حنفى محمود بين `الإيهام` و`التزاحم`.. دائماً الإنسان!
- يُعول الفنان التشكيلي حنفي محمود على التجربة والإنغماس في العمل والتأمل مُتخذاً من الإنسان موضوعه الرئيس، وعلى وجه الدقة الوجه البشري الذي يحمل كافة المعاني والغموض بوحاً وكتماناً، محاولاً التغلغل إلى عمقه، يشغله أحياناً الشغف بالتجريب على الخامة أوالتكنيك في عالم مجازي لا يمكنك أن تراه حولك، ضبابي غائم كواقع مُعاش، في اللامكان، مخاطباً الإنسانية على عامتها، دون أن يُدخلك في تفاصيل `الرغي` تتبع معه تعبيرات الوجوه، أو ما يتبقى ظاهراً منها دون أن يخترقه محيطه بعد. ليس ذائباً، ولا هو بالمكتمل الواضح، لكنه يأخذ من لون ما حوله إرتباطه؛ منفصل ومتصل في آن، ربما هم أُناس في ذاكرته القديمة وسط عاصفة رملية هبت على الوادي الجديد حيث مولده.
- في معرضه الحالي بوسط البلد في قاعة `أكسيس` رقاقات لونية كما `الكولاج` يحدها لونً مقطوعاً عنه، ولكنه يؤكد كتلته. لا تجد فيه تفاصيل كائن بشري، ولكنك تعلم أنه بشري دون نقصان.
- أحياناً تلفح أجساده ضربات فرشاة عرضية سميكة العجينة تجعلهم كشاشة عرض فقدت الإشارة، يُوهمك الوجه بوجوده، لكنه فاقد الأمل في الحياة، ككتلة نحتية لا تتفاعل معها إلا بإيماءة العين أو إقتحام الشكل كاملاً أو أجزاء منه، وبالأكثرية ذلك `الوجه`، الذي يعم كل المسطح، فيفرض عليك التفاعل أو التأمل في تفاصيله، دون أن تفر لشبه خروجه من اللوحة إليك، أو باللعب على الإيهام، بالبعد الثالث والغير موجود.
- لن تجد لدى حنفي محمود وجوهاً سعيدة، ربما فقط هربت إبتسامة ساخرة لواقع لايمكن التفاعل معه دون تغييره، ولا يمكن الإنفصال عنه كجزء منه. إنما هو فكاك لحظي قدر الإشاحة بالوجه.. قائلاً عن ذلك: `العديد من الوجوه تتحرك هنا وهنا، في كتلة من التعبيرات والعيون الصامتة؛ وجوه عابسة لكنها تُعبر بشكل مُكثف عن الأفكار التي تدور داخل هذه الحدود الخارجية.. هذا الصمت العميق الجذور، الذى هو فى نفس الوقت مُعبر بشكل مكثف وبصوت عالٍ، يشغلنى كثيراً ويُؤثر عليّ وأتأثر به، والمصدر الرئيسي لإلهامى فى أعمالي هو الحالة الإنسانية والأحداث التي تُحيط بها؛ الشارع المزدحم، المواصلات العامة، المليئة بوجوه صامتة، عابسة، مليئة بعبارات الرفض والإعتراض والاستياء، هذا يؤثر على؛ كل ما يتعلق بالوضع الإجتماعى أو السياسى أو الإقتصادى للإنسان.. الإنسانية محورية فى أعمالى ولمخاوفى`.
- إن حنفي محمود خلال منتجاته الفنية ينقلنا بين فترة وأخرى بين الحقيقي والوهمي حيث سبق أن فعل في `إيهامه الأول` إلى معرضه بعده `إيهام2`، وفعل الإيهام معروف فى تاريخ الفن على مدار تجاربه ومدارسه المختلفة، بداية من الإيهام بالتجسيم برسم ذى بعدين فقط، الطول والعرض، أو إيهام بتحرك للأشكال كما فى المدرسة المستقبلية، أو إيهام للبصر كما فى فن الخداع البصرى، ومدرسة فيكتور فازاريللى، فليس غريباً إذاً أن يتعاطى حنفى محمود مع `الإيهام` فى عدد من تجاربه ومعارضه السابقة، مستخدماً الوسائط أو الخامات العادية والمتعارف عليها لدى الكثير من المصورين، مثل الأكريلك الشفاف والألوان الزيتية والأخشاب، وورق الذهب وورق الفضة، لكنه يحقق بها مع علامات هندسية مستخدمة فى الهندسة الفراغية تجسيم للشكل المرئى المسطح.
- فقد قدم مجموعة من البورتريهات يراها المتلقي مُجسمة ككتلة نحتية، بينما هي في الواقع ليس لها وجود في البعد الثالث، موضحاً ذلك بأنه إستغل المسافات الهوائية، وقسمها لثلاث طبقات بين سطح الزجاج واللوحة، حتى توحى للمشاهد بالتجسيم، وربما كانت تلك الفكرة وليدة لدى الفنان منذ أن كان طالباً فى كلية التربية الفنية؛ يرسم وجهه بالنظر كثيراً فى المرآة، أو من تجربة سابقة له رسم فيها على الزجاج مباشرة من الخلف، ثم يضعه داخل الإطار ليعرضه على حالته.. بدأت تجربة الإيهام لدى الفنان حنفي محمود في معرضه `إيهام 1` الذي قدم فيه نجمات السينما القدامى؛ سعاد حسنى وهند رستم وسامية جمال، وهى تجربة قابلها الجمهور بالثناء منذ بدأها الفنان الأرمنى شانت أفيديسيان` 1951/2018`، وقلده عادل السيوى، فى مجموعته، مع إضافة الخط العربي إلى اللوحة كما فعل شانت، وتناولها أيضاً بشكل مغاير وبطريقته التي توحي بالحركة، الفنان سمير فؤاد، إلا أن تجربة حنفي مع نجمات سينما زمان، جاءت تأكيداً وتثبيتاً لفكرة معرضه ذلك، فهن نجمات موجودات فى ذهن المتلقي وأمامه في المعرض، ولكنهن فعلياً غير موجودات بحسب تقنيته، موضحاً وقتها أنه قدم وجوه نجمات الزمن الجميل فى بورتريهات بإعتبارهن الباقيات بأعمالهن الخالدة.. ثم تأتى المرحلة التالية أو المُكملة فى معرضه الذى تلاه `إيهام 2` مؤكداً ومضيفاً على تجربته الأولى فى مجموعة من اللوحات بطلها الرئيس هو الإنسان، الذى هو موجود أمام المشاهد وسهل التعامل معه، ولكنه من خلال تقنية الأبعاد الثلاثية التى إستخدمها حنفى محمود، يعطى نصاً بصرياً مخالفاً للمعتاد عليه، وتلك التجربة الإبداعية جعلته يتحرر من ذاته ووجدانه إلى نص تشكيلي له دلالاته الخاصة، مختزلاً الكثير من التفاصيل التقليدية للشكل ليكون البطل هو الإنسان بجوهره وما يبوح به في حواره البصرى مع المُتلقى حول العديد من المعانى والموضوعات.
بقلم : مجدى عثمان
جريدة القاهرة ( 25-7-2023 )