`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد إبراهيم أحمد حجى
محمد حجّى … فنان زاده الخيال
- شغل الفلاسفة منذ آلاف السنين بالبحث في طبيعة الصدق وجوهر الحقيقة، وكانوا ينظرون دائماً إلى طلب الصدق على انه من أنبل مقاصد الإنسان .. وقد كان الوجدان الإنسانى تواقاً لمعرفة كل ما هو حقيقى .. قلقاً من اجل الوصول إليه .. على أن طبيعة الحقيقة هى استقصاء منطقى.. وقد يظهر أن البحث فى طبيعة الحقيقة عمل جمالى فى أساسه غير أن الحقائق ما هى إلا مدلولات لتجربة ذاتية مباشرة، ومن المميزات الخاصة بالفن التشكيلى انه يكشف هذه المدلولات بوضوح وتركيز ونقاء يرفعها إلى درجة خاصة من درجات الحقيقة وان الحلم أشبه اليقظة وشبه الغموض الذى صاحب كتابات الروائى الكبير نجيب محفوظ فى `أحلام فترة النقاهة` المنشورة فى مجلة نصف الدنيا منذ يناير سنة 2000 وحتى الآن، قد تحول بيننا وبين رؤية الحقائق المحيطة بها وكأنها مجرد خيالات من الصعب الإمساك بها وهنا يأتى دور الفنان محمد حجى، الذى فتح أعيننا وخيالنا حتى صار ما يرسمه ويلونه له معنى حقيقى بالنسبة لنا، فإن الأشياء التى يحتويها كل رسم من رسومه التى ترافق أحلام فترة النقاهة تمتاز بأنها اكثر نقاء ودقة وتركيز من الأشياء التى نراها حولنا بالرغم من كونها فى النهاية من وحى الخيال لكنها تبدو وكأنها حقائق لا يرقى إليها شك، تمنحها شجاعة وقوة وتغدق علينا قدراً كبيراً من التمتع بالخط والشكل واللون.
- ولقد كانت طفولة محمد حجى هى المصدر الأول لهذه العناصر التى تتجول فى رسومه والتى رسخت فى ذاكرته أصبحت تميز أعماله حيث قضى طفولته وصباه فى الريف المصرى وسط دلتا النيل بالغة الغنى بالطيور والنباتات والفراشات والبشر، أما المصدر الثانى فهو تأثره بالرسوم الصخرية التى اكتشفت فى هضبة التاسيلى بجنوب غرب الجزائر والتى زارها الفنان مرتين، هذه الرسوم يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد ويقول عنها بعض العلماء بأنها أحد مصادر الفن الفرعونى.
- وفى رأيى أن المصدر الثالث لرؤى الفنان محمد حجى الغنية هى ثقافته الموسوعية، بجوار تأمله الدقيق لفنون الحداثة التشكيلية وإطلاعه على إبداعات أساتذة الفن الكبار.
- هذه المصادر الثلاثة مكنت الفنان محمد حجى من ابتداع أسلوبا رمزيا استمد جذوره من تخيلاته الميتافيزيقية والأساطير القديمة التى تتماشى مع تفسيره الفلسفى لمصير الإنسان كما مكنته أيضا من التوصل لهذا الجو السحرى المغلف للعالم المرئى الذى يصوره فى رسومه .
- وقد أعاد محمد حجى تنفيذ رسومه التى رافقت أحلام فترة النقاهة على قماش التوال ولونها بالألوان الزيتية واختار لها مقاس المربع فى أحجام ضخمة مع إضافة بعض المفردات الضرورية لاستكمال الشكل العام، ونشاهد في النهاية لوحات الفنان وهى تطل من شرفته على المجهول مبتكراً عالما جديداً لم لم نشاهده من قبل … وهذه قمة الإبداع ويمكننا أن نصف محمد حجى بأنه فنان زاده الخيال وهو اصدق وصف لهذا الملاح الذى جذبه الفن لاغواره السحيقة.
الناقد / محمد حمزة

أحـلام معـتـادة
- كان الرسم الصحفى أحد علامات النهوض الفنى فى مصر منذ الخمسينات وحتى اقترب أواخر السبعينات من القرن الماضى قبل أن تنحسر مساحته في الصحف المصرية لأسباب عديدة. احترف الفنانين الأجانب هذا الفن فى مصر بداية من `ابن صنوع` فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضى. ومع بداية ثورة يوليو التى أثرت تأثيرا عميقا فى تركيبة المجتمع المصرى وفى توجهاته اجتذب هذا الفن عدد كبير من انبع الفنانين المصريين اللذين حلّو محل الفنانين الأجانب. وتعد إنجازات الفنانون المصريون فى هذا المجال اكثر أصالة واكثر قربا من الناس والمجتمع كما أنها أيضا كانت اكثر تطورا من سابقيهم الأجانب. ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الحسين فوزى وسيف وانلى فى رسومهما لأعمال نجيب محفوظ، وحسن فؤاد فى رسومه لقصة عبد الرحمن الشرقاوى `الأرض` ومنير كنعان لوحاته عن العمل الفدائى فى القنال أثناء الاحتلال الإنجليزى .. وغيرهم كثيرون. ولقد تميزت أعمالهم جميعا بأنها أعمال فنية مستقلة بذاتها يمكن أن يتذوقها الإنسان بصفة منفصلة عن النص الذى ترافقه. وذلك لأن هؤلاء الفنانون كانوا يؤمنون بان المسئولية الفنية فى الرسم الصحفى اكبر منها فيما عداه، لان هذا الرسم يشاهده ألوف الناس كل صباح أما غيره فهو محدود المشاهدة، ومحدود التأثير. ولقد أخذت نصف الدنيا على عاتقها منذ صدورها أن تفسح المجال لهذا الفن المصرى الأصيل وأن تخصص من صفحاتها القدر الذى يتيح لجمهورها من النساء والرجال أن يستمعوا بجمالياته وهم يقرئون مجلتهم. ومنذ بدأ الفنان محمد حجى رسومه لـ`نصف الدنيا` التى رافقت أحلام فترة النقاهة لأديب مصر العظيم نجيب محفوظ فى يناير سنة 2000 والمستمرة حتى اليوم وهو يحافظ على نفس المستوى، ويقدم أعمالا فنية متميزة ومستقلة بذاتها عن النص الذى ترافقه وان كانت تعانقه فى حوار إنسانى عميق ولذلك فأنه من الطبيعى أن تتحول هذه الرسوم المعدة للطباعة إلى لوحات متحفية بكل المقاييس بعد أن عمل الفنان على تغيير مقاساتها وخاماتها وأعاد تنفيذها حتى تصبح صالحة للعرض على حوائط الصالات والمتاحف. وان مجلة نصف الدنيا وهى تقدم معرض الفنان محمد حجى تحت عنوان أحلام معتادة، إنما تقدم تجربة فنية رائدة تؤكد بها اهتمامها المستمر بالفن التشكيلى فى جميع تجلياته .
بقلم/أفكار الخردلى - رئيسة تحرير مجلة نصف الدنيا
مجلة نصف الدنيا
فنان يحلم بعيون يقظة أحلام وكوابيس محمد حجى فى مواجهة القبح
- عالم ضبابى غائم، تغلفه غلالة شفافة من الشجن والأسى الجميل، تتحدث فيه الزهور إلى الأقمار، وتقترن فى زواياه الطيور بالبشر ، تتهامس الأحجار مع النجوم وتتشكل النباتات والأشجار نساء جميلات فى الأفق فتخرج عليك امرأة من تقاطع الطريق تركب سمكة ويحمل الفارس الممتطى أوزة بعلم فلسطين وقد تحكى لك البطلة قصة حوارها مع الأسد ، إنه عالم الحلم الملئ بالرموز والأسرار والبهجة والحزن اللامعقول.
- هذا العالم الشفاف الشجى الجميل شكل ملامح تجربة الرسام محمد حجى الأخيرة، التى عرضت ضمن نشاط ملتقى `المغرب والمشرق`فى الكويت وضمت أعماله التى نشرت مصاحبة لـ`أحلام فترة النقاهة` لنجيب محفوظ، والتى عرضها `كلوحات زيتي` بمساحات أكبر، منفصلة عن النص `المحفوظى` مما ساعد كثيرا على تذوقها كمشروع فنى منفصل، خاصة وأن محمد حجى - كرسام صحفى - يرى أن الرسم الصحفى ليس مجرد ترجمة للنص الأدبى، بل إن الفنان أثناء العملية الإبداعية يستدعى مخزونة الثقافى والوجدانى الخاص ليتوازى عمله الفنى مع العمل الأدبى، أى أننا هنا بازاء عملين إبداعيين، الإبداع الأدبى والإبداع الفنى ،أى أننا إزاء حلمين لا حلم واحد، حلم نجيب محفوظ، وحلم محمد حجى.
- وبعيداً عن `النص المحفوظى` نحن فى هذا المعرض بازاء لوحات مستقلة تمام الاستقلال عن النص الأدبى يدفعنا استقلالها هذا إلى التعامل معها كمتذوقين من خلال `لغة الشكل` لتحليل بنيتها الفنية تحليلا ثقافيا فنيا نقديا كأعمال ذات وجود خاص بل ينبغى أن ننسى ونحن نشاهدها `نجيب محفوظ وأحلامه` تماما وأعتقد أن هذا قد تحقق لجميع المتذوقين من أول نظرة ألقوها على الأعمال فالحضور الطاغى لثقافة ووجدان وريشة محمد حجى قد حقق ذلك بنجاح كبير.
- عالم الأحلام :
- وقبل الدخول إلى عالم الحلم المرسوم فى معرض حجى أرى أنه من الضرورى أن نقف عند قضية `الحلم` كفعل إنسانى وفنى، فالإنسان ومنذ بدء الخليقة يعبر عن رغبته فى الانعتاق من أسر الواقع الدميم `بالحلم` بل إن هذا الحلم السحرى حرك خياله الكامن وفرشاته وأزميله وقلمه وأوتار آلاته البدائية التى شكلت ملامح فنونه الأولى، لتعبر عن رغبته العارمة فى التغيير وتشكيل عالم أفضل، وواقع أكثر جمالا، فالحلم والخيال معا هما الطاقة الكامنة وراء كل فن عظيم فبدونهما يفقد الفنان قدرته على التأثير، ويصبح مجرد مقلد أعمى للطبيعة، حتى أفلاطون الذى يعتبره مؤرخ علم الجمال `الأب الروحى` للأكاديمية المثالية، كان يؤمن بأن الفنان المبدع هو الذى يطور موهبته وروحه حتى ينبت له جناحان قويان يساعدانه على الطيران والانعتاق من الجاذبية الأرضية `عالم الظلال` ليحلق فى عالم الكمال المثالى كى يهبط مرة أخرى محتفظا فى `خياله الحلمى` بالجمال الأكمل وبعيداً عن رأينا فى الجمال المثالى الأفلاطونى نستطيع الجزم بأن الحلم طاقة إنسانية فريدة يستطيع الفنان وحده أن يفجر من خلالها آراءه وأحزانه وأفكاره وانفعالاته بل ويستطيع أن يشكل من تداعياتها مشروعا فنيا متكاملا كالمشروع الذى أنجزه الرسام محمد حجى، كما يحب أن يلقب نفسه.
- ورغم وضوح علاقة الفنان بالحلم والخيال فى تاريخ الفن إلا أن هناك `التباس` خطير أرى أنه يعطل عملية تذوق أعمال حجى الأخيرة ، فما أن نذكر `الأحلام` حتى يقفز إلى المشهد فرويد والفرويدية وتقفز أيضا السوريالية وكأن عمنا فرويد وصديقه أندريه بريتون قد سجلا `الأحلام` باسمهما فى الشهر العقارى ـ وكأن أى فنان يدخل اللوحة من باب `الحلم` مكتوب عليه أن يكون سورياليا ، دون أن يدرى أو يرغب .. المسألة `ملتبسة` وتحتاج إلى وقفه تأمل حاسمة.
- خاصة أن هناك إبداعات إنسانية عديدة منذ عصور ما قبل التاريخ اعتمدت على هدم `المعقول` المنظورى دون أن يصنفها مؤرخو الفن فى خانة `اللامعقول` أو السوريالية . فرسوم الكهوف فى حضارات ما قبل التاريخ تشعرنا بأننا إزاء أحلام ومشاهد مليئة بالفنتازيا فالكائنات طائرة لا تقيدها الجاذبية، كذلك رسوم `بهزاد` والمدرسة الفارسية التى زينت المخطوطات الإسلامية تشعرك بنفس الإحساس فهل إذا ما استلهمها فنان معاصر لابد وأن يوضع فى خانة المتأثرين `بشاجال` مثلا وسورياليتة ؟!
- المسألة بحاجة إلى وقفة خاصة أن محمد حجى قد ترك لأحلامه العنان فى معرضه الأخير مما يغرى الكثيرين بتصنيفه فى هذه الخانة بالذات ، ولكى نحسم الأمر، لابد أن نحدد المفاهيم. فليس كل من يرسم الأحلام `سورياليا` لأن السوريالية حدود ومجال حيوى واضح، بل وشروط أكثر وضوحا معرفيا وفكريا وثقافيا وفنيا.
- فالسوريالية كما عرفها `أندرية بريتون` هى `آلية نفسية ذاتية خالصة يستهدف بواسطتها التعبير إن قولا أو كتابة، أو بأى طريقة أخرى عن السير الحقيقى للفكر، إنها إملاء من الذهن فى غياب كل رقابة من العقل وخارج أى اهتمام جمالى وأخلاقى`.
- أى إن السوريالية كما عرفها بريتون هى انعتاق مطلق من كل عرف، بما يكفى للحيلولة دون إحضارها فى محاكمة العالم الواقعى كشاهد دفاع. أى إنها لا يمكن أن تبرر سوى حالة الانفصال التام عن الواقع التى هى هدف أساسى للسوريالية.
- وهذا يتناقص شكلا وموضوعا مع محمد حجى الواقعى المنتمى إلى ميراث شعبه الثقافى والمنحاز إلى المرجعية الفكرية الثقافية العربية والذى يؤمن بالعقلانية فى مواجهة إشاعة `الخرافة` فى مجتمعنا.
- خاصة أن السوريالية موقف فلسفى يخاصم العقل الذى أفرزته الثورة الصناعية وحروب الرأسمالية الأوروبية، لصالح تمرد الحلم واللاوعى، فهى تمرد دائم، وتخريب منظم كما يقول بريتون بل هى على حد تعبيره `النزول إلى الشارع وإطلاق النار عشوائيا` .
- وكما أسلفنا يتناقض هذا التمرد التخريبى مع تكوين محمد حجى الفكرى خاصة وأن رسومه الصحفية منذ الستينات وحتى الآن ملتزمة إلى حد بعيد بالواقع، ومنطلقة من إيمان عميق بدور الفنان (الجدلى) مع مجتمعه من أجل تغييره وأن الفن فى حد ذاته رسالة (ثورية) فهل تنازل حجى عن واقعيته وتخلى عن مفهومه الثورى للفن؟
- اللهم اجعله خير :
- المدخل الوحيد للإجابة على هذين السؤالين ،ومحاولة تفسير أحلام وكوابيس محمد حجى الفنية، هو البحث عن الجذور، فالرجل لم يتخل عن واقعيته ، أو ثوريته ولكنه مع نضج التجربة الفنية أصبح أكثر حرية وأكثر قدرة على الغوض المتأمل فى الواقع ،وأصبح يمتلك قدرة على شجاعة التعبير عن `المكنون الكامن` فى قاع الواقع وآلياته ، فحجى كفلاح `دقهلاوى` أصيل اكتشف أن الحلم هو الضيف اليومى الذى يحل على أحاديث `العشاء` فى الريف المصرى يدخل الى الحوار اليومى بعد العبارة السحرية `خير اللهم اجعله خير.. أنا شفت فى المنام .. وتبدأ الأم فى السرد ويدور حوار الجالسين حولها محاولين التفسير، وفق رغباتهم وآمالهم وأمنياتهم وما أن ينتهى حلم الأم حتى تبدأ أحلام الجالسين تتوالى، أحلام متشابكة أبطالها من الغائبين والراحلين، وأولياء الله الصالحين والجيران أو البهائم والأشجار والطيور، تأتى لتحسم خلافا على بناء جدار أو زواج أو سفر يترجمها الرواة والمفسرون والأصدقاء وفق مقتضى الحال وعلى ضوء ما يتمنونه فى الحياة، هذه الخلفية الاجتماعية البيئية التى استطاع محمد حجى أن يستحضرها من مخزون طفولته بوعى ليمزجها مع حكايات التراث الغرائبية فى ألف ليلة وليلة، والسير والملاحم الشعبية ويخلطها برسوم الكهوف البدائية التى تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ليشكل `عجينة ضخمة` من الحكايات والخيالات والأحلام يغمس فيها فرشاته فيعبر من خلال قدرته الأدائية العالية فى `التصميم` وبراعة البناء المعمارى للوحة، عن أحلام وأمنيات وآلام وأحزان واحباطات الإنسان المعاصر فتأتى اللوحة محملة بالشجن ،أو الألم أو الفزع وعبر أبجديات الشكل من لون وخطوط وكتلة وفراغ وتوازن .. يصل الى لغة شكلية تستطيع أن تخاطب المشاهد بسهولة ودون أى تعقيد مستغلا براعته فى التشخيص وإتقانه الأكاديمى للنسب، فى تفكيك العلاقات الواقعية بين الأشياء وإعادة تركيبها بطريقة تبدو خيالية، وتبدو حلميه، لكنها رغم خيالها الجامع وحلميتها المتمردة تحتل مدارا واقعيا جديدا أو بتعبير أدق تصبح اقتراحاته ذات وجود واقعى خاص وكأن `الفانتازيا` هى الواقع نفسه، فتشعر مثلا أنه من الطبيعى أن يركب الرجل والمرأة سمكة كبيرة يتنزهون بها فى قاع بحر غامض أو أنه من الواقعى تماما أن تصبح النباتات نساء جميلات فى آخر الأفق وربما كان من المفروض أن يكون `الديك` المزركش` أكبر من أهرامات الجيزة، وأنه من المفروض أن يركب المقاتل الفلسطينى أوزة ليحارب بها العدو الصهيونى هنا يصبح `الحلم` حيلة فنية يقصد به الفنان تحليل الواقع بعناصره، والغوص فى مكوناته بغرض إعادة ترتيب المشهد الواقعى `المختل` لفضحه أحيانا، وإدانته أحيانا أخرى أو التبشير برؤيا تستشرق آفاق مستقبل جميل تحلم به البشرية، وهنا بالتحديد تكمن `ثورية` حلم محمد حجى، وتكمن أيضا خصوصيته الفارقة التى تفصله عن `السوريالية` فالفنان السوريالى يرسم `بعفوية` ويترك العنان للاوعى كى يرسم نفسه على سطح اللوحة، كما يقول `بريتون` لابد أن ترسم الفرشاة ما يريده اللاوعى دون أى وعى، ولابد أن تكتب الجملة التى تليها.
- ولكن محمد حجى يحلم (بعيون يقظة) ويستخدم الحلم `كقناع` أو `كحيلة فنية` ليكشف `بوعى` عن قبح الواقع، ودمامته أو كما أسلفت ليحلم مع متذوقيه بواقع أجمل وأكثر بهاء للشعوب المقهورة؛ وهنا تظهر بوضوح `واقعيته السحرية` المعتقة؛ التى شكلتها أحلام الريف المقهور، وأحلام حكايات الجدات، وأبطال الملاحم الشعبية البواسل، دون افتعال أو إعادة إنتاج، إننا نشم رائحتها فى الألوان والخطوط والتكوينات دون أن نراها، إنها حاضرة غائبة أو غائبة حاضرة لتعبر عن انتماء الفنان الحضارى، ووعيه بواقعه المعاصر، وإيمانه العميق بأن الفن رسالة تستهدف تطهير الروح والتعبير بجمال جميل عن أحزان وآمال البسطاء وأعتقد أنه نجح إلى حد بعيد فى إشاعة هذه الروح الرمزية الساحرة التى تصل فى ذروتها إلى الملحمية المستوحاة من الميراث الحضارى الضخم للفنان ، فتصبح هذه الملحمية فعلاً ثوريا فنيا جميلا يأتى بتلقائية دون افتعال وأعتقد أنه تحقق فى أغلب لوحات المعرض.
أسامة عفيفى
مجلة شموع
` لقاء الأحلام ` بين نجيب محفوظ ومحمد حجى
- فى تاريخ الفنون ظاهرة حميدة .. هى ظاهرة التآخى والتفاعل بين الأشكال المختلفة للإبداع .. خاصة العلاقة التناغمية بين الأدب والفنون الجميلة .. بين الكلمة والصورة ، والمعروف أن مكونات الشعر الأساسية وهو من فنون الكلمة، الموسيقى والإيقاع و` الصورة ` .. ومن القديم وفى كل الحضارات والثقافات، وخاصة فى الفن العربي الإسلامى، تلازم الفنان، الكلمة والصورة فى المخطوطات القديمة التى ضمت النص المكتوب إلى جوار الصورة المنمنمة المصاحبة له.
- وفى العصر الحديث كانت العلاقة الحميمة بين الأدب والفن سببا أساسيا فى ظهور المدارس الحديثة فى كليهما، وأبرز مثال على ذلك العلاقة التبادلية بين شعر `آندرية بريتون` مؤسس الحركة السريالية ومنظّرها وبين لوحات الفنانين السرياليين ومن أبرزهم `سلفادور دالى`
- ومؤخرا ( فى السبعينيات من القرن الماضى ) أنجز الفنان العراقى ضياء العزّاوى مجموعة رسوم قيمة مستوحاة من شعر أبى الطيب المتنبى.
- وفى نفس الفترة ( عام 1971 ) اتفق الأديب والناقد رجاء النقاش مع نجيب محفوظ على نشر مجموعة كتاباته المعروفة باسم `المرايا` وقد طلب رجاء النقاش من الفنان أحمد فؤاد سليم ترشيح فنان كبير ليضع رسوما تليق بهذه الكتابات التى كانت تصف بعض الشخصيات الهامة بطريقة غامضة، لا تفصح عن اسم صاحب الشخصية، وقد رأى أحمد فؤاد سليم أن فنان الإسكندرية الكبير سيف وانلى هو الأقدر على تصوير كتابات نجيب محفوظ. وقد سافر سليم إلى وانلى فى الإسكندرية حيث يقيم وتم إنجاز نشر الرسوم مصاحبة للنصوص فى عام 1971 بمجلة ` الإذاعة والتليفزيون `.
- ونحن نقدم هنا آخر التجارب فى مجال تفاعل الكلمة والصورة ..
- فقد تم الاتفاق بين الكاتبة والفنانة سناء البيسى رئيسة تحرير مجلة ` نصف الدنيا `.. وبين نجيب محفوظ على نشر ما يكتبه بعد توقفه عن الكتابة فترة طويلة ، وقع له خلالها حدثان مزلزلان .. حصوله على جائزة نوبل للآداب .. وتعرضه لمحاولة اغتيال (!!)
- وكان أول هذه الأعمال ما سماه محفوظ `أحلام فترة النقاهة` والتى بدأت المجلة نشرها فى أول يناير من عام 2000 ، أى فى أول أيام القرن الواحد والعشرين .. وكانت سناء البيسى قد زارت الفنان محمد حجى ، والفنان الصحفى الكبير الذى نشاهد أعماله على صفحات `وجهات نظر` منذ بداية صدورها.
- شاهدت سناء البيسى عند محمد حجى مجموعة من الرسوم بالأسود والأبيض تدور أيضا حول الأحلام، سماها الفنان `أحلام وكوابيس`.. وربما أوحت لها مشاهدة هذه الرسوم بتكليف الفنان بعمل رسوم تصاحب `أحلام` نجيب محفوظ.
- قام حجى بإنجاز (135) رسما نشرت على مدى أربع سنوات .
- كان حجى قد قام برسم `أحلامه وكوابيسه` أثناء إقامته وعمله فى تونس بجامعة الدول العربية عندما كانت هناك، وقد قام خلال هذه الإقامة بعمل دراسة لرسوم الكهوف فى منطقة `الناسيلى` (أى الصخور الملساء باللغة البربرية) والموجودة فى جنوب شرق الجزائر، ويعتبرها خبراء `فن الصخور` من أغنى وأنضج رسوم الإنسان الأول فى العالم ويعود تاريخها الى حوالى عشرة آلاف سنة وقد تركت مشاهدة ودراسة هذه الرسوم الفطرية أثرا هاما على أسلوب محمد حجى.
- وقد اختار الفنان مؤخرا مجموعة من رسوم الأحلام وأعد رسمها بالألوان الزيتية على لوحات مربعة (80 × 80سم) معتبرا رسومه التى أعدها للنشر بمثابة `لإسكيز` أو الرسم التمهيدى للوحات ..
- ويستضيف المجلس الوطنى للفنون والآداب بدولة الكويت لوحات حجى هذه لعرضها بقاعات ابتداء من السادس من ديسمبر من هذا العام، ونعرض مختارات منها هنا.
حلمى التونى
مجلة وجهات نظر 2004
فى معرضه الأخير تحرر من واقعيته محمد حجى : الدولة مسئولة عن عدم وجود مستهلك للفن التشكيلى
- محمد حجى خريج مدرسة الحياة قسم الرسم الصحفى الذى جعله قريبا من الناس والشارع والقضايا اليومية الساخنة، ولكن فى معرضه الأخير يعود للتحليق مع أحلامه وكأنها استراحة محارب !
- حجى حدد موقفه من الحياة عندما فطن أنه لم يختر الفن ولكن الفن هو الذى اختاره ولذلك لم يحاول أن يكون أى شئ آخر غير فنان خصوصا انه تخصص فى الرسم الصحفى الذى جعله موصولا بالشارع ومعجونا بترابه ومشاكله وقريبا من الأحداث ومتأثرا بوهجها .
- الرسم أو الفن لم يمنح حجى أفكاره وفلسفته فى الحياة ومنظوره الخاص الذى يطل من خلاله على العالم وجعله أقرب إلى مناضل أو ثائر ولكن أيضا قادة إلى عالم من الخيالات والرؤى والأحلام بالشكل الذى حوله إلى حكيم أو فيلسوف !
- وحجى - كما يقول - نشأ فى بيئة ريفية تعطى للحلم مكانة كبيرة فى تفسير الحياة وتعتمده أسلوبا فاعلا للتأثير فى مجرياتها لذلك `انصب اهتمامى منذ فترة مبكرة على ضرورة دراسة الأحلام وتأملها، وقد استطعت عبر دراسة علمية أن أفهم رموزها المعقدة وأن أفسر مداولاتها الملتبسة ومع ذلك لم يشغلنى هذا قط قدر ما شغلنى الإحاطة بعالمها السحرى المتحرر من كل قيد.. ذلك العالم الذى يشى بمعان جريئة وغامضة تقبع فى مناطق بعيدة عن أعماق النفس .
- ويضيف .. عندما بدأت أرسم أحلامى كنت فى قمة تمسكى ودفاعى عن المدارس الواقعية التى سادت فترة الستينيات من القرن الماضى حيث كنت أدرس فن التصوير فى كلية الفنون الجميلة وأعمل رساما صحفيا فى نفس الوقت.. ولم أحاول نشرها أو عرضها على أحد فقد كنت أشعر وكأنها متنفس لى مما أعانيه عند قيامى بتلك الرسوم الواقعية المكبلة بمتطلبات الطباعة وظروفها التقنية والتى لابد أن تراعى فى الوقت نفسه أحوال الصحف التى كانت تنشر بها وهى أحوال معقدة ومتنوعة .
- ويضيف : لقد كنت أتصور حينذاك أن أحلامى المرسومة أمر شخصى بحت لا يهم أحدا سواى وكان هذا خطأ لم أتنبه إليه إلا عندما كلفت فى السبعينيات برسم قصص الأنبياء لمجلة `صباح الخير` والتى بدت لى وكأنها أحلام إنسانية عميقة المغزى .. النصوص كتبها محمد جاد الرب وكانت نصوصا موحية غنية بالرموز والدلالات ثم تبعها تكليفى برسم مقالات الدكتور مصطفى محمود فى محاولته لـ`فهم عصرى للقرآن` .. هذه الرسوم حررتنى تماما من تأثير المدارس الواقعية التى كنت ألتزم بها التزاما شديدا فى عملى الصحفى وجعلتنى أحلق عن شوق ورغبة فى عالم الحلم، حيث تنتفى النسب والمسافات والأحجام وتتحرر الألوان من صلتها بالأشكال والتخلص من قواعد المنظور والأبعاد وكل ما يحمله الفنان على ظهره من قواعد الرسم .
- ويقول حجى عند هذه المرحلة بدأت أعطى اهتماما كبيرا لما لدى من مسودات وأحولها إلى رسوم متكاملة لأحلامى معدة للعرض أو للنشر إلى أن التقيت الفنانة والكاتبة سناء البيسى التى كانت ترأس تحرير مجلة نصف الدنيا وأطلعتها على هذه الرسوم وكانت قد اتفقت مع أديبنا الكبير نجيب محفوظ على أن تنفرد المجلة بنشر أعماله بعد حصوله على جائزة نوبل وكان أول هذه الأعمال `أحلام فترة النقاهة` التى كلفتنى بإعداد الرسوم المناسبة لها .. حدث ذلك فى الثانى من يناير عام 2000 أى مع بداية القرن الحادى والعشرين ومازلت أرسلها ثلاثة أحلام أول كل شهر .. وقد بلغت الآن 180 حلما ورسما .. واللوحات التى يتضمنها معرضى الحالى فى الأوبرا الذى يقام تحت رعاية الكاتبة الصحفية فى أفكار الخرادلى `رئيس تحرير مجلة نصف الدنيا الحالى ` قمت بتنفيذها بمواد أخرى `توال - ألوان زيتية - أكريليك` وعلى مساحات أكبر مستندا إلى الرسوم التى نشرت فى نصف الدنيا مرافقة لـ`أحلام فترة النقاهة` مستمتعا بما أمدتنى به هذه الأحلام من حرية لا حدود لها ومستعينا بما لدى من أشواق وما تجمع فى وجدانى عبر مسيرة الحياة من خيالات وأطياف .
- ولكن الحوار مع حجى بدأ من نقطة ساخنة بعيدة عن نعومة أحلامه ورومانسيتها حيث تطرح مسألة أساسية فى الإبداع .. نحن نبدع لمن ؟ ومن هو المستهلك الحقيقى لما نبدعه .. من وجهة نظر حجى أن الدولة هى المسئولة عن عدم وجود مستهلك حقيقى للفن التشكيلى .. لأنها لم توفر عددا كافيا من قاعات العرض يتناسب مع عدد السكان وبالتالى فالقاعات الموجودة ليست متاحة لمستهلكى هذا الفن فضلا عن أن اقتناء الدولة للأعمال الفنية ضعيف للغاية وهذا الاقتناء هو الذى يشجع على الإبداع فعندما لا تكون الدولة هى نفسها أكبر مستهلك للفن تصبح هناك مشكلة .. فالموسيقى والأغنيات وجدت طريقها إلى أكبر عدد من المستهلكين عندما كانت الدولة أول مستهلك لهذه الفنون !
- ويضيف : إن ندرة المستهلك جعلت قليلا من الفنانين يستطيعون العيش من ربع أعمالهم فمعظمهم ينفق وقتا أكبر للبحث عن عمل يدر له الدخل الأساسى الذى يعيش منه رغم أن الأساسى فى الموضوع هو ضرورة التفرغ للفن .. فضلا عن أن فنوننا جميعها أو معظمها مازالت تدور فى الفلك المحلى نتيجة عدم قدرة الدولة على تسويق هذه الفنون فى الخارج.. إضافة إلى نقطة بالغة الأهمية وهى أن وسائل الإعلام لا تلعب الدور المناسب فى ترويج الأعمال الفنية خصوصا بالنسبة للفن التشكيلى الذى مازال يعانى من أمية شديدة عن المتلقى .
- لم يكن ممكنا أن يحترف حجى عملا آخر غير الرسم الصحفى فهو لديه قناعة أن الفن اختاره لهذه المهمة وهو لم يختر شيئا ويقول `كانت لدى موهبة مبكرة فى هذا النوع من الرسم .. كنت مغرما بالرسوم والصور فى الكتب والمجلات..
- كانت نشأتى فى بيئة ريفية تحرص على الإبداع حتى لو كانت أذهان أصحابها بعيدة عن الفن ولذلك كانت دهشة الجميع عندما وافق والدى الفلاح البسيط على دراسة الفنون فى مصر فى وقت كان يحلم الجميع لأبنائهم بوظيفة `يأكلون منها عيش` .
- ويقول : كنت أرى أن الرسم الصحفى له مميزات قد لا تتوافر للفن التشكيلى الذى يكتفى بعرضه فى المعارض .. أولها قدرته فى الوصول إلى عدد أكبر من الناس .. فهناك الملايين الذين يطالعونك فى الصحف والمجلات فضلا عن الإحساس بالمسئولية .. وكونك لابد من أن تمتلك الجرأة والشجاعة للدفاع عن أفكارك، ثم إننى اتجهت إلى هذا الفن فى وقت كان يمر بأكثر عصوره ازدهارا وكانت هناك أسماء لامعة فى كافة الصحف والمجلات فهناك مدرسة روزاليوسف التى انتميت إليها حيث يوجد أسماء مثل أبو العينين وحسن فؤاد وجمال كامل وغيرهم وكان هناك منذ بداية الأربعينات فى دار أخبار اليوم رسام عملاق مثل كنعان وطوغان وغيرهما وفى الأهرام الحسين فوزى .. وكان هؤلاء جزء لا يتجزأ من منافسة الصحف والمجلات إلى أن جاء جيل من قادة الصحف غير مشغول بهذه القضية ولكنه مشغول بالحفاظ على انتماء الجريدة السياسى فضلا عن وجود مخرجى الصحف من خريجى كلية الإعلام غير المتحمسين لهذا النوع من الفن .. وبالتالى بدأ هذا الفن فى الانسحاب أو التوارى .
- ويرى حجى أن حق الكاريكاتير تأثر ولم يعد له دولته ونفوذه السابق واختفى أغلب رسامى الكاريكاتير الموهوبين والعظام ولم يعد هناك نجوم مثل صلاح جاهين وحجازى والليثى وغيرهم ولم تعد عينك تقع على كاريكاتير.
- حجى رأى فى هذا المناخ الطارد للإبداع أن عليه البحث عن حلول لا تضطره إلى تنازلات .. وكان هناك حلان .. الأول أن يرسم ويجمع ما يرسمه فى كتب.. ولكن لأسباب خاصة نشرت هذه الكتب فى الخارج .. خصوصا أن حجى شغل منصب مدير الشئون الفنية بجامعة الدول العربية الأمر الذى أتاح له فرصة أن يعيش فى تونس نحو عشر سنوات وهى السنوات التى شهدت إصدار أكثر من كتاب من خلال دار نشر تونسية منها كتب ورسومات عن طبيعة بعض بلدان المغرب مثل تونس وليبيا وهى مهمة جدا بالنسبة للسياح الأجانب وبعض هذه الكتب وزع نحو 35 ألف نسخة .. ومن أهم الكتب التى كان ينوى إصدارها رسومات مستوحاه من الآيات والقصص فى القرآن الكريم حيث استلهم معانى القرآن فى 33 لوحة ولكن الأزهر لم يوافق على الكتاب وبالمناسبة فإن الذى قدم هذا الكتاب هو وزير الثقافة الأسبق والمثقف الكبير ثروت عكاشة .. كان ذلك هو الحل الأول للهروب من هذا الجو القاتم فكريا وفنيا. وأما الحل الثانى فهو إقامة المعارض رغم أن فكرى كان يصطدم دائما بفكرة إقامة معارض دورية أو شبه دورية خصوصا أن هناك إدراكا أن سوق الفنون التشكيلية تمر بأزمة وافتقاد المستهلك منذ عصر الباشوات .. وحتى طبقة الباشوات القدامى كانت تفضل شراء الأعمال الأجنبية ويكفى أن نشير إلى أن محمود خليل الذى له فضل كبير على الحركة الفنية فى مصر من خلال متحفه الذى يضم أعمالا لفنانين عالميين كبار مثل ` جوجان ` و ` رمبرانت ` و ` فان جوخ ` لم يكن يقتنى أعمالا لفنانين مصريين إلا قطعة خزف للفنان سعيد الصدر .
- فى النهاية يقول محمد حجى : إنه ليس مهتما بتصنيف نفسه من حيث المدرسة أو الأسلوب فهذه مهمة النقاد وهو لا يريد أن يشغل نفسه بعمل يقع فى اختصاص هؤلاء النقاد وهو لا ينكر أنه تأثر بمدارس ورسامين عديدين وهو يحترم جدا فنانا مثل محمود سعيد .. ولكن إلى وقت قريب لم يكن يقتنى لوحة لأى فنان ولا حتى لنفسه حتى قامت بهذه المهمة السيدة زوجته وهى كيمائية ولكن تهوى الفن وتمتلك قاعة لعرض الفنون اسمها ` المرسم ` ..
- محمد حجى بعد رحلة طويلة من الرسومات الصحفية عاد فى معرضه الأخير إلى دائرة أحلامه .. يتأملها ويعيد صياغتها على نحو يفاجئنا ويدهشنا .
محمد مرسى
مجلة نصف الدنيا 2005
إطلالة على العالم الرحب للتشكيلى المصرى محمد حجّى: الفنان الذى حاول رسم القرآن .. فمنعه الأزهر
- يشهد الفنان والناقد التشكيلى محمود بقشيش بأن محمد حجى هو أمهر طالب التحق بكلية الفنون الجميلة منذ نشأتها بالقاهرة عام 1908 وحتى الآن، من حيث مقدرته الخارقة فى المحاكاة ونقل الواقع على سطح اللوحة جاء ذلك فى كتابة `نقد وإبداع` الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 1997.
- والحق أن رؤية اللوحات ` الواقعية ` التى يرسمها محمد حجّى تصيب المرء بالدهشة لهذه الإمكانية المذهلة فى اصطياد أدق التفاصيل ، لكنها لا تغرق فى مستنقع الفوتوغرافيا الفجة ، بسبب شحنة الإحساس التى تسرى فى أوصال اللوحة. وإذا كان بقشيش قد كتب ذلك - وقد كان زميلا للفنان محمد حجى طوال سنوات الدراسة وتابع من خلال نشاطه النقدى الهام تاريخ الفنانين المصريين وإمكاناتهم ومواهبهم ، فإن الناقد الكبير بالأهرام حنين قد اخبرنى أن محمد حجى يستطيع أن يرسم أى شئ كما هو بالضبط وبمقدرة لافته للنظر ، هذه بداية كان لابد منها ، بسبب ما يروجه أصحاب السلطة التشكيلية فى مصر من أن ` المهارة ` وامتلاك الأدوات التقنية أمر لا ضرورة له فى العمل الفنى ! ودليلنا على ذلك هذه الجوائز السخية التى يغدقون بها على ` فنانين ` اتسمت أعمالهم بانعدام الحد الأدنى من أصول الصنعة !
بداية مشرفة
- فى إحدى القرى التابعة لمدينة المنصورة فى شمال الدلتا، ولد محمد حجى عام 1940 لأسرة بسيطة من فقراء الريف، وبدأ انشغاله بالرسم عندما كان طفلاً صغيراً، فقد اخبرنى : لا أذكر بالضبط متى بدأت امسك القلم والورقة لأرسم.
- فى عام 1958 التحق محمد حجى بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، وكان ذلك الحديث غريبا على أسرة ريفية فقيرة ، لا ترى مستقبل ابنها إلا فى المهن المرموقة الشائعة مثل الطب والهندسة والمحاماة مثلا ، ومع ذلك لم يعترض الأب رغم أن الكدر اعتراه .
- وكان انتقال الفتى محمد إلى القاهرة والإقامة فيها للالتحاق بالكلية يعنى مزيدا من الإرهاق المالى لاسرة ذات دخل شحيح، مما دفع الفتى إلى الاجتهاد حتى يحصل على مكافأة التفوق.
- قال لى محمد حجى : ظللت طوال فترة الدراسة احصل على المركز الأول ، وأتقاضى مكافأة شهرية لذلك قيمتها خمسة عشر جنيها مصريا ، وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك الزمان ، حيث أن راتب خريج الجامعة كان ستة عشر جنيها ،أى بفارق جنيه واحد عن مكافأة التفوق .
- واعتقد - والكلام للفنان الكبير- أن هذا النظام الذى وضع فى عهد عبد الناصر للمتفوقين الفقراء إمكانية مواصلة الدرس والاجتهاد فى ظروف اكثر إنسانية وكرامة أما بالنسبة لى - والكلام مازال لحجى - فأنا مدين بشكل شخصى لجمال عبد الناصر، أتمنى أن ارسمه وأنا احتضنه واحميه من أولئك الذين ينهشون ذاكرة منذ وفاته .. مثلما حمانى وأنا فى بداية الطريق` .
- بعد التخرج عام 1963 كانت مصر والأمة العربية تعيش حالة نهوض قومى منعشة، وأحلام العدل الاجتماعى تراود الناس والفنانين والمثقفين. ولم يكن أمام الشاب الواعد محمد حجى إلا أن ينحاز للبسطاء بحكم تكوينه الفكرى ووضعه الطبقى وحساسيته الفنية .
- اختار محمد أن يرسم فى الصحافة حيث وضع لى السبب :`الصحيفة يقرأها الآلاف بينما اللوحات المعلقة فى معرض لا يراها إلا العشرات`، وكانت مجلة `المنصورة` هى أول من استقبل رسوم محمد حجى ثم انضم إلى أسرة `روزاليوسف` ورسم فى مجلة `صباح الخير` ثم روزا بعد ذلك، تحقيقات صحافية باللون الأسود على سطح الورق الأبيض اثبت خلالها مقدرة فائقة فى التعبير المسلسل والممتع للقضايا التى عالجها.

- رسوم من ليبيا :
- فى عام 1973 خرج محمد حجّى مع الخارجين من مصر هروبا من بطش السادات، واختار العمل فى ليبيا التى استقر فيها أربع سنوات كاملة، كان من حصادها مجموعة كبيرة من اللوحات التى تصور مشاهد من الحياة اليومية فى ليبيا من أول الشوارع والازقة والحوارى، حتى الحرفيين والعمال والفلاحين ورجال البدو مرورا بالحيوانات والأسلحة المستخدمة والنباتات والأشجار والنخيل .. لقد جاءت هذه اللوحات التى جمعها فى كتاب فاخر الطباعة، يمتاز بالأناقة، لترسم بانوراما عريضة .. لرجل انفعل مع أهل البلد وقدر التعبير عما رآه، حيث جمع البلد كلها فى كتاب واحد !
- اللافت للنظر أن جميع هذه اللوحات قد نفذها باستخدام ألون `الفلوماستر` ذات الإمكانات المحدودة، حيث يصعب مثلا تنفيذ الظلال والدرجات اللونية بها، ومع ذلك فقد لاحت لنا هذه اللوحات كنماذج كامل الأوصاف، لما يجب أن تكون عليه اللوحة. ففى لوحة `منظر من ليبيا` نرى لقطة عامة تصور مسجدا بسيط البناء يحيط به من النخيل، بينما زرقة السماء تغلف المشهد كله . يهمنا فى هذا العمل شيئان، الأول هذه الطزاجة اللونية والدرجات الظلية التى حققتها ألوان الفلوماستر، خاصة فى قبة المسجد وسطح الأرض، أما الشىء الثانى فيتمثل فى قوة التصميم المدعومة بشبكة من الخطوط الجريئة والعريضة، والتى لم تصادر على تحقيق الانسجام بين مساحات الظل والنور، لقد تمكن الفنان الكبير فى هذه اللوحة، كما فى بقية اللوحات - من إخضاع الخامة العنيدة وتحطيم تمددها حتى لانت وكشفت له عن أسرارها الداخلية، واعتقد انه ما من فنان مصرى استطاع أن يصل بألوان الفلوماستر إلى هذا المستوى من المهارة والجمال .
- عند زيارتى لمنزل محمد حجى، تعجبت من عدد اللوحات الكثيرة المعلقة على الحائط أو مكومة فى ركن من الأركان، حيث أن تنوع المدارس والاتجاهات التى تمثلها اللوحات لشيء بان لها أكثر من صاحب، أو أن الفنان مازال يبحث عن طريق أو أسلوب يرتاح إليه … وكان لابد أن اطلب منه التفسير، خاصة وأنه اقترب من الستين سنة.
- قال محمد حجى : أننى أرسم … ولا اعرض، ليس تعففا، وانما واقع الحركة التشكيلية المصرية لا يسمح باستيعاب كل ما ينتجه الفنانون، بسبب انشغال الناس فى البحث عن لقمة العيش وتراجع الاهتمام بالفنون الجميلة فى العشرين سنة الأخيرة .. لذا - والكلام للفنان - فأنا اخرج من مدرسة لأدخل فى أخرى استجابة لتطورى الفكرى والفنى والانفعالى بالأحداث العامة والخاصة، دون أن أحظى بنعمة نقد لوحاتى، كل ما أفعله أنها تتكوم عندى ` شاهدت عددا من اللوحات تستلهم الحرف العربي ومن المعروف أن المدرسة الحروفية ظهرت فى العراق ومصر فى الخمسينات من هذا القرن الآخذ فى الرحيل، كتعبير تشكيلي عن هوية عربية، ثم لاقت رواجا فى السبعينيات عندما اقبل الخليجيون على اقتناء لوحات تحتفى بالحروف العربية، برغم أن معظم هذه اللوحات سقطت فى مستنقع الزخرفة والرياء عندما استهدف إرضاء المزاج النفطى!
- فى لوحة ` حروفيات ` قدم محمد حجّى صياغة فريدة لعدد من الحروف تداخلت وتشابكت وأنتجت تكوينا مثيرا اقرب إلى إيقاعات موسيقية تفوح فى الفضاء الرحب، شاهدنا فى حروف العين والباء والسين، تمتعنا بهذه الكوكبة من علامة التشكيل والنقط، خاصة وان الفنان التزم فى إنجاز هذا العمل على إبراز التوازن بين الكتل المختلفة للحروف، فضلا عن إدارة الصراع بين الظل والنور بحكمة وتمكن سمحت من استقبال لذة المشاهدة بيسر. وإذا كانت اللوحة السابقة قد أظهرت كفاءة الفنان فى تطويعه لألوان الزيت، فانه فى لوحة `الزهور الزرقاء` قد وصل بها مستوى رفيع ومشرق. فها هى مجموعة من الزهور والأوراق تحور شكلها قليلا تستولى على سطح اللوحة، تاركة مساحة صغيرة رمادية للخلفية، بينما بعض الوريقات الخضراء منثورة ومتداخلة مع غابة سيقان الورد. أن الملامس المتنوعة التى حققها محمد حجى منحت العمل ثراء ودفئا، خاصة انه لم يهمل أبدا القوانين التى تجعل من اللوحة متعة بصرية يجب الالتفات إليها .
- فى عام 1980 التحق محمد حجى بالعمل فى جامعة الدول العربية وهو الآن يشغل منصب مدير عام مطابع هذه الهيئة التى نتمنى أن يزدهر دورها فى هذه الأيام الشائكة !
- فى تجربة مثيرة وجريئة، خاض الفنان محمد حجى مغامرة لم تر النور، حيث عبر عن قراءته للقرآن الكريم بمجموعة من الرسوم الجميلة وجمعها فى كتاب `رسام يقرأ القرآن` لكن مؤسسة الأزهر الشريف رفضت الكتاب وصادرته، برغم أن وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة هو الذى كتب مقدمة الكتاب ! ولقد كنت سعيد الحظ لأننى اطلعت على النسخة الأصلية لهذا الكتاب الفريد والذى حرمت منه المكتبة العربية بسبب ضيق أفق بعض الموظفين.
- يحتل فن البورتريه أو الوجه مكانا مرموقا فى خريطة إبداع محمد حجى فهو رسم آلاف الشخصيات منهم من حظى بنعمة الشهرة ومنهم ينتظر !
- وإذا أخذنا جمال عبد الناصر كنموذج لهذا الفن عند حجى، نكتشف مدى البراعة التى وصل إليها الفنان، من أول اصطياد الملامح حتى تعرية النفس التى تلوح فى التفاصيل الدقيقة، فوجه الزعيم هنا شامخ برغم الحزن الساكن فى العينين يستشرف المستقبل بنظرته الهادئة مع ابتسامة بسيطة محسوبة، نفذ الفنان هذا العمل بالحبر الصينى الأسود على ورقة بيضاء، وقد التزم محمد حجى التزاما صارما بانضباط النسب التشريحية للوجه، مع نزعة قوية نحو تأكيد حلاوة الظل والنور. أن وجه عبد الناصر بملابسة الكلاسيكية يمنح المتلقى ذكرى عطرة لزمن جميل رحل… زمن العزة والكبرياء.
- محمد حجى .. فنان نادر المثال، انشغل بالناس، وسعى نحو التعبير عنهم بإخلاص واستشهاد يعد بحق من اغزر فنانى مصر إنتاجا .. امتلك أصول الصنعة امتلاكا ، وحظى بموهبة خارقة وصبر راهب قديم، لذا جاءت لوحاته عامرة بالحلاوة والعذوبة، تفتن المشاهدين، ولا تحرمهم من متعة التساؤل، وإذا كان الناقد محمود بقشيش قد شهد انه امهر طالب كما قلت فى أول المقال، فاستطيع أن اشهد أنا أيضا بأنه اكفأ فنان، وأنه نموذج لما ينبغى أن يكون عليه الفنان فى العالم الثالث .. وأظن أننى لا أبالغ !
ناصر عراق
جريدة القدس اللندنية 1998
...عودة الغائب
- اختار الفنان `محمد حجى` موضوعاً لمعرضه الذى تحتضنه قاعة `أفق واحد` يمس أوتار أفئدة الأمة، وضميرها الحى الذى كشفت عنه الأيام القاسية الماضية بعد تداعيات محنة الشعب الفلسطينى البطل، حيث جاءت الأعمال لتساهم فى رسم جزء من تيار الوعى المتنامى لإبعاد الملحمة التى يسطرها كافة أفراد الشعب الفلسطينى، سواء كانوا أطفالا أو كباراً أو أمهات انفطرت قلوبهم على فلذات الأكباد .
- بحساسية الفنان ..تأتى المجموعة التى جسدها الفنان لتكشف بشكل جلى، تعدد صور النضال اليومى عندما صور الطفل الذى يواجه دبابة بحجر ، بينما أفترش طفل آخر النجيلة الخضراء لمذاكرة دروسه فى الوقت الذى خضع فيه طفل صغير لتدريب فتى على حمل السلاح، وجلس رضيع فى المواجهة، واتحد السلاح والابن والأم معاً فى جسد واحد، وارتفعت أصابع طفل بعلامة النصر، وتجمع الكل حول ألوان العلم الفلسطينى، وارتفعت الأيادى بالشهيد الجديد وأصرت الأم على إرضاع وليدها فى أتون المعركة، بينما نرى نظرات التحدى فى عيون طفل الانتفاضة، فيما انتظرت الفتاة بأسى عودة الغائب، وسجل الفنان عودة الطفل من المدرسة إلى المخيم الذى تباعد كأنه الأمل فى الغد .
- اتسمت أعمال الفنان بحساسية خاصة فى استخدام الألوان لتزاوج بينهما وبين المضمون، فلم تخرج عن ألوان العلم الفلسطينى على الرغم من الصعوبة التى تكتنف هذه المعالجة، إلا أنه التحدى الذى يتناسب مع الموضوع المفعم بالألم .
أ. د. / أحمد نوار

....فنان الملاحم الشعبية المعاصرة
- تثير حافظة الشعب العربى كل يوم .. كل يوم .. صور المجازر الوحشية للمحتل الصهيونى ..على أبناء فلسطين..التى نشاهدها على وسائل الإعلام المختلفة .. وما تفعله قواته المدججة بأحدث الأسلحة.. وبجوار تسديد بنادقهم فى صدور الشيوخ .. والنساء ..والشباب .. والأطفال.. يهدمون البيوت.. ويتلفون الزراعات .. ويقتلعون أشجار الزيتون .. حتى يجوع الشعب.. ولا يجد سبيلا غير الإستسلام.. أول الهجرة .
- ولكن الشعب البطل لا يزال صامدا منذ نصف قرن.. ضد هذا العدوان ..الذى لا يوجد له مثيل فى العالم بإنتفاضتة الملحمية الرائعة.. وابتكاراته النضالية التى بدأت بالحجارة.. وصولا إلى تصنيع المتفجرات اليدوية الموقوتة وإطلاق الصاروخين قسام (1 ) وقسام ( 2 ) فى مواجهة الترسانة الحربية الإسرائيلية.. وما لديها من أحدث أدوات القتل والإبادة من طائرات ..ودبابات ..وجرافات.. وسفن وغيرها .
- وهنا عبر الإنسان العربى ..عن هذه المأساة التراجيدية المستمرة فى الشعر والأدب والموسيقى والفن التشكيلى.. بأساليب واتجاهات متنوعة.. لنشاهد الفنان محمد حجى.. ينحو نحوا مغايراً ..فى إنتاجه رسوم غزيرة (تعد بالمئات) عن الإنتفاضة.. مسجلا بصدق الأحداث المتوالية للمأساة.. من خلال تتبعه اليومى لصور هبة الشعب.. وتشييعه المئات من الشهداء إلى مثواهم الأخير .. نتيجه لوحشية الجيش الصهيونى وصلف جنوده الغير إنسانى .
- إستخدم الفنان حجى الوسائط الحديثة.. من صور حقيقية .. يشاهدها كل العالم فى التليفزيونات.. والفضائيات ..والجرائد .. والمجلات ..فهو يعتمد على الواقع.. وليس على الخيال فى تجسيد لوحاته السريعة، التى تحمل شحنة كبيرة من وجدانه، تنعكس بشكل مباشر على المشاهد..كما تلهمه شخصياً .. لإنجازها فى لوحات صرحية ضخمة بالألوان الزيتية بعد ذلك .
- ولا نكاد نتعرف على ملحمة مأساة الشعب الفلسطينى التى سجلها بريشته على الورق.. ونستجلى رموزها حتى نستسيغها ونأنس لها ..ثم تنكشف شخصيته فى التعبير بالرسم .. بواسطة أقلام `الفلوماستر ` الصعبة المراس، والتى تظهر بين يديه وكأنها صنعت من أجل ابداعاته الفنية.. وأنها تلين أمام حماسه وعاطفته الصادقة نحو ما يقوم برسمه، وكأن محمد حجى يعيد صياغة الفنان الشعبى.. مع الفارق الثقافى.. والتقنى الكبيرين.. بأمانيه فى الحياة..ونهجه فى التعبير الفنى.. بصورة حديثة.. وكأنه ينقب وسط عالمنا وخباياه..عن معان مجازية مستترة وراءها ..فنراه يستعين فى حالات كثيرة بأشكال فى غاية البساطة... يرتبها وفقاً لنمط معين..كأنها لغة إشارات يحدثنا بواسطتها..فتأتى تعبيراته الواقعية فى مناظر آدمية مصاغة فى قالب بسيط قريباً جداً من فهم عامة الناس وحسهم .فهو لا يرسم أبطال الملاحم العربية.. عنترة .. أبو الفوارس ..أو أبو زيد الهلالى ..أو الزير سالم ..بل رسم أبطال الإنتفاضة من أطفال يلقون الحجارة.. أو شبابا يحملون السلاح .. أو يستشهدون من أجل قضيتهم التى يؤمنون بها..بالإضافة إلى الأمهات اللاتى يربين أولادهن وبناتهن ويرضعونهم حب الوطن .. ويدفعونهم للنضال فى سبيل الحرية.. والرجال الصامدون فى وجه الغاصب المستبد..
- إنه يجسد فى أعماله الفنية كل المفاهيم السياسية والاجتماعية النابعة من روح أهل فلسطين .. والسيرة الباحثة عن الحقيقة فى حياة الإنسان العربى.. كأنه الراوى..السارد لقضايا المجتمع .. حيث صاغه بأسلوب تنويرى جديد .
- لم يذهب حجى إلى الأرض المحتلة، سوى مرة واحدة، زار فيها غزة قبل حرب 1967 بأربعة أشهر.. ولكنه ذهب إلى الأردن عدة مرات، والتقى فيها بأهل فلسطين المهاجرين قسراً فى عدد من المخيمات وعاش لفترات متفاوتة مع رجال المقاومة الفلسطينية فى قواعدهم المتقدمة واختزن المأساة فى ذاكرته منذ احتلال العصابات الصهيونية لأرض فلسطين.. واستشهاد الكثير من العرب وعلى وجه خاص من أهل مصر ..أثناء الحروب المتعددة .. مع إسرائيل ..لدرجة أنه لا يوجد بيت مصرى لم يشترك أحد أبنائه فى تلك الحروب ... وكان بينهم شقيق الفنان، الذى استشهد أثناء حرب الاستنزاف..فهل ينسى أى عربى أبطاله وشهدائه فى تلك الحروب والمجازر على أرض فلسطين وبلاد الجوار؟ ` ..خاصة وأن المعركة لم تنتهى بعد.. ومن الممكن امتدادها لتعم العالم العربى بكامله.. وما نراه اليوم .. من مجازر لا نهاية لها لأهل فلسطين من رجال وشيوخ ونساء وشباب..والأطفال فى أرحام أمهاتهم وما نتابعه يومياً من قوافل الشهداء إلى مثواهم الأخير كل صباح ومساء فى الأرض المحتلة ويؤكد ذلك حجى فى رسومه الملونة عن الإنتفاضة.
- لقد انحاز الفنان محمد حجى منذ بداياته المبكرة إلى البسطاء ففى قريته بوسط دلتا النيل، أستلهم من أهلها الرسوم الجدارية على الحوائط الطينية للقرية.. وكانت وسيلته الألوان الجيرية كما كان يفعل الفنان الشعبى فى موسم الحج.. ولكن بموضوعات تجذب الانتباه وبإسلوب جديد يجلب البهجة والمتعة.
- وعندما التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة اهتم باتقان اللغة الأكاديمية..حتى تكون رسومه أكثر إقناعا.. وواقعية وفى `مجلة المنصورة ` قام بالتجريب فى الرسوم الصحفية المشفوعة بالتحقيقات التوثيقية القريبة من أهل الريف .. ثم وجد سبيله ومادته الثرية فى مجلة روز اليوسف على نطاق الأمة العربية فأخذ يجول ويصول فى موضوعات درامية محورها الأساسى الكادحين البسطاء. وأثناء عمله الصحفى فى ليبيا انجز كتابه الشيق ( رسوم من ليبيا ) الذى تضمن أكثر من 250 رسماً ( عن الحياة هناك ) عبر فيها عن البيئة العربية الصحراوية.. مصوراً خصائص حياتهم الشعبية..متعاملا معها بلمسات إنسانية رائعة .
- وبعدها صار فن الكتاب المرسوم هدفه ومناله..أثناء عمله فى جامعة الدول العربية مديراً للفنون والنشر .. ولقد شاهدت عن قرب آلاف الرسوم الملونة..وبالأبيض والأسود أيضاً .. التى لم ترى النور .. والمكدسة داخل البومات عديدة ضخمة .. شملت رسوم أخرى عن ليبيا .. وتسجيله للرسوم البدائية المكتشفة فى هضبة التاسيلى التى استوحى منها الغرب الكثير.. هذا بالإضافة إلى كتابه المرسوم الهام ( رسام يقرأ القرآن ) وهو أول كتبه المصورة وقد سبق أن نشرت هذه الرسوم مع مقالات للدكتور مصطفى محمود فى مجلة (صباح الخير ) وأيضاً كتابه الثالث ( شمال يمين ) والرابع ( ذكريات ريفية ) والخامس ( رباعيات عامية ) مستوحاة من أشعار عامية لابن عروس وغيره من الشعراء الشعبيين .
- أما كتابه (رسام يقرأ القرآن) فقد استطاع حجى بمهارة فائقة ترجمة أحاسيسه نحو القرآن من خلال ثلاثة وثلاثين آية اختارها بنفسه، وصورها فى لوحات غاية الروعة، ولقد تحمس الدكتور ثروت عكاشة لهذه التجربة الفريدة وكتب مقدمة الكتاب ولكنه للأسف أمرت إدارة بحوث الأزهر عام 1984 بمصادرته مع أنه يمكن أن يعد بحق أحد وثائق التنوير لتناوله معانى القرآن بأسلوب عصرى جميل.
- وهو يهتم الآن بموضوع `ضيوف أم هاشم ` أهل الريف البسطاء الآتون من كل قرى مصر للإحتفال بمولد السيدة زينب.. واقترابه من الجماعات الصوفية ورسم ألوانها ورموزها باحترام واجلال.. مع تسجيله بشحنة وجدانية سريعة قبل انفلات غالبية ما يحدث فى هذا الاحتفال السنوى.. ولقرب رسومه الملونة من ذوق العامة اختار أن تكون أعماله بسيطة.. بل فى غاية البساطة .. معبراً فيها عن مشاعره.. وانفعالاته الصادقة.. لتدخل مباشرة إلى قلوب المشاهدين.. مع استعماله الألوان الزاهية فى أصولها الأولى.
- إن الفنان محمد حجى لم يبعد كثيراً عن بيئتة الريفية التى اكسبته طابعاً خاصاً مميزاً.. والمحملة بقيم المجتمع المصرى الثقافية والفكرية والفنية ولاهتمامه الكبير أن يصل فنه إلى البسطاء من الشعب العربى العريض اتجه إلى الواقعية الحديثة بصراحتها مستغنياً فى أداءه عن التفاصيل الغريبة عن نبض الشارع دائماً لتصبح رسومه حقيقة صادقة لما يحسه ويشعر به .. تدخل إلى قلوب الناس مباشرة دون واسطة .. وكان رصيده الحى لاحداث الإنتفاضة قد جعلت من رسومه شاهداً على عصرها دون أن تفقد عمقها الدرامى أو تتجاوز الحياة الواقعية التى يعيشها الشعب العربى فى فلسطين ولذلك استحق محمد حجى أن نطلق عليه فنان الملاحم الشعبية المعاصرة .
الناقد/ محمد حمزة
11-3-2002

الأطفال الموهوبون غالبا ما ينشأ لديهم حافز الرسم من خلال إطلاعهم وتأملهم للرسوم الإيضاحية الموجودة داخل صفحات الكتب المدرسية ومجلات الأطفال والمجلات الأسبوعية والصحف اليومية أو فى حال اصطحاب ذويهم لهم إلى المعارض الفنية التشكيلية وكذلك تشجيعهم على تنمية ذلك الميل الفطرى بتوفير الظروف المناسبة لهم. وتلك الرسوم التى يشاهدها الأطفال لها سحر خاص وتظل عالقة بذاكرتهم سنوات عديدة وتكون بمثابة الحافز المشجع على المضي فى الرسم حتى يكونوا يوما ما مثل هؤلاء الرسامين الكبار وفى مستوى شهرتهم الجماهيرية، ومن منا شاهد رسوم الحسين فوزي وبيكار ومأمون ورجائي ونيس ويوسف فرنسيس وأبو العينين وحسن سليمان وجمال كامل وإيهاب شاكر وجورج البهجورى وكنعان وغيرهم فى الجرائد والمجلات اليومية والأسبوعية الشهيرة ولم يعجب بها، إن تلك الرسوم تشد القارئ إليها وتستوقفه برهة من الوقت لمعرفة مدى علاقتها بالنص المكتوب، فهي وسيلة إيضاح، نعم، لكن ليست دائما ترجمة أو تفسيرا حرفيا له بقدر ما تكون فى حالات كثيرة موازية له فى الأهمية والرسوم الإيضاحية مجالات الإبداع فيها كثيرة ومتنوعة بتنوع الموضوعات والتقنيات الأسلوبية والطباعية،وكثير من الرسوم التى تصاحب المواد الصحفية يمكن أن تنظر إليها على أنها رسوم مستقلة تحتفظ لنفسها بنفس القيم الجمالية والتعبيرية التى للرسم كعمل فنى مستقل.. وفناننا الموهوب (محمد حجى) الذى نعرض له جانبا من رسومه المميزة التى نفذها للصحافة فى - روزاليوسف - أو التى أنجزها كتعبير خالص ومستقل عن ذاته هى فى كل الأحوال رسوم على جانب كبير من الخصوصية والأهمية من حيث تجسيدها للوقائع الموضوعية، والمشاعر الذاتية للفنان، والمهارة العالية فى استخدام أدوات الرسم المعتادة والتعبير بها فى سلاسة وتمكن، فهو على مدى أربعين عاما يقرأ ويرسم ويتثقف ويجرب، ولديه رصيد وافر من الأعمال الفنية فى الرسم والتصوير - لم تعرض حتى هذه اللحظة - آي منها فى معرض خاص له؟ وهى كلها أعمال فنية لا علاقة لها بالصحافة، لكن لا نذكر بالطبع فضل وتأثير مناخ الصحافة عليه وخاصة فيما يتعلق بالجانب الإيجابي منها، وتلك الرسوم تضعه عن يقين فى صف الرسامين المصريين المعاصرين المميزين.
الرسم الصحفى والرسم كتعبير مستقل:
إن كثيرا من الرسوم التى قدمها للصحافة لتكون مصاحبة لقصة قصيرة أو رواية أو قضية اجتماعية أو سياسية إلخ، ترتفع بقيمها التشكيلية والإنسانية إلى مستوى الإبداع الحقيقي، صحيح أن هناك التزاما أدبيا وفنيا تمليه طبيعة المهنة ووظيفة هذا الفن (الجماهيري) تفرض على الفنان حدودا بعدم تجاوزها، وفى ظل هذا الالتزام المهني والأخلاقي رسم و عبر عن روح النص دون خوض فى تفاصيل ليس لها داع.. يقول (حجى) علاقتي بالنص الصحفي علاقة قوية تقوم على رؤيتي الخاصة له وعدم تبعيتي المباشرة له، وإن كنت أميل إلى استخدام مفردات شخصية خاصة بى للتعبير عن النص.. أنا فقط أرسم انطباعي الخاص عن الموضوع.. لقد تخلصت من الرسم الصحفى كأفيش سينمائي كما كان ولا يزال يفعل بعض الرسامين الصحفيين وهو الاهتمام بوجه النجم ولا يهم مادة الفيلم وهذا الأسلوب انتقل إلى الصحافة وهذا ليس برسم توضيحي)، إن صياغته للرسوم تخضع لحسابات التصميم والفراغ وإيقاعات الضوء والظل وتوازنات المساحات والكتل فى حال مشاهدتها مستقلة عن النص - وهذا لايعنى الإقلال من قيمة وأهمية الرسم الصحفى الذى يتخذ صيغ وتعبيرات مختلفة وبخاصة الرسم الذى يرتفع بقيمته الفنية والتعبيرية عن النمطية. المستهلكة، فى هذا المقام يمكن اعتبار (حجى) حالة خاصة، لأنه على مدى أربعين عاما يرسم للصحافة، ظل محافظا على ذلك الإغراء الجماهيري والتزامه الأخلاقي لمهنة العمل الصحفى، ومستواه الفنى ولم يهتز إطلاقا وأصبح له قالبه الفنى والجمالي الذى يميزه بين الآخرين. ورسومه التى أنجزها للصحافة أو لمزاجه الشخصي تجمعها سمات مشتركة وشخصية واحدة ألا وهى (الرمزية) التى تبدو كأنها تصويرات مختزلة لأفكار عامة، ولديها مفهوم خاص بالنسبة للشعب بوجه عام تجلب معها دائما الانفعالات والإيحاءات الذهنية المشتركة التى يوحيها حضور الشكل الرمزى (الضوء) وهو عنصر مهم فى بناء وصياغة تكويناته، فتارة نجده موزعا بالتساوي بين عناصر الأشكال والمساحات أو مكثفا فى بعض المناطق أو على الأشكال الأساسية مع تعتيم باقي الأجزاء بالأسود لتجسيد الأشكال وإبراز طابعها الشجنى أو الدرامي (الخيال والمبالغة والتحوير والسخرية والتبسيط فى عناصر الأشكال).. كلها سمات استخدم فى تنفيذها أدوات وتقنيات مختلفة كالقلم الفحم والفلوماستر والرابيدوجراف أو الكشط بشفرة حادة على أرضية سوداء مشبعة بالحبر الأسود أو بالفرشاة ولون أبيض على أرضية سوداء وهى طريق أدائية أقرب إلى تقنيات فن الجرافيك، كما استخدم أيضا أقلام الجاف الملونة، كل هذه التقنيات المتنوعة تمنح العمل تأثيرا ملمسيا وبصريا جميلا وتحترم فكرة الموضوع وتمنحها تعبيرا مثيرا فى الوقت نفسه.. فهي من ناحية مواضيعها المتنوعة وتكويناتها سواء من كان منها انعاكسا للواقع بصورة مباشرة أو ما يخص الخيال ويفصح مجالا للتعبير عن الروح والانفعالات الشعورية، واللاشعورية فكلاهما سكتان متوازيتان (الوظيفي والحر) يتحولان إلى عمل ذي قيمة، أن رسومه على هذا النحو من الحساسية تعتبر ذات طابع نموذجي تبين مدى الحيوية والريشة الملهمة فيما يتعلق بقدرته على تصوير الحقيقة الموضوعية للموضوع، أن تلك الجمالية التى تتسم بها رسومه لها ما يبررها سلفا، فالمنشأ والموهبة والبيئة والتعليم والثقافة والدين ومحيط العمل والظروف السياسية والاقتصادية أسهمت بشكل أو بآخر فى تكوين شخصية الفنان وتوجهه الفكري والفنى.. من حيث المنشأ، ولد وعاش فترة طفولته وحياته فى قرية (سندوب) التى أصبحت حيا من أحياء مدينة المنصورة.. وكان طفلا موهوبا محبا للرسم، يرسم على الجدران بقطع الطباشير وبالقلم فى كراسات الرسم، وكان تفوقه يغرى زملاءه فى المدرسة على سرقة رسومه وإخفائها إعجابا بها لدرجة أن تسبب ذلك الموقف - كما يقول حجى - فى حصوله على درجه صفر لأنه لم يعد فى حوزته رسوم يقدمها إلى أستاذ مادة الرسم علاوة على أن نشأته فى الريف وانحداره من أسرة متوسطة الحال، أب يحب الأرض ولا يولى أهمية للتعليم لأنه لا عائد من ورائه وأن لديه قناعة بأن الأرض أولى بالأولاد يحافظون عليها.. وأم على النقيض تشجع التعليم وتود أن ترى أبناءها يحملون شهادة جامعية وهو ما حفز حجى على المضى فى التعليم والتحق بالفنون الجميلة وتخرج فيها وعمل فى تلك الأثناء بجريدة (المنصورة) عام 1962 وهى أول جريدة أسبوعية تصدر عن الحكم المحلى - ليمارس فيها مواهبه فى الرسم، ومنذ ذلك الحين صار لديه قناعة خاصة بالرسم الصحفى لانتشاره جماهيريا ويساعد الفنان على المشاركة الفعلية فى التعبير والتنوير الثقافى الذى كان المجتمع فى ذلك الوقت فى أشد الحاجة إليه. بعد إغلاق جريدة المنصورة عام 1966 انتقل حجى إلى روزاليوسف ليعمل بها رساما صحفيا وسط جيل من الرسامين الصحفيين الكبار، وقدم لها رسوما إيضاحية على المستوى نفسه من الجودة والتميز، كانت سببا فى شهرته محليا وعربيا، وتلك الرسوم بحكم ارتباطها بالنص الصحفى تعبر عن مشكلات الإنسان وهمومه وأحلامه وقضايا المجتمع الأخرى، لذا فالإنسان دائما هو المحور الرئيسي لرسومه عامة ... جدير بالذكر أن الرسوم، من اسكتشات ودراسات التى سجلها فى الريف لوجوه الناس والعمال والفلاحين والصيادين والطبيعة المحيطة، شكلت رصيدا مهما من الخبرة البصرية والجمالية واحتياطيا نادرا من المفردات الشكلية والتمثيلية التى أفادته بعد ذلك كرسام صحفي يستدعى منها الفنان ما شاء ذلك عند الرسم فى كل الأحوال من جملة العوامل المساعدة، أيضا لم يغفل حجى عامل الثقافة الفنية والثقافة بشكل عام، وهنا يذكر بكل الود والإخلاص زميله وصديقه الفنان الراحل جودة خليفة الذى كان يرسم لمجلة (أكتوبر) فى السنوات الأخيرة الذى نبهه إلى أهمية أن يكون الفنان مثقفا ودله على موارد الثقافة.. ولم يغفل أيضا تأثره فى البداية بالفنانين حسن فؤاد وزهدي وتعلمه على يديهما من خلال رسومهما، وتأثره بكل من رسوم البهجورى وإيهاب شاكر وجمال كامل واستفاد من قدراتهم على تطويع فنهم للعمل الصحفى وتوصيله إلى القاعدة العريضة من الناس للعمل على ترقية ذوقهم الفنى والجمالي والأخلاقي، يبقى المناخ الثقافى والسياسي والفنى الذى كان مزدهرا فى تلك الحقبة من الستينات ثم هزيمة 67 وانتصار1973 والتحولات السياسية والاقتصادية والانتقال من الحزب الواحد الحاكم إلى التعددية الحزبية والانفتاح على الغرب إلخ.. مجمل هذه العوامل لا يمكن اغفال أهميتها فى حياة الفنان المبدع أبدا لأنها تشكل نسيج فكره ونمط إبداعه وتوجهه، لهذا كله عندما نرى رسومه عامة سواء منها ما نشر فى الصحف والمجلات أو طبعت فى كتاب يحمل اسم (شمال يمين) أثناء فتره عمله بتونس فى جامعة الدول العربية أو رسمها لمزاجه الشخصي ولم تعرض وهى (غزيرة جدا) سوف نلاحظ أنها تحفل بالرمز كما أسلفنا، والرمز عنده تعبير عن حالة فكرية وانفعالية أو تجسيدا أو تقليدا للشيء الحسي الطبيعي، وفى الوقت نفسه أداة نقل توصل لنا المعلومات، أنه وسيلة اتصال حيث تظل الصورة المرسومة حية كالطريقة الوحيدة للاتصال الكتابي. إن حجى يعمل فى هذا المجال الإبداعي وفق مفهوم نظامين من الوجود ترسخا فى ذهنه، الأول مرئي والثاني غير مرئي، الأول: رسوم نفذها لتكون مصاحبة لبعض المقالات الصحفية والأخرى لذاتها يعبر فيها الفنان عن وجهة نظره الخاصة.. الأولى تمثل المحاولات المبكرة فى الستينات وبداية السبعينات وتميل نحو التعبير بواقعية تسجيلية للأشكال المرئية فى الطبيعة أو الواقع الحياتي نذكر منها (بحيرة المنزلة عام 1963 ونساج القرية 1964 وعمال صناعة الصاج عام 1966 وعند الجزار ورأس سمكة 1976 وغيرها). والثانية: تعبر بأسلوب تعبيري رمزي ساخر أحيانا عن حاله فكرية أو انفعالية يستحضر فيها الرموز الموضوعية المختصة بالعالم المرئى والطاقة الروحية الموجهة نحو داخل التأمل والفحص الذاتي والاتصال الشخصي المباشر مع نفس هذا العالم غير المرئى ليؤلف منها بخياله وتقنياته الأسلوبية صورته الفنية ونموذجه الخاص.. التى تعتمد على قواعد التصميم من حساب وتوازن وتناغم وإيقاع يضمن للعمل قوة بنائه وأحكامه ونجاحه، نذكر من تلك الأعمال رسومه الرائعة (شمال يمين وأحلام وكوابيس وفنان يقرأ القرآن 1995 وغيرها).
ورسومه عموما من الأسود على الأبيض أو الأبيض على الأسود بكل مواضيعها وتكويناتها وتقنياتها يلعب فيها الضوء كعنصر تشكيل وبناء دور بارز فى تجسيد الأشكال وإضفاء مسحة سحرية عليها، وكأنه وراء ذلك العالم الحسي قوى مكتنفة بالأسرار ولاتدرك إلا خياليا.
د. رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر
العالم الرحب للفنان محمد حجى
- يشهد الفنان والناقد التشكيلى محمود بقشيش بأن محمد حجى هو أمهر طالب التحق بكلية الفنون الجميلة منذ نشأتها بالقاهرة عام 1908 وحتى الآن، من حيث مقدرته الخارقة على المحاكاة ونقل الواقع على سطح اللوحة ، جاء ذلك فى كتابه ` نقد وإبداع` الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 1997 .
- والحق أن رؤية اللوحات ` الواقعية ` التى يرسمها محمد حجى تصيب المرء بالدهشة لهذه الإمكانية المذهلة فى اصطياد أدق التفاصيل، لكنها لا تغرق فى مستنقع الفوتوغرافيا الفجة، بسبب شحنة الإحساس التى تسرى فى أوصال اللوحة ، وإذا كان بقشيش قد كتب ذلك- وقد كان زميلاً للفنان محمد حجى طوال سنوات الدراسة - وتابع من خلال نشاطه النقدى الهام تاريخ الفنانين المصريين وإمكاناتهم ومواهبهم، فإن الناقد الكبير بالأهرام مكرم حنين قد أخبرنى أن محمد حجى يستطيع أن يرسم أى شىء كما هو بالضبط، وبمقدرة لافتة للنظر.
- بداية مشرفة
- فى إحدى القرى التابعة لمدينة المنصورة فى شمال الدلتا، ولد محمد حجى عام 1940 لأسرة بسيطة من فقراء الريف، وبداً انشغاله بالرسم عندما كان طفلا صغيراً ، فقد أخبرنى: ` لا أذكر بالضبط متى بدأت أمسك القلم والورقة لأرسم`.
- فى عام 1958 التحق محمد حجى بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، وكان ذلك الحدث غريبا على أسرة ريفية فقيرة ، لا ترى مستقبل ابنها إلا فى المهن المرموقة الشائعة مثل الطب والهندسة والمحاماة مثلاً ، ومع ذلك لم يعترض الأب رغم أن الكدر اعتراه.
- وكان انتقال الفتى محمد إلى القاهرة والإقامة فيها للالتحاق بالكلية يعنى مزيداً من الإرهاق المالى للأسرة ذات الدخل الشحيح ، مما دفع الفتى إلى الإجتهاد حتى يحصل على مكافأة التفوق.
- قال لى محمد حجى: ` ظللت طوال فترة الدراسة أحصل على المركز الأول ، وأتقاضى مكافاًة شهرية لذلك قيمتها خمسة عشر جنيهاً مصرياً، وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك الزمان، حيث أن راتب خريج الجامعة كان ستة عشر جنيهاً ، أى بفارق جنيه واحد عن مكافاًة االتفوق.
- وأعتقد - والكلام للفنان الكبير- أن هذا النظام الذى وضع فى عهد عبد الناصر وفر للمتفوقين الفقراء إمكانية مواصلة الدرس والاجتهاد فى ظروف أكثر إنسانية وكرامة، أما بالنسبة لى - والكلام ما زال لحجى- فأنا مدين بشكل شخصى لجمال عبد الناصر، وأتمنى أن أرسمه وأنا أحتضنه وأحميه من أولئك الذين ينهشون ذكراه منذ وفاته... مثلما حمانى وأنا فى بداية الطريق`.
- بعد التخرج عام 1963 كانت مصر والأمة العربية تعيش حالة نهوض قومى منعشة ، وأحلام العدل الاجتماعى تراود الناس والفنانين والمثقفين ، ولم يكن أمام الشاب الواعد محمد حجى إلا أن ينحاز للبسطاء بحكم تكوينه الفكرى ووضعه الطبقى وحساسيته الفنية.
- أختار محمد أن يرسم فى الصحافة حيث وضح لى السبب: ` الصحيفة يقرأها الآلاف بينما اللوحات المعلقة فى معرض لا يراها إلا العشرات`، كان مجلة ` المنصورة ` هى أول من استقبل رسوم محمد حجى ثم انضم إلى أسرة ` روز اليوسف` ورسم فى مجلة ` صباح الخير ثم روزا بعد ذلك، تحقيقات صحافية باللون الأسود على سطح الورق الأبيض أثبت خلالها مقدرة فائقة فى التعبير السلس والممتع للقضايا التى عالجها.
- رسوم من ليبيا
- فى عام 1973 خرج محمد حجى مع الخارجين من مصر هروباً من بطش السادات ، واختار العمل فى ليبيا التى استقر فيها أربع سنوات كاملة ، كان من حصادها مجموعة كبيرة من اللوحات التى تصور مشاهد من الحياة اليومية فى ليبيا، من أول الشوارع والأزقة والحوارى، حتى الحرفيين والعمال والفلاحين ورجال البدو، مروراً بالحيوانات والأسلحة المستخدمة والنباتات والأشجار والنخيل. لقد جاءت هذه اللوحات التى جمعها فى كتاب فاخر الطباعة ، يمتاز بالأناقة ، لترسم بانوراما عريضة.. لرجل انفعل مع أهل البلد وقدر التعبير عما رآه ، حيث جمع البلد كلها فى كتاب واحد !.
اللافت للنظر أن جميع هذه اللوحات قد نفذها باستخدام ألوان ` الفلوماستر` ذات الإمكانات المحدودة ، حيث يصعب مثلاً تنفيذ الظلال والدرجات اللونية بها، ومع ذلك فقد لاحت لنا هذه اللوحات كنماذج كاملة الأوصاف ، لما يجب أن تكون عليه اللوحة ، ففى لوحة ` منظر من ليبيا` نرى لقطة عامة تصور مسجداً بسيط البناء، يحيط به عدد من النخيل ، بينما زرقة السماء تغلف المشهد كله، يهمنا فى هذا العمل شيئان، الأول هذه الطزاجة اللونية والدرجات الظلية التى حققتها ألوان الفلوماستر، خاصة فى قبة المسجد وسطح الأرض ، أما الشىء الثانى فيتمثل فى قوة التصميم المدعومة بشبكة من الخطوط الجريئة الأفقية والعرضية ، والتى لم تصادر على تحقيق الانسجام بين مساحات الظل والنور ، لقد تمكن الفنان الكبير فى هذه اللوحة- كما فى بقية اللوحات - من إخضاع الخامة العنيدة، وتحطيم تمددها حتى لانت وكشفت له عن أسرارها الداخلية ، وأعتقد أنه ما من فنان مصرى استطاع أن يصل بألوان الفلوماستر إلى هذا المستوى من المهارة والجمال .
- عند زيارتى لمنزل محمد حجى، تعجبت من عدد اللوحات الكثيرة المعلقة على الحائط أو مكومة فى ركن من الأركان، حيث أن تنوع المدارس والاتجاهات التى تمثلها اللوحات يشى بأن لها أكثر من صاحب ، أو أن الفنان ما زال يبحث عن طريق أو أسلوب يرتاح إليه.. وكان لابد أن أطلب منه التفسير، خاصة وأنه اقترب من الستين سنة .
- قال محمد حجى : ` إننى أرسم .. ولا أعرض ، ليس تعففاً ، وإنما واقع الحركة التشكيلية المصرية لا يسمح باستيعاب كل ما ينتجه الفنانون ، بسبب انشغال الناس فى البحث عن لقمة العيش وتراجع الاهتمام بالفنون الجميلة فى العشرين سنة الأخيرة .. لذا- والكلام للفنان - فأنا أخرج من مدرسة لأدخل فى أخرى استجابة لتطورى الفكرى والفنى والانفعالى بالأحداث العامة والخاصة ، دون أن أحظى بنعمة نقد لوحاتى، كل ما أفعله أنها تتكوم عندى` ، شاهدت عدداً من اللوحات تستلهم الحرف العربى ومن المعروف أن المدرسة الحروفية ظهرت فى العراق ومصر فى الخمسينات من هذا القرن الآخذ فى الرحيل، كتعبير تشكيلى عن هوية عربية ، ثم لافت رواجاً فى السبعينات عندما أقبل الخليجيون على اقتناء لوحات تحتفى بالحروف العربية ، برغم أن معظم هذه اللوحات سقطت فى مستنقع الزخرفة والرياء الرخيص عندما استهدفت إرضاء المزاج النفطى !
- فى لوحة ` حروفيات` قدم محمد حجى صياغة فريدة لعدد من الحروف تداخلت وتشابكت وأنتجت تكويناً مثيراً أقرب إلى إيقاعات موسيقية تفوح فى الفضاء الرحب، شاهدنا فى حروف العين والباء والسين، تمتعنا بهذه الكوكبة من علامة التشكيل والنقط ، خاصة وأن الفنان التزم فى إنجاز هذا العمل على إبراز التوازن بين الكتل المختلفة للحروف ، فضلاً عن إدارة الصراع بين الظل والنور بحكمة وتمكن سمحت لنا من استقبال لذة المشاهدة بيسر.
- وإذا كانت اللوحة السابقة قد أظهرت كفاءة الفنان فى تطويعه لألوان الزيت، فإنه فى لوحة ` الزهور الزرقاء ` قد وصل بها إلى مستوى رفيع ومشرق، فها هى مجموعة من الزهور والأوراق تحور شكلها قليلاً تستولى على سطح اللوحة، تاركة مساحة صغيرة رمادية للخلفية بينما بعض الوريقات الخضراء منثورة ومتداخلة مع غابة سيقان الورد، إن الملامس المتنوعة التى حققها محمد حجى منحت العمل ثراء ودفئا، خاصة أنه لم يهمل أبداَ القوانين التى تجعل من اللوحة متعة بصرية يجب الالتفات إليها.
- فى عام 1980 التحق محمد حجى بالعمل فى جامعة الدول العربية ، وهو الآن يشغل منصب مدير عام مطابع هذه الهيئة التى نتمنى أن يزدهر دورها فى هذه الأيام الشائكة.
- فى تجربة مثيرة وجريئة ، خاض الفنان محمد حجى مغامرة لم تر النور، حيث عبر عن قراءته للقرآن الكريم بمجموعة من الرسوم الجميلة وجمعها فى كتاب ` رسام يقراً القرآن` لكن مؤسسة الأزهر الشريف رفضت الكتاب وصادرته، برغم أن وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة هو الذى كتب مقدمة الكتاب! ولقد كنت سعيد الحظ لأننى أطلعت على النسخة الأصلية لهذا الكتاب الفريد والذى حرمت منه المكتبة العربية بسسب ضيق أفق بعض الموظفين.
- يحتل فن البورتريه أو الوجوه مكاناً مرموقاً فى خريطة إبداع محمد حجى، فهو رسم آلاف الشخصيات منهم من حظى بنعمة الشهرة ومنهم من ينتظر.
- وإذا أخذنا جمال عبد الناصر كنموذج لهذا الفن عند حجى ، نكتشف مدى البراعة التى وصل إليها الفنان ، من أول اصطياد الملامح حتى تعرية النفس التى تلوح فى التفاصيل الدقيقة، فوجه الزعيم هنا شامخ برغم الحزن الساكن فى العينين، يستشرق المستقبل بنظرته الهادئة مع ابتسامة بسيطة محسوبة، نفذ الفنان هذا العمل بالحبر الصينى الأسود على ورقة بيضاء، وقد التزم محمد حجى التزاماً صارماً بانضباط النسب التشريحية للوجه، مع نزعة قوية نحو تأكيد حلاوة الظل والنور، إن وجه عبد الناصر بملابسه الكلاسيكية يمنح المتلقى ذكرى عطرة لزمن جميل رحل، زمن العزة والكبرياء.
- محمد حجى فنان نادر المثال ، انشغل بالناس، وسعى نحو التعبير عنهم بإخلاص واستشهاد، يعد بحق من أغزر فنانى مصر إنتاجأ .. امتلك أصول الصنعة امتلاكاً، وحظى بموهبة خارقة وصبر راهب قديم ، لذا جاءت لوحاته عامرة بالحلاوة والعذوبة، تفتن المشاهدين، ولاتحرمهم من متعة التساؤل، وإذا كان الناقد محمود بقشيش قد شهد أنه أمهر طالب كما قلت فى البداية ، فأستطيع أن أشهد أنا أيضاً أنه أكفاً فنان ، وأنه نموذج لما ينبغى أن يكون عليه الفنان فى العالم الثالث ، وأظن أننى لا أبالغ !
بقلم : ناصر عراق
من كتاب ملامح وأحوال
تصوير القرآن الظاهر والخفى فى تجليات محمد حجى
- رسوم على واجهات بيوت طينية، مناسك الحجيج وسفينة نوح وكبش إسماعيل وقصص القرآن هى الأساس فى حكايات الناس، حيث يوجد `الخضر` و`يونس` فى بطن الحوت، وأيضا ` البراق` وعروج النبى من الأرض إلى السماء.. كل ذلك ألهب خيال الفنان ` محمد حجى` .. تعانقت كل هذه الصور مع أشواقه الفنية.
- هناك فى قرية ` سندوب` بدلتا مصر، نشأ الفلاح الذى لم يكن لديه غير` الدين` الذى يتلقاه من شيخ الجامع أو حكايات التراث الشعبى وحكايات ألف ليلة.
- عندما التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1959م كان طبيعيا أن يدرس حجى أصول الفن الإسلامى والذى اكتشف فيه المزج بين الواقع والخيال وأن الفنان المسلم لا يرسم ما أمامه كما هو بالواقع، بل يخلط الحاضر بالماضى، أى أنه يعرض الواضح بالخفى.
- واهتم محمد حجى برسوم الكتب فى العصور الإسلامية مثل `مقامات الحريرى` و ` كليلة ودمنة` واكتشف أن هذا الإرث الحضارى مستمر فى التراث الشعبى حتى الآن.
- وفى هذه الفترة كان شاغله الأكبر حرفية العمل الفنى، حيث اهتمام الفنان المسلم بأدق تفاصيل العمل سواء كانت لزخرفة نباتية أو لأشكال عضوية أو هندسية، يقول حجى: ` الفنان العربى` المسلم يكره الفراغ ولديه عقيدة بأن وراء كل شيء فى الكون سرا خفيا يحمل معنى معينًا خاصا به، ولذلك لا يستطيع أن يترك مساحة دون أن يودع فيها سره والزخرفة نوع من أنواع الحديث بطريقة الرسم وأن الفن الإسلامى فن مهذب وراقٍ، ويحمل الكثير من الدلالات فى أشكاله والدائرة والمربع رموز دالة على فكرة الظاهر والباطن، حيث المربع يشع فى كل الاتجاهات والدائرة ليس لها بداية ولا نهاية - الأول والآخر - وهى نفس الفكر الموجود فى العمارة الإسلامية، فالقبة المستديرة أو مجموعة القباب التى تمثل الشكل الدائرى داخل محيط المربع دليل على أن الفنان المسلم دائما ما يريد معنى من وراء إبداعه.
- عمل حجى بالصحافة بداية السبعينيات وظهرت إبداعاته فى ` روز اليوسف` و` صباح الخير`.
- وكانت مقالات مصطفى محمود عن معانى القرآن فى سلسلة ` التفسير العصرى للقرآن` ملهما ومفجرا لطاقته الإبداعية وكانت الركيزة الأساسية لكتابه ` رسام يقرأ القرآن` والذى تجلى به الاتجاه الصوفى وتعالى السمو والرقى فى صور الكتاب الكريم، وكانت الصورة النهائية 33 لوحة قام الفنان بإعدادها وإخراجها وتجهيزها للطباعة.. وكانت المفاجأة رفض الأزهر رغم كون الكتاب سفيرا للتصوف الإسلامى فى العالم، ورغم أن الفنان فى لوحاته لم يعمد إلى محاكاة الوجوه البشرية فجاءت الأعمال استجابة للتصورات الصوفية والروحية الموجودة فى القرآن.. ولايزال الكتاب فى انتظار موافقة الأزهر حتى اليوم!
- عرضت اللوحات بإيران، حيث قامت وزارة الثقافة الإيرانية بإقامة احتفالية ضخمة بأعمال الفنان حضرها حشد هائل من المهتمين بالثقافة والآداب والفنون فى العالم العربى والإسلامى وعكس ذلك التقدير والاعتزاز بالفنان المصرى الكبير.
بقلم : أحمد رزق
مجلة روز اليوسف 11-11-2017
محمد حجى وتجليات الحرف العربى
- ظهرت المحاولات الأولى فى استلهام شكل الحرف العربى ، وإكتشاف إمكاناته الجمالية والتعبيرية فى النصف الثانى من العقد الرابع من هذا القرن ، على يدى الفنانين العراقيين :` مديحة عمر` و` جميل حمودى`، وخطوة خطوة تعددت المحاولات الفردية ، وصارت حركة شملت عواصم الثقافة العربية وتألقت مع المد القومى فى الستينيات ...
- واتخذت الحركة من هذا المد سنداً لها فى التمسك بخصوصية جمالية تميزها وتستطيع بها أن تسهم فى الحيوية الإبداعية العالمية ، بدلاً من استمراء التبعية إلى ` النموذج الأوروبى والنموذج الأمريكى` .
- والاستسلام إلى شعار ` العالم / القرية ` وهو شعار بعض ظاهرة حق ، وكل باطنه باطل ؛ لأن وسائل الاتصال التى قربت المسافات بين الثقافات لم تطمس ولا يجب أن تطمس، خصوصية كل ثقافة.
- لهذا كان طبيعياً أن تولد المحاولات الفردية على أيدى مبدعين مغتربين . ظهرت الحروف العربية فى لوحات `حمودى` عندما كان مغترباً فى فرنسا لمدة عشرين عاماً..
- وظهرت فى لوحات ` حامد عبد الله ` عندما كان مهاجراً إلى أوروبا .. وردد كلاهما ما معناه بأن وجوه الأهل كانت غائبة ، ولم يكن هناك من الوطن غير الحروف العربية فاتخذاها ملاذاً .
- واختلفت ملامح تلك الحركة من موطن إلى موطن ومن فنان إلى آخر ، غير أن هذا الاختلاف المشروع شكَّل فى مجمله منظومة لفن عربى أصيل ، كان له أثره فى مبدعين عالميين ، يسعون إلى تجديد ما تشبعوا به من جماليات النموذج الأوروبى فاستلهموا جماليات الحرف العربى .
- كان من أبرزهم الرسام ` بول كلى ` وأعطى هذا ` التدشين ` الأوروبى للحرف العربى مشروعية لبعض الفنانين المستعدين دائماً لتقديس كل ما يرد عن الغرب ، أو على الأقل، اعتباره قدوة تحتذى ، فاستعار بعضهم للحروف العربية الأسلوب التكعيبى والأسلوب ` السيريالى` ، بغير ضرورة فنية .
- كما ظهرت محاولات معارضة لتوجهات المنحازين إلى الغرب ، من بينهم ` حامد عبد الله ` الذى جسد بالحرف والكلمة العربية كيانات إنسانية تعبر عن هموم الواقع المصرى والعربى ، ووحد بين مبنى الكلمة ومعناها .. فكلمة ` مهزوم ` - مثلاً - جسدها شكلاً إنسانياً يوحى بالانكسار .. وهكذا مع بقية الحروف والكلمات .
- فيما التقطها الفنان العراقى ` شاكر حسن آل سعيد ` من الآثار العشوائية المتناثرة على حوائط الأحياء الفقيرة ، والكاشفة فى الآن ذاته عن أحلام الناس وأحزانهم . ذكرتنى لوحات ` شاكر حسن آل سعيد ` بحوائط الأحياء الشعبية فى مدينتى بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى.
- ومن يتأمل تلك الآثار الخطية التى تركها شباب وطنى ، يجد ما يدل دلالة قاطعة على الصمود والتحدى، عبَّرت تلك الخطوط ، بخشونتها الجهيرة ، وانصرافها عن أناقة القواعد المدرسية ، أبلغ تعبير عن تلك الروح الوطنية .
- العبور إلى مملكة الحرف
- إن كل المبدعين الذين ارتحلوا إلى الحرف العربى ارتحلوا إليه محملين بانحيازات ثقافية سابقة ، وتقبلتها الحروف وتجسدت بها .. من المبدعين من توقف عند حرف واحد من الحروف وهام به هيام العاشق المتصوف ، مثل الفنان المصرى ` كمال السراج ` الذى تعلق ` بحرف السين ` منذ ما يزيد على العقود الثلاثة وما يزال الحرف يلازمه حتى 1988 فى كل لوحاته .. وعندما سألت الرسام ` محمد حجى ` الذى يشكل التوجه الحروفى شطراً مهماً فى إبداعه : ما الذى دعاك إلى العبور إلى الحرف العربى ،وكنت وما تزال نجماً من نجوم اللوحة الصحفية والرسم التسجيلى ؟ - أجاب بلا تردد ، وبلا مراوغات تنظيرية كتلك التى نصادفها عند كثير من الفنانين : ` إنها المطبعة ` ، ودفعه عمله بالجامعة العربية إلى الاهتمام بالصيغ الخطية المختلفة لتعينه فيما يقوم به من إخراج لكتب الجامعة وغيرها من دور النشر .. ولأنه باحث دؤوب فقد طاف بالعواصم الإسلامية لدراسة كل أنواع الخطوط العربية .
- بين الباحث والفنان
- إن ` حجى` يجمع فى كيان واحد بين روح الباحث الموضوعى المحايد وروح الفنان المنحاز بطبيعتة انحيازاً وجدانياًّ إلى مملكة الحرف العربى ، وهى مملكة شاسعة ، تتصل فى جذورها العميق بالتصوف . وهو يحاول أن يوازن بين التوجهين : توجه ` الباحث ` وتوجه ` العاشق ` ، وكلاهما متعارضان يصعب التوفيق بينهما توفيقاً كاملاً ...
- ففى مجال البحث يشبه الباحث المعملى الذى يقوم بالتحليل ليصل إلى جذر الحالة التى يبحثها ؛ لهذا اتجه إلى تفتيت وتقطيع الكلمات للإمساك بمتجزاءات منها .. يتأملها ويعيد بناءها فى صيغ مختلفة ، يلتزم أحياناً بالأصول المدرسية للخط ، فيطالعنا بحرف مثل الهاء والحاء يلتزم فيها التزاماً حرفياً بالقواعد ...
- ولكن سرعان ما يفيق ويدرك أنه ليس خطاطاً ولا يريد لنفسه أن يكون كذلك ، فيتجه إلى تطويع الحرف ليكون فى خدمة شكل الكتاب . وهو يدرك أن للحرف مملكة هى مملكة الروح غير أنه ، بحكم نشأته فى قرية ` سندوب ` وبحكم تكوينه الفكرى والسياسى ، الذى يميل إلى الفكر الاشتراكى فإنه يرى للحرف قدرة للتعبير عن هموم الناس وآمالهم ...
- حروف جهيرة
- إن بعض لوحاته الحروفية تشبه ، فى تراكمها وعشوائيتها ، مظاهرات بشرية ، يبالغ فى زحامها ، أحياناً ، حتى تصبح اللوحة ساحة للانفجار والتشظى .
- ففى لوحة بعنوان ` انفجار حروفى ` - والعنوان دال على الموضوع - ورامز إلى ما هو خارج حدود سطح اللوحة إلى واقع الوطن العربى ، تبدو اللوحة وكأنما وضع فى بؤرتها شحنة ناسفة انفجرت لحظة اللقاء بالمشاهد ! ويحيلنا المشهد الفنى إلى العنف اليومى الذى تقتحمنا به وسائل الإعلام المختلفة ..
- إن حروفية ` حجى ` قد تخلت عن صومعة التنسك والعزلة ، وشاركت مشاركة فاعلة فى معترك الحياة الاجتماعية والسياسية ... ولأنه رسام وصفى ، واقعى ، من الطراز الأول ، فإنه يميل إلى دقة الوصف ويحرص على تأكيد الكتلة .. وانعكس هذا بطبيعة الحال على أشكاله الحروفية التى شيد بها صروحاً معمارية ونحتية .
- إن لوحة ` البسملة ` - على سبيل المثال - قد جسَّدها فى هيئة أشكال عضوية منحوتة نحتاً ، لم تترك فى فضاء اللوحة فراغاً إلا ملأته ، تاركة بعض الأصداء الحروفية فى خلفية اللوحة.
- وقد يفاجئنا بدعابة شبه مستترة ` والدعابة فى فن حجى نادرة ` كما فى لوحة بعنوان ` مشهد بحرى ` حيث تظهر حركة إيقاعية أشبه بالرقص بين حرف الراء بإيحائه الذكرى. تظهر الأشكال مجسمة تجسيماً أسطوانياً يمنحها صلابة ورقة فى آن واحد.
- وربما بسبب تلك الرقة التى منحها الشكل الأسطوانى انصرف عنها إلى استعارة الشكل المكعبى ، حيث الحدود القاطعة والمسطحات الصارمة التى استعان بها فى لوحة بعنوان ` تفكك ` والمقصود هنا تفكك الحروف العربية التى بدت فى بعثرتها وفوضاها ،كما لو كانت قد ألقيت حيثما اتفق ، وكانت اللوحة فى طريقها فاحتفظت بتلك اللحظة الخاطفة ، وثبتتها لتحيلنا نحن المشاهدين إلى زمننا العربى الراهن !!
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال : أبريل 1998
محمد حجى والخيارات الثلاث!
- [مدخل (أ)]
- كان، وأمسى، وأصبح، وصار من الأمور الاعتيادية. المؤسفة، والمؤلمة، والمعطلة أن نتبادل نحن الفنانين؛ مصريين، وعرباً الانقطاع عن الحوار، والاستسلام للحواجز الفاصلة التى يقيمها سوء الفهم، وسوء النية، وأن نتبارى بعيداً عن الحلبة الحقيقية.. فى سوق المحاكاة والتبعية حيث لا عمل إلا تتويج إنجازات الفنان الغربى نموذجاً وحيداً للتطور.
- نتلقى الجديد عنده بوصفه `الأفضل`. نهاية المطاف `الأكثر` التماعاً وجودة `والأكثر` فائدة للصحة!. نرى تاريخ الفن فى استقامة `المسطرة` لا تؤثر فيه الانتصارات والهزائم. الثورات والانتكاسات. الميلاد والموت. التحولات الكبرى والصغرى. لا نستطيع تصور الفن تاريخاً لوجدان إنسانى متقلب ومتغير، ولهذا لا نستطيع تصور ميلاد `جنس فنى جديد` يستحق مسمى جديداً يمارس به تطوره الخاص، بل لابد أن نفرضه قسراً على `الجنس الفنى` الذى انفصل عنه، فتفرض على مصطلح فن التصوير (Peintur ما لم يعد يحمل من خصائصه إلا القليل. نتبنى `الجديد` من وجهة نظر ترجح ما هو `أبدى على ما هو متغير دون العناية المدققة لدوافع من أبدعوه. يرى كثير من الفنانين المصريين نتاجات `الكمبيوتر` فى مجال الفن - مثلاً - وما نشاهده فى مجال `الفيديو` لابد من فرضه فن التصوير، بينما من الخير للمنتج الفنى الجديد أن يسمى اسماً جديداً لايتفاضل مع الفن بل يتميز عنده بالاختلاف.. الذى يبرر اختيار سياق آخر للتطور.
- إلا أن هذه النظرة من شأنها بالطبع أن تقلل من الانبهار بالجديد الذى يبرر استخدام `أفعل` التفضيل، ويكسر الاعتياد على الإجماع فى التصفيق للشىء ونقيضه، ويحرم من متعة الركوع للسيد المتبوع!
- يؤيد هذه النظرة `المتحجرة` تحجر آخر يتسم بالبراءة(!)، ويسهم فى تثبيت الغيبوبة والعزلة (العربية - عربية). تقرأ كلمات البشارة عن العالم الذى صار قرية. أسرة متحابة. إقرأ - مثلاً - كلمة `صلاح طاهر` فى مقدمة بينالى الاسكندرية لدول البحر الأبيض يقول: (فى سرعة مذهلة - عن طريق الأقمار الصناعية مثلاً تستطيع أن ترى وأنت فى مكانك فى بقعة ما فى الكرة الأرضية ما يحدث فى بقعة أخرى تبعد عنك ألوف الأميال، فلقاء الإنسان لأخيه الإنسان بتلك السهولة فى أى مكان فى العالم، عن طريق الطيران واللاسلكى والكتاب والتلفزيون وتبادل الأفكار والفنون، جعل مفهوم الشعور الإنسانى يقرب البشر من بعضهم البعض فتحيط بهم الألفة والود فى كل مكان).
- نتمنى بالقطع السلام والمحبة للبشر فى كل مكان، إلا أن الأمنيات شىء وتحققها شيء آخر، ولست أدرى كيف أقنع الفنان نفسه بوهم `التحقق` على الرغم من مطالعاته اليومية لنشرات المفجعات فى التلفزيون، والصحافة، وما يدور فى إذاعات العالم. كيف استطاع أن يقنع نفسه باختفاء المجازر فى معظم قارات العالم هذه الأيام على الأقل!.
- إن تصور العّالم قرية صغيرة أو أسرة متآلفة ينفى عن العالم حقيقته، ولا يميز بين كياناته الثقافية المختلفة، ويرى الأوطان أوانى مستطرقة. طبيعة صامتة. أشكالاً بلا تاريخ. إنجازاً شيطانياً.. إن هذا التصور يشكل تياراً أساسياً فى الإبداع فى المنطقة العربية.
- إلا أنه فى المقابل، هناك تيار آخر يسعى إلى التواصل مع الجماهير ويقدم فى الوقت نفسه اجتهادات مختلفة فى البحث عن ملامح لفن قومى. لا يعترف بعض فنانيه بجدران قاعات العرض المغلقة، ويفضلون البقاء فوق الجدران الخارجية أو فى صفحات الكتب. من هذا التيار يلمع اسم الفنان `محمد حجى` نشر بعض رسومه ولوحاته فى كتابين الكتاب الأول بعنوان (شمال - يمين) والكتاب الثانى بعنوان (رسوم من ليبيا). ونجح بكتابيه فى تحقيق أهداف ثلاثة: المستوى، والذيوع، والتأثير.
- انتهج فى كتابيه ورسومه الأخرى، التى لم يتح لها بعد أن تنشر فى كتاب، عدة أساليب، أو بمعنى أدق عدة خيارات، جسد بها اجتهادات فى حل معادلة (الأصالة والمعاصرة) أو الموروث والوافد، أو ما شئت من اصطلاحات فى هذا السياق!.
- أخذ من الفن المصرى القديم ما يتميز به من بنائية ورسوخ، وهجنها بالأسلوب `التكعيبى` والأسلوب `التعبيرى`، فجاءت `تكعيبية` واضحة المعالم، عريضة المسطحات، واستلهم بالأسلوب الناشىء.. موضوعات تمس واقع الحياة العربية المعاصرة، منحازاً إلى شرائح المقهورين فيها. كتابه الأول وثيقة احتجاج ضد الأنظمة العسكرية أينما وجدت، وكتابه الثانى يعبر عن جوانب من حياة الناس فى `ليبيا`، كما رسم عديداً من المناظر كان أبرزها مناظر الجبال الخشنة الجافة. ذات الألوان اللاذعة.
- .. لكن لنعد إلى بداية أخرى للتعرف على `الفنان` وفنه!
- (مدخل `ب`)
- تزاملنا فى الكلية، وفى خشونة الغرف الضيقة المعتمة فى الأحياء الفقيرة، وفى المتاعب الاقتصادية التى لم نكن نجد لها من مسكنات سوى مطعم شعبى بجوار الكلية كنا نطلق عليه `شاليه الفنون الجميلة`.. حيث الأكل `على الحساب` والمناقشات التى لا تنتهى فى الفن والسياسة واستعارة الكتب أو شراء ما تسمح به الميزانية (!)، والغرق المتاح فى مكتبة الكلية الحافلة بكتب الفن. وكانت المنافسة حامية بين عدد محدود من الطلبة كان أبرزهم `محمد حجى` الذى ظل لسنوات يحتل الموقع الأول بيننا. كان لديه من المهارة والصبر ما أظن أنه لم يتوافر لدى أى طالب فى تاريخ الكلية. لم تكن الكلية فى ذلك الوقت تشترط `المجموع` بل تشترط الموهبة, وكان `حجى` حاصلاً على مجموع يؤهله لدخول كلية الطب إلا أنه فضل عليها كلية الفنون الجميلة` ومن أجل تحقيق هذا الهدف خاض معارك عائلية. كان يحصل فى معظم لوحاته ذات الطابع الأكاديمى على الدرجات النهائية, وكان `الأتيليه` الذى نعمل به يضم أربع مراحل، وقد صار بعضنا من ألمع الفنانين التشكيلين الآن: كمال السراج (عميد كلية الفنون الجميلة). زكريا الزينى (رئيس قسم التصوير), أحمد نبيل. صبرى منصور. محمد رياض سعيد. محى الدين اللباد. عز الدين نجيب. سمير تادرس.
- ولقد لمعت أسماء أخرى بالطبع من أقسام أخرى كأقسام `الجرافيك` و`الديكور` و`النحت` وبقدر ما كان `حجى` حريصاً أيضاً على أن تصل لوحاته إلى أكبر عدد من المتلقين، وفوق ذلك كان يتمنى أن تخرج عناصر اللوحة من صمتها الحتمى داخل إطار اللوحة، وتصير طاقة للتحريض فى نفس المشاهد. إلا أنه لم يكن يلجأ إلى `الدعائية` التى تكشف فى معظم الأحيان عن فقر فى الموهبة، ونقص فى المهارة، بل كان مدفوعاً بحرارة ريفية للتواصل مع الآخرين باللغة التى يجيدها. غير أنه كان بدافع حبه لهم يلتقى بهم فى منتصف الطريق، لهذا كان يكتفى بصوت الرباب، وبوتر أو وترين. ينشد به جداريات سياسية على حوائط قريته، كما أصدر بالاشتراك مع شقيقه الطبيب الراحل: `أحمد حجى` مجموعة من مجلات الحائط، عرضتهما للعديد من المتاعب، بالإضافة إلى لوحات رسمها عن مناظر لقريته ووجوه فلاحيها، تعكس قدرة باهرة على المحاكاة، وإن لم تخل من إيحاءات بتوجهات، كانت لا تزال مستترة، نحو الأسلوب التعبيرى، الذى تبلور فى السنوات النهائية من الدراسة.
- لم تكن `تحريفاته` للشخوص والأشكال قد اتخذت الطابع `التقبيحى` كما نراه فى الفن الغربى، بل كانت تحريفاته للشخوص والأشكال الطبيعية قريبة الصلة بجماليات المنحوتات المصرية القديمة؛ وربما كانت قريبة أيضاً من نماذج الرائد المصرى: الفنان `محمود سعيد` كنت ترى شخوصه عملاقة. كتلاً راسخة ومؤكدة. نقية من أى ترهل. مؤسسة على أشكال المكعب، والاسطوانة، والمخروطى.
- وكنا مفتونين فى ذلك الوقت بفنانى `أمريكا اللاتينية، والفنانين `الأسبان` وخاصة `جويا` وحياته المتقلبة، ولوحاته المتمردة الساخرة من الأسرة الملكية، وتصويره لاغتيال الثوار، وبطولة الشعب، أو نفوره من قوانين محاكم التفتيش.
- وكنا مبهورين بلمساته، ورسومه المحمومة. لهذا اكتست كتل `حجى` الصرحية مذاقاً أرضياً خشناً، ولقد صاحبه هذا الطابع حتى اليوم.. أعنى به.. تلك الخشونة المرهفة!.
- أتيح له أن يعمل، بعد ذلك، بمجلة إقليمية تسمى `المنصورة`.. حققت بعض أحلامه فى التواصل مع الجماهير، فقدم بها تحقيقات صحفية مرسومة، وقد سمحت له تلك التحقيقات بالتجول والتعرف على جوانب تفصيلية من بيئته.. لا يكتشفها عادة فنانوا المراسم المغلقة - المعروفة ثم انتقل إلى مجلة `الطليعة`، فروزاليوسف.. التى واصل فيها تحقيقاته المرسومة فى مجلتى `صباح الخير` و`روزاليوسف` حيث كان المولد الحقيقى لما يمكن أن نطلق عليه `الخيارات الثلاثة`. يطرحها الفنان لنفسه، كما يتوجه بها إلى عالمنا العربى المأزوم.
- (الخيار الأول: التأمل الصوفى!)
- نشرت تلك المجموعة من الرسوم الملونة بألوان `الفلوماستر` عام (1970) مصاحبة لمقالات كتبها `مصطفى محمود` تحت عنوان `التفسير العصرى للقرآن` بمجلة `صباح الخير` ولم تكن رسوم `حجى` توضيحاً لرؤية الكاتب، بل على العكس، كانت المقالات مثيرة لتأملات خاصة، أكسبت الرسوم تفرداً واستقلالية. أستطيع أن أزعم الآن أن تلك الرسوم قد أعطت شعبية لخامة أقلام `الفلوماستر`، فلم تكن تحظى من قبل باهتمام ذى بال. ربما كان مبتهجاً بتلك الألوان الصريحة، الصداحة، وربما كان مبتهجاً لسبب ما لا أعرفه. المهم أن تلك الرسوم كانت تمتلىء بالأغنيات الملونة. تلك الأغنيات التى انطفأت فى مجموعة `شمال يمين` وانصرفت إلى دائرة التقشف فى مجموعة `رسوم من ليبيا` واكتفت بلون نحاسى لاذع.
- التقينا فى تلك الرسوم, بالفرح اللونى، والنقاء، والصراحة فى الكتلة، فلا زيادات تفسد الاستدارات والاسطوانيات فى أشكاله النباتية والحيوانية. ربما كانت بالنسبة له وقفة لالتقاط الأنفاس، وإزاحة الهموم المؤكدة التى تأتى بها من كل جانب نوافير الدم العربى، فهى أغنيات للجمال الخالص. لا تصادم حاداً فى درجات الضوء والظل بل تآلف جميل.. إلا أن هذا السعى لم يخفف من كثافة الكتل، وربما حدث العكس.. فقد رسخت الكتل, ووضحت المعالم، وأفصحت عن انتمائها إلى شخصية فنية واحدة تتسع للعديد من الأساليب.
- (الخيار الثانى: الغضب والتحدى!)
- نشرت عام (1982) تحت عنوان `شمال يمين`، وهى رسوم انقلابية: ضد رسومه السابقة واللاحقة! - صرخة مدوية بالأسود والأبيض. نسف فيها الكتل الغنائية، والتجويد الأنيق، واستنطق كل ممكنات `اللون الأسود` التعبيرية فى اشتباكه المتبادل الاكتساح مع `اللون الأبيض` لم يعد المسطح الأبيض أرضية ساكنة، بل صار طرفاً آخر فى صراع الديكة. من ثم، تحرر الفنان من بؤر محورية للوحاته فظهرت كل العناصر متقافزة متزاحمة.
-أنجزت تلك الرسوم قبل `بعض` المذابح العربية، ونشر الكتاب بعد بعض المذابح العربية أيضاً، وهانحن نكتب عنه فى أعقاب مذابح بأيد عربية: [صابرا وشاتيلا رقم (2)]، وعلى الرغم من أنه لم يستلهم مذبحة بعينها، فإن الكتاب يعبر عن كل المذابح ويدينها، أو كما يقول عنه الشاعر `محمود درويش` فى مقدمته البليغة للكتاب -: (إنه زمن الإرهاب الأسود. إرهاب يمينى ولو وقف على يسار الضحية. إرهاب أصيل، عروبى، نابع من ذواتنا، غير مستورد. مستتر خلف حجاب رغم أنه ذكر. ويصلى خمس مرات فى اليوم، إذا شئتم، نقى، أصولى، يقطع اليد الممتدة إلى الرغيف والحرف بحد السيف، وفن الشريعة. وأحيانا متمدن: يستخدم أرقى أدوات التعذيب البشرى ومراقبة الأحلام على الشاطىء. وسرّى ليجعلك القاتل والقتيل فى جسد واحد. وعلنى: كمنشآت النفط التى تجتاح القيم، وكصحف هذه الأيام، وكشاشة التليفزيون التى لا يغادرها وجه الحاكم الذى ألغى الفكاهة.. فلنعلن أننا فى زمن الإرهاب الأسود).
- ... بانتقال الفنان من `حالة` تعبيرية فى `التفسير العصرى للقرآن` إلى `حالة` تعبيرية أخرى فى `شمال يمين` تتبدل ملامح الأسلوب الفنى، كما أشرت، ويثرى اختيار قصائد `منافسة`... فكانت مباراة جعلت صفحات الكتاب السوداء ملتهبة!.
- احتشد `حجى` بكل الممكنات التعبيرية التى تصل بالمتلقى إلى أهداف واضحة، فقد جمع كل المنفرات فى إطار واحد؛ التحوير البشع للوجوه `والأيدى`.. للقتلة والمقتولين معاً!. وانطلق بتلك التحويرات إلى أقصى ما يستطيع فى حوارية (القهر والخوف)، فالقاهرة وحش.. تمتد أنيابه لتحتل جانبى وجهه، وتلتحم معتصرة ضحايا لا نراها، `والمقهور` دودة. مطاطية. مرتعدة. مختلطة. متصادمة. لا طريق أمامها للانفلات. تشكل باضطرابها، والتحامها العفوى، وغياب أطرافها كياناً واحداً عديم الجدوى!.
-أما العلم الأمريكى فهو اللحن الأساسى. تتردد فى اللوحات مقاطع منه. تهيمن نجومه، وخطوطه التى تشبه قضبان السجن على مناخ الكتاب الأسود. تمتد `النجوم` من `العلم`، ومن فوق `الأكتاف العسكرية` امتداداً سرطانياً نحو السماء حيث يعلن الإرهاب احتلال الكون. يطارد البشر، والملائكة والقديسين!، وقد ينصرف الفنان أحياناً عن رسم تلك الوجوه البشعة، ويترك المهمة للأحذية وأغطية الأيدى لتقوم بهرس الكائن الدودة المتطلع إلى أمل كاذب.
- إن شخوص هذا الكتاب، المحورة تحويراً صادماً.) مبتكرة، وعلى الرغم من اقترابها فى وجه من الوجوه من التحريفات `الكاريكاتورية` تبتعد إلى أقصى حد عن روح الفكاهة ولقد نجح بالأسود والأبيض فى اعتقال عيوننا، وإعجابنا.. بهذا الكابوس الجميل! قد يترك مساحة بيضاء. نادرة. لا ليريح بها العيون، ويسمح بالتقاط الأنفاس، ولكن للتهيئة لفعل مأساوى. مساحة تفصل القتلة عن القتيل اللائذ بحائط الإعدام المحكم والمترامى!. إلا أنه يرفض أن يتركنا لليأس الكامل بل يفتح باباً َسرياً نكتشف به أننا كنا مخدوعين عندما ظننا أن `القاهر` نمر حقيقى، وإذا به نمر من ورق، مشغولة حوافه بالخيوط!(1).
- (2)(الخيار الثالث: تأملات فى البيئة والإنسان)
- يمثل هذا الكتاب عودة أكثر صحوه إلى التحقيقات المرسومة والتى لا تعتمد على نصوص مكتوبة، وتكتفى أحياناً بتعليقات قليله، ومع ذلك فمعظم رسوم الكتاب لا تقف عند الحدود التوضيحية، ويتجاوز بعضها تلك الحدود إلى منطقة `اللوحة المستقلة` أما رسومه السريعة بالحبر الصينى فأميل إليها أكثر من الرسوم الملونة. ربما بسبب الدفق الانفعالى الذى لا يعطله وجود عناصر أخرى تزاحم اللون الأسود وسن `الرابيدو جراف` الحادة وتعكس خطوطه ورسومه غير الملونة أبعاداً نفسية لا تفصح عنها رسومه الملونة بنفس القدر. تعكس خطوطه مذاقاً متقشفاً زاهداً فى الليونة والاسترسال أشبه بصوت مغن شعبى. رجولى. يبدو مسطح الورقة البيضاء كما لو كان مسطحاً صلباً يتلقى طعنات أزميل، ويحفر سن `الرابيدو جراف`.. بل ينحت فى الفراغ، وينوع من درجات سنون القلم ليوحى (بالفورم). يكون صوت المغنى الأجش مناسباً عند تناوله أشكالا حادة ومتشابكة كأغصان الشجر وسعف النخيل، ولقد تجول كثيراً وبعين ثاقبة فى الأسواق والحوارى والبيوت والجوامع والمقاهى وغير ذلك من المشاهد. أحياناً يتوقف عند زخارف السجاجيد والملاءات والحلى، أو تراكيب فخارية ذات إيقاعات تطريبية، أو التغنى بجماليات حصان أو جمل.. إلا أن تلك الأعمال تأتى كنسمة مهدئة، أو مساحة لالتقاط الأنفاس. أما أهم الأعمال بعد (كروكياته) فهى تلك التى لم يكن مضطراً فيها إلى اللجوء إلى `التوضيحية الصحفية`، وأختار منها الآن نماذج تدور حول موضوعين: (المنظر الطبيعى والوجه الإنسانى).
- (لوحة: بيوت ريفية)
-على الرغم من اختفاء البشر من معظم مناظره المعمارية إلا أن تلك العمائر تحمل ملامح الإنسان، وتستعير هيئة الكائن الحى، واللوحة التى نخن يصددها تمثل بيوتاً ريفية يربطها كيان معمارى واحد. تكتسى الواجهة بتضاريس أشبه بتجاعيد وجه إنسان عجوز. أما البيوت.. فهى أسرة فقيرة. تلبس رداء بنياً متدرجاً. تخرج منها أعواد خشبية ملتوية تذكر بقرون الاستشعار. تنتشر النوافذ فى كل مكان عيوناً للمراقبة. ترصد `الخارج` وتحتفظ بالأسرار. لا تفصح عن الكامن بها ـ ويشترك سن `الرابيدوجراف` فى تشكيل ظلال الكتل ويؤكدها، ولا يقف الفنان عند التفصيلات بل يعبرها إلى الجوهرى فى حركة النور والظل، ولقد كان لاستعانته أو استعارته `لملامح` من الأسلوب التكعيبى فضل من التحرر من المتابعة التفصيلية للنور والظل، كما حررته من الالتزام بمصدر ثابت للضوء، وسمحت بإعطاء بعدٍ نفسى أو تعبيرى لعنصر `الضوء`. نرى الضوء فجراً مضيئاً يغسل أحزان العتمة، ومع ذلك فهو لم يقطع الطريق على صلته بالواقع المباشر، فاللوحة ليست شكلا متخيلاً تماماً، ويمكن تفسير هذا الشكل المعمارى على أنحاء متابينة: جغرافية واقتصادية واجتماعية.. إلا أن `حجى` قد استنطق الشكل المعمارى الواقعى ما هو جدير بتجاوز المثير الواقعى إلى مستوى العمل التعبيرى الرمزى دائم العطاء، وهو يقترب أو يبتعد عن ذلك المثير.. إلا أنه... أبداً.. لا يقطع الصلة به.
- وفى لوحة (بيوت وهلال) يعتمد مفارقة أساسية بين سكون الليل، وصخب التكوين المعمارى الإنسانى!.
- يلتمع قوس الهلال، وتمتد طاقته الضوئية ناعمة، أما البيوت فقد شكلت بأقواسها وفتحاتها وجوهاً صارخة. تكاد تختفى اللمسات فى مساحة السماء بينما تندفع فى حوشية مشكلة تلك البيوت، تصاحب خطوط (الرابيدوجراف) المدببة. البيوت تتلاصق وتنتحل هيئة الصناديق.. إلا أنها صناديق ملغومة بالأسرار، ومآوٍٍ تتهدد من بها.
-إن `العمارة` عند `حجى` نادراً ما تحفل بالبهجة.. التى التقينا بها فى لوحاته عن التفسير العصرى للقرآن. قد يحدث أحيانا أن تتخلص أبنيته من تجاعيد الزمن، وتنتشر فى الأقبية إضاءة `رمبرانتيه` - Rembrandt - تتسلل عبر الفتحات، أو تلتمع فوق المناضد والكراسى الخالية وعلى الأرض. تأتى أحيانا من مصدر غير معلوم. تقتحم المكان المعتم. الموحش. الممتد إلى ما لا نهاية فى دهليز ضيق. يخفف الضوء من الوحشة، إلا أن القسوة والجفاف يبلغان الذروة فى لوحة أسميها: (أحجار. أحجار. أحجار!) - إذ تنتشر الأحجار فى معظم مساحة اللوحة إلى أن تنتهى عند أقدام ثلاثة أشجار معتمة، تقوم بتحزيم كل أطراف الجبل ونهايات الأحجار، وتقوم بدور فاعل، ومثير فى تكوين اللوحة.
- إن نظرة واحدة إلى تلك اللوحة تثير فى الذاكرة صورة لعالمنا العربى المعاصر!، شعب من الأحجار فى طريق مسدود. مجرد كتل متنوعة لاحصر لها تنام عند أقدام الأشجار.. وربما كان من المفيد أن تكون تلك الأحجار مادة للنحت، ولهذا أنشأ لوحة تمثل شخوصاً مشياه على مساحة بيضاء تماماً ليؤكد لنا أننا أمام كتل تصلح لمعرض من المنحوتات الرمزية!
- (الوجه الإنسانى)
- يشكل `الوجه الإنسانى` أحد المحاور الرئيسية فى رسوم الكتاب، ويكشف الفنان ببلاغة عن انتماء `وجوهه` إلى بيئة عربية لا تمارس السعادة وربما لم تسمع بها من قبل!، فالوجوه فصيحة، تقدم بالملامح والتعبير ما يلقى الضوء على البيئة النفسية والاجتماعية لها، وفوق ذلك تقوم شاهدة على عصرها!. تتسق اتساقاً كلياً مع `بيوته` المتقشفة، فاللوحة التى نحن بصددها تمثل شاباً يلتحف غطاءً محلياً.. يشبه فى كثير من الملامح حركة ولون الكثبان الصحراوية فى استرسالها وتنوعها، ويمتد غطاء الجسد الصحراوى ليحتل معظم مساحات اللوحة، ويستقر على قمته وجه نبيل الملامح. يبدو حالماً. متأملاً. قريباً من الملامح الفرعونية.
- لقد أعطت الخدوش الحادة الحاذقة وتهشير سن `الرابيدو جراف` ملمساً غنيا بالتنوع، وبالدرجات الضوئية. الحية. الممتعة.
- إن هذا الوجه النبيل وغيره من الوجوه المرسومة تنصرف عن الابتسام شأن كل الوجوه التى تعيش واقعاً مفجعاً، فالشيوخ والأطفال والنساء والفتيات لا تنطق وجوههم إلا `بالحزن`، أو `بالحزن` مقروناً بتعبير آخر! حتى عندما يتوج `الوجه` بالزخارف، وبالتطريب العابر، فإن الوجه يظل مصراً على قناع `الحزن`.
- وإذا كانت ملامح الوجوه فى (شمال - يمين) صارخة بالتعبير، فإن وجوه رسومه فى كتاب (رسوم من ليبيا) تبدو مكبوحة بتلك الرزانة الحزينة، معلقة على مكنوناتها، وينعكس هذا `الوجوم` على العمارة التى يصنعها هذا الإنسان، فهى الأخرى صناديق من الأسرار المكبوتة. تكتفى بالدفاع عن الحد الأدنى: مجرد الاستمرار فى الوجوه!
- ثلاثة توجهات يطرحها الفنان `محمد حجى` تمثل ثلاثة تيارات أساسية فى عالمنا العربى فأيها نختار: طمأنينة التصوف، أم مواجهة القمع، أم الاستسلام للكآبة؟!!.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة: إبداع (العدد 12) ديسمبر 1985
وداعا محمد حجى ..صاحب الملاحم التشكيلية
- بين المعرض والكتاب.. واحلام نجيب محفوظ
- عن عمر يناهز 83 عاما رحل الفنان محمد حجى بعد معاناه مع المعرض.. صاحب التجربة الطويلة فى الابداع.. والتى تمتد فى ملاحم تشكيلية بين الرسم الصحفى وفن الكتاب ولوحة التصوير.
- كان حجى احد النجوم الكبار فى مدرسة روزاليوسف فى الستينيات وتعتبر تحقيقاته ورحلاته المرسومة من علامات الرسم الصحفى بمجلة صباح الخير. وله أيضا ثلاثة كتب جديدة على المكتبة العربية: `رسام يقرأ القران` الذى يعد بمثابة تسابيح تشكيلية.. `وشمال يمين` بدراما الأبيض والأسود.. و`رسوم من ليبيا` وهى تمثل ثلاث حالات تعبيرية.. لكل منها فكرها ومناخها الخاص ولغتها التشكيلية تخرج من دائرة الرسم الصحفى إلى لوحات مستقلة وكأننا نرتاد معرضا.. وله أيضا رسومه لأحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ.. هذا مع معارضه العديدة التى جمع فيها بين التعبيرية والسيريالية.. تتجاوز الواقع محلقة فى دنيا الخيال.
- سندوب والصور الشعبية
- عندما انتقل محمد حجى فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى.. من عمق الريف المصرى بقريته سندوب `إحدى قرى المنصورة` بوسط الدلتا.. الى القاهرة حيث التحق بكلية الفنون الجميلة قسم التصوير.. كان فى هذا الوقت مشبعا بعالم شعبى تتابع الصور بداخله.. من رسوم وكتابات تلقائية يطالعها على واجهات البيوت الطينية.. يدور معظمها حول عودة الحجيج.. ومستنسخات تباع بأسواق الريف.. فى الملاحم الشعبية والقصص الدينى.. تصاويرلأبى زيد الهلالى وعنترة وسيف اليزن وسفينة نوح.. وآدم وحواء وكبش اساعيل اوكبش الفداء.. وكانت تلك الصورة الأخيرة تتصدر معظم منازل بيوت القرية.. يضعها الآباء للأبناء `ربما عمدا` لما تحمل من فكرة الامتثال.
- تعانقت كل هذه الصور التى جمعت بين الرمز والتشخيص.. مع أشواقه الفنية فى هذه الفترة.. وكان عليه أن يختار بين اللوحة التقليدية وبين أن يكون له حضور يواكب الصراع الدائر وقتها.. حيث كان المجتمع يمور بالتغيير.. خاصة وجمهور المعارض لا يتعدى مساحة صغيرة من جمهور الفنون الاخرى.. ولا يخرج عن دائرة القاهرة.. فاختار حجى أن يعمل بالصحافة.. التى تنسخ من العمل آلاف المستنسخات حتى يكون حضوره موازيا للتشكيل الشعبى التلقائى.. وأيضا ممتدا ومتناغما مع حجم التغيرات والتحولات التى تشهدها مصر فى ذلك الوقت.
- كانت البداية حين شارك فى تأسيس مجلة المنصورة.. وهى تجربة صحفية متميزة خارج العاصمة.. تعد نموذجا يحتذى فى الصحافة الإقليمية.. قدم خلالها وطوال فترة الدراسة الكثير من الرسوم والتحقيقات الصحفية.. ثم انتقل عام 1965 ليعمل رساما بمجلة الطليعة.. ثم رساما بمجلتى روزاليوسف وصباح الخير.
- ومنذ أواخر الستينيات.. لم يعد حجى يقنع بأن تكون رسومه مجرد زينة لمقال أو قصة أو عمل فكرى.. فاتجه إلى كتابة التحقيقات المرسومة.. لرحلات قام بها داخل وخارج مصر.. ومع بداية السبعينيات تحولت توجهاته نحو تقديم الفن من خلال المطبوع.
- تسابيح تشكيلية
- وبحكم نشأة حجى الريفية.. والقرآن الكريم هو الكتاب الذى يحكم حركة الحياة اليومية فى حياة المسلمين.. يتمثلونه ويحكمونه فى قضاياهم وشؤونهم الخاصة والعامة.. فكانت له اهتماماته وتأملاته ورؤيته تجاهه وهى رؤية فنان ورسام لا تنفصل عن أى مسلم.. باستثناء إجادته للغة تعبيرية يفهمه من خلالها.. كلغة الخطاط والقارىء وصانع المشكاوات الاسلامية.. مع اختلاف التعبير.. من هنا استلهم آيات من القران فى لوحات.. تواكبت مع مقالات كان ينشرها د. مصطفى محمود فى عام 1970 بمجلة صباح الخير.. حول `تفسير القرأن.. تفسير عصرى` استمر حجى فى تجربته من رسم تلك اللوحات.. التى تمثل إضافة تشكيلية وصوفية على مستوى التصوير الدينى عموما.. ابتعد بها عن محاكاة الوجوه البشرية.. فجاءت أعماله بلغة رامزة تتمشى مع جلال الآيات.
- لقد أثار القرآن فى نفسه مشاعرا دافقة من الحب الصوفى.. فصور 33 لوحة ل 33 آية جمعها فى كتاب أنيق من إخراجه.. تبنته دار المستقبل وأعدته فى 3 طبعات بالعربية والانجليزية والفرنسية بمقدمة مطولة بقلم د. ثروت عكاشة.. ويحمل اسم `رسام يقرأ القرآن` بمعنى رسام يتمعن ويتمثل القران الكريم.
- وبألوان الفلوماستر وهى ألوان شعبية ذات خاصية سيالة.. صعبة التحكم.. استطاع حجى أن يحقق من خلالها إمكانيات هائلة بما يعد اكتشافا لها.. لوحات بمثابة تسابيح تشكيلية تتألق فيها جماليات اللون والإيقاع والتكوين.. فى عالم يشع بالبهجة والفرح والحكمة البصرية.. عالم يعانق الآيات برموزه وينفذ إلى عمقها بكائناته وعناصره... أشكال فيزيقية وأخرى ميتافيزيقية.. عضوية وهندسية.... مثقلة باللون فى ملامس ناعمة تتناغم فى تآلف أو تضاد.. استخدم حجى أقلام الجاف الملونة مع الفلوماستر.. فكان هذا الحوار الشفاف بين الأضواء والظلال.
- شمال يمين.. وثيقة احتجاج فى لوحات
- ينقلنا محمد حجى من صور الجمال والجلال فى `رسام يقرأ القرآن` إلى حالة تعبيرية أخرى تفاجئنا بصدمها المروع.. فى زمن بلا عقارب.. أقرب إلى أجواء ماركيز فى `خريف البطريرك` وعالم كافكا فى `المحاكمة` مع اختلاف صيغ التعبير.
- عالم كابوسى مقبض جاثم كطائر أسطورى يسد السماء.. تغتال فيه البراءة.. وتنحسر الحرية حيث تصادر الكلمة ويعصف بالفكر.. فى لوحات كتابه التى أنجزها بين عامى 1976 و1977.... تمثل وثيقة من الفن الثورى ضد أشكال التطرف من اليمين إلى اليسار.. تمثلها فى صورة رمزية تنوعت فى حدتها وقتامتها.. تشكيلات سوداء.. تضافرت فيها الرموز وتشابكت.. فى حركة دائبة لا تتوقف.. تعكس ثقل اللحظة وبطء الزمن.. جاءت اللوحات بالأبيض والأسود.. أكثر تعبيرا عن هذا المناخ المأساوى.. وحيث يسيطر الأسود تنحسر مساحات الأبيض فلا تبقى إلا بقع ضوئية كالوميض تحدد حركة العناصر.. التى يعمد حجى إلى المبالغة فى تحريف أشكالها.
- ويلتقى التشكيل بالخطوط والمساحات مع الرسم بالكلمات فى `شمال يمين` حين تقترن كل لوحة بمقتطف من قصيدة لشاعر عربى يختاره حجى فتتداخل الكلمة والصورة فى نسيج واحد.. يمثلان وجها لحالة واحدة 38 لوحة تتعانق مع مقتطفات من 38 شاعرا معاصرا تصور الإرهاب الأسود.
- رسوم من ليبيا
- احتشد بعدها حجى ليقدم ملحمته التعبيرية فى صورة قصيدة تشكيلية متعددة المستويات تضافرفيها عنصرا الشكل واللون.. فى لوحات كتابه `رسوم من ليبيا`.
- بعين نافذة ظل حجى طوال 4 سنوات يفتش فى هذا الجانب الشعبى البدوى الصحراوى الذى صاغ حقيقة الإنسان فى ليبيا.. يقتنص مناطق الجمال فى أكثر من 200 لوحة.. تنوعت من الواقعية التعبيرية إلى الغنائية الشعبية.. إلى التلخيص الشديد الذى يقترب من التجريد.. لوحات بعمق الشخصية الليبية وتنوع البيئة هناك بخصائصها القومية والطبيعية.
- انجذب حجى إلى العمارة التلقائية المنحوتة فى المناطق الجبلية.. فقدم من خلالها أعمالا عديدة غلب عليها الحس السكونى الشاعرى المتألق بالجلال.. يصنعه حوارا أخاذا بين الأضواء والظلال.. كوى ومنافذ ودروب ومنحنيات وأقواس وتقاطعات.
- ويلجأ الفنان فى بعض الأعمال إلى التلخيص الشديد.. فلا تتعدى اللوحة مجموعة متناغمة من السطوح والمستويات.. ويبدو الإنسان متوحدا مع العمارة مندمجا فيها.. لكنه يضفى عليها بعدا.. إنسانيا يخلخل هذا السكون.. لوحات تسبح فى زمن ممتد يتجلى فيه أصالة وعراقة العناصر.
- ويمس حجى الحياة بتفاصيلها فيقدم لوحات لقطعة من الحلى أو جزء من ثوب أو غطاء.. وأخرى لرأس حصان أو راس جمل.. كما ياخذنا إلى الحياة الشعبية من المقاهى والأسواق والحوانيت.. إلى الصناعات اليدوية من مطرزات وأنوال ومشغولات نحاسية.. ويعكس صور البهجة والفرح فى الأعراس والموالد وسبوع المواليد فى ألوان غنائية صداحة.
- أما الاسكتشات السريعة فتحمل نبضا انسانيا متوترا ومشحونا.. فى خطوط سريعة وإنسيابية تحمل كثافة التعبير رغم بساطتها.
- أحلام نجيب محفوظ
- وتعد تجربة محمد حجى الثالثة فى دنيا الرسوم فى عالمه: `أحلام نجيب محفوظ.. ما بعد النقاهة`.. من أهم تجاربه التشكيلية.. خاصة وهى تتوازى مع عالمه السيريالى.. وهل السيريالية إلا فيض من الأحلام؟.. بكل أنواعها الوردية السعيدة.. والسوداء المقبضة التى تبدو بهيئة كوابيس.. وكان الروائى أديب نوبل قد تعرض لحادث اعتداء عليه عام 1994 من شخص لم يقرأ له.. واثر الحادث على قدرته على الكتابة ومتابعته لأمور الحياة إلا عن طرق أصدقائه.. إلا أنه قدم فى هذه الأحلام نظرته لما حوله.. بلغة يتعانق فيها الحلم مع الواقع.. رسم حجى تلك الأحلام فى أكثر من 180 لوحة نشرت بمجلة `نصف الدنيا` فتعانقت الصورة مع الكلمة وفكر محفوظ مع نبض حجى الفنى.. ثم اختار من بينها 100 لوحة عرضت بقاعة صلاح طاهر بالأوبرا.. بعنوان `أحلام معتاده` قال عنها حجى: `إنها تلخص اشواق الإنسان إلى الحرية وما تجمع فى وجدانه عبر مسيرة الحياة من خيالات وأطياف.. حيث التحليق فى عالم الأحلام يحرر الانسان والفنان من القيود ليهيم فى حرية.. تبدو مطلقة وهنا تنتفى النسب والمسافات والاحجام وتتحرر الألوان من صلتها بالأشكال ويتخلص الفنان من قواعد المنظور والأبعاد فى دنيا من الغرابة`.
- هكذا كان حجى فنانا.. صاحب عالم يلتقى فيه الفكر بالفن.. سلام عليه وتحية الى روحه وفنه.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة ( 25-7-2023 )
الفنان محمد حجى ( 1940 ) المقاومة .. نبض الحياة
- لم تظهر فى أغلب الأقطار العربية حتى الآن - بدرجة لافتة - إنعكاسات إبداعية للعدوان الإسرائيلى الوحشى على غزة خلال الأسابيع الأولى من العام 2009 فى أعمال الفنانين التشكيليين، إن لم يكن فى أعمال الفنانين عبر مختلف المجالات .. كان الهول الذى تصنعه آلة الدمار على مدى ثلاثة أسابيع متصلة أفدح من أن تستوعبه القريحة الإبداعية وأن تخرجه فى رؤية فنية تتكافأ معه ولاتكتفى بتسجيله، فهذا لن يفيد فى ظل وجود أجهزة الإعلام التى ظلت تتابع الأحداث لحظة بلحظة وتبث الصور التلفيزيونية والصحفية من أرض الأحداث، لمشاهد القصف والتدمير والقتل للأطفال والنساء، فامتلأت الشاشات والصفحات بصور الشهداء والمصابين، وبالأجساد الممزقة والوجوه الدامية، وكذلك بمواقف الصمود الأسطورى لبسطاء الأهالى بجانب رجال المقاومة .. إن تلك ملحمة تتطلب زمناً طويلا للتفاعل فى ضمائر المبدعين وقرائحهم حتى تتبلور فى رؤى جمالية جديرة بالخلود فى وجدان الجماهير، وإلهامها بمعنى البطولة وحتمية النصر، مثلما فعلت - ولاتزال - لوحة جورنيكا للفنان بابلو بيكاسو حتى بعد مرور أكثر من سبعين عاما على إنجازها .
- وبالرغم مما حملته مسيرة الحركات العربية عامة - والفلسطينية خاصة - من أعمال تشكيلية لاتحصى حول أحداث ومجازر جرت فى مدن فلسطينية وعربية عدة على مدى الستين عاما الماضية، فإن مجازر غزة سوف تكون الأكثر تأثيرا وإلهاما للفنانين، ليس بما حفلت به من مآس وصور فحسب، بل كذلك بما أدت إليه من تحولات مصيرية للقضية الفلسطينية وللصراع العربى الإسرائيلى الذى أصبح على المحك، بما لايدع وقتا إضافيا لألاعيب السياسة ومرواغات القوى المؤيدة للعدوان ، على خلفية من تضامن شعوب العالم أجمع مع الشعب الفلسطينى، وانتقاضها استنكاراً للعدوان ومطالبة بحقه المشروع .
- وإلى أن يولد ماتستحقه ملحمة غزة من إبداعات فنية على أيدى الفنانين الفلسطينيين والعرب فى كل مكان، تستعيد الذاكرة اليوم أعمالا فنية شتى تركت آثارها فى الجدان والمخيلة، وقد لايسعفنا الوقت والمجال المحدود هنا لاستعراضها جملة، بما نستحق من العرض والتحليل ، لذلك فضلت أن اختار فنانا واحدا كرٌس أكثر من مائة لوحة من أعماله بألوان الجواش للتعبير عن قضية الشعب الفلسطينى الصامد، وهو يسترجع ذكريات الأيام التى عايش خلاها مخيماته فى الشتات، عبر نبض الحياة اليومية، بين النضال من أجل الحرية أو من الحرية أو من أجل الخبز، وبين الكفاح من أجل اتلزرع والتعمير أو من أجل الدرس والتحصيل ... ولعمرى؛ فإن ذلك هو الوجه الآخر للمقاومة بالسلاح!، فهو لايقل عن المدفع والصاروخ أهمية ونبلا ، بل إنه الغاية المنشودة للشعب من وراء الكفاح المسلح، بشرط أن يكون نبض الحياة بالزرع والبناء والتحصيل على أرض الوطن لا أرض المخيمات !
- هو الفنان المصرى محمد حجى، الذى أقام بهذه اللوحات معرضا ضخما بقاعة أفق بالقاهرة 2002 فى خضم الحصار الاسرائيلى للرئيس الراحل ياسر عرفات واجتياح مدينة حنين، وبالرغم من أن اللوحات لم تكن تعبيرا مباشرا عن هذه الأحداث فإنها نجحت فى أن تتلاقى وتتفاعل مع المشاهدين ، وأن تدخل بهم فى قلب حاله ` المقاومة `، وإن ظلوا بعيدين عن أصحابها بفواصل الجغرافيا والسياسة .. هكذا اجتاز الفن كل الفواصل واختلافات المواقف وصهر المشاعر وأطلق سراح الخيال، لأنه كان رؤية نابعة من الداخل بلغة بصرية سهلة وربما مباشرة فى بعض الأحيان، لكن حس الطزاجة والجدة التعبيرية والذكاء فى اقتناص اللحظة المعبرة عن موقف إنسانى، كل ذلك انتقل بالمشاهد من الحدث الآتى إلى رؤية إنسانية شاملة للمقاومة وحب الحياة والإنتصار على القهر، وإلى الأمل فى الغد .
- فى لوحاته عن الحياة فى المخيم، لن نجد صعوبة فى الالتقاء بجوهر الانسان بعيدا عن مظهره، هذا الجوهر الذى يتركز فى معنيين رئيسيين : هما حب الحياة .. والمقاومة .. وأكثر أبطاله نجدهم من الأطفال والنساء، ونستطيع أن نفهم ذلك من أن كليهما يمثلان المعنيين المذكورين خير تمثيل ..
- فالطفل هو طاقة الحياة الصاعدة، بدوافع النمو الذاتى المتطلعة للمستقبل، غير مبالية بالموت، المندفعة للمواجهة مهما داهمتها المصاعب واعترضتها الكوابح، وعلى أرض الواقع هو المقاتل بالحجر والمقلاع ، وهو القادر على اللهو بعد انتهاء القصف ، دون أن ينسى واجبه نحو أهله ووطنه، وهو الشهيد الرمز قبل أوان الموت، وهو الرجل المسئول قبل أوان الرجولة، حاملا عبء الأسرة إذ يغيب بالاستشهاد عائلها، وسوف نجد ترجمة فنية بلغة الشكل لمثل هذه المعانى فى لوحات حجى ...
- فلتنظر إلى هذين الطفلين الضحكين فى لوحة ` بعد التدريب ` وأحدهما يمسك بالمقلاع وزميله يرفع يديه بعلامة النصر. ولنتأمل لوحة ` جنازة الشهيد` حيث جموع البشر المتلاحمة - وأغلبها من الأطفال - بعيون تبرق، حاملين رايات سوداء بدت أسطورية كطيور الفينيق أو إشارات البعث .. وهذه لوحة ` سقيا الزرع ` حيث يروى الطفل نبتات غضة تبزغ من الأرض، وقد تقوس جسمه كخيمة حانية فوق النبتة المتفتحة .
- وتلك لوحة ` البناء من جديد ` وقد انتشر الأشخاص - كبارا وصغارا - كخلية النحل يعيدون بناء ماهدمه القصف والجدران مكسوة بالكتابات العفوية عن الصمود والمقاومة ورفض الإحتلال والصهيونية ، ومن خلفها تتصاعد زهرات حمراء فوق أغصان شجرة .
- وهناك لوحة ` الرجال الصغار` ، يجلسون متلاصقين متحفزى الملامح جلسة الكبار، فى انتظار دور يقومون به حتى وإن كانوا فى عمر الزهور .
- وآخرون فى لوحة ` استغراق ` جالسون أمام التليفزيون بعيون مبهورة أو ذاهلة، يتابعون مايجرى من أحداث كانوا يودون أن يشاركوا فيها .
- وفى لوحة ` بائع التفاح ` نرى طفلا لا يتعدى الخمس سنوات واقفا ينتظر زبونا يشترى منه التفاح وقد نضج قبل الأوان وأصبح العائل لأسرته .
- وفى لوحة ` بقايا القصف ` لن نرى الطفل : فقد غاب بفعل العدوان، لكننا نرى دراجته الصغيرة ملقاة ومضرجة بالدماء، وبجوارها فردة من حذائه وبعض الكراسات والكتب المدرسية الخاصة به وقد لطخت جميعا بالدماء .
- أما صورة المرأة فى لوحات حجى، فنراها تجسد رمزية المرأة ودورها فى الحياة، فهى الحاضنة للإبن بدفقات الحنان رغم الخوف من فقده، هكذا نجدها وقد توحدت معه وكأنها تستعيده إلى رحمها قبل أن يودعها ملتحقا بزملائه فى المقاومة، أو عائدا بعد غياب، أو نراها وهى منكبة تغسل قميصه المضرج بالدماء، وكأنها تجسد معنى الصمود الذى يتجاوز مقدرة الإنسان على الصبر أو نراها - فى لوحة ` انتظار الغائب` زوجا كان أو أبا أو أخا أو حبيبا وهى تنكب على رتق قميصه ومن فرط اقترابها منه نشعر وكأنه قد تجسد أمامنا فى هذا القميص، وهى تخاطبه وتستمع إليه بين الخوف والرجاء، حالمة بلحظة رجوعه إليها سالما .
- لقد ركزنا فى العرض السابق على الجانب الموضوعى من اللوحات وهو ليس العنصر الحاسم فى مدى إبداعية العمل الفنى ، لأن الفنان هو أسلوبه قبل أى شىء، كى لا يتحول العمل إلى لقطات تسجيلية أو وثائق ليس مكانها قاعات المعارض الفنية طالما لم تأت بجديد ... فماذا كانت ملامح الأسلوب الفنى لمحمد حجى ؟
- السمة الأساسية لديه هى قوة البناء الفنى ، فلوحاته ذات معمار قوى راسخ ومتماسك يعطى دور البطولة للكتلة عن طريق الإضاءة الصريحة والظل القاتم ، مفسحاً المجال لشسطفات الضوء التى تبدو أحيانا كالشظايا الحادة البارقة، مكونة سطوحا متقابلة أو متعارضة فى شكل منشورى أو مكعبى، وأحياناً أخرى تبدو ذائبة ومتداخلة فى درجات الظل، فتعطى إحساسا بملمس الكتلة الصلدة، وأبرز مثالين على ذلك هما `إنتظار الغائب` و` سقيا الزرع` .
- تأتى بعد ذلك سمة الديناميكية الحركية لعناصر اللوحة، بتأكيد التقابل بين الأشكال الساكنة والأشكال المتحركة، وأبرز مثال على ذلك ` جنازة الشهيد `، فالوجوه التى تتراءى لنا بالآلاف تبدو ساكنة ومكررة بتراصها المنتظم وملامحها المتشابهة، تقابلها حركة الرايات السوداء المتماوجة القوسية المتداخلة، وقد تلاعبت بها الرياح، وثمة قرص رمادى فى السماء البيضاء، يبدو شاهدا يمثل عين السماء، ويمثل - تشكيليا - عنصر اسنقطاب يناوش العناصر الأخرى ويتحاور معها .
- السمة الثالثة لأسلوبه الفنى هى تأكيد البنية الجمالية حتى ولو على حساب المضمون، والمثال على ذلك هو لوحة الأم وهى تغسل قميص ابنها الملطخ بالدم .. فالفنان لم يجعل منها عنصر البطولة الشكلية فى الفراغ لإبراز درامية الموضوع ، بل جعلها أصغر حجما من برميل الماء الأحمر على يمين اللوحة، وقد بدت فيه تجعدات بنفسجية متموجة وفوقه دلو الماء، كما أن وميض الإضاءة على الأم ووعاء الغسيل أقل من وميض الإضاءة على الخيام وحواف الخيمة التى تجلس بداخلها وعلى ساحة المخيم الرملية الممتدة أعلى رأسها .. إن تلك العناصر تحولت إلى حركة إيقاعية ديناميكية تحدث حالة شاملة من الدراما تتجاوز الموضوع المباشر .
- لقد استفاد حجى كثيرا بالعناصر الشكلية المرتبطة بالموضوع فى أغلب اللوحات مثل جوانب الخيام الهرمية المسطحة بلونها الأبيض وفتحاتها المعتمة، وكذا ثنيات الملابس وزخارف البُسُط الأرضية وشظايا الضوء على الوجوه والجدران، فى تقابلها الحاد مع مساحات الظلمة، وغير ذلك من العناصر، كي يجعل منها مثيرا بصريا يعكس حالة الحركة الدائبة، كما يُحدث بعض المقاربة للأسلوب التكعيبى دون الدخول فى صميم تقنياته التى تصل إلى التجريد والعبث، لكنه يستجيب - فى كثير من الأحيان لإغراءات سريالية تحيل الموضوع المباشر إلى عالم من الحلم أو المفارقة الغرائبية أو الكابوسية أو الأسطورية، ويتجلى ذلك فى رسم وجوه الفدائيين مغطاة بأقنعة سوداء، تبدو منها العيون القططية أو الدبية، ومنها ما يحاكى الأقنعة الأفريقية التى طالما استلهمها بيكاسو فى العديد من لوحاته ومجسماته.
- وأظن أن مثل هذه المقاربات والمناوشات الجمالية لأساليب حداثية هى التى أنقذت لوحات حجى من الوصفية والحكائية وأعطتها عمرا إضافيا يتجاوز مرحلة الأحداث فوق الأرض، لتدور فى فلك الرؤى الإبداعية التى تعمق وعى الإنسان وتعلى قيمة النضال الأبدى من أجل الحرية .
- ويبقى أن نلتقى برؤى جديدة فى هذا السياق، تستلهم ملحمة البطولة الأسطورية لغزة، من خلال أعمال الفنانين العرب فى كل مكان .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهواية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث