثة والأقتباس الساذج من قشور التراث فيفلت الهدف من كفوفهم مثلما يفلت الماء من بين الأصابع . تؤكد اعمال الفنان (جميل شفيق ) ان الأصالة تسرى فى الشرايين سريان الدماء . وان الحداثة نمارسها فى كل لحظة من لحظات الحياه والتعايش مع الواقع .
- وليس على الفنان الصادق الا ان يجيد فن الغوص اولا . ثم بعد ذلك يغوص فى اعماقه ليخرج بالاصداف المحملة بالجواهر والآلىء .. فهل نحن فاعلون ؟؟ .
بيكار
الاخبار 7 / 12 / 1989

مخاطبة الجماهير العريضة بلغة الشكل والخط والملمس والظلال والأضواء والايقاع والتكوين والرموز والاشارات بأسلوب يمزج فى لطف بين الواقعية والشاعرية الرومانسية فى تكوينات غامضة ولكنها مثيرة وجذابة ومقروءة جعلت من المعرض واحة فى صحراء التجريد العبثى الذى يتفشى فى معارضنا كالتصحر يلتهم الحداثة الحقة ويفسد الأذواق والعقول .
مختار العطار
المصور 29 / 12 / 1989

المعرض بحث جمالى جاد يعود فيه فنان مبدع الى ساحة العطاء الخصب بعد ربع قرن من الصمت كما يعيد امكان انجاز عمل فنى تتزاوج فيه الخصوصية المحلية والجماليات المطلقة



عز الدين نجيب
الحياة 12 / 12 / 1989

-ان عالم لوحاته بسيط `ومتفائل وهادئ ` يحتفل بالكليات والبناء والضوء الثابت وتكشف لوحاته ايضا عن نوايا تطبيقية وفى كثير من لوحاته ما يصلح للتنفيذ الجداري والميداليات التذكارية .
محمود بقشيش
الهلال يناير 1990

- الواقع ان الفنان استطاع بمجموعة من الرموز التى يمثل كل منها عصرا من عصور مصر القديمة ان يقدم مزيجا خاصا كان الواضح فيه هو موقف الفنان من قضايا مجتمعة ومدى نضج ترجمة هذا من خلال اللوحات .
نجوى العشرى
الاهرام 4 / 3 / 1990

- لقد توخى تراث الاباء والاجداد وغاص فى حضارة هذا الشعب العريق وتراثه لينتج لنا المجموعة الممتازة من اللوحات الممتازة التى جاءت معبرة عن الحس الشعبى الاصيل ومعبرة فى نفس الوقت عن معطيات العصر الحاضر .
وجدى حبشى
وطنى 10 / 12 / 1989
المرأة والحصان وصلصال الطير مفردات جميل شفيق العبقرية
- الفنان المصري الكبير جميل شفيق خلق لعالمه مفردات خاصة جدا ذات حيوية من ناحية وذات رؤية فلكلورية ضاربة في التراث من ناحية أخري .. في أعماله مفردات الحصان والمرأة وصلصال الطيور دائما تزين لوحاته ولكن هذه المفرادت دائما تنطلق في المطلق في الهواء العاري حيث الحرية والسماء المفتوحة في معرضه الأخير بقاعة اكستر بالزمالك لأول مرة نجد هذه الرموز محبوسة في برواز اسود ثقيل ولعلها دلالة لما وصلنا الية من تردى وقمع فكري وتراجع حضارى لقد تظاهرت على الفنان احزان شتى نشأ بعضها من هذا الطغيان وصلفه وغطرسته وعربدته , ومن هذه الأماكن الشرقية التي تعاني من غربة الأمر ما تعاني .. ونشأ بعضها الآخر من هذه الخطوب المدلهمة , ومن هؤلاء الأهل الذين أصموا آذانهم وقلوبهم عما يحيق بالأمة , فانقلبوا إلي ملذاتهم ولهوهم وتركوا أساس الحضارة في ركن مهمل .. فضاع الوطن وإذن هى أحزان شتى تراكيب بعضها فوق بعضها الآخر فكان منها الحزن الضرير العاتي ولكن هذا الحزن ليس صافيا بل يشوبه شعور عميق بالإعجاب والتقرير وإحساس شبه غامض بقوة هذا الدفع الذاتي أفليس يناوش هذا الحصان ذلك الحزن فيفقدة شيئا من صلابته ورسوخة ؟ عن هذه المشاعر المختلطة يرسم جميل شفيق يرسم الوطن في حاله التردي فهو يرسمنا في داخل القيود وإن كان يرتقب أملا مجهولا في صورة الطير لعله يكون الخلاص فهل هو طائر النورس الذي اعتبره جان كوكتو صوت الغير العائد في مقالته عن جحيم اليأس أم هو الطائر النار عند الشاعر سان جون بيرس حيث قال : يرتوى من دمنا ثم يلتقط حبات النار من رئة المنتظرين لكنه يعود حاملا شمسا ومنارات .
الناقد / نادر ناشد
الوفد 17 /10/ 2008
عروس البحر المالح .. أيقونات عارية
- تشهد حاليا قاعة أكسترا بالزمالك معرضا جديدا للفنان جميل شفيق في أطار مشروعه الذي بدأه منذ سنوات (طرح البحر) يستمر المعرض حتى 8 نوفمبر .
- في هذا المعرض لجأ جميل شقفيق إلي البحر ليستمد منه منحوتاته الخشبية , حيث يوضح جميل فكرة المعرض قائلاً : لقد عدت بأعمالي إلي فكرة الطبيعة , بكل ما فيها من خامات وتأمل لأسرارها , وأن فكرة المعرض تراوده منذ السنوات , فهو من عشاق البحر بكل ما يحويه من عوالم خاصة , وأسرار لا يجود بها إلا للباحث عنها , مثل مخلفات المعارك والمراكب المحطمة , ما تحمله هذه المخلفات من قصص وحضارات وأن سر جمالها في تخيلنا لها .
- ويضيف جميل شفيق انه اختار مادة الخشب لتعبر عن أفكار تجاه البحر , وأنه احتفظ بلون الخامة الطبيعية البني بدرجاته المأخوذة من التأكل , نتيجة الملح والعوامل النحتية , كما لجأ إلي فكرة التركيب في عدد من الأعمال المعروضة , مثل إضافة الأصداف ليوحي باستخدام التكوين النحتي مثل الشمعدان , وقصد من ذلك الشعور بأن الإضاءة تتبع من داخل العمل وليس من خارجه .
- وعن المرأة التي احتلت مساحة كبيرة في اعماله التصويرية في هذا المعرض و فقد قدم المرأة العارية التي تشبه عرائس البحر , وكلها متخذة على الاخشاب المحترقة , وبطريقة خطية وكأنها متواجدة على الخشب , ولم يقم برسمها , فجاءت المرأة في أعمال أقراب إلي الأيقونة , فهي تشبة وجوه الفيوم , التي تحمل طقوسا دنية وعقائدية , أيضا مرسومة بنفس زواية المواجهه الموجودة في الأيقونة جاء القبطية المصرية وتتميز هذه الشخصيات بأنها لأمرأة ملامحها تتسم باتساع العين والأنف الطويلة , ومع المرأة الأيقونة جاء حضور إيحائي للمرأة العارية المنحوتة في بعض الأعمال النحتية الخشبية أشار جميل : أن الخامة بعمقها التراثي أعاد إلي وجدانه ملامح المرأة المصرية العميقة , وان هذه المرأة الأيقونة دائما تحدثة من التاريخ وأنها موجودة بين كل الحضارات وتحمل في ملامحها الكثير أما المرأة العارية فقد رأي انه من الأفضل أن تكون على طبيعتها من كسوة , فكل المفردات تراها عارية في الطبيعة (الحصان, الطيور, الأسماك ,القطة والأخشاب) فهي علاقة وطيدة ومتكاملة ومتوافقة بين الأشكال , وأي إضافات مفتعلة قد تجعل الأعمل بدون جماليات الطبيعبة .
الناقد / سوزان شكري
أخبار الأدب 19 /10/ 2008
البحر بيضك ليه ؟! ولمين ؟!
- البحر كما الإنسان .. بحالات .. له فى الصفا سكون .. وفى الثورة مجون .. له حنان لحظة الشروق ووداع ساعة الغروب .
- يهب أصدقاءه معتملاته .. تعانق عشاق الجرأة .. وترهب تلاطماته الخائف منه .. له فى الظاهر عشرات الصور .. وفي عمقه مئات الأسرار .. ! واليوم أقدم اثنين من الفنانين لكل منهما علاقة خاصة بالبحر .. كيف ؟
جميل شفيق
- عاشق متأمل وكأن البحر محرابه .. وكأن الشطآن مرفأ ذاته .. يقيم معظم وقته قريبا منه .. ينتظر كما المحب الذى يتوقع زيادة عزيزة على ساحل المحبه .. ويوما بعد يوم أصبحت إبداعات جميل شفيق (طرح البحر) تأخذ من أخشاب السفن والقوارب الحزينة دموعها ليشكل منها نورا يشع بشموعها .. تتجمع بقايا ليعيد صياغتها لنا أعمالا إبداعية لها دور جماعى ودور نفعى .. لترى منها فى معارضة لوحات جدارية وتماثيل قائمة .. وشمعدانات مبتكرة ..إنها إذن أعمال مركبة طويلة العمر .. بها فكر وروية وتكوين واحترام .. خامة كلها قادمة من بوتقة مشاعر لفنان متأمل .
- وهنا أوكد أن الأعمال المركبة ذات الشكل الجمالى ذى الفلسفة قصيرة العمر والتأثير والدور الإبهارى المحدود يرد عليه (جميل شفيق) بوعيه وخبراته ونضج السنين فى احترام المتلقى , بل الفن ذاته .. إن هذه المجسات النحتية للفنان تبين أن كل المذاهب والمدارس والاتجاهات الفنية , بل التكنولوجية فقط .. فقط تحيا بدفق شرايين الاستيعاب وصور التأمل وجمال التخيل .. وهناك معلومة مهمة وهى ان أول أعمال مركبة فنية أن الحضارة المصرية القديمة في نموذج شيخ البلد .. والمركب المحمل بالجنود كأمثلة هى أول إبداعات العمل المركب فى التاريخ .. وها نحن نرى فى القرن العشرين أحد أحفاد الفراعنة يؤكد هذه الريادة .. ثم إن (جميل شفيق) رسام ومصور , لهذا تجد الرسم يتسلل إلي قلب الأعمال وكأنه دفقة الحياة لحالة الابتكار ..فتجد وجوه النساء المحملات بالشجن وحركة الأجساد كما اهتزازات ضوء تلك الأضواء التى تشع من الشمعدانات جوار مفرادته الأخرى كالخيول ومياه البحر .
- هذه تجربة إبداعية جميلة ابنه لحظة خدر واع يصحصح المتلقى بقدومه من فنان جرئ .. وقاعة عرض جريئة قدمت هذه الرؤية بفهم وتقدير .. تحية لمينا صاروفيم وقاعة إكسترا ولعمنا جميل شفيق .

صباح الخير 28 /10/ 2008
جميل شفيق : أحاول الوصول إلى جوهر الأشياء على الخشب
- يأتي المعرض الجديد للفنان الكبير جميل شفيق المقام حاليا بقاعة اكسترا لؤكد عليها . لكن مع الاشتغال على خامة الخشب الذى ألقت به موجات البحر أمام مرسمه فى الساحل الشمالى .
- أربع سنوات استغرقها الفنان فى عمل لوحات المعرض بعيدا عن الدينة التى يكرها لقمعها المستمر للإنسان على حد قوله .
- اعتزل جميل شفيق فى مرسمه أمام البحر ينتظر الأخشاب التى تهدبها له الأمواج وكل قطعة تقوده إلى سيخرج عليها فيما بعد يجمل المعرض مجموعة من الوجوه تحمل انتظارا ولوعة ورغبة مجهضة ووله ربما تحيلك إلى وجوه فنية سابقة لكنها هذه المرة تحمل بصمات صانعها الذى التقيناه بين لوحاته ليتحدث عن المرحلة التى أمضاها مع (طرح البحر) ليصنع فنا مغايرا سماه بعض أصداقائه فن الصدفه ويرى هو فيه اختيارا مزدوجا جمعه هو والمادة الخام التى رسمت له الطريق .
بداية هذا المعرض هو تقريبا معرضك الرابع والعشرون كيف ترى ما يميز هذه التجربة تحديدا ؟
- هذه الترجبة بالنسبة لى بمثابة حوار مع الطبيعة فالمعرض كله من خشب البحر تلك الأخشاب التى تلقيها الأمواج إلى الشاطئ .
- والخشب بالأساس شجرة ثم تم استعمالها فى عدة أشياء مركب نافذة منضدة أشياء كثيرة وأيضا عبرت عليها تقلبات الطبيعة فالمركب يمكن أن تغرق والمنضدة تتحطم والنافذة ينخر فيها السوس وبعد ذلك تنزل هذه الأخشاب إلى البحر ليدور حوار بينها وبين تفاصيل الطبيعة المختلفة التاثير تماما فالبحر شئ السوس شئ آخر وتأثير الإنسان مختلف تماما بالخشب يمر عليه أحداث وأفعال كثيرة الأمر الذى يشعرك بالتراكم وتتلف قيمة التراكم باختلاف الفعل فالقيمة التى يخقلها نخر السوس فعندى فى بعض الأعمال نجد أنى استعملت قطعة من الخشب قد نخرها سوس البحر وألقاها الموج واستخدمتها بعد أن فتحتها كخلفية لأحد الأعمال فالتكوينات الإيقاعية التى صنعها السوس لا بمكننى صنعها بسهولة ولكن ما صنعه السوس لا يعنى فقط هذه الثقوب المتناغمة لكن أيضا هذه الحروارية الطبيعة بين أكثر من مؤثر طبيعى مختلف .
- ولقد استعملت كل هذه الحواريات المختلفة الحر الرمل الشمس بالإضافة إلى عملى على هذه المادة واحتفاظى بالقيمة الأساسية التى حفرتها عليها الطبيعة .
للمواد الخام انطباعاتها المختلفة والخشب تحدبدا علافته الخاصة بالإنسان , كيف تحكم هذه العلاقة هل تقودك المادة الخام إلى ما سترسمه عليها أم أن الفكرة هى التى تطرح مادتها الخام ؟
- فى هذا المعرض الخشب هو الذى يفرض عليك ما الذى ستضعه عليها في ظرف آخر يمكنك أن تحدد المقاييس ونوع الخام الذى تريد إن تعمل عليه لوحتك لكن فى هذه التجربة قطعة الخشب التى كنت أجدها هى التى فرضت على ما أرسمه عليها وللخشب انسانيته فهو مستحضر طبيعى ونموه طبيعى ولا يحتاج إلى مجهود مصطنع لتضفى عليه الكثير .
- واختلق أصدقائي حول ما أصنعه , فالبعض سماه فن الصدفة والبعض اختلف مع ذلك ورأى أن الأمر بالتأكيد يحمل اختيارا فانت تختار قطعة بعينها من بين قطع كثيرة وهكذا وهناك قطع استعملتها كخلفيات لأن هذا أفضل استخدام لها كما أراه , قطعة الخشب هى التى تقودك إلى نا ستصنعه عليها .
كم من الوقت استغرقت هذه التجربة ؟
- استغرقت هذه التجربة أربع سنوات اقمت فيها عدة معارض مختلفة فانا فى حالة عمل مستمرة ثم تتراكم الأعمال إلى أن أشعر بأن الترجبة اكتملت وأن أوان ظهورها في معرض ولكن أنا لا أعمل من أجل إقامة معرض كل سنة أو بشكل دورى أنا أعمل وتتجمع الأعمال عندى إلى أن يتصل بى أحدهم وأقيم المعرض فلم أكن أنوى إقامة معرض أبيض وأسود ولكن عندما وجدت عرضا جيدا وترحيبا من مسئولى القاعة لأقامة معرض فلم أستطع التآخر .
- تكرر الرجوه خلال لوحات المعرض ما الذى يمثله الوجه بالنسبة لك ؟
- الوجه يحمل كل كبنونة الإنسان ويعبر عن الشخصية التى يحملها بشكل كبير .
والمتلقى ينجذب إلى الوجوه فى أى عمل فنى ولقد لاحظت أيضا أنى أحب أن أرسم الوجوه .
الوجه أعلى تعبير إنسانى الحب الكره الإتفعال الحزن الشحن كل هذه المشاعر والأحاسيس تظهر فى الوجه فهو المرأة الإنسانية للبشر .
يمكن للمرء أن يلمح خلال الأعمال التى يضمها المعرض تناصا ما بين هذه الوجوه وبين وجوه موديليانى مثلا أو وجوه الفيوم فى مستوى آخر كيف ترى هذه العلاقة بينك وبين السابقين ؟
- أنت لا تستطيع أن تفصل نفسك عن العالم وتدعى أنك تعيش فى عزلة بعيداً عن الوسط المحيط بك لابد أن تتأثر بمجموعة أشياء ويكمن أن تحاول تقليد مجموعة أشياء بالطبع التقليد أمر مرفوض لأنه لا يأتى بجديد وهذا يحدث لانك تحب شيئا ما فيستقر فى لا شعورك ويخرج فيما بعد بدون قصد خلال عملك الشخصى بعد أن تكون قد هضمتها تماما وانطبعت بملاحك الشخصية فيمكن أن تجد هذا التناص قد حدث ولكن أنا لا أتعمد ذلك فالإنسان بشكل عام يحمل ثقافة هذه الثقافة هة تراكم خبرة ومخزون عريض من الخبرات لذا فعندما تصنع أشياءك الخاصة يخرج هذا المخزون بشكل ما عندما كنت أرسم هذه الوجوه لم أقرر منذ البداية أن سأرسم وجوه موديليانى أو وجوه الفيوم .
- أنت تشعر بشئ وبعد تنفيذه يمكن أن تلمس أثر ما شاهدته خلال رحلتك على العمل الذى قمت به .
تلعب المرأة دورا مهما عبر أعمالك بشكل عام وفى هذا المعرض تحديدا كيف ترى هذه المرأة ؟
- المرأة بشكل عام هى رمز لأشياء كثيرة جدا فهى رمز للإبداع والخصوبة والتجدد وأشياء كثيرة جدا بالإضافة إلى جمال الإنثى الطبيعي الذى يجذب الرجل وبشكل خاص أرى أن المرأة داخل كل رجل شئ اساسى ومتعدد الصورة والمعانى من الأم إلى الزوجة والأخت والابنة والحبيبة .
- كل واحدة من هذه الصور تحفر خطا مختلفا أنا مثلا لا أستطيع الاحتفاظ بالتواريخ فى رأسى ولكنى لا أستطيع نسيان تاريخ وفاة والدتى .
- ومع مرور الوقت رما يتغير الشكل الخارجى لكن الجوهر يبقى كما هو وأذكر أحد التعليقات على معرض أقمته ببيروت أنى قمت برد المرأة لأصولها وهو ما أحاول دائما الوصول إلية ليس فقط مع المرأة ولكن مع جميع التفاصيل التى أعمل عليها .
التيمات الطبيعية البحر الحصان السمكة وغيراها لها تواجد كبير فى نتاج التجربة فى حين تتراجع التيمات الحديثة المرتبطة بالمدينة مثلا كيف ترى ذلك ؟
- أنا كائن طبيعى من الدرجة الأولى فى عصر غير طبيعى من الدرجة الأولى أيضا فالخلل البشري الحاصل من تساع خطوات التقدم التكنولوجى كف الإنسان عن النظر إلى الطبيعة بشكل آخر كف الإنسان عن النظر لنفسه فأنت هنا عندما تمشى فى القاهرة يمكن أن تلمس عملية الطحن المستمرة التى تحدث للإنسان .
- أنا أهرب إلى الطبيعة وعندى هواية صيد السمك وهذا يعطينى شيئا من التأمل لذا أهرب من القاهرة إلى الصحراء أو إلى البحر فأنا أجد وجودى مع الطبيعة فالإنسان بالأساس منتج طبيعى .
ومنذ طفولتى وأنا مرتبط هذا الارتباط بالطبيعة ففى آخر شارعنا فى طنطا كانت هناك ترعة بدأت معها صيد السمك وكل التفاصيل المرتبطة بها من غابة بوص وشجر جميز وبدا ارتباطى بالطبيعة وجميع رموزها .
وماذا عن استعمال الوسائل التقنية الحديثة هل ترفض استعمالها ؟
- أنا لا أرفضها وفى الوقت ذاته أنا أحاول الوصول إلى الطبيعة الأشياء فأنا أصلال استعمل ألوانا قليلة فاللون أغالب فى هذه التجربة هو البنى فانا لا أهتم بان اسحبك إلى ديكور الأشياء بقدر ما أهتم بالوصول إلى جوهر الأشياء لذا استعمل ألوان بسيطة استعملت هنا خشب رمى به البحر وهذا امتداد لما كنا نتحدث فيه عن علاقتى بالطبيعة وهذا أقرب للإنسان من الأشياء الصناعية .
أبيض وأسود اسم حملته غالبية معارضك كيف ترى العلاقة بين الأبيض والأسود وباقي الألوان ؟
- الأبيض والأسود هما كل الألوان فعندما ترى منظرا ما شجر بحر نبات يمكنك أن تلونه كما تشاء وبأى الالوان تريد لكن الأبيض والأسود هما جوهر الألوان وأيضا تجريد للألوان فى الوقت ذاته .
وأيضا يستطيع الأبيض والأسود أن يخلق تناغما مع معظم التفاصيل الأرض مع السماء ومع المرأة الحصان .
هل ترى أن ارتباطك بهذا الألوان كان من تأثير عملك الصحفي ؟
- من المكن أنا خريج قسم التصوير كلية فنون جميلة وعندما عملت بالصحافة كانت صحافة موجهة للفلاحين تحديدا فى جريدة التعاون فى ظل هذا السياق الموجود بعد 1952 و الحديث عن دور العمال والفلاحين الأمر الى كان يعنى الوصول إلى هذا الجمور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا .
- وقد خلق لى عملى فى صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة ربما لا تستطيع الصحف الموجودة فى القاهرة أن توفره لى حيث كنت أدور فى مصر كلها فذهب إلى الواحات وإلى سيناء صحافة القاهرة ربما تخلق منك نجما لكن هذه الرحلات أعطتنى رصيدا ثريا جدا فمن الرحلات التى لا أستطيع نسيانها طوال عمرى رحلة وقت بناء السد العالى وغرق النوبة فبدأت رحلتنا من الواحات ثم عبر قافلة صحراوية تحركنا من الواحات إلى النوبة كانت رحلة تاريخية بعدها بسنوات كثيرة وفى احدى دورات بينالى الإسكندرية رسمت لوحة اسمها عرس صحراوى فيها كثير من هذا المخزون الذى صنعته الرحلة بعد أكثر من خمسة عشر عاماً .
- فالصحافة جعلتنى أكثر قربا من الناس ماذا يحبون وكيف يمكن لأت تقدم لهم شيئا يفهمونه وفى الوقت ذاته تقدم لهم أنت شيئا مختلفا كما اتاحت لى أن أشاهد مصر من الداخل من أقصاها إلى اقصاها .
معرضك الأول جاء متاخرا كثيرا عن بداية انشغاله بالفن لماذا ؟
- المعرض الأول كان في 1989 وجاء المعرض متأخرا لأنى كنت صدد فكرة إقامة معرض فى حد ذاتها لم أكن أؤمن بأن الفن مجرد لوحة توضع فى قاعة محددة الزوار وانتهى الأمر كنت أقل إلى الحوائط لترسم لوحا وجداريات .
- أيضا عملى بالصاحفة يوقر رؤية اعمالى من قبل عدد كبير من الناس بحكم طبيعة الصحافة كوسيط اتصال يتيح التواصل مع عدد أكبر من الجمهور وبالتالى تعطيك الفرصة فى الارتفاع بمستوى الذوق العام للجمهور .
- ولما كنت غير مشغولة بالرسم من أجل إقامة معرض فكنت أرسم بشكل يومى وعندما شاهد الأصدقاء مثل آدم حنين والوشاحى واخرون هذا الرتاكم ألحوا على فكرة ضرورة إقامة معرض فكان معرضي الأول وأذكر أن ردود الفعل كنت تحت عنوان (إلياذة جميل شفيق) وافتتح المعرض الفنان الكبير عبد السلام الشريف وهو من أطلق عليه بيكار سفرجى الكلمة فى الصحافة المصرية فالشريف هو الذى بدأ فى اللعب بالعناوين والمانشيتات وأنواع الخطوط العربية ووضعية الصورة داخل الصفحة وقمت بإهداء المعرض إلى روح الفنان الجميل حسن فؤاد ومن بعدها توالت معارضي .
الناقد / محمد فرج
البديل 22 /10/ 2008
مفاجأة صياد أخشاب البحر !
- عندما تسير على شاطئ البحر وتصطدم قدماك بقطة خشب قذفتها أمواج البحر فقد تنظر أن تدوسها بقدميك أو أن تعيد إلقاءها بين الأمواج لكن هذا الرجل موقفه مختلف إنه يشعر بسعاد غامرة وينحنى ليلتقط قطع الخشب التى ترمى بها الأمواج على رمال الشواطئ ويتحسسها بحب يتأمل تفاصيلهاوانحناءاتها وتتشكل فى خياله صورة متعددة لكيفية تحويل هذه القطع الخشبية إلى تحف فنية غير مسبوقة نحتتها الطبيعة وزودتها بالصلابة وتدرج الألوان التى لم تهزمها العوامل الجوية بل أعطتها جمالا فوق جمال .
- وهذا الجمال يعيد تشكيله من جديد هذا الرجل الفنان جميل شفيق بأن يرسم عليه أحمد إبداعاته الفنية ليتحول إلى لوحة رائعة تخطف الانتباه تتوقف أمامها مذهولا من روعة التكوين أو يحول قطع الخشب إلى شمعدان تتنوع أشكاله لينحت منها جسد امرأة أو رأس سمكة أو قطعة أو طائراً .
- فالخشب بين أصابعه كقطعة العجين مع أنه خشب قاس زاد من قسوته تعرضه للماء والشمس والهواء على مر شهور طويلة حتى التقطها الفنان جميل شفيق عبر رحلاته إلى المدن الساحلية داخل مصر وخارجها ثم أودعها في صومعته المختارة بشاليه في القرية الصحفيين بالساحل الشمالى تلك القرية التر صممها المهندس المبدع حسن فتحى بقبابها الشهيرة وبجدرانها من الحجارة السميكة لكى تحقق لمن يسكنها مناخا صحيا يقاوم سخونة الصيف وبرودة الشتاء .
- وأصبح شاليه جميل شفيق فى قرية الصحفيين مزارا لكل رواد القرية فهو فصلا عن فنه هو إنسان عذب متواضع حلو المعشر صياف وفي جعبته الكثير من الحكايات والطرائف بحكم علاقاته الحميمة مع الكتاب والشعراء والفنانين وأيضا مع كل أطياف البشر من الفقراء والهامشيين ولذلك يجتمع عنده فى حديقة الشاليه كل سكان قرية الصحفيين وأصدقاؤهم من الزوار فى سهرات ليلية مرحة .
- وعندما تحل شهور الشتاء وتخلو القربة من سكانها وزوارها يغلق على نفسه باب الشاليه ينفرد بخزين قطع الأخشاب التى جمعها ليعيد بث الروح فيها بلمسات الفن والإبداع ولا يخرج من قرية الصحفيين إلا لشراء مؤن الطعام له ولمجموعة القطط التى برعاها أو أن يذهب إلى قرية الحمام بالساحل الشمالى قاصدا ورشة تقطيع الأخشاب التى تصادق فيها مع عمالها ينتظرونه وهو يحمل لهم بعض قطع الأخشاب التى جمعها ويطلب تسوية بعض أطرافها حسب الصورة التى تشكلت فى خياله وهم يستجيبون له بحب وتقدير .
- وفى إحدى جلساتى معه تمنيت أن ألتقى بعمال تلك الورشة لتقطيع الأخشاب لكى أعرف كيف يتعاملون معه وهل يتصورون أن هذه الأخشاب الملقاة على شاطئ البحر من الممكن أن تتحول إلى قطع فنية رائعة التكوين ؟! قال لى جميل شفيق : إنهم أحيانا يقلبون قطع الأخشاب بين أيديهم ويشيرون إلى سوس البحر الذى سكن فى بعض زواياها معللين أنه خشب لا يصلح للتعامل معه ولمنى أدخل معهم فى مناقشات مؤكدا أن هذا السوس التى تحجر بفعل عوامل الطبيعة أصبح يضيف جمالا على ملمس الخشب وأنه قادر على إكسابه لونا يصبح جزءا من اللوحة الفنية وبنتظرون له بدهشة ولا يرفضون له طلبا .
- وقدم لى جميل شفيق لوحة رائعة انتهى من تصميمها مشيرا إلى بعض الحبوب المتكلسة على قطع الخشب موضحا أنها تجمع من سوس البحر تمت معالجته وكم كانت دهشتى عندما اكتشفت أن هذا التكلس أضاف رؤية جديدة للعين وملمحا متميزا لنسيج الخشب .
- إنها القدرة على الإبداع بخيال بلا حدود وقد عشت مع الفنان جميل شفيق الأيام الأخيرة من هذا الصيف وهو يعد لمعرضه الفنى الجديد أكثر من ثمانين قطعة فنية كل قطعة منفردة بتكوين خاص ولا تتشابه مع الأخرى وكلها من (طرح البحر) وهو الاسم الذى اختاره لهذا المعرض .
- واستقرت تلك اللوحات فى معرض قاعة اكسترا على نيل الزمالك وقد كان من المقرر أن يستمر المعرض لأسبوعين ولكن رغم قلة الدعاية عنه إلا أنه اكتسب شهرة واسعة من الذين زاروه وتناقلت أخباره بين أوساط عشاق الفن الجميل ولذلك تقرر امتداد العرض حتى الأسبوع الأول من نوفمبر .
- واتمنى أن تتحرك كاميرات التليفزيون للبرامج الثقافية والفنية لتنقل للجمهور العريض فى انحاء مصر روعة هذا المعرض المتميز والنقلة الفنية الجديدة للمبدع جميل شفيق من الرسم الصحفى إلى ابداعات اللوحات المرسومة باللون الأسود إلى مرحلة النحت وتشكيل أخشاب طرح البحر .
- وهى مرحلة أشبه ما تكون بصياد اللؤلؤ النادر الذى بعرف كيف يلتقط حبات اللؤلؤ ويعيد تشكيلها فى تحف فنية باهرة .
- وبالمناسبة لماذا لا تتقدم شركات النشر للكتب بإعادة طبع مستنسخات من لوحات جميل شفيق التى صاغها فى تشكيلات رائعة بالحبر الشينى إنها كنز فنى لم يستغل حتى الآن ويمكن إعادة نسخها فى حجم الطبيعى كلوحات بأسعار زهيدة أو نسخها فى حجم الكارت بوستال بدلا من الرسوم والصور الأجنبية على الأقل أن هذه اللوحات التى تحمل توقيع جميل شفيق هى لوحات فيها نبض وحيوية الفن المصرى المعاصر .
وهذا النداء أوجهه للناشر الكبير إبراهيم المعلم أن يخصص ركنا فى مكتبات درار الشروق لنسخ من أعملال جيل شفيق وأضمن لها سوقا رائجة بين الشباب وعشاق الفن كلوحات يزينون بها بيوتهم ويضيفون لمسه جمال لها ةبأسعار فى متناول الجميع .
- فمن يبدأ هذا المشروع تمجيدا لقيمة الفن الأصيل وكنس القبح من حياتنا ؟
كتب : رءوف توفيق
الحياة 21 /10/ 2008
فى معرض جميل شفيق قصائد بالأبيض والأسود
يد تشكل الملامح والأخرى تحتضن اللوحة ، وقلب يبوح بالذكريات ، وعاصفة من حنين ، تلامس ريشة الفنان مساحة الأبيض ، فتفتح اللوحة كل ثيابها عن حب ، فيبدأ الفنان بالغناء والبكاء .. يطعم أفراخه الصغار ظلاً وخطاً يعدهم بالمزيد ، يكحل النساء والأسماك والقطط فتبدو شموساً تضئ نوافذ اللوحة .. تفيض على فيض النسيم .. أشعر أن اللوحة أجنحة قد اكتملت .. تكاد تطير تعانقنا .. وتمحو التجاعيد التى فى الذاكرة .
- أشعر دائما أن اللوحات التى تنفذ بالخط والتنقيط ومختلف طرق الرسم تعتبر أكثر دفئاً من غيرها ، لتعايش الفنان مع كل تفاصيلها الدقيقة من تأكيد للظلال والأضواء والمساحات والكتلة .
- فهو لا يكمل اللوحة مرة واحدة ، إنه يروح ويجئ عليها ، وأثناء التنفيذ يحتضنها ، ويقترب من تفاصيلها بيده وعينيه ، فتقيم علاقة حميمة بينها وبين كل جوارحه فيفيض عليها بحب ، وتتصاعد نشوته فى اتجاه الاكتمال .
- الفنان جميل شفيق لا ينقل العناصر بطبيعتها ، قد تشاهد بلوحاته أسماكاً وقططاً ونساء وخيولاً .
- هو لا يسعى إلى تأكيدها وتشريحها بل يسعى إلى تأكيد المضمون والمعنى الغامض والرمز ليقيم فكرته . إنها عناصر مساعدة تحيى ما بداخله من أفراح وأوجاع ، وتحيل الشكل المألوف إلى معنى فكرى وثقافى لا يقرؤه أى مشاهد إلا بعد أن يتخلى عن المعنى الظاهرى للشكل . فالحصان والسمكة مثلاً ، يبوحان بمعان فكرية وإنسانية أخرى .
- قد تحار فى تحديد معنى الخصوبة أو الرزق أو الحب . تجد هذه المعانى فى أنوثة المرأة وفى استسلام السمكة ، وأيضا فى علاقة الخيول ، كذلك الرزق والحب تجدها فى عناصر مختلفة كثيرة
- أما طريقة تلوين هذه المفردات فقصة أخرى .. فالتلوين ليس فقط لتأكيد الكتلة ، ولكنه يدخل فى إظهار المعنى . فسقوط الضوء لا يرتبط بمصدر واحد ، إنه ضوء خاص بالفنان يسقط على مناطق لتأكيدها ملتزماً فى ذات الوقت بالمعنى الجمالى الذى يحافظ على تماسك العمل ووحدته .
- التلوين بالأبيض والأسود ليس سهلاً إنما يحتاج إلى مهارة ووعى وقدرة على الإقناع خاصة أن هناك من لا يحب النظر إلى اللونين دون رؤية الأطياف الأخرى حتى فى الرؤية المجازية الأشياء والموضوعات .
- وقد استطاع شفيق جميل فى معرضه المقام بقاعة بيكاسو بالزمالك أن يتناول الأبيض والأسود بأكثر من منظور فنى وجمالى وفلسفى من خلال أسلوبه التعبيرى التجريدى ليحقق أشكالاً ورموزاً بطريقة جديدة ومختلفة .
- كذلك تأكيد الضوء والظلال والجرأة فى اقتحام الظل وتكثيفه ، واقتحام الضوء الذى يحتاج إلى نفس الجرأة .
بقلم : د. سامى البلشى
الأذاعة والتليفزيون - 2007
جميل والضوء المسموع
إسم على ما يسمى .. ذلك هو الفنان جميل شفيق المولود فى طنطا العام 1938 ، والحاصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة القاهرة العام 1962 ، والذى عمل رساماً صحفياً قبل أن يلتحق بالدراسة، عمل خبيراً فنياً بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، أقام معارض شخصية عديدة منذ العام 1989 وحتى الآن ، بالإضافة إلى مشاركته فى المعارض المحلية والدولية وتمثيل مصر بالخارج، وله مقتنيات بمتحف الفن المصرى الحديث والبنك الأهلي المصرى ومقتنيات خاصة بمصر والخارج، وجميل.. جميل الروح وشفاف القلب ومتواضع ومهذب، والحميمية تغلف علاقته بزملائه وأصدقائه وكل الناس ، وهذه الصفات أصبحت نادرة فى عالم شديد التعقيد والانفصام ، الفنان المبدع جميل شفيق عاشق للرسم بالأسود على فراغ كونى أبيض وقد يكون ذلك راجعاً إلى انغماسه فى الفن الصحفى وأيضاً لبداياته الغير أكاديمية والتى دلت على أصالة وعمق موهبته الفنية ، والتى تألقت ونضجت بعد دراسته الأكاديمية ، والجانب الآخر من تقنياته الموازية والمتزامنة وفق رؤيته الفكرية والفنية هو استخدامه للألوان المائية التى لا تتفق -بسهولة- مع كونه رساماً من الدرجة الأولى مستخدماً الخط الأسود بكثافاته المتنوعة وطول صبره المحكم من أجل السيطرة على هذه المساحات الكبيرة من أعماله الفنية والتى تستلزم كماً من الخطوط المتوازية أو المتقاطعة بانتظام أو الغير منتظمة، تحت معيار قياسى شديد الصعوبة وهو بما يسمى بـ (الخط الجينى) الذى يتحرك وفق إحساس بصرى ميكانيكى أى بمعنى اتحاد الحالة الشعورية والبصرية والذهنية فى آن واحد ضمن منظومة يحكمها الإحساس العصبى والعضوى، والأخير هنا يعنى الوزن قياس معيارى هام للرسام فوزن يده على القلم أو الريشة التى يرسم بها تتحكم فيه مجموعة من المقومات منها درجة الإحساس بالوزن - ودرجة الشعور بالحركة على الورق وقوة الأعصاب للتحكم وثبات اليد وحركتها العضلية مضافاً إلى ذلك العين وحركتها البندولية وفق ما يترجمه العقل فى تواصل ومدِّ مكثف تنموى فى اتجاه التراكم والتوحد لكمال حبكة العمل الفنى، والناتج هنا مشهد أسطورى للروح فى بناء خيالى للفكرة وصياغة للمفردات الواقعية، فالحصان الجامح الممتد للسماء، والسمكة التى تكاد تبكى أو تبتسم، وعيون المرأة كمركز للحركة ، موج البحر، والجبال الجسدية كأنها أجساد ممتدة فى العمق تتحرك بنبض الطبيعة ، والمعادلات المعكوسة للعناصر المألوفة بقياسات لا معقوله، فالنخلة أصغر من الحصان وقياسات العناصر والمفردات تتباين فيها قياسات الجزئيات، والمشهد الضوئى فى أعمال جميل ليس له قانون مألوف ، فقانونه يقضى بأن يأتى الضوء من كل مكان وفق منظومته ورؤيته للبناء الجمالى، فالضوء له صوت فى العمق ونابع من اللاوعى وتعبير بليغ لضوء دال على استدعائه من الفراغ الكونى الأبيض الذى تحول إلى سيمفونية ذات عمق حى .
أ.د. أحمد نوار
جريدة الحياة - 2004
السمكة والحصان أبيض وأسود
الفنان التشكيلى جميل شفيق عاشق للرسم بالأسود على فراغ وجودى أبيض . هاجسه الأول هو العودة للحميمة المفتقدة بين البشر والأنسان وعالم الكوائن من حوله ، لذلك تميزت مفرداته بالعودة للطبيعة البكر رافضا العوالم المصنوعة التى دنست فطرة الإنسان ، وكان لنا معه هذا الحوار ، على هامش معرضه الحالى بقاعة بيكاسو فى الزمالك.
- ما هى أهم القضايا الأنسانية التى يطرحها الفنان جميل شفيق من خلال لوحاته ؟
* هى ليست قضايا بقدر ما هى تعبير عن مشاعر ، فالبشر فى عالم يعانون ألماً عاما نتيجة تغول العولمة مما خلق حالة من القهر الإنسانى ، فمن خلال لوحاتى أحاول أنسنة الكوائن وإيقاظ إنسانية الإنسان الذى افتقد المشاعر والحب والتعاطف ، وهذه هى الحالة الإنسانية العامة التى أحاول خلقها من خلال أعمالى .
- هل يمكن أن تعبر لوحة عن قضية أو فكرة بعينها ؟
* اللوحة بالنسبة لى تعبر عن حالة وجودية أحاول خلالها العودة بالأنسان لفطرته النقية كونه جزءاً من الوجود ، لذلك أعتمد على عناصر الطبيعة : الانسان والسمكة والحصان بعيداً عن أى ملامح تكنولوجية مصنوعة .
- ما مدى اعتمادك على الرموز فى لوحاتك ؟
* الرموز هى المفردات التى أكون بها لغتى الفنية وهى اللوحة فى النهاية أو الحالة التشكيلية للوحة فالسمكة مثلا مرتبطة لدى بالموروث الشعبى والحضارى ، فهى تعبير عن الرزق والخير ، وقد تختلف دلالة الرمز من عمل لآخر وفقا ً للحالة الوجدانية التى تعبر عنها اللوحة .
- لماذا تعتمد فى لوحاتك على اللونين الأبيض والأسود ؟
* لأننى أجد متعة خاصة فى هذا ، وكذلك لأننى عملت لفترة طويلة بالصحافة وأعتدت على استخدام هذه الخامة ، ولكن الرسوم الصحفية تختلف عن العمل الفنى فضلا ً عن صعوبة الحصول على مرسم وألوان ، وأيضاً لأن استخدام الأبيض والأسود يطلق العنان لخيال الجمهور .
- أيهما يسمح لك بالتعبير عن أفكارك بحرية الرسم بالألوان أم بالأبيض والأسود ؟
* استخدام اللون أسهل حيث تغطى الفرشاة مساحة كبيرة ، ولكن فى الأبيض والأسود تتكون اللوحة من خطوط صغيرة ودقيقة فمع الألوان أكون نفسياً أكثر تحررا ولكن فى الأبيض والأسود أكون متوترا أكثر ، فالخط يضغط بشكل معين وبكثافة معينة وهذا ما يخلق حالة اللوحة فى النهاية .
- يلاحظ فى أعمالك إشاعة جو من الحميمية فهناك إنسان يحتضن آخر أو يحتضن قطة أو حصانا فما تعليقك ؟
* العودة للحميمية هى هاجسي الأول فنحن نحتاج للعودة لأصولنا ولكينونتنا البشرية فى عصر استهلاكى بشع حيث تحول الإنسان إلى رقم ، فهناك هزة قوية أصابت المشاعر الإنسانية .
- ما هى أسباب عزوف الناس عن الفن التشكيلى ؟
* السبب الرئيسى هو غياب المناخ الذى يشجع على الإبداع فى المدرسة . فعندما كنت أدرس فى مدرسة الأحمدية فى طنطا كان لدينا فريق تمثيل وغرفة موسيقى وأخرى للرسم وكانت إدارة المدرسة تتبنى المواهب وكل عام نقيم معرضا أقليمياً ، وتخرج من هذه المدرسة فؤاد تاج أستاذ كلية الفنون والفنان حجازى فنان الكاريكاتير والفنان الوشاحى فطريقة التعليم أفقدت الطالب القدرة على الإبداع والابتكار ، فليس بالضرورة أن يكون رساما أو موسيقارا ولكن أن يكون إنسانا حساسا لدية مشاعر مرهفة يتذوق الجمال ويرفض القبح .. وكذلك تغطية الاعلام للفن التشكيلى محدودة ، وليست هناك مجلات تشكيلية فى مصر مما أدى إلى غياب الثقافة التشكيلية ، وقد لعبت الصحافة فى السابق دوراً كبيراً فى نشر اللوحات فى الصحف والمجلات حيث آمن كبار الفنانين آنذاك أمثال بيكار ، حسن فؤاد ، وكنعان أن الفن التشكيلى ليس مقصوراً على المعارض فقط .
- فى السابق كان الفن التشكيلى ملتحما أكثر بالناس كجزء لا يتجزأ من تفاصيل حياتهم . فيما تفسر تراجع هذه العلاقة الحميمية بين الفن التشكيلى والجمهور ؟
* فى تلك الفترة كان الفكر السياسى الاشتراكى يحفز الحركة الفنية ، حيث كانت تقام معارض فى الأقاليم ، ونستضيف فرقاً من الخارج لتعرض فى الأقاليم ولكن الآن عندما بدأت عملية الاقتناء تحولت المعارض إلى لوحات تباع وأصبحت الجاليريهات أماكن للخاصة والمثقفين اختلف الحال ، فالمناخ السياسى يشكل توجهات المجتمع .
- كيف تدعم الدولة الفن التشكيلى فى رأيك ؟
* هناك بالفعل قاعات عرض توفرها الدولة ، ولكن المشكلة ليست فى القاعات بل ترجع للمناخ العام ، فالدعاية فى التلفزيون غير كافية حيث يجب أن تغطى المعارض المقامة داخل مصر ويوجه الناس لدخول هذه المعارض بالمجان .
- ماذا عن الفنانين الذين اثروا فى وجدان الفنان جميل شفيق ؟
* من الفنانين العالميين فان جوخ وبيكاسو ومن الفنانين المصريين الجزار ، آدم حنين ، راغب عياد ، حسن سليمان أحب فى كل فنان شيئاً ، وهذا الحب يترسب فى وجدانى ولكن أعبر عن ذاتى ومشاعرى .
- هل لديك تجارب فى فن النحت ؟
* قمت بتجربة ( طرح البحر ) على الخشب الذى يلقى به البحر حيث يتعرض لعوامل تعرية وتلتصق به القواقع وبالتالى شكلت تأثيرات الطبيعة حالة معينة على الخشب ، ثم أضيف بعض لمساتى الخاصة وكأننى أجرى حوار مع الطبيعة التى هى جزء من تركيبتى الفنية .
بقلم : رحاب السماحى
الأهالى - 2007
جميل شفيق يقدم 31 عملا نحتيا و13 لوحة فى طرح البحر
قال ان الطبيعة هى العمل الفنى الأول
تجربه فنية جمالية استكشافية بدأها الفنان التشكيلى جميل شفيق من عدة سنوات تحت عنوان ` طرح البحر` ولازال يكملها من خلال معرضه المقام بقاعه جاليرى مصر الذى عرض فيه 31 عملاً نحتياً خشبياً و13 لوحه فنية تشكيلية بالأبيض والأسود، ترك القاهرة وجلس على شاطئ البحر ينتظر عطاء البحر، وبين الحين والحين يسير لمسافات طويلة على الشاطئ ينصت الى وشوشه الاصداف، ويبحث عن سر من اسرار البحر، و كما يقول شفيق: الطبيعة هى العمل الفنى الاول الذى لا يتوقف عطاؤه، وان الجمال الفنى ما هو إلا انعكاس للجمال الطبيعى وانه لا يوجد شىء فى الفن لم يكن موجوداً من قبل فى الطبيعة. ` طرح البحر` هو هذا الحوار الإيجابى بين الفنان شفيق والبحر، يتحاور الفنان نحتياً مع ما يطرحه البحر وتقذفه الأمواج على الشاطئ نتيجة المد والجزر من قطع أخشاب متناثرة غير معلومة المصدر تكون من بقايا مراكب قديمة دمرت بفعل حروب مثلاً أو صناديق الخشبية الخاصة بالصيادين او فروع الاشجار التى سقطت واخذتها الامواج ثم اعادتها الامواج مرة اخرى الى الشاطئ، فهذه الفروع اصبحت تحمل اسراراً كثيرة عرفتها اثناء رحلتها من الشاطئ الى قاع البحر ثم عودتها الى الشاطئ مرة أخرى. هذا الطرح من العناصر يحمل اسراراً لا يعرفها إلا أصحابها ومن هم أصحابها لا نعلم؟ وبداخل القطع حفرت ذكريات ونصوص بشرية وربما حكايات وأساطير لفترة تاريخية مجهولة، هذا الطرح يتلقاه الفنان ويعيد صياغته وتجميعه فنياً بحسب ما يتراءى له وجدانياً وذايتاً، ويتأمل ما بداخل كل قطعة من تأثيرات ملمسية ولا يتدخل الفنان فى محو هذه التأثيرات بحجة تعدلها مثلا، وحتى الشحوم الموجودة فى الخامة بفعل عوامل جوية احتفظ بها كما هى الى حد ما، حتى لا يفقدها قيمتها التاريخية، لان قيمتها فى هذه التأثيرات الخشنة والناعمة والتلف والتآكل والكتابات المحفورة التى تقترب من لغات يصعب فك رموزها، هذه الكتابات تؤكد وجود فعل بشرى كان يوما ما يتعايش مع هذه القطعه، لانها ربما تكون حطام سفنية حربية او سفينة صيد او قوارب، واحتفظت الفنانة بالخامات بلونها البنى الطبيعى. ولا ينحت الفنان شكلاً جديد فى الخامات المطروحة من البحر، ولا يقطع منها إلإ بحدز محسوب، بل يستنتج ويستلهم من هذا الطرح اشكالاً تقترب من العناصر الآدمية الرجل المرأة الخيول الطيور الحيوانات بحركاتها واشكالها المتنوعه والاسماك باختلاف صفاتها، يستخدم الفنان فقط الازميل بحثا عما تخفيه القطعة بين خطوطها واليافها، الى ان تصبح القطع اشكالاً نحتياً تحمل فعلاً جمالياً غير مقصود، هو فعل جمالى قصدته الطبيعة قبل الفنان، وكأن البحر هو من قام بنحت الاشكال ويمكن ان نطلق على منحونات شفيق انها ` منحوتات البحر` ، جاءت المنحونات تركيبه منها الاشكال المجسمة كونت كتله متماسكة، ومنها اشكال نحتية مفرغه، اخرج الفنان الخامة من صلابتها ومن صمتها، المنحوتات اقرب الى التجريديه والتعبيرية والفكر السريالى الحالم وابعاد رمزية، وبها العديد من المبالغة الجمالية التى صنعتها الطبيعة واصقلها الفنان برؤيته. لم تخرج اللوحات التصويرية التى عرضها الفنان شفيق بمعرضة عن موضوع طرح البحر، ولكنه طرح آخر اختلفت فيه الخامة والتقنية والمعالجه ولكن لم يختلف الموضوع الفنى الفلسفى، طرح له البحر فناً تشكيلياً كما طرح نحتاً، مجموعات لوحات نفذها بالريشةوباللونين الابيض والاسود، هذه اللوحات تمثل بصمة وخصوصية انفرد بها الفنان على مدى مشواره الفنى الطويل، تنوعت الموضوعات بين العلاقة المعقدة بين القطة والسمك وبين الحصان والمرأة بين المرأة والخيل، والمرأة الايقونية التراثية التى تحكى تراثاُ، المرأة المصرية والمرأة الفرعونية التى أعطاها صفة السكون والسلام الداخلى، ورغم انها لوحات تصويرية إلا ان الفنان باسلوبه الفنى والتقنى جعل اللوحات ايضا قادمة بنصوص بشرية من قاع البحر كتبت على الامواج وقرأها الفنان، وبهذا جمع الفنان شفيق فى معرضه بين العمل التصويرى والعمل النحتى واصبح صياد الجمال .
سوزى شكرى
جريدة روز اليوسف 2003

فى حال انتقالنا بالرسم فى مجال الحكى التعبيرى الساخر من الواقع الشعبى عند جورج البهجورى الى الرسم من الصور الصادرة عن الحلم وومضات الذاكرة المشتعلة عند بقشيش ورحلة خط لاتنتهى فى الزمان والمكان، إلى مجال الواقع الفانتازى (اليوتوبى) حيث ينهض عالم (جميل شفيق) الرمزى بين تدرجات الضوء الباهر وظلال الحزن الشفيف.
تخرج جميل شفيق فى كلية الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1962.
ومنذ ان كان طالباً عمل بالصحافة فى جريدة `التعاون` التى صدرت فى ذات الوقت تخاطب الفلاحين بعد الثورة.. ثم كان لسفره بعد ذلك إلى الدول العربية لمدة خمس سنوات للعمل خبيراً فنياً فى الرسوم المستخدمة ضمن عملية محو الأمية.
هذه السنوات من الخبرة افادته على المستوى المعرفى والوجدانى والفنى، ولهذا عندما قرر المشاركة فى الحركة التشكيلية المعاصرة لم نشعر أنه قد تأخر كثيراً نتيجة انشغالاته السابقة، والتى لم تكن تتعارض بحال كثيراً مع أهداف الفن الاجتماعية ولا مع طموحه الانسانى الواعى فى اداء دوره الواجب البناء مثل بقية المثقفين المخلصين طوال هذه السنوات لم يتقاعس جميل عن متابعة النشاط الفنى والمعارض عن كثب وكان يرسم لنفسه فى صمت من أجل إشباع الفنان داخله. إلى أن أشار عليه اصدقاؤه المخلصون بضرورة عمل معرض يضم حصيلة انتاجه فى الرسم، اسفر هذا التشجيع عن إقامة اول معرض له فى اتيليه القاهرة عام 1989. لاقى المعرض قبولاً حسناً من جمهور الفن والنقاد، هذه البداية الفنية يمكن تسميتها، استعادة وجود الذات وفيها قدم الفنان اولى تجاربه عن الانسان والسمك، وهى التيمة الرئيسية فى جميع لوحاته تقريباً وفيها يبرز الكثافة المادية والثقل الحجمى للاجسام، ربما رغبة فى تجسيد المعنى الرمزى..، فالشخوص تبدو متحجرة بلا هيئة تحدد ملامحها او جنسيتها، انهم متشابهون فى الحجم والوزن والصفات.. وايضاً السمك الذى يتقاسم دور البطولة مع الانسان يقول بيكار: `قد تتصدر السمكة مسرح اللوحة بحجمها الكبير، وقد تتنازل احياناً للانسان عن البطولة وتقوم بالدور الثانوى فتبدو السمكة العملاقة يحملها جماعة متعاونون، او السمكة الفريسة يتكالب عليها جماعة يتقاتلون، أو السمكة النصيب يتقاسمها زوجان قانعان بالرزق الوفير، او السمكة الشهيد التى يغرز القط الاسود فيها مخالبه وأنيابه فتكاد تسمع صراخها ينبعث من فمها الفاغر او تشعر بمأساتها من خلال عينيها الجاحظتين..`!
فى المعارض اللاحقة عرج `جميل` على تنويع تيمات موضوعاته وتكويناته واضافة مضامين رمزية جديدة صاغها باقتدار من خلال تقنية الرسم بالابيض والاسود والتصورات الميافيزيقية نفسها، حيث ينتقل بنا من مرحلة تأمل صيد السمك على النيل ليلاً، الى مرحلة التأمل فى الطبيعة المصرية والصفاء الذهنى مع الذات وإعادة ترتيب الوجدان، فنراه يقدم رسوماً لموضوعات مغرقة فى الرومانسية والذاتية، وبخاصة فى مجموعة `الحلم الصحراوى الداخلى`، إذ تعكس واقعاً مؤلماً وثقيلاً مليئاً بالسخرية. والقلق رغم مظاهر الإشراق والفرح والعرى البادى فى لوحاته. إن جميل يعرف كيف ينتقل بنا إلى رحاب عالمه الإنسانى الحالم وأن ندهش به ونفتن، ودليلنا على هذا حينما ننظر الى مختارات من لوحاته تطالعنا فيها خيول تركض فى حقول مليئة بأشجار النخيل، أو فى عراته من العشاق وهم يمتطون خيولاً بيضاء قوية، فاتنة أو فى امرأة عارية تتمدد فى استرخاء على ظهر جواد أليف، وعلى مقربة منه يتهامس عاشقان داخل عباءة بيضاء تلفهما وعلى مسافة ليست ببعيدة فى الخلفية تنتصب ثلاث شجرات عارية من الاوراق.. أو فى الفتاة التى تطلق عصافيرها الى السماء دلالة على الرغبة فى التحرر من سجن الداخل.. او فى صور العشق والغناء وغيرها التى تستلهم الصياغة الفانتازية والمحملة بالمضامين الرمزية، ان عالم `جميل` بسيط وواضح مما يسهل معه قراءته وتذوقه، ورغم أنه يعكس الرؤية الواضحة الحرة لضمير المبدع إلا أنه لم يقطع صلته تماماً بالرسوم المصاحبة لديوان الشعر - كما يظن هو - ربما العكس، وربما ان الفارق هنا بين الحالين ان `جميل` اصبح الشاعر والرسام فى الوقت نفسه، ولهذا قدم شعراً مرئياً. أو رسوماً شعرية جميلة، غنية بالايقاعات الموسيقية للنور والظل والحركة والسكون، وكأننا فى فضاء ممتد لا نسمع فيه إلا اصواتنا وأصوات الطيور وصهيل الجياد، وهمس العشاق. ولا نرى فيه إلا وجوهنا واحلامنا واحزاننا واشواقا - يذكرنا هذا الجو ولو للحظة بعالم كل من `سيد سعد الدين وصبرى منصور` مع الفارق فى شخصية كل منهم.
وفى مجموعة أخرى من الرسوم اللافتة للنظر صغيرة الحجم - منفذة بالقلم الحبر عبارة عن فانتازيات رباعية وفيها تنقسم كل لوحة الى اربع مربعات متساوية، يوجد داخل كل منها موضوع واحد فى وضعات مختلفة، لوحة تضم شخوصا إنسانية فى وضعات مختلفة، وأخرى طيور وخيول، ووجوه آدمية، وكلها معالجة بطريقة اقرب الى تكنيك فن النحت، إذ تبدو وكأنها دراسات تفصيلية متأنية كالتى يعدها المثالون التكعيبيون قبل الشروع فى تنفيذ كتلهم النحتية من الرخام او الحجر الجيرى او البازلت. ومع كونها خالية من العاطفة بعض الشئ إلا أن مهارة الرسم والتجويد والتكنيك الذى يتبعه الفنان يمكنه من نقل التعبيرات الانفعالية والتلقائية والافكار الخاصة به فى حرية وايقاعية وشفافية.
د. رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر
رحيل الفنان جميل شفيق ... آخر شلة الحرافيش
غيَّب الموت الفنان التشكيلي المصري جميل شفيق عن 78 سنة، أثر أزمة صحية طارئة، خلال زيارة ملتقى التصوير الدولي المقام في مدينة الأقصر، جنوب مصر. ويعد شفيق واحداً من أبرز فناني مصر المعاصرين وأكثرهم إخلاصاً لفن الرسم بالأبيض والأسود. تخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1962 وظل لسنوات لا يعرض أعماله إلا من خلال الصحف والمجلات التي كان يعمل بها، عن قناعة بأنها الوسيلة الأنسب للوصول إلى الناس. أخلص شفيق لرؤيته تلك حتى أقام معرضه الأول فى أتيليه القاهرة عام 1989، وكان من ضمن حضور المناسبة الكاتب الراحل نجيب محفوظ، عميد «شلة الحرافيش» الشهيرة، التى كان جميل شفيق أصغر أعضائها.
مثَّل هذا المعرض مفاجأة له ولكثيرين، ومثَّل أيضاً بداية لسلسلة طويلة من المعارض الشخصية والمشاركات التي لم تتوقف. وتمتد علاقة شفيق بالوسط الثقافي المصري إلى فترة الدراسة، إذ بدأ عمله رساماً صحافياً قبل أن يتخرج في كلية الفنون، فتعرَّف الى كثير من الفنانين والأدباء، وكان بيته في القاهرة بمثابة صالون ثقافي في الستينات. وفي السبعينات، انضم إلى «الحرافيش»، وهي شلة أصدقاء، أسسها نجيب محفوظ، وحملت اسم إحدى أشهر رواياته، وكانت جلساتها أشبه بندوة ثقافية.
كانت المرأة حاضرة بقوة في أعمال شفيق، إذ رسمها مكتنزة الأطراف، قوية البنية، وعلى رغم وجودها منفردة أحياناً داخل إطار العمل مع قلة العناصر المصاحبة لها، فإنك لا تمل من النظر إليها، متأملاً تلك المساحات والعلاقات والنسب المرهفة لتلك الأنثى ذات العيون اللوزية الواسعة.
هي في لوحاته كائن مكتمل المعالم، ومستودع للمعاني والدلالات. ورسم الخيول أيضاً بالمنطق نفسه، فجاءت شفافة وحالمة تتراقص بين عناصر الطبيعة في سلام ووداعة. وإلى جانب هذين العنصرين، ثمة عناصر أخرى كثيرة تسبح في فضاء لا نهائي من الأبيض والأسود. هو فضاء شاسع، يبدو فيه الكون على فطرته الأولى. فلا تجد في مساحة العمل لديه أياً من عناصر العصر ومفرداته. هو عالم لم يلوث بعد بأمراض المدنية. عالم أسطوري تملأه السكينة، وتخيم فيه الطمأنينة على الجميع. كان شفيق يرسم أعماله عادة بأقلام التحبير ذات الخطوط والتهشيرات الدقيقة، بما تنطوي عليه من صبر وتركيز وصعوبة في التعامل، فحين تضع أول خط على مساحة الرسم لا تستطيع تغييره، عكس التعامل مع الخامات الأخرى التي تعطيك مجالاً للتراجع.
في أعماله الأخيرة استبدل شفيق الفرشاة بأقلام التحبير الصغيرة، حين لم تعد لديه القدرة على الجلوس أمام مساحة الرسم لساعات طويلة. في بداية ثورة 2011، كان شفيق متحمساً بشدة لذلك الحراك الشعبي، ودفعته حماسته إلى إعادة قراءة أعماله من جديد. وفي لقاءاته مع الشباب كان يفسر ذلك الحضور الطاغي للحصان في واحدة من لوحاته، كانت لوحة كبيرة مرسومة بالأبيض والأسود، في أعلاها حصان مجنح، وفي أسفلها تحتشد عشرات الوجوه الحجرية. كان شفيق يرى الحشود المنطلقة في الشوارع متمثلة في ذلك الحصان الذي يحرض في طيرانه الباقين على الخروج والتمرد.
ياسر سلطان
الحياة - 2016/12/26
جميل شفيق رحلة رتبها القدر.. بدأت بضحكة.. وانتهت بدمعة
- ` روز اليوسف تقلب فى 12 يوماً من صفحات الوجع `
- تأخرت فى كتابة شهادتى حول رحيل الفنان التشكيلى ` جميل شفيق ` لم أكن أعلم أنى سوف أتألم بمجرد كتابة اسمه، وحاولت كثيرا تخطى صعوبة وثقل الكلمات .. وهربت من مطاردة ذكريات المواقف التى دارت بينه وبين فنانين وفنانات ملتقى الأقصر الدولى للتصوير- الدورة التاسعة - ديسمبر 2016، حيث كان الراحل` جميل شفيق ` موجودا على نفقته الخاصة فى نفس فندق الملتقى، ومعه كل من الفنان التشكيلى د. مصطفى الفقى ، ود. حسن عبد الفتاح ، والفنانة القديرة عطيات السيد، والفنان الكبير الدسوقى فهمى ، والفنان التشكيلى د. إبراهيم الدسوقى ، والفنان جورج البهجورى ، هؤلاء الفنانين الكبار جميعا كانوا ضيوفا على ملتقى الأقصر الدولى للتصوير - وساهموا بأدوار مهمة سنرصدها فى مقال آخر .
- لم يكن رحيله بالبساطة التى تخيلها البعض،التى تبدأ وتنتهى بكلمات عزاء ومقالات نقدية عن أعماله الفنية ومشواره الفنى ، أو تصارع البعض على` الفيس بوك` لوضع صورة لإثبات أنه من المقربين له .
- الأمر بالنسبة لكل فنانين وفنانات ملتقى الأقصر الدولى للتصوير يختلف تماما ، مؤلم أن تودع فنانا بقدر وقيمة ` جميل شفيق `، بعد أن منحنا القدر فرصة لاتتكرر فى العمر أن نلازمه طوال 12 يوما، جمعته معنا مواقف المرح والجدية والحوارات حول الفن وأحواله وأمور الحياة العامة ، وذكرياته التى كان يبوح بها بدون حذف أو تجميل ، وكأنه قرر أن يخبرنى أنا بالأخص بتجاربه وخبراته ، لعلنا نتعلم منها، وعلى مايبدو أن جميل شفيق هو الوحيد الذى كان يعلم أنه جاء الأقصر ليرحل !
- رحيل يستدعى التأمل ..
- إنه رحيل يثير الدهشة والاستفهام .. أسئلة جدلية ليس لها إجابات هل نحن محظوظين ومختارين بالاسم أن يحملنا ` جميل شفيق ` آخر أيامه وجسده أمانة ؟ ولماذا الأقصر؟ لماذا اختص القدر أن يرحل ` جميل شفيق ` بين أحضان أصدقائه ؟ ولماذا هذه الصحبة بالتحديد ؟ بعضهم من رفقاء مشواره الفنى وأصدقائه المقربين ، والبعض الآخر من فنانى الملتقى وضيوفه الذين تعرفوا عليه لأول مرة عن قرب .
- بالنسبة لى كصحفية فقد رافقته فى أغلب معارضه ، واعتز أننى تلميذته ، التى نصحها كثيرا أن تترك العمل الصحفى، وتتفرغ للفن والرسم ، وأن الفن أهم من العمل الصحفى للفنان، وهذه النصيحة لأنه تأخر فى إعداد أول معارضه بسبب عمله الصحفى ، فنبهنى كثيرا، حتى لا أقع أسيرة الفخ الصحفى.
- شهادتى حول رحيل جميل شفيق ..
- روايات كثيرة كتبت عن رحيله .. ومع الأسف ` خاطئة `، سأرويها كما حدثت من واقع شهادتى الحية، لست وحدى من يحمل فى ذاكراته مواقف بينه وبين ` جميل شفيق ` ، ولكنى سأكتفى بسرد بعض اللقطات المهمة من أيامه معنا فى الأقصر .
- ياعم جميل يا جميل
- `ياعم جميل ياجميل` كل فنانى الملتقى دون استثناء اعتادوا أن ينادوه بهذا الجملة التى تنم عن المحبة ، وبابتسامة صافية تشع ضوء وبهجة يرد عليهم جميل شفيق : انتوا الأجمل والله .
- ويجلس الجميل مع أصدقائه وصحبة عشرة العمر على فترات متقطعة من اليوم ، ويفضل أحياناً الذهاب إلى المقهى بجوار الفندق، سعادته اليومية مع الصحبة
يحكى ويضحك ويتذكر أمور فى حياته خصوصاً فترة الستينيات، ثم يتركهم ليدخل غرفته ويجلس ليرسم ،عشقه للفن ليس كأى فنان، كان يعانى من بعض التعب ودور البرد واضح على ملامحه منذ حضر إلى الأقصر.
- خفة دم عمل جميل
- وفى أحد الأيام أثناء جولتى على فنانين وفنانات ملتقى الأقصر الدولى بصفتى الناقد المصاحب للدورة التاسعة، مررت على غرفته، ابتسم جميل شفيق وكعادته صاحب لقطة وخفة دم .. عذب الكلام متواضع ، ودار بينى وبينه هذا الحوار :
` شفيق ` : بتعمل إيه ياسوزى؟
- `أنا ` : ` بشوف الفنانين ولوحاتهم ياعم جميل ياجميل ، وبكتب أفكارهم علشان اكتب عنهم فى الكتالوج ` .
- ` عم جميل` : ` ضحك .. كويس ياسوزى ، بس أوعى تعملى فيها أبلة الناظرة ، وسيبى الفنانين يرسموا براحتهم ، أنا فاكر مدرس الرسم فى المدرسة مرة صلح لى فى رسمتى ، وحط حاجات معجبتنيش ، وبعد ما أخذت الدرجة مسحت كل اللى هو عمله ` .
- وبعد الضحكة الرايقة من عم جميل الجميل ، قالى: ` طيب هاجى معاكى أشوف الفنانين بيعملوا أيه ، أصل مبقتش أقدر أروح معارض زى زمان، والملتقى فرصة كبيرة أشوف الفنانين والشباب بيعملوا إيه `.
- فرشته إحدى أصابعه
- لم يترك فرشته من يده وكأنها ترافقه أينما ذهب، وأثناء جولتى معه قالى جملة تبدو عادية، وقتها لم أفكر لماذا اعتدنا للتعبير عن شدة المحبة أن نستخدم كلمة الموت: ` تعرفى أنا بموت فى النيل والبحر.. الاثنان هتلاقيهم فى لوحاتى كثير، مش عارف ليه الشباب مش بيحبوا يرسموا الطبيعة، ابقى اكتبى لهم فى الجرنال عن الطبيعة ، كلها أسرار وحكايات ،وأن الفن الحقيقى مش إنه يتبع مذاهب الفن، الفن الحقيقى أن يكون فنانا صادقا مع نفسه `.
- استوقفته قطة
- وأكملنا السير إلى أن وصلنا إلى الغرفة المقابلة وهى للفنانات والفنانين والفنانات ، كان بها ،` هالة الشافعى - جيهان فايز - خالد بكاى( المغرب) - جورج البهجورى - كينا - د. سيف الإسلام صقر، ولحق بنا فى الطريق د. الحسينى على ، والفنان الأردنى محمد الجالوس`.
- ولمح ` شفيق ` الفنانة التشكيلية هالة الشافعى، تداعب قطة صغيرة كانت تلازمها أمام غرفتها وتجلس بجانبها أثناء الرسم وتعتنى بها وتأتى لها بالأكل خصيصا ، فلمعت عين ` شفيق ` والتقط أنفاسه بصعوبة والتفت إلى وقال: ` جدعة قوى هالة دى، أنا كمان عندى قطط فى شاليه الساحل ، وبهتم بيهم واتعودت على وجودهم ، بس مش عارف بقى هما عاملين إيه دلوقتى ، التقطنا صورة جماعية عنوانها ضحكة جميل .
-قائد الإنسانيات
- وكان من ضمن برنامج الملتقى القيام بجولات فى الأقصر فتوجهنا ذات ليلة جميعاً إلى مقهى ` أم كلثوم ` وجلس جميل شفيق قائد الإنسانيات ، جميل الروح شفاف القلب وتحاور مع الفنانين والفنانات، حين يتحدث الكل ينصت ، وحين كان أحد الزملاء يختص ` شفيق ` بسرد حكاية يركز ويهتم ولايقاطع فى الحوار، يجيد فن الانصات وفن الالقاء وفن الحكى والسرد كما يجيد التحاور مع الطبيعة، واستمر ` جميل شفيق ` معنا يضىء يومنا بلقطة وحكاية ومعلومة وملحوظة يتابع الفنانين من بعيد ومن قريب ، ويشاهد أعمالهم كلما استطاع ، ويبتسم ويمنح التفاؤل للكل حتى ولو لم ينطق بكلمة .
- اعتكاف
- مضى أسبوع ونحن معه ، إلى أن علمنا أنه مريض وموجود فى غرفته وبجواره صحبة الأصدقاء، نعم هما صحبة اختارها له القدر ليكونوا بجانبه حتى آخر لحظة فى عمره وهم ،` د. مصطفى الفقى ، د. إبراهيم غزالة ، د. حسن عبد الفتاح، د. إبراهيم الدسوقى ، الفنان الدسوقى فهمى ، هؤلاء لم يتركوه .. طلبوا له طبيبا ،أخبرهم أنهم يعانون من التهاب حاد فى الشعب الهوائية .
- إلى أن اختفى ` شفيق ` عن أنظارنا وظل فى غرفته برعاية واهتمام الصحبة المختارة، وبالأخص د. مصطفى الفقى الذى كان قلق عليه قبل وفاته بأيام ، وطلبوا منه الصحبة أن يغادر الأقصر لكنه رفض وتمرد كعادته ، رغم مرضه وألمه. -الليلة الأخيرة
- الليلة الأخيرة فى حياة ` جميل شفيق ` . . أكاد أجزم أنها كانت بترتيب قدرى يفوق توقعاتنا كنت أنا وبعض الفنانين موجودين فى ` لوبى` الفندق كما تعودنا، وجاء إلينا د . إبراهيم الدسوقى وسألنا : ها تناموا ؟
- أجبته : لاء مش دلوقتى .
- قالنا : طيب ماتيجيوا معايا نزور جميل شفيق .
- لم نتردد لحظة ، توجهت أنا وفنانى الملتقى، ` هالة الشافعى ، هند الفلافى ، جيهان فايز، مروة عزت، د. أحمد سليم د. إبراهيم دسوقى `.
- وما إن وصلنا إلى الغرفة حتى وجدنا باب غرفته مفتوح والأضواء خافتة ، والحرارة تخرج منها بسبب الدفاية ، وجميل شفيق على سريره رافعاً رأسه إلى أعلى ، صعب تحديد هل هو يقظ أم شارد ؟ ربما يشغله شىء , ويضع بجانب رأسه على المخدة ` راديو موديل قديم ` تشدو منه كوكب الشرق ` أم كلثوم بأغنية ` عودت عينى على رؤياك `.
- الغرفة غير مرتبة الأكل موجود بجانبه على السرير ، وعلى كراسى الغرفة، وبقايا الألوان على طاولة ، ولوحة رسم فيها ` شفيق ` رجلين يلعبان لعبة ` التحطيب ` وأرضية صفراء ولم تنته بعد ، واللوحة الأخرى فارغة لم يرسمها، وعلى الأرض ثلاث قطع من الأخشاب مرسوم عليها وجوه المرأة ، التى تتشابه مع ` وجوه الفيوم ` ، وسبق أن قال عنها :` إن المرأة فى لوحاتى المرسومة أو الخشبية هى حكاية الفن كله `.
- هذه القطع الخشبية كان قد ذهب ` شفيق ` إلى وسط المدينة فى الأقصر وأعدها لتتطابق مع أخشاب طرح البحر التى صنع منها إبداعاته .
وقام جميل واستقبلنا بابتسامته الجميلة:` أهلاً أهلاً متشكر ياجماعة على الزيارة `.
- وتقدمنا منه :` يا عم جميل يا جميل قوم وحشتنا `، واقتربت منه الفنانة د. جيهان فايز:` عم جميل ما شاء الله وشك منور أن شاء الله هتبقى كويس وتقوم لنا بالسلامة `.
- واقترح عليه الفنان إبراهيم الدسوقى أن يأكل لأننا وجدنا الأكل كما هو مغلف، لكن جميل شفيق قال : مش عارف شبعان ليه .
- لم تستغرق زيارتنا له ربع ساعة وقبل أن نغادر غرفته تقدمنا منه واحد تلو الآخر وسلمنا عليه، ولا أعرف لماذا قبلنا وكأننا لن نراه مرة أخرى، وطلبت منه أن يغادر الأقصر ويعود إلى مصر مثلما طلب منه من قبلى أصدقائى المقربين،
وقلت له :` ياعم جميل إنت تعبان سافر .. إحنا قلقانين عليك ، رد على: طيب بكرة هخف وأسافر بس كنت عايز أكمل اللوحة ` !
- رحيله
- تركناه على وعد منه أن يغادر الأقصر ، وفى الغد لم يخلف ` جميل شفيق ` وعده لنا .. وتركنا ورحل .. لكن إلى السماء .. حالة من الصمت أصابتنا ، نعم الصمت كان عزاؤنا، افترقت الصحبة وكل منا ذهب إلى غرفته ، إلى أن بدأ الصمت يحرك فينا كلماته ولقطات وحكاياته، رحل الجميل وترك جسده أمانة بين صحبة الخير الذين حدد له القدر أن يرافقوه إلى النهاية .
- وبدأت إجراءات سريعة طلب د. إبراهيم غزالة ` قوميسرا` الدورة وأحد رفقاء الصحبة الطيب وأبلغ النيابة برحيله، وانضم إلينا الفنان التشكيلى علاء عوض ، وهو فنان مقيم فى الأقصر، وكان له دور كبير فى إنهاء الإجراءات والأوراق الخاصة بنقل جسد ` جميل شفيق ` من الفندق إلى المستشفى ، واحضر عربية اسعاف لنقله ، وعلمت منه أن أوراق تصريح الدفن والمستشفى كانت تمر بسهولة ، ولم يجد أى عقبات ولم يدفع أحد أى مبالغ ، حتى إن كنيسة العذراء بالأقصر أرسلت عربة موتى مخصصة لاصطحاب جميل شفيق إلى القاهرة .
- وجاء إلى الأقصر ، شقيقه وزوجته ليصطحبا جسده إلى القاهرة .
- وبعد مغادرة جميل شفيق ونقلة إلى المستشفى ، دخل دكتور مصطفى الفقى وهو متألم آلم يصعب وصفه يجمع كل متعلقات ` جميل شفيق ` الخاصة ومعه د. إبراهيم الدسوقى، ونحن جميعا مازال الصمت يخيم على ملامحنا .
- تأبينه
- ` قبل الموعد اليومى للندوات المصاحبة بحثت فى جهازى(اللاب توب ) على لوحات وأعمال جميل شفيق فوجدتها ، كما وجدت فيلما مكوناً من جزءين عنه من إنتاج وزارة الثقافة، وهذه مفارقة قدرية أخرى، أنى كصحفية معى جهازين، جهاز صغير استخدمه فى انتقالاتى وجهاز آخر أكبر منه وثقيل، لكنى قبل حضورى إلى الأقصر بساعات وفى آخر لحظات قررت أن يكون معى الجهاز الأكبر ربما احتاج شيئاً من ملفاتى القديمة ، وبالفعل الجهاز الأكبر عليه ملفات الأعمال الكاملة لجميل شفيق `.
- وتوجهنا كل فنانى وفنانات الملتقى لمكان المخصص للقاء الندوات وأقمنا تأبين للغائب الحاضر` جميل شفيق ` بحضور د. نيفين الكيلانى رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية ، ود. إبراهيم غزالة والفنان القدير أحمد شيحا وكل ضيوف الملتقى من صحبة الخير، وقفنا جميعاً حداداً على روحة الطاهرة وتم عرض فيلم لأعماله .
- وانتهى اللقاء بمقولة د. إبراهيم غزالة :` جميل شفيق شاع بيننا طاقة إيجابية وتمرد على مرضه من أجل الفن ورفض مغادرة الأقصر قبل الانتهاء من لوحاته وهذه رسالة تركها لنا لنتعلم منها أن الابداع الفنى لايعوقه المرض `.
- استعاد جميع الفنانين الفنانات المصريين والعرب والأجانب طاقتهم وذكرياتهم مع جميل شفيق ، وعاد كل فنان إلى غرفته واكتملت الأعمال، وافتحت معرض الملتقى وأعمال جميل شفيق فى مقدمة المعرض وبجانبها أعمال رفقائه وصحبته د. مصطفى الفقى، د. حسن عبد الفتاح وأيضا أعمال جورج البهجورى والذى كان قد غادر الفندق قبل رحيل جميل شفيق بأيام .
- شجرة جميل شفيق
- وفى صباح اليوم التالى الثلاثاء 27 ديسمبر 2016 قامت د. نيفين الكيلانى رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية السابق ، ومعها المسئولين بالفندق ، بغرس شجرتين،الأولى للراحل الفنان جميل شفيق ، وشجرة أخرى كتذكار للقاء الفنانين المشاركين فى ملتقى الأقصر الدولى للتصوير ، دورته التاسعة ، وكان بصحبتها د. خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية ، والفنان الدكتور إبراهيم غزالة ` قوميسير ` عام الملتقى ، وأعضاء اللجنة العليا لملتقى الأقصر الدولى للتصوير الفنان التشكيلية عقيلة رياض، والفنان أحمد شيحا ، الفنان دكتور أيمن السمرى ، والفنانون المشاركون فى الدورة التاسعة ، ومجموعة من الصحفيين والصحفيات ، وقد كتب اللوحات التذكارية الفنان والكاتب الكبير محمد بغدادى، وأخذ الجميع اللقطات والصور مع ` شجرة جميل شفيق ` .
- عاد جميل شفيق إلى الطبيعة التى يعشقها ، ووقفنا نحن أمام شجرة جميل شفيق التى سوف تثمر وتنمو بالفن ، مثلما أعطته الطبيعة أسرارها طول مشواره .. أصبح اليوم جزءا من عناصرها الحية ، ونحن الصحبة من الفنانين الفنانات والذين كنا رفقاء آخر أيامه ، فجميعاً نقول له شكراً أيها الجميل شفيق أنك منحتنا أغلى أيام حياتك `.
سوزى شكرى
روز اليوسف 18-1-2017
الفنان `الجميل` شفيق وداعا فارس الجياد.. وملاحم الأبيض
- عن عمر يناهز 78 عاما رحل عن عالمنا الفنان جميل شفيق الذى وافته المنية بالأقصر فى حضوره للدورة التاسعة لملتقى الأقصر الدولى للتصوير.. رحل بعد رحلة من التوثب فى الإبداع تألقت بملاحم الرسم بالأبيض والأسود.. وما أشبهه بعازف الناى يشجى ويسعد ويطرب بتلك الغابة البسيطة المقطوعة من ساق فى قلب الطبيعة يتردد أصداؤها فى الزمن ودنيا الناس.. وقد حقق فناننا درجة كبيرة من السطوع إلى حد التوهج مع تلك الثنائية من الأبيض والأسود وما بينهما من تنو ع فى الدرجات تنساب بسن رفيع تشكل من واقع الحياة اليومية ورموزها من المرأة والسمكة والقط مع حصانه الذى جعل منه أسطورة فنه واقعا جديدا مسكونا بالرمز والحس السريالى الذى يتعانق وآفاق الكون ينتقل من الفيزيقى والطبيعى الى الميتافيزيقى الذى يفيض بالروح ومعنى القلق فى حياتنا المعاصرة.. ينقلنا خلاله إلى دنيا التساؤلات: من وإلى أين نبدأ وتتجه بنا الحياة.
- طنطا ومولد البدوى
ينتمى الفنان جميل شفيق الى مدينة طنطا.. مدينة السيد البدوى `أبوفراج` صاحب الهامات والكرامات والاحتفال بمولده الذى تحتشد له الدنيا الشعبية يمتلئ بأنفاس البشر ممن يأتون اليه من كل مكان من اقاليم مصر.
- وفتح عينيه من بعد مولده فى اغسطس من عام 1938على تلك المباهج الشعبية من السيرك بصور الخوارق والاسود ولاعبى الاكروبات والترابيز والاطباق التى تنساب فى الهواء مع الونش وشجيع السيما.. وفى الجانب الاخر موكب الخليفة والطرق الصوفية وحاملى البيارق والاعلام والشارات بشتى الالوان الصداحة.. لكن كان اشد ما يطربه وسط تلك الصور رقصات الحصان ولعبة التحطيب.. كان الحصان الذى يمتطيه الخليفة يخطو فى هدوء مجسدا لحظات الخشوع والابتهال بينما يرى فى الصورة الشعبية لرقصات الحصان مع الطبل البلدى ما جعله يستقر فى وجدانه بين الصورتين الصورة الهامسة والصورة الراقصة والذى سيكون محور اعماله فيما بعد.. وامتلأ شفيق بالطبيعة البكر من تلك الاشجار التى تقف فى فى تشابك من الحور والصفصاف والتوت على شاطئ الافرع الصغيرة للنيل.. هناك كان يجلس بالساعات عند ترعة الشيتى فى انتظار الذى يأتى ولا يأتى فى صيد العصارى وكانت السمكة التى ينتظرها بفارغ الصبر رمزا اخر من رموزه التى شكلت عالم الحلم والخيال مع الحصان فى لوحاته.. والتى تعد رمزا للتكاثر والتناسل والرزق الوفير وهى رمز شهير ذائع الصيت بين مفردات الفن الشعبى.
- الفنانون الثلاثة
- فى مدرسة الاحمدى الثانوية كان على لقاء مع ثلاثة من الزملاء اصبحوا فيما بعد نجوما كبارا فى الفن وكانوا معا فى جماعة الرسم والتربية الفنية.. حجازى احد اعمدة المدرسة المصرية الحديثة للكاريكاتير مع جاهين.. والذى كان يبهره برسومه الغزيرة الموزعة على حوائط الفصول.. والمثال عبد الهادى الوشاحى استاذ الفنون الجميلة والفنان فؤاد تاج الدين الاستاذ بكلية الفنون الجميلة بالاسكندرية حاليا.. وكان متفوفا معهم فى الرسم وتشكيل المجسمات من عرائس النحت ولضعفه فى الرياضيات كان يهرب من الدروس الى حجرة التربية الفنية.. ويظل يرسم بلا توقف حتى ينتهى اليوم الدراسى.. وكان ان التحق بالفنون الجميلة عام 1957قسم التصوير.. كان ينتمى الى دفعة من اقوى دفعات الكلية والتى كانت تضم معه :صانع الكتب محيى الدين اللباد والناقد الفنان عز الدين نجيب ونهى برادة مصممة ديكور المسرح واسماعيل دياب رسام اغلفة الكتب والناقد والفنان مكرم حنين ود. عبد الغفار شديد الاستاذ بالكلية.. ودرس على ثلاثة من الاساتذة الكبار : بيكار وعز الدين حمودة وعبد العزيز درويش.
- رسام المجلة الزراعية
- الصدفة وحدها قادته الى العمل بالرسم الصحفى بالصحافة وهو ما زال طالبا بالفنون الجميلة.. ففى عام 1958 اسس محمد صبيح المجلة الزراعية عن دار التعاون بهدف تنمية ثقافة الفكر الزراعى وتطوير السياسة الزراعية وحققت المجلة منذ صدورها نجاحا كبيرا من جمهور القراء بمادتها العلمية المتخصصة فى صور جذابة خاصة وقد شارك فى تأكيد شخصيتها الفنية نخبة من الفنانين الكبار امثال عبد السلام الشريف وحسن فؤاد وزهدى وبهجت عثمان وكان معهم استاذه ممدوح عمار الذى رشح فى بعثة دراسية الى الصين فأناب تلميذه جميل للعمل رساما بالمجلة بدلا منه.. واستمر بعد تخرجه بها وكانت فرصة للتعرف على اقاليم مصر التى تتنوع مع وحدة شخصيتها فسافر فى ارجائها فى كل اتجاه من الواحات الى سيناء والى النوبة.. `ومن وحى تلك الرحلات كانت لوحته `عرس صحراوى` التى شارك بها فى بينالى الاسكندرية بعد ذلك بخمسة عشر عاما`.. وقد جعلته المجلة الزراعية اكثر قربا من الناس واكثر وعيا بميولهم واهوائهم فيما يتعلق بالثقافة والصحافة.. وتنوعت تجاربه فى الرسم الصحفى بالمجلات الثقافية مثل مجلة المجلة التى كان يحيى حقى رئيس تحريرها ومجلة الفنون الشعبية للدكتور عبد الحميد يونس والتى كان يقوم بالاخراج الفنى لها رائد الاخراج الصحفى عبد السلام الشريف.. وقبل ان يلتحق للعمل بالمنظمة العربية للعلوم والثقافة عام 1979.. كانت له رسوم بصحيفة الاهرام ويكلى.. ولقد اتاح له العمل بالمنظمة فى زيارة الدول العربية مع دوره فى الارتقاء بالثقافة البصرية من خلال مجموعة الكتب التى رسمها لمحو الامية عن طريق الصورة المرسومة.. وهى صور تعليمية لكن تتميز بحس تعبيرى يرتقى بإحساس البشر.
- وفى عام 1984 بعد ان ترك المنظمة العربية للعلوم والثقافة تفرغ للفن واحتشد بكل طاقاته التعبيرية من اجل تلك الشلالات من الاضواء والظلال والتى اختزل فيها الزمن ووصل فيها الى درجة رفيعة من الاداء مع اختلاف العالم.. من عالم الصحافة والكتاب.. ورسالته التعليمية ذات القاعدة الجماهيرية الكبيرة الى عالم اللوحة.. تحديدا لوحة الرسم التى انسابت فيها ريشته بطلاقة تعبيرية من دنيا الرمز والروح السريالية الى تعبيرية جديدة.. حتى قال له المثال ادم حنين: `من خلال رسومك بالابيض والاسود ادهشنى انك عثرت بداخلك على هذا النور فى نفسك التى لم ينجح أن يفسدها هذا الزمن الصعب وتلك الظروف المتراكمة التى عشناها.. ولم يكن يخرج هذا الشعور بالنور وكان شيئا مستحيلا إلا بالتواضع والأمانة وليس من الغريب أنك لجأت إلى الأبيض والأسود ولم يهزك اللون ولكن كان النورهو الذى يهمك` .
- وهنا اندفع بكل طاقته بتعبير استاذنا مختار العطار بلغة الشكل والخط والملمس والظلال والأضواء والايقاع والتكوين والرموز والاشارات بأسلوب يمزج فى لطف بين الواقعية والشاعرية الرومانسية فى تكوينات غامضة ولكنها مثيرة وجذابة ومقروءة.
- اذا كان فن الرسم يعد احد التعبيرات البصرية الاساسية لتشكيل صورة ذات بعدين.. وهو ابداع على السطح التصويرى يجسد من خلال الخطوط والمساحات بالقلم او الفرشاة ايحاء مرئيا ويمتد من الرسوم والدراسات السريعة المسكونة بالانفعال اللحظى الى اللوحات المكتملة التى تحفل بثراء التشكيل.. فلا شك ان اعمال الفنان جميل شفيق تمثل ايقاعا فريدا فى فن الرسم وقد اكد من خلال تنوع الدرجات اللونية ان الاقتصاد اللونى يعد بمثابة فلسفة فى التعبير وان اللون الواحد مع تنوع التنغيم من درجات السلم الموسيقى البصرى قادر على ان ينافس بطابعه الدرامى الاخاذ شتى الدرجات اللونية الباردة والساخنة.. من الالوان الطيفية الهامسة الى الالوان الصاخبة الجهيرة.. وان يوازى فى قيمته التعبيرية اعمق اللوحات الملونة وقد يتجاوزها.
- ومن خلال تنوع المفردات.. مفردات الفنان جميل شفيق والتى اصبحت علامات ايقونية على عمق فنه مثل الحصان والمرأة والرجل والسمكة والطيور والاشجار مع الموجات التى تختلط علينا ما بين الكثبان وموجات الماء.. جاء عالمه ممتدا بلا انتهاء مشبعا بالرمز والغموض احيانا وفى احيان اخرى يتعانق مع الاحلام وما فوق الواقع بروح سريالية تغوص فى اعمق اعماق الانسان وتحلق مع الاشياء فى افاق جديدة وغريبة.. وفى بعض الاحيان يبدو عالما بسيطا وفى احيان اخرى عالم من التركيب والتعقيد يخفق بالاسطورة المستمدة من واقع الحياة.
- فى إحدى اللوحات يمتد الحصان بعرض اللوحة ممشوقا يكاد يطير من فرط الخفة والرشاقة بين جموع من النساء اشبه بحاملات القرابين وفى مقدمة اللوحة يتوحد رجل وامراة بلا تفاصيل وبينهما سمكة فى سكون تام وتكرارية من مشهد ثنائى.. انها صورة لحال الانسان.. انسان الزمن المعاصر الحائر بين السفر والرحيل وثقل اللحظة التى يتوحد فيها ادم وحواء قابضين على سمكة .
- تتكرر فى لوحة ثانية ما بين الضآلة والضخامة حيث يتصدر المشهد سمكة ضخمة يحملها خمسة شخوص وتتناثر الاسماك واقفة فى الفضاء على جذور اشجار ناتئة وفى المقدمة امرأة تحتضن سمكة اخرى.. وهى صورة يتعانق فيها الممكن بالمستحيل تخرج فيها الاسماك من الماء تنبض بالحياة خارج محيطها وسكنها الماء.. وفى مشهد تطل حواء خارجة من هدير الماء محفوفة بالاسماك والجياد.. محفوفة بالتوالد والاخصاب.
- وتتنوع الأبعاد والمسافات العرضية فى لوحة الجياد التى تتحاور وتتحدث وتهمس فى ثنائيات عديدة وثلاثيات ويبدو القمر بهيئة بدر معلق فى الافق.. مع تنوع وثراء الدرجات اللونية.. وفى مشهد بسيط وعميق يطل من لوحة اخرى عازف الناى مع امرأة مسكونة بالحركة والحيوية.. تعلن بايحاءات الجسد رقصة للحياة التى لا تتوقف بل تستمر فى الدوران.
- وعناصر الفنان شفيق هنا تبدو ذات شخصية واضحة المعالم تبوح بأسرارها كل عنصر حالة وكل حالة زمن وايقاع.. ولعلنا فى اعماله ندرك سر الطيور المكبلة داخل اقفاص فى حضرة امرأة جالسة فى فضاء اللوحة تعلن عن معنى انسان العصر المكبل فى الوجود.
- وحصان جميل شفيق يبدو اشبه بحصان الحكايات هادئا ممشوقا منمقا ناشرا عرفه من فرط الخفة والرشاقة يبدو طاغيا فى حضوره مجسدا ايقاعا سرياليا كما فى لوحة مع رجل وامراة عاريين.. الرجل يعزف على العود والمرأة تحتضن قطا.
- مجسمات طرح البحر
- فى رحلته مع الابداع لم يكتف جميل شفيق بأعماله فى فن الرسم بين دراما الابيض والاسود وتجليات واشراقات عناصره الايقونية.. بل انتقل الى حالة اخرى تنتمى لفن النحت من خلال توليفات لمجسمات نحتية من وحى ما يلفظ البحر من نفايات خشبية لمخلفات من حطام المراكب الغارقة وبقايا معارك البشر من القراصنة على مر السنين تحولت على يديه وبلمسته الى اسطورة جديدة تؤكد معنى الفن.. وقد قاده لهذا الاتجاه تعايشه مع البحر بكل صوره `طوال اقامته بالساحل الشمالى` حين يفيض ويغضب ويهدأ ويثور بما فيه.. يفرغه على الشاطئ محملا باسرار الناس الذين رحلوا عبر ازمنة سحيقة. ومن خلال توليفاته مع الاضافة والاختزال حافظ على جوهر منحوتاته فجعلها نابضة ناطقة بشخصيتها بلا مسوح لونية محتفظة باسرارها مع تعاقب الاحقاب والحضارات.. وما اجمل شخصية حواء وقد اكسبها روح المرأة المصرية التى تتواصل شخصيتها فى التاريخ.
- بين المسطح والمجسم.. وبين لوحة الرسم والتشكيل النحتى وبين البدايات فى الفن الصحفى من الرسوم والتصميم كانت رحلة فناننا جميل شفيق.. رحلة مفعمة باللمسة العميقة.. تحية الى اعماله وسلام عليه راحلا الى دنيا الله مع نهاية 2016.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة القاهرة : 27-12-2016
كتاب عز الدين نجيب .. جميل شفيق بين الحلم والأسطورة .. ومنين بيجى الشجن
- كتاب ` جميل شفيق بين الحلم والأسطورة ` هو أحدث مؤلفات الناقد الأستاذ عز الدين نجيب الذى تم مناقشته مؤخرا مع أول كتبه ` فجر التصوير المصرى الحديث ` فى مركز الإسكندرية للإبداع عبر احتفاء سكندرى بالفنان والناقد الكبير شارك فيه الفنان أ.د / محمد سالم وكاتبة هذه السطور بإدارة الفنان د. وليد قانوش مدير المركز . عز الدين نجيب يكتب بلغة سلسة عذبة مشفوعة بقلم الأديب ورؤية الناقد وعين الفنان ؛ فيغدو نصه النقدى عملا إبداعيا موازيا نستطيع ان نستمتع بقراءته حتى وإن قرأناه بمعزل عن التجربة البصرية التى يتناولها .
قلم الأديب يتيح له أن ينتج الصور الخيالية التى يبثها العمل الفنى ؛ فيراه المتلقى بعين كاشفة ويمضى هو الآخر فى صناعة صوره الخاصة ، ورؤية الناقد تتيح له الكشف عن منابع التجربة الفنية ومساراتها وتحولاتها والإشارة لمواطن القيمة فيها ، بالإضافة إلى ربطها باتجاهات الفن المختلفة .. أما عين الفنان فتتيح له أن يرى دقائق عملية صياغة المنتج الفنى والتحولات الطارئة على لغة الشكل التى يقدمها الفنان . كل هذا مضفور بفكر عز كمواطن مصرى مهموم بقضايا الوطن التى تؤثر فى العمل الفنى ولا تنعزل عنه وإلا كان العمل مجرد تواؤمات شكلية بين مجموعة من الخطوط والألوان والأضواء المتألقة .
من هنا جاء نص كتاب ` جميل شفيق ` نموذجا لمنهج عز الدين نجيب النقدى ، لكن يضاف لهذا النص تلك المسحة من الشجن التى رافقت ظروف نشر هذا الكتاب بالتحديد ، حيث كان مقدرا له للظهور منذ أكثر من عامين لولا تعثرة فى أروقة الهيئة العامة للكتاب قبل ان يتلقى دفعة جديدة للظهور تشبث بها عز إيمانا منه بأهمية الفنان ، ولمعرفته بمدى شغفة لرؤية الكتاب ، وبالفعل كان هناك موعد للقائه بجميل من أجل إمدادة بصور الكتاب بعد عودته مباشرة من الأقصر حيث كان مصاحبا لمجموعة فنانى سمبوزيوم الأقصر التاسع للتصوير فى ديسمبر 2016 إلا أن الفنان جميل أسلم الروح هناك قبل الموعد المقرر بينهما بثلاثة أيام ، ولم يقدر له ان يتلقى الكتاب الذى كان يحلم به كأى فنان يسعد بالاحتفاء بتجربته ، لذلك كان لهذا الكتاب شجنه الخاص ، ولعله يكون وخزة فى ضمير القائمين على الثقافة فى مصر لتكريم فنانيها قبل الرحيل .
ينقسم الكتاب لثلاثة عشر عنوانا يبدؤها الكاتب بعنوان ` البوابة ` الذى يطرح فيه مفهوم الحلم ودوره كوقود لخيال الفنان الذى يتيح له إبداع عالم موازيا لعالم الواقع يكون سيدا له ، ويشير إلى أن حلم شفيق لم يكن حلما ينفصل عن الواقع بل كان جميلا يستمد من دراما الواقع وبؤسه وتناقضاته المادة الخام لحلمه ، حيث مثلث الأرض المنصة التى ينطلق منها الحلم مستشرفا المستقبل .. ويستعرض الكاتب قدرات وأنصبة الفنانين من الحلم ، وكيف أن شكل الحلم وسعته يختلف من فنان لآخر .
وتحت عنوان ` النداهية ` يبحث الكاتب فى النشأة والمؤثرات الأولى فى حياة جميل شفيق ، فيشير إلى مدينة طنطا مرتع الطفولة والصبا وإلى الغوايات الثلاث التى لم تستطع أمه الحنون إقصاءه عنها . الغواية الأولى هى صيد السمك ، حيث التأمل فى سطح الماء ، وفى انتظار الصيد تأتى الأطياف والخيالات والخوف من النداهة ، تلك الجنية الساكتة فى قاع الترعة طاغية الجمال التى تستدرج ضحيتها لتغوص بها كى تعيش معها فى قاع الماء . والتى كان ينتظرها ويخاف منها ويرسمها جميل دائما فى كراساته . الغواية الثانية هى الرسم الذى عشقه واصطحبه رفيقا لوحدته كوسيلة مناسبة لاجترار أحلام يقظته .. وقد امتلأت كل كراريس وهوامش الكتب بالرسم مما استدعى عقاب الأب وتأنيب الأم ، وكانت حجرة الرسم هى الملاذ ، خاصة عندما انتقل للمدرسة الأحمدية الثانوية فهناك حجرات عديدة للرسم وخامات بلا حساب وناظر مستنير يشجع الموهوبين ويلغى عنهم عبء بعض الحصص ويؤمن لهم دروسا خصوصية مجانية لما يصعب عليهم من مواد ، وهنا يتوقف الكاتب فى إشارة لأهمية مادة التربية الفنية فى المدارس والاحتفاء بالموهوبين مما يجعلهم يشعرون أن للفن قيمة تجعلة جديرا بأن يكون اختيارهم فى المستقبل . الغواية الثالثة هى محبة جميل لارتياد الموالد بطقوسها ومواكبها واحتفالات مريديها ، مثل مولد السيد البدوى وسيدى أبو جرجس والست جميانة ، فى ذلك العالم الذى يمتزج فية الطقس بالمتعة ، والعقيدة بالخرافة ، والواقعى بالغرائبى ، وتذوب فيه الحدود بين المعقول واللامعقول ، بالإضافة الى مشاهد الزار ومشاهد استخراج الجن من أجساد الأشخاص الملبوسين وأصوات العفاريت ، كانت هذه هى أساطيره الأولى التى انتقل بها من منطقة الثقافة الشعبية الى منطقة الحلم .
ثم يتطرق الكاتب لمرحلة دراسة الفنان فى كلية الفنون الجميلة بالزمالك والانتقال من الريف بأساطيره الشعبية الى المدينة بصخبها وزحامها وماديتها ، لكنة يشير الى مكوّن مهم فى شخصية الفنان وهو تأثير الحياة الجماعية للطلبة أو ما أسماه ` الكميونة ` حيث التشارك فى الرغيف والكتاب وتذكرة المسرح والليالى الحافلة بالمناقشات فى الفن التشكيلى والشعر والموسيقى والمسرح ، فكانت كميونة العجوزة مقر إقامة جميل وهو طالب هى محط ترحال لأصحاب المواهب بتنوع مجالاتها .
وتحت عنوان ` ديوان الحياة المصرية ` يذكر الكاتب أن رفاهية التفرغ للفن لم تكن من خيارات هذا الجيل ماعدا من تم إلحاقهم للعمل بالتدريس بكلية الفنون الجميلة ومنحهم الفرصة لإتمام دراساتهم فى بعثات للخارج وهذا ما لم يحدث مع جميل ودفعته التى تخرجت عام 1962 ؛ فكان العمل بالصحافة هو أحد البدائل ، حيث كانت المؤسسات الصحفية وقتها تحت رئاسة شخصيات مثقفة تؤمن بقيمة الفن وتأثيره فى قاعدة أشمل من الجماهير ، وكان جميل من هؤلاء ، حيث التحق بالعمل فى دار التعاون مما منحه الفرصة للتجوال فى أنحاء مصر لتقديم رسوم مصاحبة عن حياة الفلاحين ومشكلاتهم . الأمر أتاح له رسم حياة البشر ومواقع الطبيعة المختلفة ، كذلك عمل جميل بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التى منحته جولات أخرى فى العديد من الدول العربية ورسم حياتها وشخوصها وعماراتها الشعبية .
كما قام الفنان بعدة جولات فى أوروبا إتصل فيها بالتراث العالمى من خلال متاحفها واستفاد من دراسته عن قرب لفنانيها واتجاهاتهم المختلفة ؛ فكان كلاسيكيا فى رسمه ، رومانتيكيا فى عواطفه ، ميتافيزيقيا فى نظرته للحياه ، سيرياليا فى نزعته للحداثة كما أشار الكاتب .
ثم يعود جميل للالتفات لما سماه الكاتب بالحلم المسروق ، فبعد تلك الجولات فى مصر والعالم العربى والأوروبى التى قدم خلالها الفنان حصادا كبيرا من رسوم البشر والأماكن ، توقف متأملا لما مضى فى حياته : هل أشبعت الرسوم الصحفية التى قدمها - على أهميتها - روحه الفنية ؟ وقد كانت الاجابة بالنفى هى التى أدت به لتقديم استقالته من العمل عام 1984 ليستعيد حلمه المسروق .. حلم الفن ، وبدأ يتفرغ لصياغة رؤاه الخاصة التى كانت فيها المرأة هى البطلة الأولى ، فهى الحياة بجميع تجلياتها .. من هنا قدم جميل جسد المرأة بمعايير جماليات الشكل لا بمعايير لغة الجسد ، مستحضرا فيها ذلك الجمال الذى يناظر جمال السحب والجبال والبحار والطيور وكل كائنات الطبيعة البديعة .. ويقدم الفنان الشكل بلغة أقرب للموسيقى القائمة على بناء هرمونى / إيقاعى / بوليفونى ، يتذبذب صاعدا هابطا متموجا متمايلا ، خشنا ناعما ، هامسا صاخبا ، كاشفا كتوما ، ينتقل به من أجواء فجرية لعوالم قمرية ، ومن تجليات نهارية الى تهيؤات ليلية ، ومن دنيا الأرض الى ملكوت الحلم . من هنا كانت خماسية جميل شفيق التى يعزفها ما بين .. المرأة أيقونة الحياة فى حوراها الدائم مع السمكة .. أيقونة البحر والرزق والخصوبة ومهر الزواج ، والحصان رمز الفحولة والفروسية والكبرياء ، والقط الأسود بإيحاءاته السحرية القادمة من قلب الفن المصرى القديم متغلغلة فى وجدان الثقافة الشعبية ، رمزا للشر والغواية أحيانا ، حارسا وكاشفا لما لا نراه أحيانا أخرى . ثم الصياد الذى يجسد إرادة الإنسان الفطرية للسيطرة على الطبيعة وترويض المجهول . جميعها فى منظومة من رسومات الأبيض والأسود التى يبرر الكاتب اختياره لها بأنها تقنية صالحة للأداء ذى الدفقة الأولى البعيدة عن أداء فن التصوير الأكثر تركيبا وتعقدا .
وتحت عنوان ` عُرى الكائنات ` يتناول الكاتب قضية شائكة وهى ` تصوير العرى ` فيشير إلى أن آدم وحواء ظلا عريانين فى صورهما إلى ماقبل عصر النهضة ، وأن الفن المصرى القديم وفنون الحضارات الشرقية قد تناولت الجسد العارى ، وحتى الذائقة الشعبية فى الريف المصرى كانت تتقبل صورة أدم وحواء عراة ومعهما الشجرة والتفاحة وكانت تلك الصور تباع فى الأسواق الشعبية هكذا كان تصوير العرى عند جميل شفيق هو الآخر قرينا للفطرة الأولى وليس للتحلل الأخلاقى . كما يلمح الكاتب لأهمية التمكن الأكاديمى الذى أهله لخوض ذلك الخيار بطلاقة فأصبحت يداه قادرة على رسم أحلامه .
ثم يعرج الكاتب على موضوعات جميل شفيق الأساسية وهى : رباعى المرأة والحصان ، الرجل والسمكة ، المرأة حاضنة أو طارده الصيد العجيب ، راقصات وغواز ، يصحب ذلك تحليلا شكليا لنماذج من كل موضوع ، ويتطرق بعدها الكاتب تحت عنوان ` تجريب وتجريد ` إلى محاولات الفنان فى البحث التجريبى فى الشكل من خلال تفكيك العناصر وتحريف ملامحها بتحطيم صورتها الواقعية وإزاحتها أحيانا وإعادة تأليفها وتشكيلها فى خلق جديد بعلاقات خطية وإيقاعية متحررة من أى تمثيل للواقع .
بعدها يتناول الكاتب بعض القضايا الشكلية الخاصة برسوم جميل ، مثل التلوين من خلال الضوء والظل واعتماد الخط كقاعدة بناء أولى فى تجربته كرسام ، مبتكرا قوس قزحه اللونى الخاص من خلال درجات الأبيض والأسود والاستعانة بالضوء الذى يأتى من صميم الشكل ما بين الكتل الجسدية وأثيرية الهواء ، كما يشير الكاتب لدراية الفنان الواسعة بفنون التضبيب والتمويه من خلال استخدام طبقات سنون الحبر المرهفة ، وامتلاكه بالتة ملمسة تضاهى ملامس الطبيعة .
ويتوقف الكاتب عند تجربة جميل فى المجسمات والمنحوتات التى يستخدم فيها طرح البحر وجذوع الأشجار ، ففى حياته على الساحل أغلب شهور السنة ونزهته اليومية على رمال البحر كان يبحث عما طرحته الأمواج من بقايا لأشياء كان يستخدمها الإنسان داخل البحر ؛ فيكتشف من خلالها معان إنسانية تسرى فى المواد الجامدة ، ممتزجة بالتوقعات الدرامية حول مصير أصحابها ، حيث أتاحت له تكوين عالم افتراضى متكامل من الرموز والإشارات . وهذه التجربة فى المجسمات غيرت لدية فى مفهوم لغة الشكل والتصنيف الحاد بين الرسم والتصوير والنحت والحفر، فهو يختار القطعة التى أثارته بصريا ويضيف لها أو يحذف منها أو يحفر فوقها أو يصور أو يستخلص أشكالا شبيهة بخيال الظل الشعبى ، أو يستحضر وجوه الأيقونات القبطية ، وفى كل الأحوال كان جميل يؤكد فى أعماله على المضامين التعبيرية الإنسانية التى تجمع بين الواقع والحلم والأسطورة.
وهكذا قدم عز الدين نجيب تحيته الخاصة لزميل دراسته جميل شفيق صاحب الروح التى أحبها الجميع عسى أن تصله تلك التحية التى لم تدركه فى حياته.
أمل نصر
القاهرة : 11-4-2017
حكايات الحصان الحزين تدير الصراع بين الأبيض والأسود
- طوال مئات من القرون، والحصان- ذلك الحيوان النبيل - يحتل موقعاً معتبراً فى إبداعات الأدباء والفنانين، فقد احتفى به فطاحل الشعراء العرب الأوائل الذين صادقوه وحاربوا واختالوا به، ومن منا لا يذكر البيت الشعرى بالغ الدلالة الذى وصف فيه امرؤ القيس حصانه أثناء إحدى المعارك الصحراوية الكثيرة.
- ` مكر . مفر. مقبل. مدبر معاً
- كجلمود صخر حطة السيل من عل`
- كذلك لم يتمكن الفنانون التشكيليون من مقاومة سطوة الانبهار التى يحققها الشكل الفذ للحصان، فقد رسمه فرسان عصر النهضة والذين جاءوا بعدهم، بأسلوب أظهر متانة الجسد ورقته وخيلاءه أحياناً ، وقوة أندفاعه وبطشه وكبرياءه فى أحيان أخرى ، كما زينت صور الحصان بعض الكتب الشرقية والعربية الشهيرة، مثل ` كليلة ودمنة`، و ` مقاومات الحريرى` وغيرها.
- أما أحلام البنات التى تدور حول انتظار الفارس الذى يمتطى حصاناً أبيض ويأتى من الغيب ليخطفهن ، فحدث عنها ولا حرج!! .
- لذا لا عجب ولا غرابة أن يأتى فارس تشكيلى هذا ، ويعرض علينا الحصاد الوفير للسباق الذى دخله راضياً مرضياً مع الحصان ، فضلاً عن عناصر وكائنات أخرى سنذكرها فى حينها.
- `جميل شفيق` (1938) - هو أخر الفرسان الذين فتنهم الحصان- تخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1962 قسم التصوير ، وقدم أخيراً عدداً من اللوحات التى تحتفى بالحصان بشكل رئيسى.
- يجب أن نلفت الانتباه قبل الشروع فى القراءة التحليلية للوحات، إلى أن الفنان لم يشاً أن يصادق الألوان وإيقاعاتها المتباينة، وآثر أن يستعين باللون الأسود ودرجاته الظلية فقط على سطح الورق الأبيض ، ربما لأن القاموس اللونى خداع وشكاك بسبب تجاور المفردات اللونية الطازجة والمشتعلة ، جنباً بجنب الألوان الرمادية والباردة، مما يعوق التعبير الأشمل والناصع عن خلجان الفنان الذى يسعى نحو تحديدها.
- فى لوحة ` موكب الخيول` - التسمية من عندنا ، لأن جميل شفيق أطلق اسم ` رباعيات الخيل والليل` على كل هذه المجموعة - نرى مشهداً خارجاً من كهوف الأساطير ، حيث يمتطى شخص ما - فى الغالب امرأة - حصاناً ساكن الحركة يحتل المساحة الذهبية فى اللوحة.
- فى حين التف حوله عدداً من الخيول بأوضاع وزوايا مختلفة ملأوا معظم الفراغ الباقى من سطح العمل، وقد جاءت قطعة الثياب التى تخفى وجه بطلة اللوحة وتنسدل أسفل الحصان، لتضفى على المشهد مسحة من الغموض المثير.
- لم يمتثل جميل شفيق للقوانين الخاصة بسلامة واستقرار النسب التشريحية للخيول فقام بعمل عدة مبالغات وتحويران فى الرأس والعنق أو الذيل، مما حرر العمل من رتابة الواقعية أو المحاكاة ، وأبحر بهذه الخيول فى فضاء الحلم الثرى بالدلالات .
- أثبت الفنان فى هذه اللوحة براعة لافتة للنظر فى السيطرة على أدواته ، من أول متانة البناء والتصميم الذى تجلى فى رص هذه الكوكبة من الخيول الحائرة ، دون أن يرتبك المشهد برغم أن الفنان استخدم أكثر من منظور فى تنفيذها، حتى مهارته فى إدارة الصراع اللذيذ بين مساحات النور التى تسعى جاهدة لإزاحة مناطق العتمة ، مثل هذه الومضات البراقة على رجل المرأة المحاطة بسواد الحصان، أو بعض اللمعان الموزع بحساب رقيق وصارم على أجزاء محددة من أجساد الخيول الهائمة.
- إن جميل شفيق يستخدم الحبر الشينى عن طريق قلم ` الرابيدو` ذى المقاسات المختلفة تصل من واحدة من عشرة من المليمتر حتى خمسة من عشرة من المليمتر، وهذا يستدعى أن يتحلى الفنان بصبر بحار قديم حتى يفرغ من ملء مساحات اللوحة والتى تراوحت أحجامها أيضاً بين 25×25 سم ، حتى 60×80 سم تقريباً.
- وكما يفعل بعض الأدباء الذين يكتبون قصائد أو روايات مقسمة إلى أجزاء منفصلة ومتصلة فى نفس الوقت، فإن جميل شفيق قدم عدداً من اللوحات صغيرة الحجم بشكل ملحوظ تحت اسم ` رباعيات الخيل والليل` كل واحدة مقسمة إلى أربع لوحات متساوية ، اثنان فوق اثنين يفصل كل لوحة عن الأخرى حوالى سنتيمتر واحد فقط .
- تعالوا نتأمل معاً هذه التجربة الفريدة ، ففى إحدى هذه الأعمال ، نجد جميل قد سمح للحصان أن يحتل دور البطولة المطلقة فى لوحتين من الرباعية ، واحدة فى الجزء العلوى، والأخرى يسار الجزء السفلى ، أما الرجل والمرأة فقد فاز كل منهما بلوحة بمفرده من هذه الرباعية.
- إننا من الممكن أن نتعامل مع كل لوحة على حدة بصفتها عملاً مكتملاً فى ذاته، ومن الجائز أيضاً أن نكتشف الخيط أو المحور الرابط بين هذه اللوحات الأربعة.
- خذ عندك مثلاً الطابع الحزين والموحش الذى يسيطر على أبطال اللوحات سواء كان الحصان أو الرجل أو المرأة ، حيث ينفرد كل عنصر بوحشته، ولا يؤنس وحشته كائن أخر، برغم أن اللوحتين التى كانت من نصيب الحصان، وجدنا حصاناً آخر فى الخلفية ، إلا أنه يعانى أيضاً من ورطة الوحدة، حيث لم يتبادل أى نظرة مع البطل الرئيسى فى العمل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أصر الفنان على التنازل عن التفاصيل الخاصة بملامح كل كائن، واكتفى بالشكل العام ، فلا نرى ما يميز ملامح الوجه أو الجسد، فقط كتل مستقرة تفصح عن طبيعة الكائن المرسوم.
- نالت هذه الأمور، هو ذلك الأداء المرهف الذى يميز طابع أعمال جميل شفيق، حيث رهافة التصميم، والأحتفال بمناطق الظل والنور، وتأكيدها، فضلاً عن أسلوب التنفيذ المتشابه فى كل اللوحات ، وهو أسلوب ` التهشير` أى عمل خطوط صغيرة متوازية وأحياناً متقاطعة ، ويبقى فى النهاية هذه الناقة التى تشع من كل لوحة على حدة، ومنها جميعاً أيضاً.
- جميل شفيق فنان صاحب خيال غزير وموهبة منهمرة ، انتبه للحصان وانشغل به، وقام برسمه وفق صياغات فريدة ومثيرة، ينتمى إلى تلك النخبة من الفنانين الذين يولون نعمة القص فى اللوحة التشكيلية حقها المنسى، دون أن تطغى على الأسس التى تحقق للعمل أعلى كفاءة ممكنة من حيث التشكيل وقوانينه.. يساعده على ذلك براعة فى إدارة الصراع التاريخى بين الأسود والأبيض ، لذا فقد جاءت أعماله عامرة بما لذ وطاب للعين والعقل. باختصار `جميل` قدم لوحات `جميلة`.!!.
بقلم: ناصر عراق
من كتاب ملامح وأحوال
فقدت خيول القمرية فارسها النبيل
- أثار رحيل الفنان الكبير جميل شفيق - عن 78 عاما - الكثير من الشجون المكتومة والألم لرحيل فارس لوحة الأبيض وأسود ولفنان له أخلاق الفارس النبيل .. ضوضاء الرحيل هذه وصدمة موته بين جنبات ملتقى الأقصر وسط جو مزدحم بزخم الإبداع وصخب محاورات الفنانين ولقاءات النقاش يتناقض وسكونية لوحاته والسكينة التى ميزته طوال حياته ونستشعرها داخل لوحاته ...
- ليرحل فنان مصر الكبير الخلوق على أرض الأقصر محدثا صدمة لدى فنانى الحركة التشكيلية .. لتكون حياته وإبداعته فى القاهرة شديدة الضوضاء ورحيله فى الأقصر البلد الحالم كما لوحاته والأقرب للمناخ الأسطورى بثقل تاريخها المرئى .. ولا يبقى من صدمة رحيله إلا صمت ضخم ..
- هذا الفنان الحالم الراحل عاشق الخيل المنتظر دوما للاعائد بدأ عشقه للخيل يظهر فى لوحات الخمسينات واستمر معه حتى بداية القرن 21 .. فخيوله التى نراها اليوم هى امتداد داخله لم تأت من فراغ هو اكتسب منها وهى اكتسبت منه معانى الفروسية والنبل وأفاض فى رسم رباعية عن ` الليل والخيل ` كتداعيات ناعمة لما وراء المرئى خاصة وان كانت خيول جميل اقرب لواقعية التركيب الا انها سريالية الايحاء وميتافيزيقية التواجد وقد اتت مثله برومانسيتها من أماكن غير مرئية بعيدة .. الآن وقد غاب فارسها إلا أنه ترك وراءه عالما فيه براح من مساحات روحية للتجوال ..
- وقد بدا جميل شفيق كخيوله الليلية التى تظهر قضية متألقة بتأثير ضياء لياليها القمرية .. ولها من الرهافة ألا تحدث حوافرها ضجيجا .. ولا تأتى حناجرها بصهيل .. وعيونها الواسعة تساعدك كى تدرك بنفسك إلى أى مدى يكون النظر للداخل مدعاة للتأمل الجميل كجميل نفسه .. غير أن خيول لوحاته وجودية هائمة فى دنياها أتت بلا خريطة ولا دليل تتأمل وتستكشف فى سكون وجودها وعالمها الكونى الخاص الذى اتت منه .. فلا تتماثل كثيرا والخيل الأرضية رغم تماثل الهيئة .. وقد أحلها أماكن فى صحراوات لوحاته لتعيش فى عشرات من اللوحات دراميتها ورومانسيتها الخاصة وبحضورها الإنسانى .. فلم تظهر فى لوحات صاحبها الراحل إلا إما سابحة فى عالمها أو مؤتنسة بإنسان يصاحبها الألفة والتأمل دون أن ينظر أحدهما للآخر .. فدائما العيون فى اتجاهات لا تتقابل لكن كل الحوارات قائمة وبشكل حميم وحديثها الداخلى ممتد قائما حتى لحظة مشاهدتك اللوحة .. وحتى الآن ما زالت مثل صاحبها هائمة وموجودة والذى برحيله أمست خيول لوحاته القمرية بلا فارس .. ولم يبق لها وله غير ذلك الكبرياء المتبدى فى رءوسها المرتفعة فوق أعناقها تحمل من الحزن ما زادنا إحساسا بغربتها وكثيرا من قيم نبل وفروسية زرعها فيها صاحبها الغائب.. وستظل خيول جميل شفيق هائمة فى حالة من الوحدة رغم وجود الآخرين وكأنها فى انتظار عودة فارسها الذى لن يأت .. هذا الخيط النفسى الإنسانى الذى ربط بين جميل شفيق وخيول لوحاته لسنوات طويلة من الإبداع والألفة هو ما يزيدها جمالا .. ففى حال الافتقاد نجد أن هناك دائما شيئا لم يكتمل وهذا يدفع لمزيد من التأمل ..
- رحم الله فنان مصر الكبير جميل شفيق الذى دخل عالمه الفنى من المحدود إلى الخيال والمساحة المفتوحة تنوعا وابداعا فى لوحات كلها خطت أشكالها فى خطوط رفيعة بسن قلم الرابيدو تنبش السطح الأبيض لتستنهض بمغزلها الرفيع الدقيق أنفاسا فى صحراواته الشاسعة مثيرا بالأبيض والأسود العاطفة لكل من شاهد لوحاته كحالة خاصة من الأحلام المرئية .. وبسن قلمه الرفيع استطاع تخليق نغمات جدلية من الرماديات بين أبيضه وأسوده فى رهافة وحساسية مبهرة .. وبالتركيز منه على قوة الأسود وليونة الأبيض جعل المشاهد أقرب للموضوع الحالم رغم افتقار اللون الطبيعى الذى تراه أعيننا .. فأعيننا لا ترى العالم حولنا أبيض وإسود بل ألوان .. وأبيض وأسود جميل شفيق ساعد بمهارة وتقنية فنان فريد على توجيه تركيز المشاهد على الموضوع دون البحث عن إبهار اللون .. وأيضا بذكاء كان التقاط الفنان لمشهده من الخارج وعبوره إلى الروحى يمر بحرفية عبر الأبيض والأسود والرمادى مترجما مفاهيمه الشخصية إلى مجرد أبيض وأسود ليحرر اللوحة من التفاصيل الدقيقة لتصبح اللوحة مفهومها أقوى من تفاصيلها بما فيه من تحرر العقل من منطقية الألوان ودفعه للفهم التحليلى عند المشاهد .. كما أن الأبيض وأسود هو فقدان للواقع لصالح وجهة نظر شخصية مفاهيمية للفنان .. أما تناغم الضوء والظل فلهما دور مهم للايحاء بما هو الاقرب للحقيقة بينما هى خيال .. والاستدعاء الناعم لشعورنا بلهجة الملمس وما يوحيه من الرفاهية .. لينجح فنان مصر بترويض الأبيض والأسود لتحقيق التوازن بين الموجب والسالب الذى به يمكن تصنيف العالم .
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة 27-12-2016
جميل شفيق .. على أوتار سيد درويش
- الفلكلور والتراث الشعبى والانسانى ، أهم المفردات فى فن جميل شفيق ` 55 عاما ` اختار لمعرضه الرابع المقام حاليا بأتيليه القاهرة عنوان ` على أوتار سيد درويش ` الذى ألهمه فى أكثر من لوحة - المعرض مرسوم بالأبيض والأسود مثل أغلب أعماله . ورغم صعوبة هذا الأسلوب . إلا أنه يعطى مساحة كبيرة من الروحانية للعمل الفنى - رغم أن تحول الفنانين فى باريس ولندن وروما - إلى هذا الاتجاه الأبيض والأسود - كان فى سنوات الستينيات كان نوعا من التمرد السياسى - الذى واكب مظاهرات الطلاب تم انتشار أدب اللا معقول ، وكانت تعبيرا من الجيل الجديد عن فقدانه الثقة فى المؤسسات الاجتماعية القائمة ورفضه لأشكالها التى تعبر عن طموحاته فى المستقبل - وهكذا وسط هذا الانفعال المتوتر ، كان من الطبيعى ان يترك الفنان التشكيلى مرسمه التقليدى وألوانه المنمقة ، ويرسم بالقلم الرصاص ` اسكتشات ` ثائرة - حادة - ونتج عن هذه الفترة مجموعة من الكتب المهمة من كتاب الفنان ` أوزياردى ` البلغارى الأصل - الفرنسى الجنسية - ويقع كتابه فى 852 صفحة من القطع المتوسط - يضم رسومات بالأبيض والأسود من بينهما مجموعة لوحات بعنوان `أنهم يقتلون النور ` واللوحات كانت مصاحبة لأشعار لويس برناردو .. لكن الأبيض والأسود عند ` جميل شفيق ` يعطينا رؤية طوباوية صافية .. تقترب من فلسفة المتصوفة أو الرهبان - رموز ` السمكة - الصحراء الممتدة - الحصان - الديك - البقرات السمينة`. كلها تعطى دلالات دينية رمزية - تمكن الفنان ` جميل شفيق ` من تطويرها والبحث عن وظائف جديدة لها ..
فرغم كل حملات الهجوم التى شنها دعاة العالمية والغربية ، فإن فنوننا الشعبية لا تزال غائرة فى أعماقنا تبحث عن هؤلاء القادرين على تفجير ما فى رئاتهم وتكثيف دلالاتها . وصنع توليفة ابداعية يتفاعل داخلها المأثور الشعبى بالفكر المعاصر بالواقع المحلى فى اطار هذه المساحة الزمنية الخاصة التى يعيشها واعادة بثها إلى أصحابها عبر وسائل الاتصال الجماهيرية التى تكثفها لوحة من خلال خطوط صريحة بلا ظلال تتصارع فيها أشكال أسطورية تعطى افاقاً أوسع وامكانيات ارحب للتعبير عن معانى داخلية للإنسان وبالتالى تحولت بهذا التنظيم والايقاع إلى رؤية مسرحية تظهر خلال منظور معمارى شرقى ، وهنا ادخلت التعبيرية شكلا آخر للعمل الفنى وهو وحدة الشكل والمضمون وأكدت أن اللوحة لا تصبح بغير هذه العناصر الا تراثا ضائعا . وهو ما حققه فنانان مثل أدولف ابيا وجوردون كريج فى كتب التمثيل والموسيقى - فى بدايات القرن - ويتقابل معها ما يفعله حاليا فنان باريسى شاب هو` كرينسيو رانيو `32 عاما - فى أتيليه الشانزليزيه خلال تجربة ` الدخول فى الملكوت ` وهى تشبهنا بما كان يفعل فنانو عصر النهضة من وحى الكنيسة وقتها - ولكن بأسلوب نهاية القرن العشرين.
بقلم : نادر ناشد
جريدة الوفد : 21-12-1994
جميل شفيق وطرح البحر
- تقيم أعمال الفنان ` جميل شفيق ` حواراً بين العقل والروح ، فهى تنقل واقعاً دون رتوش . يفيض جوهرها بدلالات كثيرة ، يبحث فيها دائماً عن كل ما هو جديد وبسيط بعيداً عن صخب الحياة وضوضائها ، يؤمن بأن الفنان هو مندوب للإنسان البسيط لما يتمتع به عن غيره بكونه مبدعاً وحساساً، وبدوره المهم فى توصيل فنه لكافة الفئات .. جاءت أعمال الفنان جميل شفيق فى معرضه الحالى المقام فى قاعة (إكسترا) على نيل الزمالك بتكوينات وعناصر خالية من التعقيد أو التسطيح الشديد ، فسهلت على المختص والمتذوق إدراكها والإحساس بها معاً ، لتثبت قدرته على الابداع .. بخيال بلا حدود .
- أقام جميل شفيق معرضه مستخدماً قطع الخشب التى ترمى بها أمواج البحر على رمال الشواطئ ، والتى التقطها عبر رحلاته إلى المدن الساحلية داخل مصر وخارجها فكان يجمعها ليرسم عليها إبداعاته الفنية لتتحول إلى لوحات رائعة التكوين والتلوين ، متأثراً بما تركه سوس البحر من ثقوب وتجاويف ، وما أضافته الطبيعة وعوامل التعرية من لون وملمس ، فجمعها وقام بدراسة أنواعها واختيار المناسب منها والأطول عمراً ، ليرسم عليها وينحت منها ليحولها إلى شمعدان على شكل امرأة - حصان - سمكة - طائرة - أراجوز - عروس شعبية، حتى تزداد جمالاً فوق جمالها ، فجاء معرضه باسم ( طرح البحر).
- لم يستخدم الفنان غير اللون البنى بدرجاته ، محترماً طبيعة لون الخشب ومحافظاً على خصوصيته وتكوينه ، جاعلاً لون القطع الخشبية هو اللون الاساسى للعمل الفنى .. فلم تتعد نسبة تلوينه فوقها 10%، كما يعد استخدامه للون الواحد استكمالاً لمعارض ` الأبيض والأسود ` ، التى ساعدت جميل شفيق على إبراز مهاراته فى إظهار الفروق بين الظل والنور مستخدماً لوناً واحداً ، ليصبح من أهم وأبدع فنانى الأبيض والأسود فى الوطن العربى ، قائلاً : إنه فى بداية استخدامه للون الواحد كان (يتحجج) بعدم وجود أتيليه خاص به ، فكان استخدامه لورقة بيضاء وقلم رابيدو لا يحتاج لمساحة كبيرة ، فعشق اللون الواحد بدرجاته وأصبح يخاف استخدام الألوان المتعددة ، فلا يضع أى لون داخل العمل الفنى إلا إذا كان يخدم فكرته ، تأكيداً لحبه للون الواحد لما يعطيه من راحة لعين الرائى .
- تظهر دائماً كائنات جميل شفيق بمصرية خالصة ، فبدت هنا وجوهه قريبة النسبة من ( وجوه الفيوم) بعيونها اللوزية الواسعة وأنفها النحيف الطويل وفمها الصغير ، وتشابهت الوجوه لاستخدامه اللون البنى الذى اعطى الاحساس بالقدم ، ورسمها على قطع خشبية كما هى وجوه الفيوم ، وقد زاد من جمال وجوهه سحراً وغموضاً عندما طمس بعض معالمها .
- المرأة والحصان هما أكثر العناصر تكراراً فى أعمال جميل شفيق ، فالمرأة عنده رمز الخصوبة والجمال والابداع وأساس كل شئ ، كما أنها تشبه الحصان من وجهة نظره فى نواح كثيرة ، لما يتمتع به من طاقة وحيوية ورشاقة وجمال التكوين الجسمانى ، ويشترك الحصان مع المرأة فى أعماله بامتلاء الأجساد مع نحافة البورتريه ، لكنهما فى نفس الوقت يتمتعان برشاقة وخفة وحيوية ، فالمرأة عند جميل ليس لها معيار جمال ثابت ، لذلك لا يرسمها نحيفة بل فى أى صورة تظهر أنوثتها بشكل جميل ، كما أنه يلعب فى معظم أعماله على فكرة الثنائية المتناقضة (الرجل والمرأة)، (السمكة والقطة) و (الليل والنهار) تأكيداً على أن المتناقضين يظهران بعضهما بشكل أوضح نتيجة الصراع بينهما.
- كما ظهرت قدرته على الإبداع ، عندما جمع بين العمل الفنى وقطعة الديكور ، مع الحفاظ على خصوصية كل منهما ، فلم يكن توظيفه للجمع بينهما نفعياً بقدر ما هو توظيف رمزى ، فهو أراد أن تكون فكرة معرضه ( لوحة وشمعدان) ، لذلك جاءت القطع الفنية المنحوتة بوظيفة الشمعدان على أشكال متنوعة ، لما تعطى إضاءته من هدوء وسكينة وطبيعة مختلفة ، منادياً بالعودة إلى الطبيعة التى فقدنا اتصالنا بها واتصالنا بوجودنا ، فجاء استخدامه للخشب وتحويله لشمعدان على شكل ` عروسة المولد` و` الأراجوز` تأكيداً لهذه الدعوة ، وهذا هو سر انجذابنا واتصالنا المباشر لأعماله ، نتيجة الاحساس بالحنين لبيوتنا وأدواتنا الخشبية القديمة وعرائسنا وضوء الشموع ، وهذا ما أكد قول الفنان الكبير (بيكار) بأن أعمال جميل شفيق تقوم على التكامل العقلى والروحى .
- تنوعت الإطارات الخارجية (البرواز) للوحات ، فظهر لكل عمل جمالياته وإيقاعاته الخاصة ، فجاءت بعض اللوحات بإطارات تحدد وجوهها وتكوينها ، وكانت هى الأعمال الأولى التى بدأ بها جميل ، ثم قام بإلغاء البرواز ، واستخدام مساحات الخشب الكبيرة كخلفية للتكوين عن طريق جمع قطع مستطيلة منها ولصقها بشكل طولى أو عرضى ، فساعد هذا على الإحساس بانطلاق وحرية التكوين وعدم تقيده .
- حرصت فى نهاية جولتى فى معرض الفنان جميل شفيق أن أسأله عن أحوال الحركة الفنية ، فعبر لى عن استيائه من قلة المعارض الفنية التى تقام الآن ، معللاً ذلك بتراجع الاهتمام بفن الرسم فى السنوات الأخيرة ، ومستوى وأسلوب التدريس داخل كليات الفنون الجميلة ـ وأيضاً لتباعد العلاقة بين الطالب وأساتذته ، والسبب الرئيسى هو ما تفرضه كليات الفنون الجميلة الأن من شروط الالتحاق بها والتى تعتمد على المجموع بشكل أساسى ، وليس على الموهبة الفنية لدى الطالب مثل السابق .
بقلم : سهام وهدان
مجلة الهلال : نوفمبر2008
الخيل .. والليل .. والبيداء ورومانسية فنان لا يتحدث كثيراً
- لذة الارتعاش والاندهاش
- امتطى ` جميل شفيق ` خيوله وانطلق بنا فى الليل ليدخلنا عالم الموروث والأحلام .. عالم افتقدناه زمناً طويلاً عبر المتغيرات والتقنيات والسفر عبر تجريد الواقع فى جدليات مفرطة توغل فى المتاهات .. ولأن عقدة التراث ستبقى إلى فترة طويلة قادمة وبالتالى ستبقى رؤانا له هى الرحيل إلى الزمن الجميل .. فالتراث ليس تابوتا يحمله الفنان على كتفيه على مر القرون، ولكنه الغوص فى واقع مازالت له رائحة التاريخ وعبقه فى زمن اضمحلال قيمة الأشياء وجو الصخب الذى يعيشه الإنسان المعاصر..
- وجميل شفيق من جيل الستينيات الذى عاش الحلم وانكساره .. الواقع البيئى وفلتاته . لم يبارح منطقة الأبيض والأسود .. فهما اللون الذى يراه دوما واقعاً رائعاُ .. وأصبح أستاذا فى هذا المجال عبر معارضه السابقة دون أن يكون فى حاجة لضجيج الألوان وزعيقها المباشر .. وحقق جميل الاتزان فى الحجم بين الكتلة والفراغ . كما حقق الاتزان فى اللونين الأبيض والأسود .. بين الشقين الدافئ والبارد .. بل إن اللون الأسود واختلاطه الجمعى بالأبيض قد تضمن جميع الألوان وهكذا حقق موازنة لونية دقيقة قلما توافرت فى فنان مثله..
- وعلى الرغم من التلقائية التى يلتقى بها المشاهد للوهلة الأولى .. فإن نظرة متأملة كفيلة بكشف الحسابات الدقيقة فى تنظيم عناصر لوحاته .. ولا تكاد لوحة منها تخلو من ثنائية متحالفة .. أو رباعية متجانسة فى موسيقى بالغة الرقة ..
- ولأنه أيضاً تلونت رحلته الفنية بأحداث ورؤى أودت به إلى شاعرية الواقعية فقد شغلته كما شغلت بعض أبناء جيله عديد من القضايا الاجتماعية بل إنه دخل الساحة التشكيلية عبر موضوعات يراها هو أنها جوهر الحياة .. علاقة الرجل بالمرأة .. الحياة ممثلة من قبل فى تكوينات وتنويعات ` السمكة ` التى ، هى الحياة.. قاع المدينة القديمة بنسائها المتشحات بالسواد.. أيام سيد درويش وعالمه الأسطورى .. الخيول وهى سامقة تزهو فى خيلاء وكأنها كائنات أسطورية تتدفق عبر عيوننا لتخترق نظراتنا المشوشة وتنقلنا إلى عوالم جميل شفيق الخاصة .. وهى عامة بالنسبة له لكننا لا نراها ونراها خصوصية الرؤى الشفافة .. إنه عالم البساطة المتناهية وأجوائها الرومانسية البكر .. عالم الأحلام الشاعرية الرقيقة والخيالية المرهفة .. عالم دافئ تلجأ إليه العين فيحتضن النفس ويضعها على مشارف البهجة .. عالم تتراءى فيه خشونة الحياة البسيطة وملمسها رغم فيضان العاطفة وانغمار العناصر فى شلالها ..
- ولأن تقنية ` الأبيض والأسود ` من الصعوبة الشديدة فى التناول خاصة بعيدا عن أجواء العمل الصحفى الذى احترفه جميل شفيق منذ تخرجه .. إلا أنه انطلق بشجاعة نادرة لاقتحام المساحات الصغيرة والكبيرة على حد سواء وذلك من خلال معارضه ومنها الأخير .. ولا يخفى أن إقامة معرض فقط بالأبيض والأسود وبهذه التقنية لهو من الصعوبة البالغة التى لا يجرؤ عليها سوى فنان متمكن تماماً من أدواته مستلهما دائماً التراث الذى هو إحداث جدل بين زمنين .. وهو إشراق من ومضات إبداع غابر .. ومغامرة لتطبيع الحاضر .. هو منح جديد .. لتكوين قديم .. هو تواصل مصهور بتقنيات اليوم .. إحياؤه يوصل الماضى بالحاضر والغد .. هما الجرأة فى ولوج مجهول واكتشاف رؤى عالم لا يرى .. وتخطى معالم المعروف والمألوف واستلاب البصر والبصيرة ليمسح مبدأ ` الوتيرة ` وليحرك فينا لذة الارتعاش والاندهاش ويتسامى بنا لحدود البهجة .. وليتخطى بها معانى الكمال .. والمأساة أن تشعر بألم القصور عن استلهام تراثك بينما يغرف منه الأخرون..
- جميل شفيق .. والخيل والليل .. والبيداء والقمر ورومانسية فنان لا يتحدث كثيراً .. ولا يثير ضجيجاً صاخباً من حوله .. لا يعرف طريقاً إلى دهاليز ` كهنة ` الإبداع الفنى الموظف للاستهلاك البصرى تحت شعار ` المادية الجدلية` .. !! .. وبديهى أنه لا يمكن أن نعتبر أن هناك انفصاما ً بين الإحساس والشعور والعقل إذ أنها متداخلة يصب بعضها فى البعض الآخر .. لكن الإنسان عندما يريد أن يعبر أو يخوض مسألة التواصل بواسطة التعبير الفنى فإنه يستعمل لغة هى الوحيدة التى تستطيع أن تعكس هذا الشعور وهذا الخطاب .. ذلك أننا نعرف أن الإنسان مخلوق معقد بسبب غنى الأحاسيس والإمكانيات والطاقات التى يستطيع أن يستغلها .. وغاية الفن هى الوصول إلى صيغة معينة لمفهوم الحياة فى مجتمع معين .. وظرف معين عند الإنسان .. ومفهوم الحياة هى مسألة فلسفية .. والفلسفة هى صلب المنطق ولا يمكن لفلسفة الفن أن تنمو وتتطور دون الخوض فى المجهول ..
جميل شفيق .. طائر الحلم الجميل .. وأغنية الزمن البرئ..
بقلم : رؤوف عياد
مجلة صباح الخير : 17-3-1998
` شرود ` .. جميل شفيق !
- فى هذه اللوحة حصانان يشغلان معظم المساحة فى بناء تشكيلى يوحى بالجمود أو الصمود بمعنى أدق فى مواجهة قسوة الحياة وهو ما يمثل البعد الأول فى اللوحة . بينما نظرة العيون مفتوحة واتجاه رأس كل منهما عكس الآخر تعبير عن الشرود والبحث وراء المجهول فى إطار عام تختفى فيه التفاصيل ، بينما تبدو فى الأفق البعيد ملامح نخيل ، والقمر بدوره يختنق من آثام الأرض وقسوة الإنسان .
- والحصان فى الصورة رمز لمعاناة الإنسان وحيرته فى مواجهة الحياة . وتلعب الألوان دورا رئيسياً فى تجسيد الشرود حيث تختلط فيها الألوان مع بعضها ويصعب تمييز السماء من الأرض والنبات من الصحراء الجرداء . واختفاء الملامح هو شرط أساسى للشرود ومع ذلك فالألوان بالغة النعومة مع التوافق بين عنصرى اللون الأساسيين وهما البنى والأخضر.
- والفنان جميل شفيق يبدع طيلة عشر سنوات من 1983 حتى 1993 بالأبيض والأسود ، ودخوله تجربة اللون حديثاً تعتبر خطوة جديدة وجريئة فى مشواره الفنى .. وهو يفضل استخدام ألوان الأكوالين والألوان المائية حتى يحصل على الشفافية التى تتميز بها هذه الخامات مستخدماً الفرشاة أو الريشة لإعطاء إحساس بالملمس والرؤية الذاتية والخصوصية فى الأداء .
بقلم : نجوى العشرى
مجلة كل الناس : 11- 9-1995
جميل شفيق وفن الصدفة
- على مدار سنوات عديدة .. نرى الفنان جميل شفيق .. جالسا أمام شواطئ البحر المتوسط .. متأملا .. الأفق البعيد حيث تتلاقى زرقة البحر الكامدة .. مع زرقة السماء الصافية .. قبل العصارى .. واقتراب الشمس للغروب .. وفى تلك الفترة كان يجمع بعض الأشياء من طرح البحر .. بدون هدف محدد لتوظيفها .. وقطعة خشب .. بعض الأصداف .. اشياء كثيرة .. مر على بعضها مئات السنين .. ربما كانت جزءا من سفينة تحطمت منذ أجيال طويلة . أو نالت ملوحة البحر منها .. أو تفتت أجزاؤها وأطرافها من فعل توالى الامواج .. أو علقت بها بعض الاحياء البحرية الدقيقة .. التى جعلتها متهالكة .. وتغيرت مظاهر اشكالها الحقيقية .
- وفى مرسمه كان يضع تلك الأشياء التى جمعها على مدار سنين طويلة ولأنه فنان .. زاده الحلم ..والخيال .. والابتكار .. استوحى من تلك الأشياء .. أشكالا مجسمة .. أضاف إليها بعض اللمسات الفنية أو حذف منها بعض الأجزاء حتى تتحول إلى شكل جمالى مستوحى من الطبيعة ومظاهرها الجمالية .
- فدائما ما يظهر لنا جمال الطبيعة .. كواقع حى محدد تماما .. ولسن بحاجة إلى برهان أو حجة لاثباته .. ومع هذا فإن معظمنا لا يخطر بباله .. كم من المفاجآت .. يمكن أن يكشف عنها مفهوم ` جمال الطبيعة `.. ومدى الصعوبة فى إدراك هذا المفهوم .. كمفهوم تاريخى .. والحق أنه لايكفى أن نعرف .. أن جمال الطبيعة قادر .. شأنه .. شأن الاعمال الفنية - ان يمارس تأثيراً معيناً على الإنسان - واننا لا نضيف جديدا .. حين نقول ان جمال الطبيعة .. حافز قوى .. لممارسة الفن .
- ومن خلال باب الفن يدخل الإنسان إلى الطبيعة ليجد نفسه يدعو الطبيعة ` أُمّا ` له .. يقودنا هذا .. إلى طرح سؤال .. يبدو بسيطا لأول وهله .. هل للجمال وجود موضوعى ؟.. أى وجود مستقل عن الإنسان أم أنه لم ينشأ أصلا إلا من ممارسة الإنسان حياته الاجتماعية .. وان الجمال لا وجود له خارج هذه الممارسة .. تلك هى نقطة الاختلاف التى افترق عندها اصحاب الفلسفة المادية .. والمثالية عند تفسيرهم علم الجمال.
- فالعالم يتبدى لعين الفنان كما هو عليه حقا .. ولهذا يكون الفنان أقرب للحقيقة فى أكثر الأحوال .. لجمال الطبيعة .. من بعض الفلاسفة فى تذوقها والافتتان بها .. وهنا نجد الفنان جميل شفيق .. يختار اشياءه من الطبيعة .. ويرى فيها .. نوعا من الجمال الجذاب .. بعكس أى إنسان عادى .
- وهنا أعود للفنان الفرنسى ` دوبوفيه ` عندما جمع بالصدفه .. أحد الأحجار عام 1960 .. وأعجبه .. ليصير أحد اعماله الشهيرة .. وأطلق عليه ` مجمع الطحالب ` .. وقد صاغ بعد ذلك مصطلح ` نحت الصدفة ` . هذا الفن الموازى والمطابق ايضا لاعمال الفنان ` مارسيل دوشامب` فى اختياره اشياء جاهزة الصنع .. غريبة شيئا ما .. ويوقع عليها .. لتصبح عملا فنيا .. من خلال رؤيته الفنية .
- إن تحول الفنان جميل شفيق من رسومه الرائعة .. والدقيقة بالحبر الشينى.. ومن الرسم والتلوين على اسطح الاوراق المكرمشة .. حيث تأخذ اشكاله على تلك الأسطح المنكسرة .. المنخفضة أو المرتفعة أشكالا مطلقة .. محتوية على تخيلات وافكار شاعرية .. مرهفة .. إلى تلك الاشياء التى جمعها بالصدفة من طرح البحر .. على الشاطئ .. قد جاءت بعد زيارته إلى رومانيا .. واشتراكه هناك فى سمبوزيوم النحت .. حيث انجز اعمالا نحتية مميزة . من توظيفه مئات القطع الحجرية من شواطئ نهر ` توسكانا ` .. وصياغة قطعا فنية .. على شكل الاسماك الاسطورية .. الخرافية .. فى تكوينات جذابة متنافسة .. لم يطلق عليها جميل اعمالا نحتية .. بقدر ما عبر بها عن ذاته فى قيم فنية .. لأنه ينشد جمال الطبيعة .. ويستدعى أدواتها .
- إن عالم جميل شفيق .. الطبيعى .. عميق الجذور .. داخل التقاليد والاعراف الكلاسيكية المدعمة بأبعاد اسطورية .. متخيلة .. جاء بعضها بالصدفة البحتة نتيجة عين الفنان الثاقبة.. وحسه الابداعى .. المبتكر .. لذى داخل أشيائه .. اشارات وتلميحات غير مباشرة .. للنشوء والنمو .. والتلاشى .. والانحسار .. والتطور .. والاضمحلال المتوحد مع وعيه وحسه الاسطورى للزمن والتاريخ.
بقلم : محمد حمزة
جريدة الجمهورية :17-8-2006
بهاء الأسطورة فى إيقاعات النور والظل
- معرض جميل شفيق ` موال الليل والخيل `
- هذا العالم التشكيلى المصاغ من النور والظل ، من الأسود والأبيض ، من ضربات الخطوط الدقيقة القوية الممتلئة بالعافية الفوارة ، بظله البصرى حولك وداخلك والذى يحتويك بمجرد النظر، لا تملك سوى أن تترك بصرك وبصيرتك وأحاسيسك ووعيك ولاوعيك تنساق وراء ضربات الحبر الأسود التى تتجلى وكأنها إيقاعات التماس القوى والعنيف والرقيق بين يد النحات والحديد والحجر وهى تعيد تشكيلها وتبثها فى أوردته الصماء دماء الحياة ، كأنها تحييهما برؤيا النحات وإيقاعاته ، وشرارة الميلاد والخلق الإبداعى .
- فى أفق التناغم والتضاد والتجاور والحوار بين الأبيض والأسود والنور والظل تغشى العيون التباسات التشكيل وجنسه لدى الفنان جميل شفيق : هل نحن ازاء حبر على ورق أم نحت صنع من منمنمات الخطوط الدقيقة طرقاً على النحاس ؟ كل هذا الالتباس الإبداعى مرجعه زخم لوحاته التى تتسم بالغنى والثراء ، وتكاد تلمح خطوطه تفيض رقة وعذوية ، وشجن مؤسى ، وتكاد أيضاً ، وأيضا تغمرك موسيقى الخطوط ، فأنت امام لوحات مموسقة ليست جافة كل لوحة تعزف ذاتها التى اضناها الوجد وعمّق سريرتها الرمز والأسطورة .
-عند جميل شفيق ثمة مسعى إلى العودة لرحم البراءات الأولى الجذرية والعميقة ، كأنها سعى نحو الخلاص عبر احتضان الغرائز الطبيعية فى بكارتها وسويتها الأولى ، فى عمليات ميلادها الأول ، فى عنفوانها وجحيمها فى حممها ولهيبها ، وفى برودتها . هذا السعى نحو البراءة الأولى وتشكلاتها يبدو مكسياً لديه بالأسطورة والرمز الملغز ، وهو يصوغ مفردات عالمه التشكيلى من منابع تتداخل فيها الصور الأولى لهذه المفردات . فالحصان رمز القوة والحيوية والفتوة والفحولة يتداخل فيه الرمز والدلالة بين الحسى والمعنوى البشرى والحيوانى ، وتكاد لا تتعرف على ملامحه فهو مزج بين ملامحه ، وسويته الطبيعة وبين ملامح وعيون القطط المصرية كما تختزنها ذاكرتنا ووعينا فى نحت أجدادنا لها ، وفى جدارياتهم . وهى ليست محض عيون يمكن أن تجدها فى الطبيعة الحياة والتاريخ ، وانما هى عيون مقدسة لكائن مقدس متجذر فى الأسطوريات المصرية الساكنة فى وعينا الجماعى ، وروحنا الذائبة فى التاريخ . ولكن الحيوية والنضارة والعنفوان الجسدى ` لحدائق الحواس الأنثوية ` - إذا شئنا توظيف الشحنة والأخيلة الكامنة فى هذا التعبير - و ` فاكهة اعضاء البدن ` بتعبير عبد المعطى حجازى تبدو لدى جميل شفيق فاتنة ، شهية ، ولكن ثمة غموضاً وأسى يشعان من بين تفاصيلها الدقيقة ، وربما ثمة وهن يتبدى من فحيح اكتمالها بالشهوات كلها . الخيل التى تبدو مرتدية قناع القداسة هى أبرز مفردات موال جميل شفيق حولها ومعها الليل حيث الموسيقى وفتنة الجسد و ` جنة الحواس ` وكأنها مفردات الأبدية والاكتمال الإنسانى .
-وتكاد تلمح أحدى مفردات هذا العالم المصاغ من النور والظل ، والأبيض والأسود من منبع الأسطورة الثرى . وبعضه الآخر يأتى من المفردات الدينية التى يعرفها التراث الدينى المصرى المسيحى ، الثرى بعقائده ودلالاته حيث تظهر السمكة وهى تعبير آخر عن الحياة والروح الإنسانية ، تعبير وجودى فى آهاب دينى ورمزى ، تصاغ كأحد أبرز مكونات عالم جميل شفيق ورؤاه التشكيلية الساحرة . وثمة توظيف للدلالة الشعبية والفرعونية والميتافيزيقية الغامضة للسمكة وتشكيلاتها كجسد ومعنى وحياة .
- هذا التداخل بين السمكة كتعبير وجودى ، اجتماعى ، أهلى مقدس وحسى وبين الكائن الإنسانى رمزاً للحياة محمولاً فوق الرأس وفى القلب تعبيراً عن التداخل بين البشرى والمقدس والإنسانى - الجسم والشكل والكينونة والفعل الاجتماعى والحركة - يبدو هو الآخر خارجاً من قلب الموروث الجمالى للمرأة المصرية ، وتبدو لك وكأنها آتية من رسوم وتشكيلات عصر النهضة ورسوم مايكل انجلو ورفائيل ودافنتشى . هذا التداخل بين موروثات بصرية وجمالية ورمزية وثقافية ، استطاع جميل شفيق أن يبدعه فى شكل وكيان انسانى وجمالى منفرد .
- وثمة مزاوجات بين كل مفردات هذا العالم ، الخارج من الأسطورة والعائد إليها فى تنويعات أسطورية ورمزية أخرى بين العيون المترعة بالغموض والأسى والتداخل الإنسانى الجسدى والوجدانى والامتزاج بين الذكر والأنثى فلا تكاد تعرف سمة احدهما كجنس متحد ، أى ككيان واحد بلا ملامح تمييزية ، وحيث الخيل تبدو سابحة فى سديمية سحرية ، وحيث المدن ومنازل الوجود تبدو وكأنها كيانات تجريدية من الأحصنة ، عالم من السحر الأسطورى والميتافيزيقى والرمزى المصاغ من ذاكرة اللاوعى فى أغواره العميقة ، وكأن الحياة أعيدت له ، وكأن الحياة حياة جديدة تشكلت فيها مفردات اللاوعى العتيقة . وثمة تلاحم جسدانى ، وإندماج وتداخل بين الكائن الإنسانى - الأنثوى والذكرى - لا تكاد تلمح علاماته المائزة ، وبين الحياة ممثلة فى السمك وحيوانات البحر ، فى تشكيل مبدع أوجدته الأسطورة .
- وثمة ملمح جميل لدعوة كسر الأصفاد المكبلة لقوة الطبيعة كما تعكسها وجودياً وجسدانياً المرأة ككيان إنسانى ، هذه الأصفاد التى صنعت من خيوط رقيقة . هذه الطبيعة المتفجرة وجودياً بالحياة من حقها الإنسانى والطبيعى أن تكسر اصفادها الذكورية والاجتماعية والسياسية وبقوة الطبيعة ذاتها ، وبرقة المرأة ذاتها تهتك زيف رقة الدنتيلا كقيد على حريتها ككائن إنسانى جميل . وثمة أفق من الحسية التى تنطق بها خطوط وظلال وأضواء جميل شفيق ، وهى حسية الحواس وجماليات الغرائز ، على رغم أساها ، ولكنها حسية تكشف عن فلسفة للوجود الانسانى تحاول الانعتاق من أسر القيود ، وديكتاتورية الغرائز والأوثان الاجتماعية والأسطورية . ثمة سعى إنسانى حتى يغدو الإنسان أكثر إنسانية وأعمق حضوراً فى الحياة ، وأكثر وجوداً .
- عالم من اللوحات من خطوط الأبيض والأسود الفاتنة ، وأبرز ما فيها هذا السعى إلى صياغات تشكيلية فيها ملامح مصرية بكل ما فى هذا النعت من تفرد وعمق وتاريخ وابداع وتألق وفرح وخيبات وأسى . وبعض لوحات هذا الموال الناطق بالرقة والشجن والحزن والحرية هى لوحات ذات مستوى مرموق بكل ما في التعبير من دلالة وإيحاء وقوة ، وفى زمن تغلب لغة الأسواق وأخلاقياتها على لغة ورؤى التعبير التشكيلى الإبداعى . وعند جميل شفيق تستعيد بلاغة سيزان حول فعل الإبداع قوتها التى استعادها أدونيس أخيراً فى مقالته ` الشعر العربى فى منظور كونى ` حيث تنعكس الطبيعة ، تتأنسن ، تتصور نفسها فى تموضعها . وفى دروب عالم جميل شفيق لا تملك سوى الوقوع فى هوى النور والظل ، الأبيض والأسود كخطوط تمجد الجمال ويقظة الحواس والوعى واللاوعى ... ولم لا !
بقلم : نبيل عبد الفتاح
جريدة الحياة : 18-3-1998
جميل شفيق .. الملاح يفارق بحره وأساطيره
- هاتفته قبل أيام أخبرنى أنه بالأقصر .. بشرته بقرب صدور الكتاب الذى كتبته عنه وتعطل إخراجه فى الهيئة العامة للكتاب لمدة عامين .. وصلنى صوته مبتهجا وغاضبا معا ، لتسبب الهيئة فى ضياع صور لوحاته التى سلمها إليها لتنشر فى الكتاب .. قال إنه عائد إلى القاهرة بعد عشرة أيام على أية حال وسوف يسلمنى نسخة بديلة للصور المفقودة .. لكنه لم يف بوعده .. لأنه كان قد رحل !
- لم أكن أدرى أنها ستكون المرة الأخيرة التى أسمع فيها صوت جميل شفيق .. أحد الرفاق المحترمين لرحلة العمر ، منذ جمعتنا سنوات الدراسة بكلية الفنون الجميلة بالزمالك 1957 - 1962 ، وتفرقت بنا دروب الحياة وهموم العمل فى شتى البلاد ، ثم عادت فجمعتنا حول الفن والذكريات والشأن العام فى أوائل الثمانينيات ، حين أقام معرضه الأول فى الرسم بالحبر الشينى الذى عشقه وأخلص له حتى نهاية عمره ، إلى جانب القليل من اللوحات الزيتية والكثير من المجسمات النحتية بقطع الأخشاب المتهالكة التى يلفظها البحر إلى الشاطئ ، حيث عاش سنواته الطويلة الماضية فى خلوته الإبداعية بمرسمه المنفتح مباشرة على البحر بالساحل الشمالى ، وقد أصبح جليسه وأنيسه ومحرك وجدانه لساعات متصلة كل يوم ، متأملا موجاته المتلاحقة وهى تلعق الشاطئ أو تهاجمه بضراوة ، فى نظام كونى دؤوب لا يكل ولا يختل ، مطلقا زفراته الرهيبة أو تنهداته الأسطورية ، منطويا على أسراره الأزلية ، متألها بامتلاكه مصائر مخلوقاته التى تحيا فى أعماقه .
- جميل .. صوت نحيل عذب .. يرسم كما لو كان يغنى .. كما لو كان يعزف .. كما لو كان يعشق .. وحيدا أغلب الوقت حتى وهو بين الأحبة والأصدقاء .. عائشاً فى صدفته البحرية التى تضمن له الاختلاء بنفسه وعالمه الأسطورى وحلمه الممتد .. ليصنع منه مفردات إبداعه الفنى بريشته النحيلة كصوته .. على هيئة عرائس وحوريات البحر العارية الطالعة من الزبد.. يأخذ الملاح العاشق عروسه - بعد ابتعاده المؤقت عن البحر - فوق صهوة حصان أبيض يهفهف عرفه فى الفضاء .. يحط رحاله فى الغابة .. حيث تحرس حبهما الأشجار العتيقة والطيور الطليقة ، وغالبا يصطحبان من البحر سمكة كبيرة .. إنها أيقونة البحر للرزق والخصوبة والتكاثر .. ومهر الزواج من الرجل إلى المرأة .. وعربون المحبة والوفاء بينهما .
- كثيرا ما نرى فى لوحاته إنسان ينفرد بألة العود ، عازفا عليها لحنه ، فيتماهى مع أصوات الطبيعة الغافية أو الهادرة من حوله .. من طنين أمواج البحر إلى حفيف أوراق الغابة إلى حمحمة الخيل إلى صفير الرياح ، محتضنا ` عودة ` كحبيبته ، فتتردد أصداء الأنغام البصرية فى أرجاء الفضاء العريض ، وتتوحد معهما كل عناصر المشهد الطبيعى ، مأخوذة بالسحر النابع من ذبذبات الخطوط الرهيفة السوداء على سطح الورق الأبيض .
- ابن مدينة طنطا .. الطالب بالمدرسة الأحمدية الثانوية فى الخمسينيات .. كان يتقاسم حياته حُبان ، فن الرسم وصيد السمك .. وقد ظل أسيرا لهما طوال عمره ، والحقيقة أنهما كانا حبا واحدا بجناحين ، أحدهما التوحد مع الكون بالحلم والتأمل بعيدا عن ضجيج الواقع ومطالبه ، والآخر هو الكشف عن المجهول بعد طول انتظار ، إذ تأتيه السنارة بكائن حى من النهر ، وكثيرا ما كان يتلقى العقاب من أبيه لغيابه ساعات طوالا فى رحلات الصيد على حساب وقت المذاكرة ، فكانت أمه تتستر عليه أمام والده بأعذار شتى إشفاقاً عليه .. غير أن ناظر المدرسة الأحمدية المستنير المحب للفن .. الدارس فى إنجلترا .. كان يلتمس له العذر إن تأخر فى بعض واجباته الدراسية ، بل ويكافئه ببعض الجوائز ... مثل علبة ألوان أوغيرها من أدوات الرسم ، وقد يكلف أحد المدرسين بإعطائه درسا خصوصيا على حسابه لتعويض ما فاته فى بعض المواد ، خاصة إذا فاز فى إحدى المسابقات العامة على مستوى المحافظة .. هكذا أدرك منذ صغره أن الحلم قرين الفن .. وأن الصيد وليد السعى وراء المجهول .. وأن الكشف عنه هو جائزة الوحدة والصبر والدأب .
- قد تشى لوحاته بعالم رومانسى يعيش فى الأحلام ، وذلك حق ، لكنه نصف الحقيقة ، أما نصفها الآخر فهو أنه فنان يبحث عن كنه الوجود بحس كونى مطلق .. نابع من فطرة عذرية تتوحد الكائنات من خلالها فى عالم يخلو من الشر والشقاء ، تعود فيه المخلوقات عارية كما خلقت ، وتعيش بالحب والموسيقى والغناء والرقص كما ينبغى أن تعيش .. هكذا عبر فى الكثير من لوحاته .. قد ينأى عالمه من عالم الواقع بكل غلظته وصراعاته ، لكنه يبث رسالة فطرية تبشر بالسلام والمحبة .. حسبه البعض سرياليا ، لكنه لم يكن مستوحشا أو ساخرا أو صادما كالسرياليين .. كل ما هناك أنه نزع القشرة الخارجية الزائفة للمدنية وعاد إلى الفطرة الأولى ، وجعل من ذلك دعوة إلى التأمل ، وإلى الحياة الحقيقية بعقيدة الحب عبر التماهى مع الطبيعة.
- فى سنوات الدراسة بالكلية كان يقيم مع مجموعة من زملائه فى شقة بحى العجوزة من حجرتين ، أشبه بمستعمرة للمبدعين ، يعيش فيها أو يتردد عليها كبار المواهب وأغرب الشخصيات : نبيل تاج .. محمود بقشيش .. مكرم حنين .. الدسوقى فهمى .. عدلى رزق الله محيى اللباد .. جودة خليفة .. زهران سلامة .. مصطفى فاضل .. وكاتب هذه السطور .. ومن الشعراء والنقاد : سيد حجاب .. الأبنودى .. سيد خميس .. محمد جاد .. خيرى شلبى محمد حافظ رجب .. خليل كلفت : تختلف رؤاهم ومشاربهم وعوالمهم .. ويجمع بينهم الحلم بعالم جديد .. كنا جميعا نحلم بالتغيير وبالثورة .. ولك أن تتخيل اى ضجيج تصنعه - طوال النهار أو الليل - مثل هذه الكوكبة الغريبة من البشر ، الآتية من كل أنحاء الوطن ، فى مناقشات لا تنتهى حول الفن والأدب والسياسة والفلسفة .. وأى قصص إنسانية وراء كل منهم وأى مستقبل يتطلع إليه .. ثم إلى أى مصير قادته الأيام بعد ذلك !.. لكن ذكريات ` المستعمرة ` ظلت محفورة ومنحوتة فى أعماق جميل طوال عمره .. كان هو ومحمود بقشيش ونبيل تاج الأكثر صمتا وغوصا فى أعماق الذات .. وبقدر ما كان أغلب المجموعة يعيشون بقدم فى الواقع وقدم فى الحلم .. فقد ظل جميل مصرا على السير بقدميه معا فى عالم الحلم ، تنساب رسومه على الورق مع فتيات أحلامه وأطياف عالمه ، فيما تتناهى إلى مسامعه من بعيد - وهو شديد القرب من رفاقه فى الحقيقة - أصداء المناقشات والمشاحنات والحكايات والمشاغبات الصاخبة .. ولم يكن يدانيه فى صمته غير نبيل تاج ومحمود بقشيش !.
- ومن يتابع مسيرة كل منهم فى مجالات إبداعهم المختلفة يدرك أن قوة وتفرد مواهبهم وامتلاكهم عوالم مستقلة ، أكسبهم مناعة من الذوبان فى أنماط فنية أو فكرية حسيسة أو موحدة ، رغم أن المناخ السياسى آنذاك كان مهيأ وموجها لذلك ، على عكس مجالات الإبداع الفنى والأدبى فكانت تسير فى اتجاه التعدد والاستقلال ، ما كان يسمح لأصحابها بتجاور مدارس واتجاهات فنية متباينة ، تتعايش أو تتصارع دون أن يقصى أحدها الآخر .. من هنا كان الاتجاه التأملى الحالم لجميل شفيق مقبولا فى مسار الحركة الفنية بجوار اتجاهات الواقعية أو الاتجاهات الحداثية المتطرفة .
- غير أننا نظلم جميل شفيق لو حصرنا تجربته فى هذا الاتجاه الرومانسى البسيط وحده ، ولو كان قد انتهى عنده لبدا أقرب إلى الفن الاستهلاكى الشائع الذى يغازل البسطاء ، لكن ما ارتفع بهذه التجربة هو صعودها إلى أفق الميتافيزيقا أو ما وراء الواقع ، بخلق عالم غرائبى مواز لهذا الواقع ، غير محكوم بمنطق العقل والأخلاق الوضعية وما إليها ، عالم افتراضى يستمد مشروعيته من طاقة الخيال لدى كل من المبدع والمتلقى معا ، يلعب فيه البناء الفنى الراسخ - القريب من أسلوب بيكاسو فى مرحلته الزرقاء - دور البطولة ، بما يتيح قبول ` الغرائبى` فيه بديلا عن الواقعى ، كما تلعب فيه معايشة الفنان للعالم الأسطورى - فترة حياته المبكرة بطنطا ، فى رحاب ولى الله السيد البدوى والاحتفال بمولده السنوى الملئ بالمشاهد الخرافية والطقوس السحرية - دورا إضافيا .
- فى ذلك الجو كان الطقس السحرى يمتزج بالمتعة ، والعقيدة بالخرافة ، والواقعى بالغرائبى ، وتتلاشى الحدود بين المعقول واللا معقول ، حيث كان الوجدان الجمعى يستحضر معجزات القديسين والأولياء كحقائق لا تقبل الشك، حتى لو قيل أن السيد البدوى كان يلتهم ` فحل جاموس` فى وجبة واحدة ، أو أنه كان يتواجد فى مكانين متباعدين فى وقت واحد ، وكان جميل يسعى وراء حفلات الزار واستخراج العفاريت من داخل الشخص ، أو طرد الأسياد التى تركبه .. وكان يرى عن قرب حالة الشخص ` الملبوس ` ويسمع صوت العفريت أو ` السيد` الذى يتلبسه وهو يتكلم الإنجليزية من خلال غمغمات فلاح أمى أثناء غيبوبته ، حيث يقول المعالج الروحى للناس أن ذلك العفريت كان ` خواجة ` .. وقد صدق جميل ما سمع آنذاك كحقيقة ، وظل مصدقا له حتى رحيله !
- نعم .. فإن التعليم والثقافة والوعى والخبرة التى حصلها خلال عشرات السنين لم تقتل الأسطورة بداخله ، لأنها انتقلت من حيز الثقافة الشعبية لديه إلى حيز الحلم ، وقد ظهرت تجلياتها فى لوحاته لاحقا ، عبر مشاهد الموالد الدينية وأفانين لاعبى السيرك فى مشروع تخرجه ، وفى مئات العجالات الخطية المزدحمة بالبشر ، من فلاحين ودراويش وراقصات ولاعبى أكروبات ، ثم استمر يواصل رسمهم بعد تخرجه على امتداد السنين .
- وكما كان مولعا برسم المرأة الجنية ، فإن الحصان ظل حاضرا كذلك ، برمزيته للفحولة والفروسية والكبرياء والرشاقة الذكورية ، ولتحقيق التكامل بينه وبين المرأة نراه عنصراً متلازماً معها فى بعض الأحيان ، ومنفردا مختالا بجماله فى كثير من الأحيان .
- وكان القط الأسود حاضرا بدوره ، بايحاءاته السحرية منذ عصور مصر القديمة ، وتغلغله فى الوجدان الجمعى وفى الثقافة الشعبية .. متربصا.. متسللا .. غادرا .. ناعما .. شرساً .. مليئا بالغواية الجنسية الشريرة .. أو حارسا للإنسان من القوى المجهولة .. أو كاشفا فى الظلمة بعيونه السحرية مالا نراه بأبصارنا .
- فى معتزله على شاطئ الساحل الشمالى اهتدى عام 2008 إلى عطايا البحر من مخلفات السفن كبقايا الصناديق والعوارض الخشبية وما شابهها ، مما تلفظه الأمواج على الشاطئ ، راح يجمعها فى شغف ، مطلقا العنان لخياله كى يحيلها إلى أعمال فنية ويستخلص من ورائها حيوات أخرى تحمل بصمات الإنسان عبر الزمن ، وببعض الحذف أو الفك والتركيب أو إضافة مسامير أو قطع عضوية مما يلقيه البحر كالقواقع والشعاب والكائنات العضوية المتكلسة ، مع قليل من اللمسات اللونية ، استطاع أن يشكل عالما افتراضيا متكاملا من التشكيل النحتى ، يحمل رموزا من عالم الإنسان والطبيعة ، برؤية جمالية فريدة تجمع بين النحت والتصوير والعمل الفنى المركب ، مما يجعل بإمكان المشاهد تأويلها إلى معان شتى فى علاقة الإنسان بالكون .
- أخيرا .. ها هو الملاح والفارس الحالم يترجل وقد وهن العظم منه ، ويفارق بحره وحصانه وأساطيره ، وينطلق وحيدا إلى عالم الأبدية ، تزفه عرائس أحلامه بموسيقى كونية ، تاركا لنا إرثا لا يغنى من الإبداع والتأملات.
بقلم : عز الدين نجيب
جريدة أخبار الأدب : 1-1-2017
جميل شفيق ينتقى عناصره من طرح البحر
- فى معرضه الأخير بقاعة إكسترا
- يطرح البحر على من يعايشه رؤى خاصة ، تنبع من التأمل فيما وراء الأفق ، والتخيل لما يكتنزه فى أعماقه من أسرار، والخوف مما يكظمه من غضب ينذر بالهلاك ، والرجاء فى خير تخرج به الشباك مليئة بالأسماك ، والحلم بما يحمله المجهول من وعود .. لكن الفنان جميل شفيق فى معرضه المقام حاليا بقاعة اكسترا بالزمالك تحت عنوان ` طرح البحر ` يضيف إلى كل ما سبق أشياء مادية ملموسة من طرح البحر على الشاطئ الذى أقام مرسمه بالقرب منه ويعيش فيه أغلب شهور السنة فى مدينة الصحفيين بالساحل الشمالى فمنذ سنوات يستيقظ مبكرا كل صباح ويسير على امتداد الشاطئ وعيناه مركزتان على الرمال بحثا عما طرحته الأمواج من فضلات هى بقايا أشياء كان الإنسان يستخدمها داخل البحر .
- إما خلال طلعات الصيد أو رحلات السفن .. إنها أشياء قد لا تثير إهتمام الإنسان العادى لكن عين الفنان تكتشف فيها الكثير من الخيالات والمعانى والرؤى الفكرية والجمالية والكثير أيضا من المعانى الإنسانية التى تسرى فى موادها الجامدة .. من صناديق وألواح خشبية ومعادن وزجاجات وأدوات ففيها لا تزال بصمة الإنسان وذكريات استعماله لها ، ممتزجة بالتوقعات الدرامية حول مصير أصحابها الذين قد يكون البحر قد ابتلعهم ولم تحمل إلينا الأمواج إلا مخلفاتهم ، فإذا أضيف إلى هذه المخلفات ما يلفظه البحر من قواقع وشعاب وكائنات عضوية متكلة ، أصبح لدى الفنان عالم افتراضى متكامل من رموز تمثل عالم الإنسان وعالم الطبيعة معا ، فيعيد تدوير مفرداتها ليشكل من خلالها عالما ثالثا خاصا به وحده حول معنى الحياة وعلاقة الإنسان بالكون .
- ومنذ اختار جميل شفيق هذا الاتجاه تغيرت لديه مفاهيم وتأكدت مفاهيم أخرى فقد تغير لديه مفهوم الشكل الفنى بتصنيفاته التقليدية بين الرسم والتصوير والنحت والعمل المركب ، بما يفرض على الفنان تخصصا بعينه يظل مخلصا أو أسيرا له طوال رحلته الفنية ، خاصة إذا كان هذا مجال دراسته الأكاديمية طوال أربع سنوات متصلة ، إلى أن يكون الشكل فى مفهومه الجديد استجابة تلقائية للحالة الشعورية والخامة المتاحة للتعبير عنها ، فلا يعنيه أن يصنف عمله فى أى فرع أو تخصص ، بل يعنيه أن يكون صادقا ومتجددا فى تعبيره وتطوره الفنى ، وقد يكون بذلك قد التقى مع كثير من الاتجاهات الفنية الحداثية التى شهدها العالم على امتداد القرن العشرين وحتى اليوم ، بدءا من الدادية وليس انتهاء بما بعد الحداثة لكن المرشد له لم يكن الإتجاهات الحداثية ولا تجارب فنانى الغرب ، بل كانت هى اكتشافاته العفوية خلال تجربته الذاتية .. كل ما هناك أنه ترك لنفسه العنان بغير محددات جاهزة أو تخطيطات مسبقة ، وفى الوقت ذاته كانت كل خبراته المتراكمة عبر تجربته الفنية طوال ثلاثة عقود كرسام ومصور تتضح بشكل عفوى على أشكاله الجديدة فتلغى الحدود بين الرسم والنحت والتصوير وللمشاهد أن يختار ما يناسب رؤيته لها إذا كانت أميل إلى النحت أم إلى التصوير ذلك أنه لا يتردد فى إختيار قطعة غليظة من الخشب المتهالك فى البحر يحذف منها ، أو يضيف إليها مواد أخرى ، حسبما تتبلور فى خياله ، ثم يلجأ إلى الرسم فوقها بلون واحد ، أو الحفر فيها بسنون رفيعة ، أو التصوير عليها بألوان زيتية ، كما أنه لا يتردد فى أن يتخذ من لوح خشبى مسطح مادة يفرغ فيها أشكالا تشخيصية جديدة فتصبح مشخصات سلبية تتراءى من خلفها الأشياء ، ويمكن أن يفعل العكس ، بأن يفرغ لوح الخشب حول حدود المشخصات فتصبح مثل شخصيات خيال الظل المسطحة .
- أما المفاهيم التى لم تتغير لديه بل تأكدت فى تجاربه الجديدة ، فهى المضامين التعبيرية الإنسانية التى تجمع بين الواقع والأسطورة والحلم .. نفس عالمه القديم الذى عهدناه فى معارضه السابقة فى الرسم بالحبر الأسود على الورق .. ذلك العالم الذى تتوحد خلاله الكائنات جميعا .. من إنسان وحيوان وطير ، ومن عناصر الطبيعة فالشمس والقمر والبحر والأمواج والرياح والسحب والكثبان الرملية . ليس بوصفها خلفيات لأبطاله من الكائنات الحية بل كشخصيات تلعب أدوار رئيسية فى اللوحة .. وتتفاعل مع شخوصها الحية ، بل وتحركهم وتثير خوفهم أو تدفعهم إلى التماسك أو توجههم إلى معانى الخير والحب والخصوبة ..إنه معنى يؤكد تكامل الكون ، ويدفع إلى تأمل الوجود ، وعماد هذا الوجود هو الحب ، الحب بمعناه العضوى ، عبر تلاحم جسدى المرأة والرجل فى كثير من أعماله ` بعيدا عن الدوافع الشهوانية ` وبمعناه المجرد كقيمة مطلقة تسرى فى كل الوجود وهنا نلاحظ أن أسلوب جميل شفيق سواء فى تجاربه القديمة بالرسم بالحبر أو الجديدة بالتشكيل بالمجسمات الذى يحتوى الرسم بداخله ، لا يزال محافظا على الأسس السليمة للرسم والتجسيم محترما قيمة الخط بانسيابيته وغنائيته وشاعريته وقيمة النسب الطبيعية للأجسام والأشكال وقيمة التجسيم الأسطوانى بالظل والنور ، كما يحترم جسم المرأة بأثنويته الطاغية كرمز للجمال والعطاء والخصوبة .. وفوق ذلك كرمز للتحرر والانطلاق وكشكل جمالى أيضا يملك كل إيقاعات الحركة بمنحنيات جسمها وخصلات شعرها كما نجده حريصا فى تجربته الجديدة كما كان سابقا على ثالوث عالمه القديم ، السمكة ، الطائر ، الحصان ، بما يعنيه كل منها من رمزية لقيمة معينة كالخصوبة والخير بالنسبة للسمكة وكالحلم والتحليق بالنسبة للطائر ، وكالنبل والفروسية بالنسبة للحصان ، وفى ذات الوقت نجده حريصا على الطابع الأيقونى لأشكاله ومشخصاته ، ففى كثير من الأحيان تبدو وجوه أشخاصه المرسومة على ألواح الخشب المتأكلة من طرح البحر - أقرب إلى وجوه الأيقونات القبطية للقديسين بنفس الأسلوب المتبع فى الفن القبطى القديم ، وفى أغلب الأحيان يبدو العمل الفنى فى مجمله رمزا أيقونيا ولو لم يشتمل على وجه إنسانى ، فهو علامة دالة على معنى وجودى مطلق أكثر مما هو حالة حسية مجسدة . وربما نلاحظ أخيرا أن نسبة الحركة الجسدية فى خطوط المشخصات ، أو نسبة الحركة التصميمية لخطوط العمل فى مجمله قد تضاعفت فى هذا المعرض بالنسبة لأعماله السابقة فى الرسم أو المجسمات أنه يحيل العمل برغم أنه كتلة متماسكة إلى علاقات حيوية متفاعلة ليس بين بعضها البعض فحسب بل بينها وبين المحيط الفراغى حولها أيضا ، وهو ما يتضح بقوة فى أشكاله المفرغة فى ألواح الخشب حيث تصبح الفراغات بدورها أشكالا سالبة فى علاقة حوارية مع الأشكال الموجبة ، وهو ما يتضح كذلك فى تكويناته المزدحمة بالبشر وقد تداخلت أجسادهم وأطرافهم فى حيوية دافقة .
- لكن يبقى لجميل شفيق دائما حسه الرومانسى الذى يتغنى بالحب والشعر ، وأسلوبه التشكيلى القادر ، ببساطته - على التواصل مع مختلف الأذواق ، ونبضه المصرى النابع من الوجدان، حتى لو خرجت عناصره من أعماق البحر ، أو لو اتخذ سمتا سرياليا.
بقلم : عز الدين نجيب
جريدة القاهرة : 18-11-2008
الابداع نص لا ينجز خارج الذات
- جميل شفيق يعرض أعماله فى القاهرة
- جميل شفيق فنان تشكيلى مميز لم يقم سوى ثلاثة معارض كان آخرها فى صالة ` داد ` فى مقر هيئة التبادل العلمى الألمانية فى القاهرة ، ضم سبعاً وثلاثين من اللوحات غلب عليها الأبيض والأسود عدا لوحتين ملونتين . وشفيق من مواليد العام 1938 تخرج فى كلية الفنون الجميلة سنة 1962 ودرس النقد الفنى ` دراسة عليا ` فى ` معهد التذوق الفنى ` فى القاهرة ولم يكمل دراسته .
- تميزت أعمال شفيق فى هذا المعرض بتعدد الأشكال التى اشتغل عليها او أعاد تشكيلها فافصحت عن قدرته على تطويع القلم Rapido Graph ) ) فى تشكيل الفضاء العام للوحة التى نقل إليها اشكال التقطها من مشاهدات الحياة اليومية : الجاموسة - القط - الحصان - الأبقار - المرأة - الرجل - السمكة - الأشجار - القوارب - الطيور - اضافة إلى تخطيط اللوحة بأشكال معمارية وهندسية لا تعتمد المتعارف عليه ، فى أعمال عوالمها غرائبية واسطورية ، فصيحة الأشكال ، أحياناً، ومغطاه بأردية احيانا أخرى وهلامية فى بعض اللوحات .
-` ثمة عوالم خفية فى الحياة - يقول شفيق - وأنا مهموم بالانسان فى كل حالاته ، والخفى منها مغر وباعث على التفتيش `. فى هذه اللوحات صير شفيق خطوط الحبر البسيطة فعلاً جمالياً ذا قيمة ، اذ تحدث خطوطه فى دقتها وجرأتها كل المساحات والحواجز فى سعيها إلى تشكيل فضاء اللوحة فى تناغم يشبه النسج فى صناعة الغزل والنسيج : ` تكنيكيا تنهض تجربتى على البنائية - يواصل شفيق - اذ أن اضافة خط إلى اخر يشكل مع بياض اللوحة اجواء ساحرة فى ما يوازى شفافية الالوان ودفئها (...) هذا التكنيك يمكنه نقل التعبيرات الانفعالية والتلقائية خلال انتقال الخطوط حسب الحالة التعبيرية ، فمن الخشونة إلى النعومة ومن الرقة إلى الغلاظة ، ومن التقاطع إلى التوازى ومن التشابك إلى الاستقامة (...) هذا القلم Rapido (Graph) كان كريهاً بالنسبة إلى ، لما يفرضه على من أسلوبه الخاص وعالمه الصارم ، لكن خلال الصراع الدائم معه ومع فضاء اللوحة استطعت تطويعه وصارت لذة العمل به لا تضاهيها لذة ، ايا كانت ، (...) احيانا احضر الرسم بالقلم الرصاص ، قد تبدأ الممارسة الابداعية عندى من تخطيط او فضاء او شخبطات وتفشل أحيانا إلى حد تمزيق القماشة ومرات تنساب العملية التشكيلية بتدفق ولذة مشتهاة `.
- هذه اللوحات تضم عوالم غرائبية ذات أبعاد اسطورية ، ينقلها شفيق ، كما يقول ، متأثراً أحيانا بالحياة اليومية ، فالمرأة العارية يراقبها القط ، بينما الحصان يتطلع إليها من عل ، يحرسها ويراقب حركتها . والسمكة تتحول إلى امرأة والعكس أيضا ..`
- السمكة هى الزائر الدائم لكل لوحات المعرض : ` من حوار الصيد جاءتنى السمكة ، يستطرد جميل شفيق ، فى الصيد تدخل السمكة مع صائدها فى حوار . اسعى إلى نقل اجوائه الحسية وحالاته المشحونة بالتوتر والقلق وما تثيره من فرح ونشوة . والسمكة فى ذاكرتى قال حسن ، أليست هى التى رأت اضطهاد الرومان وهى تشير عند الأقباط المصريين إلى دلالات عميقة : انها الرزق عندما تزور الحالم .
- وحضورها التشكيلى تلقائى كأى معرفة فى المخزون الثقافى والوجدانى ، وهى أول ما أكله انسان الشواطئ (...) وهذه الأشكال على اختلافها تنطلق من الذاكرة البصرية وهى عندى غنية لتعدد مصادرى الجمالية والتشكيلية ، ففى الواقع المصرى فضاءات الصحراء الغربية وواحاتها وغرق النوبة الذى يعنى لى ` موت الجمال ` بكل ما تعنيه الكلمة ، وكذا زياراتى لافريقيا ` الملونة ` ومشاهدتى لتعدد اذواق الناس فى الصومال والسودان وشواطئ البحر الاحمر المترعة بالخضرة والمياه والجمال ، فى كل اشكاله وافادتى من عملى فى قسم محو الامية فى منظمة ` الالكسو ` حيث استخدم الرسم كوسيلة تعليمية وما حققته هذه التجربة أغنى تجربتى كثيراً (...) وبعد اقامة المعارض اكتشفت ان الجمهور هو الناقد الحقيقى وافادتنى الحوارات المفتوحة مع زائرى المعرض كثيرا ، (...) الاسود على الابيض جاء من هذه الذاكرة التى شكلت رؤيتى إلى العالم وعلاقتى به ، زماناً ومكاناً ، ومن خلال الرسم بالاسود والابيض احقق قدرا من الذات واعبر عما تعتمل به دواخلى أليس الابداع فعلاً لا ينجز خارج الذات ` ؟
بقلم : محمد الأسباط
جريدة الحياة : يونيو 1993
رحلة تفتيش فى أعماق رجل عن عشق الأنوثة!
- يدهمنى دائماً الإحساس بأن المدن تخوننى . نعم فحين أنظر بعيون التذكار إلى القاهرة فى أعوام الثورة الأولى ، فأنا أراها مدينة شابة ريانة ، يمكنها أن تترك موقعها كصرة تربط الصعيد بالدلتا ، وأن تذهب من فورها إلى شاطئ الأنفوشى لتتبختر بالملاية اللف ، فأسير وراءها وأنا أرتدى السروال الإسكندرانى الأسود ، نفس السروال الذى يرتديه أهل ميناء بيريه فى اليونان ، وأهل الشاطئ اللبنانى ، وأهل جنوب إسبانيا ، فكل رجال المتوسط يرتدون نفس السراويل ، لكن ليس كل نساء تلك المدن يرتدين نفس الملابس ، وكأن نساء المتوسط يردن فرض سلطان جمال مختلف بملابس مختلفة من ميناء إلى آخر .
- أفقت من جنون خيالى الذى أتوهم فيه أن المدن تخوننى فلا تحتفظ برونقها الذى كانت عليه، وأعيد النظر إلى المرأة ، فأجد أنى مارست نفس خيانة المدن ، ولم أعد أحتفظ بنفس براءتى القديمة ، وأفيق على محاولة التنفس ، فجاء الهواء إلى أنفى وكأنه هواء مكتوم أشم فيه رائحة من تنفسوه قبلى ، ومن المؤكد أنها كانت أنفاساً تحمل آهات القهر المكتومة .
- ولم أجد مفراً أمامى سوى أن أدخل إلى أقرب مكان يمكن أن يقدم لى علاجا مجانياً لجنونى المتجدد وزهقى المتراكم ، ولم يكن المكان بعيداً عن قدمى ، فأسرعت إليه ، إنه قاعة بيكاسو للفنون بشارع حسن عاصم بالزمالك ، حيث يعرض لجميل شفيق معرضه الجديد تحت عنوان ` تنويعات بالأبيض والأسود ` وهو عنوان مختال وغير حقيقى ، وفيه لون من التواضع الذى لا أحبه ، لأن لوحات هذا الفنان تمثل كل منها مدينة تستحق أن يقيم فيها الإنسان ، فكل لوحة أكثر حقيقية من الحياة الكرتونية التى نحياها فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وأحمد الله أنى لم ألتقى بجميل أثناء زيارتى التى عالجتنى فيها لوحات معرضه ، تلك اللوحات التى تموج بجمال لم يعد مألوفاً عند العديد من فنانينا ، فبعضهم يظن أنه قد يعلو على اللوحة لمجرد الحرفة ، ويتناسى أن دفقة الإحساس هى التى تجعل اللوحة مدينة من الإحساس نخطو إليها بمشاعرنا المرتبكة كى تعيدنا مرة أخرى ونحن مولدون من جديد ، وسر حمدى وشكرى للسماء لأنى لم ألتق بجميل فذلك لأنى كنت سأتشاجر معه ، لأنه يمارس تواضعاً لحظة أن يكون من حقه ممارسة الفخر بلوحاته التى ترفعه إلى ذرى الفن العالية ، وهى تهمس بموسيقى من صدق لم يعد موجوداً فى زماننا إلا فيما ندر ، وكان عليه أن يقول لنا بصوت هذا الفخر ` تعالوا إلىّ أيها المتعبون المكدودون كى تستردوا إنسانيتكم التى تتآكل منكم بفعل حالة الكذب العام الذى تعيشه كرتنا الأرضية ` ، ومن المؤكد أن جميل لو كتب تلك الكلمات على بطاقة الدعوة لهذا المعرض ، لوقف أمام بابه كثير من البشر فى طوابير طويلة ، ولكنه مارس التواضع الذى لا يليق بقامة أو قيمة أى لوحاته تلك ، فكل واحدة منها تثبت دون أدنى تردد أننا أمام فنان استطاع أن ينقذ نفسه وعيونه وخياله ، ومضى كأهل التصوف ليعيش بعيداً عن القاهرة ، ليروى ماذا فعلت به التجارب وكل تجربة بالنسبة إليه - كما هى بالنسبة لى - تبدو كامرأة أعانقها ، ولذلك تخيلت أنه يحكى تجارب العناق تلك ويروى كيف عاش رحلة تفتيش فى أعماق رجولته عن ملامح من وقع فى عشقهن من ذوات الأنوثة التى يمكن أن تدخل رحمها بمجرد أن تنظر إليها لتعيد ميلادك من جديد .
- ولكن جميل لم يفعل ، ولو كنت قد التقيت به لتشاجرت معه ، ولأعدت رجائى إليه أن يمد فترة العرض ، لعل البشر تفيق فتغسل نفسها من حالة الكدر العامة ، ونعيد فهمنا للحياة وما تفعله تصاريفها فى الإنسان ، ولكننى لم ألتق به حتى كتابة هذه السطور ، فهو مازال يتدثر بتواضعه الحقيقى ، ويمارس إيمانه بأن التكبر فى الفن ، يعنى أن يكرر الفنان نفسه فتموت منه القدرة على إبصار ما يفعله ضوء السماء حين ينعكس على الجسد البشرى ، وهو من خلال إيمانه يواصل سماع تلك الموسيقى الخفية التى يأخذ من نهلها بعضا من إلهاماته ، التى تقترب بك - حين تراها - من حالات أهل التصوف ، هؤلاء الذين يلتقون بمن يسكنون السماء دون حواجز ، سواء أكانت حواجز الإطماع الصغيرة التى تسرق عيوننا من أماكنها ، لتسافر إلى رغبات الشراء للبضائع التى يشتريها سادتنا ، ليتوهموا أنهم الأرقى منا ، على الرغم من أن ما يشترونه من سيارات فارهة وملابس مستوردة من باريس أو غيرها من عواصم العالم ، ليست إلا وسيلة يتسولون بها مكانة الاحترام فى عيوننا ، ذلك أنهم يعلمون تماماً أن أناقتهم المبتذلة ، وثرواتهم المشكوك فى مصادرها ، لا تستطيع أن تغطى فى عيوننا أو عيون أعماقهم أنهم مجرد خواء كالذى يبرق فى أعماق أى جلاد وهو يتوسل إلى ضحيته كى تتألم ، فبتألم الضحية يشعر الجلاد بقيمة ما يفعل ، ومن العجيب أن الجلاد يتلقى قدراً مضاعفاً من الألم النفسى ، حين تعلن الضحية عن ألمها ، ويتلقى إهانة لا حدود لها إن لم تعلن الضحية عن ألمها ، ومن يرغب فى معرفة حدود الإهانة أو حدود الألم الذى يعانيه الجلاد ، فليستدع أى منكم فى ذاكرته ملامح الرئيس بوش أو نائبه ديك تشينى ، ولسوف يرى قدر الألم والإهانة على الرغم من قدرات كل منهما المادية على تعذيب غيره ، وحين أذكر بوش أو نائبه فذلك لأنهم على قمة سلسلة الجلادين فى عالمنا .
- وقد يندهش أحد لأن سيرة السياسيين الكبار قد جاءت فى خيالى أثناء معرض للوحات رائعة ، ولكن الفهم الحقيقى للفن يؤكد أنه يسبر جوهر اللحظة والتاريخ والجغرافيا فيرى الإنسان بعيون الخيال كل التفاصيل التى تحيط عصره وزمانه .
- إلهامات أهل التصوف التى تعزف موسيقى شديدة النقاء تشرب بها جميل شفيق إلى ما غير حد، وقد تراءت لى تلك الحقائق والرؤى وأنا أدور بعيونى فى معرضه ، حيث شفافية الرسم وقوة الإبداع وحنان ما تهبه لك اللوحات من إنسانيتك التى يسرقونها منك فى الشارع وفى قنوات الفضاء ، بل يسرقونها حتى فى المقابر ، نعم هذا ما أحسسته وأنا أسمع فى الإسكندرية إثنين من المقاولين يتساءلون `ماذا يستطيع أى منهما أن يفعل كى ينقل مقابر الأجانب من موقعها` وهم طبعاً لا يعلمون أن فيها تماثيل من نحت سادة الفن فى زماننا مثل رودان الفرنسى ، لكنهم يفكرون فى كل أرض كفرصة لإخلائها من المصريين كى يبيعونها كمساحات أرض خالية ، أليس من حق المقاول المصرى أن يزحم الإسكندرية بخوازيق أسمنتية مثل تلك التى يرغب مجلس جامعة الإسكندرية فى زراعتها بدلاً من مستشفى الولادة الواقع بجانب المكتبة ، أو على أرض مجمع الكليات النظرية التى يتلمظ المال الفائض من ثروة البترول الرعناء كى يحولها إلى خوازيق أسمنتية ، وهذا ما حدث فى الإسكندرية بعد زراعة خازوق اسمه سان إستيفانو ، وتم توسعه طريق الكورنيش كى تلتهم الحوادث أربعة أو خمسة أفراد من أهل الإسكندرية كل يوم ، ونفس الفعل يوجد فى القاهرة دون أن يلحظه أحد ، وكل ذلك باسم الاستثمار ، ولم يقل أحد أنه نوع من قهر الحياة المصرية على الاستكانة وليتحول المصريون إلى مجرد عجين يتم تشكيله على هوى الوزارات المتتابعة ، منذ بداية القرن العشرين وحتى لحظاتنا الحالية .
- حملتنى لوحات جميل شفيق بعيداً عن تلك الهموم جميعها ، وكأنه قدم نيابة عنى استقالته للتواجد فى الزحام ، فأنا أعلم أنه ومنذ عدة أعوام ترك القاهرة ليعيش فى قرية صحراوية بجانب الإسكندرية وقريبة من البحر ليستلهم من تذكاراته كل جمال يمكن أن يهبه للوحاته ، بعد أن عاش معنا هنا فى الزحام القاهرى ، هذا الزحام الذى إن وضعناه تحت المجهر ، فلسوف نرى رحلة البحث عن وقائع اخترعناها بالكتابة والخطابة والمهرجانات السياسية ولم نحققها فى حياتنا ، وأعنى بها وقائع احترام سكان مصر الأصليين .
- لم أتخيل أن فى مقدرة فنان مهما بلغت قوته أن يرحل فى خيالى الخاص ليفتش ويستخرج من أحببت من النساء ويرسمهن ويعلق صورهن على الحائط فى قاعة بيكاسو ، ولكن هذا الفنان استطاع أن يفعل ذلك ، فقد هبطت عليه من شفافية الرؤى أحزان وأفراح رجل فى مثل عمره عرف العشق ونال من شجرة الأنوثة العدد الأوفى من التجارب ، فرأى هذا الخصب الونسان الذى حلمت به منذ دخولى إلى دنيا الرجولة .
- ولا أحد يستطيع تجميع من أركان ذاكرته صور كل من أحب النساء - أو اشتهى - فنساء الذاكرة دائماً يتراقصن إما بلحظات العناق أو بلحظات الوجد الفرحان ، ولا أحد فينا يتذكر كروب رفض امرأة له ، فأن تكون رجلاً يعنى أن من تعرفت عليهن من النساء ذبن فيك عشقاً.
- وتبدو التذكارات مليئة بدفء غير موجود فى الواقع الذى نحياه ، ولذلك ينقذنا الفن حين يقدم لنا لوحات تتحدث مع خيالنا لتنجيه من الكروب الصعبة .
- أتابع بعيونى المشدوهة النساء على اللوحات ، وأتساءل كيف استطاع أن يرصد حتى اختلافى عن العديد من الرجال ، لأنى أوازن فى تذكاراتى بين لحظات خيبتى ولحظات انتصارى ، فأنا لا أخجل من خيباتى فى الحب ، وإن كنت آتية فخراً بانتصاراتى فيه ، وفى لحظات الانتصار العاطفى أذكر نفسى أن الرجولة كحالة إنسانية ليست انتصاراً متجدداً لا تقترب منه الهزيمة ، وهى أيضاً ليست هزيمة مستمرة لا يعرف فيها العاشق طريقا إلى النجاة من الحصار بالشوك.
- وأكاد أصرخ أمام لوحة العناق متسائلاً ` من آذن لك أن تتجول فى غرف تذكاراتى كى تستخرج منها لوحاتك ؟ ` وبطبيعة الحال لم أسمع منه إجابة لآنى أعرف أن الفن المتميز هو الذى يأخذك من لحظاتك المبعثرة كى يضعك فى زمن مختلف، زمن لا تتخانق فيه مع نفسك وتذهب إلى إعادة ترتيب أعماقك كما لا يمكن لأحد غير اللوحة الرائعة أن تعيد ترتيبك .
- هأنذاك أرى لوحة لامرأة واحدة تسافر بى إلى الإسكندرية ، حين دق الحب باب قلبى لأكثر من مرة فى دقات متتابعة ، وكأن كل امرأة - أو فتاة - التقيت بها فى كل عمرى قد جاءت إلى لوحات جميل شفيق لتقول لى ` أين أنت ؟ لماذا لا تحتضننى ؟` حتى النساء اللاتى هجرننى وجدت جميل شفيق قد استدعاهن وقام بتخليص جمال ما فى أعماقهن من نزق وكبر، وسمعت بعيونى أكثر من واحدة منهن وهى تقول لى بكلمات واضحة ` حين تكبرت على التجربة معك ، لم أهزمك وحدك ولكنى هزمت نفسى أيضا` وكنت أمام اللوحات أرى اعتذارات من كسرن قلبى ، أنا الذى أذبت عمرى انجذابا إلى ضوء الأنوثة ، وكأنى الفراشة التى تتنقل ما بين الأزهار .
- هل أقول أنى رأيت فى بعض ملامح النساء اللاتى رسمهن جميل شفيق هذا النسيج السكندرى للأنوثة ، حيث تمزج فى خلايا كل امرأة بعض من هوس الإيطالية بفعل العناق ، وجنون اليونانية بموسيقى الاحتضان ، واشتعال الإسبانية بفعل الرقص ؟
- هل أقول أنى رأيت فى لوحاته من كانت ترتدى الملاءة البلدى لتخطو على شاطئ الأنفوشى بالنداء الحقيقى لفعل الخصب ، ثم أرى فى لوحة أخرى تلك التى التقيتها ذات مساء مجنون فى محل إيليت حيث كان صاحب المقهى اليونانى مخالى قد جعل من القاعة العلوية من المحل صالة رقص وعلمتنى فى ذلك المساء كيف أراقص المرأة دون أن أدهس أقدامها بخطواتى أو أقترب منها بفعل الكبت كى أرتوى من أنوثتها دون أن نكون فى مكان مغلق كى ترتوى هى معى أيضاً ؟
- أكاد أن أصرخ فى لوحات جميل شفيق قائلاً : من أذن لك بالتجول فى مدن أعماقى لتستخرج كل من عرفت من النساء ، سواء من أذبتهن عشقا ً أو أذبننى خجلاً وهن يرفضننى؟ ولكن تلقين من نفس الإجابة ، وهى أن جميل شفيق ترك رعونة القاهرة إلى القرية القريبة من البحر والقريبة من الإسكندرية فوهبته الرياح القادمة من الإسكندرية صور من أحببت من النساء ، فمدينتى الإسكندرية هى التى أذابت حضارات العالم فيها ، وكل امرأة ولدت أو عاشت فيها يمكن أن توجز عالماً خاصاً بها يذوب فى الهواء ليسافر من خلاله إلى خيالات الفنانين وأبداعاتهم .
- أضحك حين أصل إلى تلك النقطة من حديث الخيال ، وأتذكر ملامح فنان الإسكندرية الأشهر سيف وانلى ، حيث كان يحدثنى بكلماته القليلة ، إجابة عن تساؤل لى : لماذا تطل لغة أخرى يفهمها الرجل من خطوات النساء ؟ فضحك وهو يقول لى ` ومن قال لك أن الكلام يكون باللسان ` إن دقة خطوة صاحبة الملاية اللف على أرض الكورنيش فى الأنفوشى لها لغة موسيقية عليك أن تسمعها ، وهى تختلف عن خطوات الريفية التى تسير لتظهر أنوثتها حتى من خلف الجلباب الأسود المنسدل على كل الجسد ، وهناك لغة ثالثة تتحرك من كل الجسد الأنثوى لطالبات المدارس الثانوية ، حين تحتضن الواحدة منهن مجموعة كراسات إلى نهديها ، وكأنها الحبيب الذى يجب أن يأتى هنا ضحكت أنا للفنان سيف وانلى : ما أصعب لغة الخطوط التى يقرؤها الرسام المصور ، فراح يؤكد لى: إن الكلمات ليست اللغة الوحيدة ، بل هناك عشرات المئات من اللغات فى الإنسان الواحد ، وهى لغات لا تختلف من كائن إلى آخر ، ولذلك فالرسام المصور هو أبرع من ينقل لك تلك اللغة بالألوان واللوحات.
- ولم يكن غريبا أن يفتتح هذا المعرض واحد من سادة زماننا الفنان النحات المصور آدم حنين، فآدم لا يمكن أن يبتذل خطوات أقدامه إلى أى قاعة لا يحترم فيها الفنان دفقة الإلهام ودقة الإحكام المتقن .
- وسيظل معرض جميل شفيق الذى فتش فيه عن كل نساء خيالى بخطوطه السوداء على اللون الأبيض شهادة أحبها لتاريخى فى العشق ، وليس لى سوى أن أشكره لأنه قام بتأريخ انتصاراتى وهزائمى عبر تلك اللوحات.
بقلم : منير عامر
مجلة صباح الخير: 20 - 11-2007
فى وداع جميل شفيق
- كنت اليوم الأثنين على موعد مع الصديق والفنان الكبير جميل شفيق .. لكى نلتقى بالأقصر. حيث يستضيفه ملتقى الأقصر الدولى التاسع للتصوير .. ليشارك بأعماله الفنية الفريدة .. فقد سبقنا بالسفر مع فنانى هذه الدورة المميزة .. يوم الرابع عشر من ديسمبر الجارى .. واليوم كنا سنحضر حفل تكريم الفنانين المشاركين فى هذه الدورة .. وكان الفنان جميل شفيق من الفنانين الحريصين على حضور هذا الملتقى .. ولكن لم يمهله القدر ليكمل لوحته الأخيرة .. وفارق الحياة ظهر الجمعة .. أثر نزلة برد حادة .. تاركا لنا فراغا فنيا قد لا يستطيع ان يشغله أحد غيره .
- فالفنان التشكيلى جميل شفيق عاشق للرسم بالأسود على مساحات الفراغ المتسع بالأبيض .. كان هاجسه الأول هو العودة للحمية المفتقدة بين البشر .. وعالم الكائنات المتناثرة من حوله لذلك تميزت مفرداته بالعودة للطبيعة البكر .. رافضا العوالم المصنوعة من حوله بلا صدق .. وبلا روح .. أو حميمية .. فقد نجح جميل شفيق فى أن يخلق لعالمه مفردات خاصة جداً .. ذات حيوية من ناحية .. ورؤية فلكلورية ضاربة فى عمق التراث من ناحية أخرى .. ففى أعماله مفردات ذات دلالات يلتقطها من الحياة .. كالحصان .. والمرأة .. وصلصال الطيور وهذه المفردات دائما ما تزين لوحاته .. ولكن نجدها تنطلق فى المطلق .. فى الهواء العارى . حيث الحرية .. والسماء المفتوحة .. وهذه العناصر والرموز .. نجدها محبوسة فى برواز أسود ثقيل وكأنه جزء من اللوحة .. فعن هذه المشاعر المختلطة يرسم جميل شفيق .. يرسم الوطن فى حالة التردى .. فهو يرسمنا فى داخل القيود .. وإن كان يترقب أملا مجهولا .. فى صورة الطير .. لعله يكون الخلاص الذى سينطلق على جناح طيوره .. فهل هو طائر النورس الذى اعتبره ` جان ككوتو ` صوت الغير العائد .. أم هو طائر النار عند الشاعر ` سان جون بيرس ` حيث : يلتقط حبات النار من رئة المنتظرين .. لكنه يعود حاملا شمسا ومنارات .. إنها كائنات جميل شفيق المسكونة بالخرافة والتراث .. والسكينة المشحونة بترقب الاتنظار للمجهول .
- عرفت الفنان جميل شفيق عام 1978 عندما أنهيت خدمتى العسكرية بالقوات المسلحة كضابط احتياط .. غائب عن عالم الصحافة لسنوات طويلة .. فرحت اتلمس طريقى .. فى كل الصحف وقادتنى قدماى إلى دار التعاون .. وكنت أحمل معى بعض الرسومات والأعمال القديمة .. وفوجئت بإعجابه بها .. وطلب منى كتابة خطابا على الفور لرئيس مجلس الإدارة كطلب للتعيين .. وكنا فى شهر رمضان .. وقال لى : ` بعد العيد ساكون سعيدا بانضمامك لأسرة دار التعاون الصحفية ` .. وكان الفنان جميل شفيق آنذاك مستشارا فنيا لدار التعاون .. وشاءت الظروف .. أن أعمل بمجلة صباح الخير .. بدار روز اليوسف قبل أن يأتى العيد .. بعد أن التقيت الفنان حسن فؤاد .. ومن يومها وأنا أتابع فناننا الجميل ` جميل شفيق ` .. كرسام صحفى .. وفنان تشكيلى من طراز خاص .. وككل الفنانين الذين عملوا بمهنة الصحافة .. الذين نسوا أنفسهم والتهمت الصحافة سنوات عمرهم الجميل .. وأيضا أبعدتهم عن اللوحة بمفهوم الفن التشكيلى .. فأول معرض أقامه جميل شفيق فى أتيليه القاهرة كان عام 1989 حينما شجعه المثال والفنان عبد الهادى الوشاحى لإقامة أول معارضه فى أتيليه القاهرة .. والذى حضر افتتاحه الفنان الكبير حسين بيكار وأطلق عليه (إلياذة شفيق) .
- ورغم أن الصحافة تلتهم عمر وجهد الفنان التشكيلى .. إلا أنها لعبت دورا مهما فى حياة الفنان جميل شفيق .. فجعلته أكثر قربا من الناس .. وكيف يمكن أن يقدم لهم شيئا يفهمونه .. ولكنه مختلف .. فعندما تخريج الفنان جميل شفيق فى كلية الفنون الجميلة .. قسم التصوير .. عمل بالصحافة فى دار التعاون بالمجلة الزراعية .. فى ظل الحالة الثورية التى سادت المجتمع المصرى بعد ثورة يوليو 1952 .. حيث بدا الحديث عن دور العمال والفلاحين هو أهم ما تطرحه الصحف آنذاك .. الأمر الذى كان يعنى الوصول إلى هذا الجمهور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا .. فخلق عمل الفنان جميل شفيق فى صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة .. حيث اتاحت له الصحافة فرصة لا تتكرر .. عندما خرج فى رحلات صحفية جاب فيها ربوع مصر كلها .. فأعطت هذه الرحلات الفنان جميل شفيق رصيدا ثريا .. حيث لعبت دورا إنسانيا وأساسيا فى حياته .. لأنه عاشها كصحفى وكفنان تشكيلى .. وهذه الذخيرة الإنسانية .. والحصيلة البصرية .. ظهرت بعدها بسنوات كثيرة .. فى معظم لوحاته .. ولكنه كما يرحل الفرسان ترجل فجأة عن حصانه الجامح العنيد الذى طالما زين لوحاته .. وغادرنا ببساطة وبلا ضجيج كما كان دائما .. وداعا عم جميل.
بقلم : محمد بغدادى
مجلة روز اليوسف:26 -12-2016
جميل شفيق وتجربة فنية مثيرة
- أقام الرسام المعروف `جميل شفيق` معرضا بمركز الجزيرة للفنون المرئية، ضم تجربة ليس لها مسمى سابق فى المصطلحات النقدية العربية، الأمر الذى دعانى إلى نحت مصطلح يصف تلك التجربة وصفا أراه دقيقا، وهو يتكون من كلمة واحدة هى كلمة: `نحوير` وقد اشتققتها من لفظين شائعين هما: `نحت` و` تصوير`، وقد تخففت من حرف التاء لجعل الجرس الموسيقى للكلمة منسجما، إن تجربة الفنان لا تنتمى إنتماء كليا إلى فن النحت المدارى - الفراغى - الذى يرى من كل جانب، ولا ينتمى أيضا إلى فن التصوير والرسم إنتماء كليا بل يأخذ من كليهما بعض صفاته: يأخذ من النحت `منظوره` الحقيقى ومن الرسم حيوية خطوطه واستبعاده للمنظور.
- وعلى الرغم مما تشيعه تلك التجربة فى النفس من شعور بالطزاجة فإنها لم تهبط عليه هبوط المعجزة بل تناسلت من جذور قديمة وحديثة فى ذات الوقت، إن النحت المصرى القديم قد عرف ألوان الرسامين، غير أن اللون كان خادما لكتلة التمثال، لهذا لا نستطيع وصفه بتعبير النحت التصويرى أو `النحوير`.
- وهناك بعض التجارب المحدثة التى جمعت بين المجالين، ومن الطريف أن أصحاب تلك التجارب رسامون أيضا، ومن الأسماء التى تستحق الذكر فى هذا المجال: الفنان `أحمد شيحا` والفنان `عبد الوهاب مرسى`، وكلاهما قدم مؤلفات مرئية ذات بنية هندسية - معمارية، وتطل بعين على الموروث المصرى القديم وتطل بالعين الآخرى على طوفان التيارات الحديثة حرصا على التحدث بلغة عصرية تتصل شرايينها بجذور الإرث الثقافى القومى.
- صائد الأخشاب واللآلئ!
- بدأت تجربة جميل شفيق مع `فن النحوير` منذ عشر سنوات، عندما كان يذهب إلى بيته ومرسمه فى الساحل الشمالى هربا من زحام القاهرة وملوثاتها الخانقة، ينهض قبل ميلاد الشمس بقليل، متمهلا على الشاطئ، مترقبا بعين الصائد ما يلقى به البحر من أشياء تستحق التأمل، وكان `جميل` يلتقط من بينها النفايات الخشبية، ويحتفظ بالأشكال التى تعجبه، وظلت تتراكم تلك الأخشاب فى بيته عاما بعد عام إلى أن انتبه إلى قيمتها فجأة وصاح صيحه المكتشفين `وجدتها!`، وولدت لحظة التنوير تلك الفكرة معرضه الأخير، وكان عليه أن يخلق من الشتات وحده جميلة معبرة، تكشف عن هوية مبدعها بنفس القدر التى تبحث فيه لنفسها عن موقع متميز بين إبداعات الآخرين، عندما تتجول فى معرض `جميل شفيق` تكتشف للوهلة الأولى أن ما تراه إبداع لفنان مصرى، ستجد فى أعماله إلحاح الرموز التى سبق ظهورها فى رسومه بالحبر الصينى وبالألوان، أول تلك الرموز ذلك الوجه الأيقونى - الاستنباطى الذى نلتقى به فى الأديرة والكنائس المصرية والمتحف المصرى القديم - خاصة فى جناح وجوه الفيوم.
- ومن الرموز التى صاحبته فى معارض سابقة وتجلت فى معرضه الأخير رمز السمكة، وإن اتخذت أشكالا جديدة مع تجربته التى إحتل فيها الخشب الركيزة المحورية.
- إعادة التدوير
- تلقى الفنان من البحر ألواحا خشبية، بعضها بالغ الرقة، مشقق، ينقذ الضوء من شقوق أليافه المتآكلة، وبعضها قد تخره السوس نخرا، ورسم بتخريبه العشوائى خرائط مثيرة ويريد لنا الفنان أن نشاركه متعة اكتشافه، إن السوس الذى لا تعرف غريزته إلا الالتهام الفوضوى يختلف اختلافا كليا عن ذلك الانضباط الغريزى المدهش للنحل، ورغم هذا التباين فإننا نجد فى الهندسة المعمارية للنحل والفوضى العبثية للسوس جمالا خاصا، وانتبه إلى ذلك `جميل شفيق` واستغل آثاره ولم يمحها ووظفها فى سياقها (النحويرى) كأحسن ما يكون، لم يتنازل عن دورة كرسام ماهر من أجل تأكيد الكتلة المدارية - المجمعة والمؤلفة، وتستطيع العين الخبيرة أن تدرك - للوهلة الأولى - أن مبدع هذا المعرض رسام أغراه التجسيم الفراغى وملامس الخشب ولونه الطبيعى ومقاومة الخراب، الذى أحدثه السوس فى بنيه الخامة حتى يعيش عمله الفنى معافا وغير ضار بصحة المشاهدين.
- وهو أمر لم يأبه له بعض الداديين واستخدموا خامات بعضها كريه مثل البراز الذى استخدمه الدادى `شويترز`. إن معرض `جميل` يكشف بوضوح عن هويته الدينية والوطنية وهذه حسنة تحسب له.
- صائد الأشكال
- تشكل جسد المعرض من أخشاب طرح البحر - كما سبق القول - بالإضافة إلى أخشاب أخرى اختارها من ورش الأخشاب البلدية، وكان `جميل` حريصا على أن يحتفظ الخشب بأصالته.
- ولم يحاول أن يطمس صفاته الظاهرة، لهذا استخدم فى المحاولات الأولى خامة `زفت البحر` وحلله بسائل التربنتينا ليحصل على سائل شفاف يميل إلى اللون البنى، غير أن هذا الغطاء اللونى لم يحقق الغرض الذى وجده مع خامة هى أخرى هى `الحصى جوز` وهى مادة راتنجية تذاب فى الماء وتعطى سائلا شفافا أشبه بالألوان المائية، تصلح للرسم والتظليل، وللحفاظ على درجات الرسم الضوئية والظلية ولون الخشب الطبيعى فقد طلا سطح الخشب بمادة الـ (سيللر).
- إن علاقة `جميل` بالأشكال الأولية التى أحدثتها المصادفات لم تكن علاقة صراع بين فنان وخامة بل كانت علاقة (ديمقراطية) - إن صحت الاستعارة - فهو يترك لخامته أن تفرض حلولها، واختار لنفسه دور الصائد الحساس - المحب للجمال، ويؤكد بالرسم الحاذق واللون والنحت ما هو موجود بالفعل فى المادة الأولية، ويتدخل عند الضرورة لتهذيب عشوائيتها، ففى العمل المسمى `الوجه الأيقونى والسمكة` والعنوان من عندى أصف به معطيات العمل الفنى، وبالمناسبة لا يحب `جميل` أن يسمى أعماله وكان فى نيته أن يقدم عنواناً لمعرضه هو `خبيئة البحر` ثم انصراف عنه عندما أدرك أن البحر لم يخف شيئا، بل كان يتخلى - بإرادته - عما فى حوزته!
- أعود لعمله الفنى الذى يتكون من كتلتين يربطهما عمود قصير، الكتله العليا عبارة عن مقطع مستدير من جسم شجرة، أكد جميل استدارة أليافه بالفرشاة الملونة وأوحت له استدارة الشكل بما يشبه رأس سمكة فرسم عينيها وشق لها فما، كان لا بد من وجوده، أما الكتلة السفلى فقد أغرته بسطحها النظيف الشبيه بسطح اللوحة برسم ذلك الوجه الأيقونى، تاركا بعض الآثار النحتية التى تدل على أن الوجه قد جئ به من أزمنة سحيقة، وفى عمل آخر بعنوان `المحبة` تظهر كتلتان ملتصقتان دون استعانة بوسيط مثلما فعل مع العمل السابق، تبدو الكتلة العليا مقطعا دائريا - عفوياً، أشبه بشكل الخبز الشمسى المعروف عند أهل الصعيد وتمنح الكتلة العليا فرصتها للصائد - الرسام لرسم علاقة بين رجل وامرأة، فى تكوين يحترم الإطار الخارجى للكتلة ويكشف فى ذات الوقت عن استجابة الفنان لتوجيهات الكتلة السرية حيث أظهر الرجل والمرأة فى التحام كما لو كانا يعيشان فى رحم ويتوحدان مع ألياف الشجرة، ويوحى العمل برقته الآسرة وعفويته بما هو أكثر مما تراه العين، وفى العمل المسمى بـ (عين الإنسان وعين السمكة) يمسك الفنان بمفارقة ملمسية لافتة بين لحاء الشجرة العجوز يمثل به بشرة انسانية حفر تضاريسها الزمن فيما بدت السمكة رقيقة مسطحة أشبه برسم قائم فى الفراغ، وعندما يراها الرائى فى صورة ضوئية فإنه لا يتصور أن ما يراه كتلة ذات ثلاثة أبعاد بل يرى سطحا ذا بعدين اثنين، ولأنه لا يوجد نوع فنى أتى من عدم فإن بعض أعمال `جميل` تذكر ببعض ابداعات الـ (DECO ART) وهو أسلوب فنى كان يعنى بالزينة، أما الخامة نفسها التى عرفت منذ مصر القديمة وهى الخشب فقد تعلق `جميل` بها منذ كان طالبا صغيرا، وكان متفوقا فى مادة الأشغال الفنية، وكوفئ على تفوقه فى تلك المادة بمجموعة من أدوات النجارة، فتحت له آفاقا جديدة فى التعامل مع تلك الخامة، وذكر لى ذات مرة أنه بلغ درجة عالية فى إتقان حرفة النجارة وأمكنه صنع بعض أثاثات منزله ومنزل ابنته.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة : الهلال (العدد 11) نوفمبر 1999
المرأة بين الحصان والسمكة ..ملاحم ناطقة فى الرسم والنحت
- فى معرض جميل سفيق بقاعة أفق
- جاء المعرض الاستعادى للفنان جميل شفيق `1938-2016` بعد رحيلة بسبع سنوات بقاعة `أفق`.. تأكيداً على قيمة عالمة.. هذ العالم الممتد فى الرسم والتصوير والنحت والجرافيك.. بعمق التعبير من السحر الشعبى واللمسة الحديثة.. أقرب إلى حكايات صندوق الدنيا.. مع مافيه من روح الحضارة المصرية.. حتى قال عنه أستاذه بيكار: `فى الوقت الذى يبحث فيه بعض الفنانون.. عن الأصالة والحداثة والأقتباس الساذج من قشور التراث.. فيفلت الهدف من كفوفهم مثلما يفلت الماء من بين الأصابع.. تؤكد أعمال جميل شفيق أن الأصالة تسرى فى الشرايين سريان الدماء`.
وما أشبهه بعازف الناى يشجى ويسعد ويطرب.. بتلك الغابة البسيطة المقطوعة من ساق فى قلب الطبيعة.. يتردد أصداؤها فى الزمن ودنيا الناس.
- طنطا ومولد البدوى
- ينتمى شفيق إلى طنطا.. مدينة السيد البدوى أبوفراج ومولده الذى تحتشد له الدنيا ممن يأتون إليه من كل مكان من أقاليم مصر.
- وفتح عينيه على تلك المباهج الشعبية من السيرك ولعبة `الونش` و`شجيع السيما`.. وفى الجانب الأخر موكب الخليفة والطرق الصوفية.. لكن كان أشد ما يطربه وسط تلك الصور رقصات الحصان ولعبة التحطيب.. كان الحصان الذى يمتطيه الخليفة.. يخطو فى هدوء مجسداً لحظات الخشوع والإبتهال.. بينما يرى فى الصورة الشعبية لرقصات الحصان.. مع الطبل البلدى ما جعله يستقر فى وجدانه بين الصورتين والذى سيكون محور أعماله فيما بعد.. وامتلا شفيق بالطبيعة البكر على شاطىء الافرع الصغيرة للنيل.. هناك كان يجلس بالساعات فى صيد العصارى وكانت السمكة التى ينتظرها بفارغ الصبر.. رمزا أخر من رموزه التى شكلت عالم الحلم والخيال مع الحصان وبينهما المرأة فى لوحاته.. وتعد رمزاً للتكاثر والتناسل والرزق الوفير.. من بين مفردات الفن الشعبى.
- الفنانون الثلاثة فى مدرسة الأحمدى الثانوية.. كان على لقاء مع ثلاثة من الزملاء أصبحوا فيما بعد نجوما كبار فى الفن وكانوا معا فى جماعة الرسم.. حجازى أحد أعمدة المدرسة المصرية الحديثة للكاريكاتير مع جاهين... والمثال عبد الهادى الوشاحى أستاذ الفنون الجميلة والفنان فؤاد تاج الدين الاستاذ بالفنون الجميلة بالأسكندرية.. كان متفوفاً معهم فى الرسم.. وكان إن التحق بالفنون الجميلة عام 1957 قسم التصوير.. بدفعة من أقوى الدفعات ضمت معه: صانع الكتب محيى اللباد والناقد الفنان عز الدين نجيب ونهى برادة مصممة ديكور المسرح وإسماعيل دياب رسام أغلفة الكتب والناقد والفنان مكرم حنين و عبد الغفار شديد الأستاذ بالفنون الجميلة.. ودرس على ثلاثة من الأساتذة الكبار: بيكار وعز الدين حمودة وعبد العزيز درويش.
- رسام المجلة الزراعية
- الصدفة وحدها قادته إلى العمل بالصحافة.. وهو مازال طالباً بالفنون الجميلة.. ففى عام 1958 أسس محمد صبيح المجلة الزراعية عن دار التعاون.. وقد شارك فى تأكيد شخصيتها الفنية نخبة من الفنانين الكبار أمثال عبد السلام الشريف وحسن فؤاد وزهدى وبهجت عثمان.. ومعهم أستاذه ممدوح عمار الذى رشح فى بعثة دراسية إلى الصين فأناب تلميذه جميل للعمل رساما بالمجلة بدلاً منه.. واستمر بعد تخرجه بها وكانت فرصة للتعرف على أقاليم مصر.. فسافر فى أرجائها من الواحات إلى سيناء والنوبة.. `ومن وحى تلك الرحلات كانت لوحته `عرس صحراوى` التى شارك بها فى بينالى الأسكندرية بعد ذلك بخمسة عشر عاما`.. وتنوعت تجاربه فى الرسم الصحفى بالمجلات الثقافية مثل: مجلة `المجلة` التى كان يحيى حقى رئيس تحريرها و` الفنون الشعبية` للدكتور عبد الحميد يونس.. وله رسوم بالأهرام ويكلى.. وإلتحق بالمنظمة العربية للعلوم والثقافة عام 1979.. ولقد أتاح له العمل.. الإرتقاء بالثقافة البصرية من خلال مجموعة الكتب التى رسمها لمحو الأمية.
وفى عام 1984 تفرغ للفن من أجل تلك الشلالات من الأضواء والظلال والتى إختزل فيها الزمن ووصل إلى درجة رفيعة من الأداء مع إختلاف العالم.. من عالم الصحافة والكتاب.. إلى عالم اللوحة.. إنسابت فيها ريشته بطلاقة تعبيرية.. بدنيا الرمز والروح السيريالية.
-إندفع بكل طاقته بتعبير أستاذنا مختار العطار: `بلغة الشكل والخط والملمس والظلال والأضواء.. والإيقاع والتكوين والرموز والإشارات بأسلوب يمزج بين الواقعية والشاعرية الرومانسية`.
-عالمه
- تألقت أعمال شفيق.. مع تلك الثنائية من الأبيض والأسود وما بينهما.. من تنوع فى الدرجات تنساب بسن رفيع تشكل من واقع الحياة اليومية ورموزها: المراة والسمكة والقط مع الرجل.. وحصانه الذى جعل منه.. أسطورة فنة واقعا جديدا مسكوناً بالرمز والحس السيريالى.. يتعانق وأفاق الكون.. من الفيزيقى والطبيعى إلى الميتافيزيقى الذى يفيض بالروح ومعنى القلق فى حياتنا المعاصرة.. ينقلنا خلاله إلى دنيا التساؤلات: من وإلى أين نبدأ وتتجه بنا الحياة؟.
- وقد أكد بتنوع الدرجات اللونية أن الاقتصاد اللونى.. يعد بمثابة فلسفة فى التعبير.. وأن اللون الواحد مع تنوع التنغيم من درجات السلم الموسيقى البصرى قادر على أن يوازى فى قيمته التعبيرية أعمق اللوحات الملونة.
ومن خلال تنوع المفردات.. التى أصبحت علامات أيقونية على عمق فنه مع الموجات التى تختلط علينا مابين الكثبان وموجات الماء.. جاء عالمه ممتداً بلا إنتهاء مشبعا بالرمز والغموض أحياناً.. وفى أحيان أخرى يتعانق مع الأحلام وما فوق الواقع بروح سيريالية تغوص فى أعمق أعماق الإنسان وتحلق فى أفاق جديدة وغريبة.. وفى بعض الأحيان يبدو عالما بسيطا.. وربما عالم من التركيب والتعقيد يخفق بالأسطورة المستمده من واقع الحياة.
- وتتنوع الأبعاد والمسافات العرضية فى الجياد التى تتحاور وتتحدث وتهمس فى ثنائيات عديدة وثلاثيات ويبدو القمر معلقا فى الأفق.... وفى مشهد عميق يطل من لوحة لأخرى عازف الناى مع إمراة مسكونة بالحركة والحيوية.. تعلن بايحاءات الجسد رقصة للحياة التى لا تتوقف بل تستمر فى الدوران.. بينما تبدو هى فى لوحة أخرى حاملة سمكة على الرأس بلا وعاء.
- ولعلنا فى أعماله ندرك سر الطيور المكبلة داخل أقفاص فى حضرة إمراة جالسة فى فضاء اللوحة.. تعلن عن معنى إنسان العصر المكبل فى الوجود.
- وتكمل اسكتشاته من الرسوم السريعة ملاحمه الناطقة بالأبيض والأسود كما فى رسومه لفرقة` أولاد الأرض` بالسويس.. وكابتن غزالى الرسام والشاعر ومؤلف أغانيها والمحافظ على تراث السمسمية.. وصورة شخصية لصديقه اللباد.. وكلها تتوهج بالخطوط السريعة ولمسات من الظلال.
وتتنافس أعمال جميل شفيق الملونة.. بألوان `الأكولين` المائية.. مع لوحات الأبيض والأسود.. لكن تظل لوحة ` العارية والقط الاسود` الجالسة على المقعد الوثير من بين ذروة أعماله.
مجسمات طرح البحر فى رحلته مع الابدع لم يكتف جميل شفيق بأعماله فى فن الرسم بين دراما وإشراقات عناصره الأيقونية.. بل إنتقل إلى حالة أخرى تنتمى لفن النحت من خلال توليفات لمجسمات نحتية.. من وحى ما يلفظ البحر من نفايات خشبية لمخلفات من حطام المراكب الغارقة وبقايا معارك البشر.. من القراصنة على مر السنين تحولت على يديه وبلمسته.. إلى أسطورة جديدة تؤكد معنى الفن.. وقد قاده لهذا الأتجاه تعايشه مع البحر بكل صوره `طوال إقامته بالساحل الشمالى `حين يفيض ويغضب ويهدأ ويثور بما فيه.. يفرغه على الشاطىء محملاً بأسرار الناس الذين رحلوا عبر أزمنة سحيقة. ومن خلال توليفاته مع الإضافة والإختزال حافظ على جوهر منحوتاته فجعلها نابضة ناطقة بشخصيتها بلامسوح لونية ..محتفظة بأسرارها مع تعاقب الأحقاب والحضارات.. وما أجمل شخصية حواء.... جسدها عارية مع الحصان.. مع تلك التصاوير لوجوه من النساء.. تمتد بتألق الملامح المصرية النبيلة على سطوح خشبية.. وتشكيل `القطيع` لحيوانات الريف.
- بسرعة
- مع أهمية معرض الفنان شفيق.. يفتقد العرض فى جانب من الأعمال إلى التوثيق.. فجاءت بعض الأعمال مغفله ذكر تاريخ الإنتاج.. خاصة تلك الأعمال فى الحفر على الخشب.. والتى بدت فى إيقاعات ليلية تتحاور مع أعماله التى توحى بضوء النهار الساطع.. وهناك أعمال أخرى لم يتم فيها ذكر تاريخ الإنجاز .
- بالإضافة الى هذا.. جاءت الأضواء الخاصة بالأعمال النحتية غير مدروسة ونتج عن ذلك تزاحم ظلال الأعمال خاصة فى تشكيل `القطيع` لثلاثية من الحيوانات للأسف أفسد جماله زحام الظلال الساقطة.
- سلام على جميل شفيق وتحية إلى عالمه.. بعمق المعنى والتشكيل.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة ( 2-1-2024 )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث