`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
إيفلين عشم الله اسكندر حنا
لوحاتى تجسيد للشخصية المصرية بأعمدتها السبعة
- يمكنني القول هنا.. بثقة، وقلب مطمئن، إن لوحات الفنانة «إيفلين عشم الله» «عالم من البهجة»، لا لأنها مفعمة بألوان مفرحة فقط، ولا لاحتفائها بالرموز الشعبية المدهشة، ولا لأفكارها العميقة الافتة،
بل لأنها «نافذة رحبة على روح مصر السمحة»، وتجلياتها أيضا. فنطل منها على أجمل ذكريات إنسانية نسجها مجتمعنا، وأنبل عادات وتقاليد الطبقة المتوسطة المصرية، التي تضررت منظوماتها الاجتماعية والأخلاقية بدرجة مؤلمة في العقود الأخيرة.
لكنها وقفت بريشتها المتحمسة، وبالمسرَّة الكامنة في ألوانها، لتتصدى للهجمات الشرسة التي تعرض لها مجتمعنا عبر أربعة عقود خلت، ولا تزال متأهبة «بيقظتها الإبداعية»، و«البالِتَّة» جاهزة في يدها لتلوين المستقبل بألق القيم الحقيقية، وتتوعد بقبضتها كل من يقترب من «روحنا السمحة».
ورغم اختلافها معي على المصطلح، وإصرارها على أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، فظني أن الموتيفات الشعبية سكنت وجدانها منذ بداياتها، مثلما انتثرت في لوحاتها، وملأت روحها بدهشات متداخلة مثَّلت لها مددا لاينقطع، كونها تشكِّل «النُواة الصلبة لأمتنا»، ومكمن فرحها المتجدد، ومناط إبداعها العبقري في مختلف الفنون.
وهذا لم يأت من فراغ. فقد نشأت في مدينة دسوق، بكفر الشيخ، هناك.. حيث يبلغ النيل أعقل مراحله، وأبهى اتساعاته، ووفرة متنزهاته التي تفتح وعيها في مداها الرحيب، وتشربت روحها تجليات مولد «سيدي إبراهيم الدسوقي» الشعبية.
وما أن أنهت دراسة «فنون جميلة» في الإسكندرية،هبطت إلى القاهرة لتشارك بدأب في تأسيس نقابة الفنانين التشكيليين، وتصبح جزءا من جماعة الفنانين والكتاب بأتيليه القاهرة، وتكون من مؤسسي الحركة التشكيلية المصرية، ثم تولَّت إدارة متحف الفن الحديث، وتنقلت من مسئولة إلى أخرى، لكنها لم تترك فرشاتها، وظلت أسيرة مخيلتها، وشاركت في معارض جماعية، وأقامت معارضها الخاصة، وشاركت في مؤتمرات ومهرجانات دولية للفن التشكيلي.
بيت «إيفلين عشم الله» في وسط القاهرة يستقبلك بمظاهرة من البهجة، يقودها أفراد الجماعة الشعبية من «باب الشقة» ويصحبونك في رحلة للدهشة من تفاصيل اللوحات إلى كل مفردات الأثاث والموتيفات التي تجلس هي بينها «أيقونة للجمال والصدق».
هل تعتبرين نفسك من الفنانين الذين استطاعوا استلهام «الموتيفات الشعبية» في أعمالهم بشكل مميز؟
أنا ضد التسميات.. ولا اعتقد أن هناك ما نطلق عليه «موتيفة شعبية». لأن المسألة من وجهة نظري أعمق من هذا بكثير، لأني نشأت في حارة سد اسمها حارة الملاحين في دسوق، كان الناس فقراء للغاية، والبيت الوحيد اللي كان فيه مياه هو بيتنا، وكان الناس تلقائيين، الجيران الذين تربيت وسطهم، كانوا يضعون الكف رمز الخمسة وخميسة في كل مكان، وليس هذا سبب رسمي للكف في لوحات كثيرة، لكنه ظل في وجداني، كأنه استبطان للشغل من الذاكرة، وقد عشت طفولتي في مدينة دسوق التي تشهد سنويا «مولد سيدي إبراهيم الدسوقي» وهو مولد كبير جدا، وكنت أتجهز له نفسيا قبل بدايته بأسبوعين لاستقبال المولد وحالة الزخم البشري، و«سيدي ابراهيم الدسوقي» له مريدون في العالم العربي، وكانت حالة غريبة جدا أن تجدي مغاربة يرتدون فوق رءوسهم القشابية المصنوعة من صوف الجمل خاصه في الشتاء في شمال الدلتا، وكان كرنفالا عظيما جدا، والأهم بالنسبة لى هى الحالة الاحتفالية والفانتازيا التى يقيمها الناس في هذا الكرنفال المتنوع، بين خيام سيرك عاكف، وسيرك الحلو، الأسود والحيوانات المتوحشة، حالة غريبة جدا في بلد لا تعرف غير حيوانات الغيط الأليفة، وألعاب العُقلة، ونصبات الثلاث ورقات، وبتوع الحظ والغجر اللي بيشوفوا الودع، ولبس الدروايش المرقّع، والسبح والطراطير الملونة،مشهد يشكل حالة من الدهشة المعاشة.
هل كان المولد فقط هو مصدر الإلهام الأول؟
هناك زخم آخر، هو زخم الغيطان، فدسوق مدينة محاطة بالقرى، لذا لاتخلو أبدا من الفلاحين الذين يجعلون المشهد مدهشا، ولا أنسى منظر الشجر في الغيطان، أشجار الجميز والجوافة، حيث كنت أقضي الصيف عند خالتي، وزوجها كان يعمل مهندسا في التفتيش الزراعي في أبو غنيمة، وكانوا يعيشون في فيلات مخصصة للمهندسين حولها أراض واسعة محاطة بأسوار من الزهور والزراعات، لم تكن هناك أسوار حديد، وما زلت أذكر حالة قطف الفاكهة من الشجر مباشرة، كنا نفتح الجميز لنأخذ منه اللبن، والمانجو وهي خضراء ومرَّة من علي الشجرة «لها طعم تاني يُهيئ لك إنها أحسن حاجة في الدنيا»، هذا العالم كان فرصة لدهشة رائعة لطفلة مثلي، خلق لي مساحة من الاحتكاك مع الفلاحين، وإنشاء علاقه مع الزرع والفاكهة والشجر، وحتي مع حشرات الغيط، ما جعلني أدرك من وقت مبكر أن العالم ليس للإنسان فقط، لكن هناك آخرون يشاركوننا هذا العالم.
وما دهشتك الثالثة؟
دهشتي الثالثة هي النيل، ودسوق تقع علي فرع رشيد، والنيل هناك واسع جدا، وتتوسطه جزيرة ملأى بأشجار البرتقال والتين واليوسفي، وكنا نحتفل جميعا معا، مسلمين ومسيحيين بشم النسيم، والطبقة المتوسطة كان لها طريقتها في الاحتفال، يركبون الحناطير، وكل أسره تأخذ سجادة او كليم، ويجلسون في مجموعات كانت تبدو كصُحبات الورود، ألوان ملابسهم زاهية، والسيدات عاملين شعرهم زي نجمات السينما، والأفندية «زي أبويا» كان يرتدون جلابية بالشكل المصري الكلاسيكي، ذات الكم الواسع، وكانت مخصصة للمناسبات دي، وكان أهل دسوق جميعا يصنعون الفسيخ من سمك البوري في بيوتهم ما يعني مُتعة التحضير والتجهيز لهذا العيد الجميل.
والدهشة الرابعة؟
هناك دهشات أخرى في حياتي، من أهمها الإسكندرية، والبحر، والسفر إلي القاهرة لزيارة الأهل والأقارب في أحياء مختلفة مثل شبرا والمطرية، وكل حي كانت له خصوصيته. وكان بيتنا كأي بيت مسيحي جدرانه مليانة صور، وأبي كان مختلفا، وذوَّاقة، وعنده روح فنانة جدا، فلم يكن يختار اللوحات التقليدية مثل بقية أقباط مصر، لكنه كان يضع صورا عالمية~، كلها دينية مثل رسوم «مايكل أنجلو»، وأيضا كان عنده مكتبة ضخمة من الأدب الروسي، والفرنسي، وأذكر رواية فرانسوا ساجان التي وجدت فيها أب ضعيف الشخصية أمام ابنته القوية، وهو شخصية مختلفة تماما عن النماذج التي نعرفها، فهو لايشبه أبي الفخم الضخم «سي السيد اللي الشخطة منه تجيبك الأرض».
وكيف تسللت هذه الدهشات إلى لوحات «إيفلين عشم الله»، وكيف يمكن لمتلقي الفن التشكيلي قراءة أعمالك؟
شغلي مرّ بمراحل، ففي المرحلة الأولي كنت أرسم نباتات مجردة مثل الصبّارات، «مافيهاش فيجرز».. مستويات من الارتفاعات والانحفاضات «أبستراكت»، وتلتها «مرحلة البورتريه بالحبر» ثم مرحلة «خلط أجسام الحيوانات والحشرات بالبني آدمين»، فمثلا عندي لوحة «فرس النبي الأخضر»،وهو بطل اللوحة، شفته في الريف زمان، كما رأيت الحرباء وهي تتلون لتنتقل من غيط لغيط، وأخيرا المرحلة الحالية وهي مرحلة «الحكي بالرسم».
لكن ألا تعتبر كل هذه الأشياء واللقطات والحكايات الجميلة «موتيفات شعبية»؟
الحكاية مش في الموتيفة، الحدوتة في الروح والرائحة، رائحة البشر والمكان والنباتات، وخصوصية النشأة والبيت، وبغض النظر عن المصطلح، واتفاقنا على وجوده أو رفضه، المتأمل لأعمالى سيجد تجسيدا كاملا للشخصية المصرية بأعمدتها السبعة كما ذكرها «د. ميلاد حنا» من دون تحيز لأي من روافدها علي حساب الأخرى.
حوار: ضحى عاصى
الأهرام : 1-10-2016
لا تستدعى الثقافة الشعبية فى أعمالها لأنها ولدت فى قلبها
- إيفيلين عشم الله: لا أتجنب شيئا فى الرسم لأنى تلقائية و«أدلق» نفسى على اللوحات
إيفيلين عشم الله فنانة تشكيلية مسكونة بكل مكونات الدهشة! عاشت طفولتها فى مدينة دسوق. التى تسترخى على ضفاف النيل فى دعة منذ آلاف السنين. فمنحها طيبة مضاعفة، وسماحة متجددة، تسربت منها إلى وجدان الناس، فحملوا صفاتها الوراثية فى جيناتهم. ومنهم هذه الإنسانة الفريدة.
ولدت فى مدينة دسوق الوادعة، وقد زُرتها عدة مرات، وحضرت مولد إبراهيم الدسوقي، وكنت أستلطفها كل مرة، ولك حكاياتك عنها جعلتنى أراها أطيب مدينة مصرية تطل على النيل، فما سر حبك الصافى هذا لها، هل هى مجرد ذكريات طفولة مع أسرتك، أم مكونات ثقافية راقية ما زلت تنعمين بها حتى الآن؟
عندما تولد فى مدينة وتمارس فيها طفولتك، وتنعم بأحضان الناس كلها. كنت أعيش مع أسرتى فى بيت على ناصية حارة فقيرة، كان مسموحا لى الاختلاط بالجميع، حقا كانت أمى تُضيِّق عليّ وتحسب وقتى فى الحارة بالساعة، لكن أبى كان يطلق سراحى دوما، لدرجة أنه ألحقنى بكتاب الشيخ رجب المجاور لبيتنا، كى أصحح نطق القاف التى كنت أنطقها كاف، الأمر ليس مثيرا للدهشة، المسيحيون فى كل مصر اعتادوا حفظ وسماع القرآن فى المدرسة والراديو، إذن أذنى `اتعجنت واتخبزت` بالقرآن. وشخصيتى نفسها `اتعجنت واتخبزت` بكل ما عايشته. إذن السنوات الأولى من عمر أى بنى آدم هى الفيصل فى حياته كلها، إذا عشتها سعيدا تتمتع بالبراءة دون الاعتداء عليك، وتفرح بطفولتك ستكون فى بقية عمرك سعيدا متفائلا قادرا على مواجهة الحياة، ليست دسوق فقط، كل المدن بالنسبة لمن عاش فيها، المدينة عائلة كبيرة، ربما دسوق توافر لها `كرنفال دسوق السنوي`، وهو كرنفال شعبى فيه كل مقومات الفرح من أغانى وألعاب سحرية، كل ما تطمح لرؤيته. بالإضافة إلى أن خالتى التى كانت تعيش فى `أبو غنيمة` وفرت لى فرصة الاطلاع على جانب من حياة الفلاحين الذين كانوا يأتون إليها ليزرعوا أرضها بالأرز والبرسيم، حظيت بطفولة مليئة بمحبة الناس وسخاء الطبيعة، إضافة إلى النيل وجزيرة دسوق التى امتلأت بالمبانى الآن، لكنها فى الماضى كانت مساحة من الحدائق، وكانت تمتلئ بالناس عن آخرها فى عيد شم النسيم، تفترش الأسر الحشائش، وتظللهم الأشجار، ويستمر بقاؤهم من الفجر إلى المغرب، والحناطير تأخذنا وترجعنا، والمشى على الكوبرى فى هذا الجو، سعدت بوجودى فى حضن الناس، وكان جميلا أننى عشت فى مدينة أحببتها.
هل كان والدك يتنقل نتيجة طبيعة عمله؟
أبى كان يعمل فى شركات التأمين على الحياة، وتطور حتى صار الوكيل لهذه الشركات فى شمال الدلتا. كانت معظم هذه الشركات أجنبية وقتذاك، لم ننتقل من دسوق!
دسوق يغلب عليها الطابع الريفى الصوفى بتجليات إبراهيم الدسوقى فى المحيط الاجتماعي، وأنت كتبت عن سماحة البسطاء فى المحيط الاجتماعى بين المسلمين والمسيحيين بلا تفرقة، إلا إذا نجم عن جهل أو عنصرية، فلأى مدى تغيرت تلك الطبيعة السمحة الآن؟
طوال الوقت ستظل هناك حساسية بين المسيحيين والمسلمين، لأن كلا الفريقين يرى من وراء الآخر أنه المفضل من الله، هذه خصلة قديمة ومُعتّقة فى النفوس، وهذه سمة الأديان، كل دين يرى أنه الأصح، كل دين يرى أنه يمتلك الحقيقة وحده، فى بلد فقير اقتصاديا يعانى نقص الثقافة مثلنا تزداد هذه النعرات، زمان، الصوفية تجلت فى الطريقة الإبراهيمية فى أثناء احتفالاتها بالمولد النبوى كل عام، كان احتفالا مهولاً، سيارات نقل ضخمة على كل واحدة مسرح كبير، للاحتفال بالكسوة الإبراهيمية، المسرح كان يؤدى مشاهد خرافية، ثم يأتى شيخ الطريقة حاملا كسوة قبر سيدى إبراهيم، والناس تردد خلفه الأناشيد الصوفية، والفرح يعم، هذا ما أخذته طفلة مثلى من الصوفية، أنا من مواليد 48، وعلى الرغم من الفقر الشديد وقتذاك، وحفاء المصريين، والملابس المرقعة على الرقع القديمة، لكن لم يكن هناك نعرات عالية، ولا عصبية، كانت هناك سماحة اجتماعية تشمل المسلمين والمسيحيين معا، لن أنسى عندما قال أحد أقاربنا لى إن أحدهم `عمل عملا لفلان على قحف قرموط`، وكان الجميع يجرى لفك هذا العمل! كانت هذه الحالة تحدث فى الطرفين. الهبّة الدينية المتعصبة من الطرفين قامت مع زمن جمال عبدالناصر، أنشأ إذاعة القرآن الكريم وحول الأزهر إلى مؤسسة لها صلاحيات أكبر، وفى المقابل منح الكاتدرائية صلاحيات أيضا، نحن فى `تباتيك` ـ وهى كلمة مصرية تعنى فى أثر ــ المرحلة الناصرية، السلطة من وجهة نظرى هى ما يوجه النعرات ويُذكّى الإحساس بالاختلاف الديني. وبدأت الطبيعة السمحة بين الطرفين تتأثر والهوة تتصاعد. كانت الحياة أكثر تلقائية، فى شبرا عندما كنت أزور خالتي، وفى المحلة الكبرى عندما كنت أزور عماتي! كانت تلك حالة تسود فى كل مكان. لا أحب كلمة تقبل الآخر هذه. عندما كنت صغيرة، لم أنتبه حتى لتصرفات الأطفال تجاهي، عندما كانت `سعيدة زعيمة أطفال الحارة` إذا غضبت على تتزعم بقية الأطفال، ولأنها كانت تحبنى كانت تطلق على ما يفعلونه معى `زفة` عكس لفظها `زقّلوه بالطوب` مع الأطفال الآخرين، وكانت تحدث بسير الأطفال خلفى قائلين: `يا نُصرانى يا قسيس سن العضمة ع الرغيف`.. لم أكن أفهم، فهمت فقط أنها زفّة تخصنى إذا غضبت على سعيدة، لم أكن أعود للبيت للشكوى مما يحدث، كنت أحب الحارة بأطفالها بكل ما يحدث! ثم فى أثناء النكسة وهوجة الإمساك ببقايا اليهود المقيمين فى مصر، اتهموا أبى بأنه عميل لإسرائيل ولديه جهاز لاسلكى للاتصال بهم، وحبس أبى أسبوعا فى سجن كفر الشيخ، بعد أن جاء ضابط وفتش البيت وفك غطاء التليفزيون وفتشه من الداخل! هذه تصرفات السلطة الحاكمة، تبث هذه الأفكار بين الناس وتستخدمها وقت اللزوم. سبعة وستون لم تكن نكسة عسكرية سياسة فقط بل كانت نكسة اجتماعية وضربة للثقة والاعتزاز والفخر بالنفس. وعلى الرغم من كره أبى لجمال عبدالناصر لأنه ممن طالهم التأميم، فإننى كنت ناصرية وقتذاك، وتطوعت لتمريض الجرحي، بعدما تدربت أسبوعين. لست وحدي، كل الشباب كان يعشق عبدالناصر، لعبدالناصر إنجازات عظيمة، المدارس والمصانع، وارفع رأسك يا أخى لقد مضى عهد الاستعمار، مضى وقت طويل لأعرف أنها كانت شعارات جوفاء، وأن ما فعله من وحدة مع سوريا وحرب اليمن ورغبته فى أن يكون إمبراطورا بشعار القومية العربية، كلها دفع الشعب فواتيرها، وأنه لم يكن صائبا عندما ولى أصحابه زمام الأمور فى مصر! ثم ولى نائبه الذى جاء بالوهابية والإخوان المسلمين والانفتاح وباقى التداعيات!. وأيام مبارك، وكنت أسكن فى فيصل، كلما كنت أذهب إلى سوق الطالبية كانت تحدث لى أمور عجيبة جدا، كان البائعون يرفضون البيع لى لأننى سافرة وبالتالى مسيحية، ومرة باع لى البقال الجبن الأبيض بسعر أغلى من الذى باعه لآخر مسلم كان بجواري، ولما ناقشته فى الأمر قال: `إن كان عاجبك` وأكد أنه يبيع لى بسعر أغلي. هذا تكنيك السلطة، والخطاب الدينى المتشدد الذى يزداد يوما عن آخر كما قلت لك.
لكن التداخل عندك بين الثقافتين المسيحية والإسلامية فى لوحاتك وكتاباتك وحياتك بعيد هذا كله، وأقنعنى أن الهوية المصرية أعمق مما يريد لها البعض، وأن المدخلات الأولى قبل ألفى سنة غائرة فى الجينات وكامنة فى الروح، وأنت من هؤلاء الذين يطمئنوننى على مصر، فمن خلط ألوانك، فى شخصيتك ولوحاتك بهذا الشكل المبهر؟
لو نظرنا للثقافة فى النهاية لن تجد ثقافة إسلامية أو مسيحية، ستجد دينا ودينا، والدينان لا يصنعان ثقافة بل حالة من الاعتناق، الثقافة أن تصبح منفتحا وقادرا على التغيير، إذا استطعت الخروج من فكرة التعصب، وأنك الأصح، وقيد رجال الدين الذين يوظفون الآيات بلى عنقها لتخدم مصالح السلطة، إذا استطعت الإفلات، فستصبح إنسانا قادرا على حب الناس، تصبح إنسانا منفتحا على الكون كله. عندما كنت صغيرة كانت إحدى الجدات تقول: `إن الطيبين من المسلمين سيدخلون الجنة لكن عميان`، وكنت أستغرب، لماذا جدى الشيخ أحمد الورقى وجدتى أم منصور يدخلان الجنة عميانا؟ لم أكن أوافق بحس فطرى على هذا الكلام! جدتى اختارت لهما هذا لأنها طيبة، لم تقل إنهما سيدخلان النار. الدين ليس طقسا، الدين روح توجهك إلى حب الناس، الخلاصة، كانت صور العذراء والمسيح معلقة فى بيوتنا وكانت الآيات القرآنية معلقة فى بيوت المسلمين، وكنا ندخل بيوت بعضنا البعض، كنت طوال الوقت عند صديقاتى وهن كن عندي، نأخذ عادات بعضنا البعض، نؤثر ونتأثر، أصبحت اللوحات الخطية والصور القرآنية جزءا من نسيجي، مازلت أتذكر رُقيَة `أم منصور` وهى تضعنى فى حجرها، `أم منصور` خرجت من التعصب، خرجت للبراح الإنساني.
من أكثر ما أعجبنى بجانب لوحاتك طبعا كتاباتك تلك عن المرأة التى كانت تأتيكم بالخبز الصابح، زينب على ما أذكر، فهل ما زالت هناك وجوها من زمن السماحة كافية للتفاؤل؟
مازالت زينب تزورنا، تحضر لنا السمن والجبن والخبز والقُرَص، تأتى إلى بيت عيلتى الذى مازال أخوتى الثلاثة يقيمون فيه فى دسوق، تحضر كل خير الدنيا، وأنا وهى نحب بعضنا من القلب، وأتهلل لرؤيتها، وهى معرفة قديمة، أعتبرها التراث الحقيقى لأرض مصر، كلما سافرت إلى دسوق وأركب القشاش من دمنهور إلى دسوق، وأرى الفلاحين `الكحيتي` ما زالوا يحملون البذرة الحقيقية لمصر، أقول لنفسى كلنا بخير مادام الفلاحون مازالوا يزرعون. وفرحت جدا عندما لاحظت آخر مرة أن الأراضى كلها مزروعة بالقمح والبرسيم، على الرغم مما يقال عن منع زراعة القمح مؤخرا! التيارات الوهابية والسلفية على أشدها، والتمويل الخارجى بواسطة سماسرة الداخل يزكون النعرات لبعث القلاقل فى المنطقة العربية، زينب وأمثالها زادى فى الحياة، وهم الخير الذى يساعد على الحياة، منهجى الحب، لو انتشر الحب سيختفى أى خلاف وأى نعرات!
من وداعة دسوق إلى كلية الفنون الجميلة وقتما كانت الإسكندرية فى آخر مراحل الكوزموبوليتانية، ثم تزوجت وسافرت إلى الخارج وبالتزامن كانت التبدلات الكبرى تغير شكل مصر ودورها، فهل رسمت هذا فى لوحاتك أم تجنبت هذا؟
لا أتجنب أى شيء فى الرسم لأنى تلقائية و`أدلق` نفسى على اللوحات، عجينتى المختمرة هى ما يخرج على الأسطح، فتخبز وتقرّص رؤيتك للحياة وحبك لها والغضاضة التى واجهتها! يتسرب كل شيء، فى فترة سافرت الجزائر 1967، كان السادات ينوى السفر للقدس، وعدت عام 1984، رأيت مصر مغبرة وغائمة، السياسة والنظام. رسمت لوحات مثل ثلاثية `الإنسان واقفا` لم أكن أعرف لماذا أرسم هذا، كانت الأجسام الآدمية مترهلة منحنية، أحدهم يحاول القيام من الأرض، وآخر ينظر إلى كفه كأنه يفكر، رسمت أناسا أرواحهم ملتبسة بأرواح حيوانات، لكنهما فى حالة تعاطف معا، السياسة على كل متداخلة، هى فهمك للواقع الذى تعيش فيه، الآن لم أعد أهتم بالسياسة، لم أعد أحتمل القلق. والحقيقة أن مجمل ما أتغذى به من القراءات، من الشارع وناسه، من شكل السيارات الحديثة، وأذهب إلى دسوق لأشم رائحة النيل، وأتلمس رائحة أمى وأرى مقتنياتها التى تركتها. مازلت أذكر يوم وفاة أمي، بعد أن قمنا بتحميمها، ظللنا طوال الليل نقبلها ونشعرها بوجودنا حولها.
كيف تبدأ لحظة الرسم، هل هى فكرة تتشكل فى ذهنك، أم حدث يشغلك، كيف تولد اللوحة؟
استكمالا لفكرة `الدلق` هذه، نهاية الفكرة هى أول اللوحة، أكون ممتلئة بالفكرة، وقتها أشد الأسطح، وأجهز الألوان وأبدأ، الفكرة الجديدة تجيء من الخلفية الذهنية، وهى امتداد لما سبق، وكل ما أرسمه غير متوقع لكنه لا يفاجئنى لأنه مني.
ومن أول من شجعك على الرسم؟
بدأت فى الطفولة عندما دعانا الأستاذ رمضان لرسم المولد، رسمت بشر الصف الأول مكتملين ثم أكملت اللوحة برؤوس كثيرة، احتفى بس الأستاذ رمضان بأن جعل التلاميذ يصفقون لي، ووضع لوحتى فى الممر المؤدى لغرفة الناظر، هذه اللفتة من مدرس ابتدائى كانت من الذكاء والإنسانية والصدق بأن وضعتنى أمام موهبتي.
ومتى فكرت فى دراسة الرسم فى فنون جميلة؟
أحسست أنه مسار ومصير منذ كنت صغيرة، فى الصف الثانوى كان حب الشهرة، خاصة أن والدى كان لديه مكتبة متنوعة، شكسبيريات وروسيات وأدب فرنسى وعلم نفس، قررت وقتذاك أن أدخل إما فنون جميلة أو آداب قسم صحافة، مجموعى ذهب بى إلى فنون جميلة. وهى رغبتى الحقيقية، وانتقالى للدراسة فى الإسكندرية حقق لى نقلة، على الرغم من أن الفن لا يُدرس، وهى وجهة نظر ليست متطرفة لأن كثيرين يتبنونها. لدينا قصر مظلوم، كنا دفعة كبيرة 27 طالبا، قسّمُونا إلى ثلاث مجموعات، امتلأ وقتنا برسم الموديلات العارية أو الطبيعة صامتة، عاصرت `سيف وانلي` وزرته فى بيته، كونك تذهب إلى بيت أستاذك وترى مرسمه، كل هذا خلق زهوا بداخلي، كنا آخر من رسم الموديل، `حميدة` موديل محمود سعيد، و`دادة سكينة` وأولادها، وهى المرأة التى كانت تعد لنا الشاي، وتعمل موديلا فى الوقت نفسه. ووقت دخولى الكلية، كنت ما أزال صغيرة، وكنت أطّلع على كل الرسامين العالميين مثل `سلفادور دالي` وبقية الرسامين العظام. وذات مرة فى نقاش مع زميل عن بيكاسو، قلت له من بيكاسو هذا؟ أنا إيفلين عشم الله، كنت ممتلئة بذاتي، كنت مثقفة ممتلئة بكل ما أقرؤه، مع تفاصيل مدينتى دسوق، وحبى للحياة وطفولتى الجميلة، والجدل الدائر فى الساحة الثقافية، مع تفاصيل الغيطان! دون كلام كثير عن النفس كنت أشعر أننى `بعبلى كده` ممتلئة بالفن، ما يعتمل داخلى هو مفهومى عن الفن، بكل ما مررت به، الفن هو نفسك وما يحيط بك، بما فيها الطبطبة وحِنّية الآخرين عليك! الحنان دفا الدنيا.
كيف قسّمت مراحلك، حسب الأفكار، أم الألوان، وكيف جاء خلط الإنسان بالحيوان والكائنات بشكل عام عندك؟
الفرق يكون فى نهج التخطيط للوحة، والتناول مختلف، الألوان والخامة والأداء. وكل مرحلة يتبعها معرض، وبعده أظل عدة أشهر دون رسم، مرحلة للتأمل، مررت بعدة مراحل، فى الصور ستجد كل مرحلة توصل إلى مرحلة أخري، هناك مرحلة الفضاء، ومرحلة الأبيض والأسود، ومرحلة رسم أسرتي! ولهذه المرحلة قصة، عندما كنت فى الجزائر مات رب أسرة صديقة لنا، فقمت برسم أفراد أسرتى الصغيرة وعائلتى كأنى أريد أن أحفظهم من كل شر، أما الانتقال من مرحلة إلى مرحلة فيحدث بسبب التشبع من مرحلة، وإخراج ما بداخلى عنها فى لوحات عديدة، شيء اكتمل، وأصبح رفض الشكل القديم مسيطرا على ويحدث التحول لمرحلة جديدة، التطور نتيجة رؤية أو قرار يأتى من داخلك.
أغلب لوحاتك المدهشة، تغلب عليها التأثيرات الشعبية فى الشكل والرموز والدلالات، فمتى اكتست رسومك بهذه المفردات، ولماذا هيمنت عليها إلى هذا الحد؟
ولدت هكذا، وسط الثقافة الشعبية، لا أستجلبها، أنا ضد مدارس الفن، الكون موجود وأنت تدور فيه، أنت الأصل، وما تفعله هو أصلك `بالتنتوفة الصغيرة` فكرة الأصالة والمعاصرة التى أنشأوا لها جمعيات للحماية، الكف وأبو زيد الهلالي. أنا ضد كل هذا، أنا مولودة فى بيت لم يكن فيه جرس، بل خباطة أو دقاقة، كانت عبارة عن كف من النحاس. كل ما أرسمه مفردات شارع، حقا أفادنى الفن، لكننى امتلكت ذوقا خاصا أو ثقافة خاصة جعلت عينى تقعان على ما تربيت عليه ببساطة، وانتقاء ما أحب رسمه.
أكثر لوحاتك مثل رؤى المنام الجميلة، وبعضها يشبه الكوابيس، فهل بعض أعمالك مستمدة من الأحلام فعلا؟
لا.. ليس هناك أغرب من الإنسان، أعماقه غريبة، إذا غطست داخل نفسك ستصاب الدهشة، تناقضاتك وقناعاتك وأفكارك القديمة ومشاعرك، ما أرسمه ليس كوابيس، هى كائنات طيبة، تقاوم، وأخرى سعيدة، يدها مكان رجلها، متعايشة ومتقبلة، حقا ثمة أحلام تدهشني، لكن ما بداخلى يدهشنى أكثر.
سبقك العديد من الفنانين التشكيليين الكبار إلى المفردات الشعبية، والتقيت مرة بفنان تشكيلى لم يرسم طوال عمره إلا `عفرتكوش` هيئة العفريت فى المخيال الشعبي، وفى لوحاتك ألحظ هذا، ألا تخشين ظهور بعضهم لك، أم أنك تحبينهم وتخشين البشر؟
أجمل حاجة فى الدنيا أن البشر عفاريت، أنا عفريت ولا أخشى البشر. نحن قادرون على تكسير الصخر وبناء الهرم والذهاب إلى الفضاء، البشر هم من خلق العفاريت وقالوا عنهم كل هذا. وأخرجنا النار من فمهم، نحن كل الأشكال والألوان، إذا تعمقنا ولم نكتف بالظاهر ستجد أننا نحن العفاريت.
كل لوحة لديك تحكى حكاية، فهل تشبعت رسومك بطفولتك وطبيعتك، فأنت حكاءة حتى فى بوستاتك على فيس بوك؟.
طبعا، لوحاتى حكايات صغيرة. كنا نقضى سهرات طويلة جنب جدتى على سريرها `أبو عمدان` كلما انقطع النور، عن الجن والعفاريت ومكن الطحين المسكون، وأرواح القطط، وأمى وهى تقلب عينيها لتخيفنا، كانت طفولتنا جميلة، وأجمل شيء فى الدنيا الحواديت، الروايات بعدما وعينا، القراءة حواديت، عقلى الصغير ظل مندهشا إلى الآن وأنا أوشك على السبعين من تفاصيل الحدوتة التى تأخذها من تلافيف الرواية.
رسمت النباتات، والبورتريه الحبر، ثم حدث تداخل لافت ببين الحيوانات والنباتات والبشر، ثم مرحلة الحكى بالرسم، أو رسم الحكي، هل الانتقال بين المراحل هذه يكون بلا سبب او مقدمات، أم نتيجة وصول الفنان إلى رؤية وأحاسيس أعلي؟
طول ما أنت تسير للأمام، تكبر سنا، وتنضج وترقى بحساباتك ونظرتك للكون والإنسانية، تنفتح أكثر وتحب أكثر، وهذا تطور، حتى اللت والعجن فى لوحتى التى احتفى بها `الأستاذ رمضان` كانت حدوتة مع الوقت حدث لها التطور، منذ ثلاث سنوات، كان قد مر على عشر سنوات دون رسم، من عام 2005 ومرحلة حارة الملاحين، بعدها توقفت لأننى كلما حاولت الرسم أقول لنفسى أريد أن أكتب، والعكس، عند الكتابة أقول أريد أن أرسم، وفى لحظة فكرت لم لا أكتب بالرسم، هذه الفكرة أعادتنى للرسم، وأنتجت نحو 200 لوحة، هذا الشكل الجديد جعلنى أحول الحروف إلى مخاليق، وحروفى هى حكيى أنا.
يفترض أن الفنان التشكيلى ذاكرته بصرية، لكن جزءا من ثقافتك سمعية، تلتقطين الحوارات من حولك، أحاديث صبية البقال، تلتقطين ما يشكل رؤية خاصة بداخلك كأنك تشكلين لوحة بالكلام، هل تسلل هذا إليك من طفولتك أيضا؟
الفن لا يخلق من شيء واحد، هو محصلة كل ما يحدث لك، تفاصيل يومك وحياتك بالكامل! من الحكى والصور والرؤية واللون، من خرير مياه الساقية، وزقزقة البلبل، خبرتك وصورك وحكايات الجدات، ولدى الكثير منها نتيجة حياتى الزاخرة، الفنان التشكيلى ليس إلا راسما كاتبا، والكاتب ما هو إلا كاتب راسم، وأنت تقرأ لنجيب محفوظ أو يوسف إدريس ستجد لوحات مرسومة، الفن متكامل تماما.
من الفنان المصرى الأكثر قربا لقلبك؟
ليس لدى مرجعية أبدا، ليس لدى رسام أحبه جدا، كلهم على عينى وراسي، لكننى مشغولة بطبختى، وأرى أن منجمى الخاص، الكون الذى داخلي، أهم لأرسمه.
أسامة الرحيمى
الأهرام : 2018/6/12
كائنات إيفيلين عشم الله وقصائد تراها
- كانت الأسطورة توسلاً معرفياً للإنسان منذ طفولته في الكون ؛ ليفك ألغاز حياته مع الطبيعة ، ثم كانت بعد صياغتها الأولى توسلاً جمالياً للمبدعين يسقطون من خلاله رؤاهم ؛ فكانت بذلك - إطاراً أو متكأً استلهامياً . ونحن هنا أمام تشكل أسطورى للعالم ، رؤيا تتخلق عناصرها فى منظومة مميزة .
- إن الفنانة إيفيلين عشم الله تصوغ أسطورتها . ذات الملامح الخاصة : بعناصرها وبنائيتها وجدليتها مع الواقع حيث الإنسان قد بلغ أشُدّه ، وصار فى عنفوان نضجه واكتماله .
- أسطورة تتوزع فى لوحات ؛ كل لوحة يحدها إطار يضم عالماً رحباً ثرياً . والأعمال مجتمعة تنتظمها رؤيا متميزة ، شديدة الخصوصية والاختلاف ، غرائبية الخيال والتعبير ، وغير منبتة عن الواقع المعيش فى آن .
- هى أعمال مراويه رؤيويه ، مرآتها ليست فضة ؛ بل فضة مرآتها تتخالط وكل عناصر الأرض والكواكب البعيدة فتصير إلى سطح متعدد المستويات عميق الطبقات ، ذى قدرات عديدة فاعلة جدليات الامتصاص والعكس والانتقاء والإبراز .
- والفنانة هى ربة هذا العالم وحدها ، بل تكاد تكون خالقة أرباب ، صائغة أسطورتها الخاصة ، فى سبيكة سرها سحر لا يستطيع فك رموزه إلا ` بتاح ` الذى ربما نفحها السر ذات يوم ثم استراح !
- وهذا العالم العجيب يستفز دهشة من يقترب منه ؛ تلك الدهشة التى ما تلبث أن تجعله متورطاً يغوص فى غمر ، لكنه يستسلم لها ؛ إذ يجدها دهشة كاشفة ، ثم فى جوبانة الدهاليز والكهوف والقيعان والمجرات يتحسس حالة غموض يستحبه ؛ لأنه غموض دال ، حادث بفعل تلقائية واعية مؤسسة . إنه غموض يتسم بحسن النية ، وبحميمية اكتناف الواقع ، وباستشراق مؤمل .
إننا فى أبهاء عالم حُلمى - وأحياناً كابوسى - مفعم وزاخر بالرموز والتأويلات .
بقلم : محمود يسرى حلمى
مجلة : إبداع ( العدد 9 ) سبتمبر 1995
إيفلين عشم الله تحلق بريشتها في فضاء الكائنات المهجنة
- لوحات فنية تتلاعب بالجينات الوراثية
- استطاعت الفنانة المصرية `إيفلين عشم الله` التحليق مبكراً فى فضاء فنى مغاير عن السائد لسنوات طويلة غي الفن التشكيلى، عبر لوحات فيها بخيالها إلى عالم الكائنات المهجنة، وبعد سنوات طويلة من تنبؤات عالمها الفنى المُهجن فوق أسطح لوحاتها، بدأت محاولات لفنانين عالميين يستلهمون فنهم من نتائج أبحاث العلم حول التلاعب الجينى والتعديل الوراثىفى فنونهم داخل مراسمهم التى تحولت إلى ما يشبه المعامل التجريبية فى الفن إلى حد تجريب الفنان على نفسه..والأمثلة عديدة منهم الفنان `استيلارك` المعروف بأدائه الفنى الذى يعتمد على الانتقال بالجسم البشرى إلى أقصى حدود التعامل، وقد ذرع بعملية جراحية أذناً فى الجزء الداخلى لذراعه الأيسر مستفيداً بأبحاث الجينوم، وبالفعل تمت العملية بعد مشكلات خطيرة أثناء تدوير موضع الأذن حول الذراع.
- وفى عام 1994لعب الفنان `ماثيو بارنيه` فى الجينات فأطال الأذنين ومنطقة أعلى الحاجب الأيسر.. بينما في عام 2000 قام الفنان `إدواردو كاك` بعمل فنى بيولوجى،حيث صبغ أرنب بالكامل أسماه `ألبا` بلون أخضر فوسفورى، وقد أدخل اللون إلى جسد الأرنب من بروتين متوهج لقنديل بحر، بخلاف الفنان الأشهر `داميان هيرست` الذى قدم خنزيراً بجناحين محفوظاً داخل سائل الفورمالين..
- ومنذ أكثر 30 عام وقبل فوز`إيفلين عشم الله`بالجائزة الأولى فى مسابقة ` فاوست`العالمية عام 1992، كأول مصرية تفوز بهذه الجائزة عن رسمها شخصية `هومونكولوس` وهى صفة الشخصية الذى باع نفسه للشيطان فى رواية الأديب الألماني`جوته`، توجهت لوحاتها عام 1983 بظهور الحيوان الديناصورى الأزرق، وكلك في عام 1988 برسمها عملاً رائعاً لطائر مُهجن برأس إنسان يرتكز بثبات فوق كرة تشبه الكرة الأرضية، ناظرًا إلينا مبتسماً بحكمة وثقة كجزء من ملامح عالم سيريالى أسطورى متمرد لا يحده زمان ولا مكان..
- أما عالم `إيفلين` الذى احتضن مخلوقات مُهجنة هبطت من حكايات الجدات والأساطير القديمة والكوابيس والأحلام، فقد سبق بخيالها ما تحقق بالعلم فيما بعد،لتبدو كائناتها مزيجاً من حيوانات وطيور وآدميين يتحركون بحرية بألوان زاهية متوهجة بعضهم جميل وبعضهم دميم وكثير منهم ظريف ترتسم على وجهه ابتسامة دائمة وينظرون إلينا مباشرة ليكأد يختلط لدينا الشعور باللاشعور..وكأن الجهاز العصبى للفنانة هو المحرك لكائناتها وليست الفرشاة بيدها..
- وداخل لوحاتها يستشعر المتلقى أنه مغمور بوسيط ميتافيزيقى حكائى أكثر منه وصفي، كإبداعات الحكائين لكن بالشكل واللون لتتداخل معاً حكايات كائناتها المتوهجة،ويمتزج لديها فن السحر والطلسم البصرى،كأن الفنانة تريد جمع الكون كله فى تمازج وتداخل ككلمة واحدة لمخلوقات متعددة الأشكال والمعانى إثراءً للخيال ولفن الإبداع،وليبدو لنا وكأن غطاء اللوحة رُفع فجأة ليكشف من خلال العين عن عالم يسيطر عليه الوعى واللاوعى معا، وكأن التلقى يحلم كالفنانة بعيون مفتوحة.
- ثم أخذت `إيفلين` تظهر الكلمات داخل لوحاتها منذ2015، لتجمع بذلك بين فن سحر الصورة المرسومة ومعانى الكلمات،قبل أن تختتم الفنانةعام 2020 بلوحة تظهر انتظار جنينين للخروج إلى الحياة من بطن أمهما وأرفقت باللوحة كلمات الجنينين، يقول أحدهما:`ستلدنا أمنا قريباً وسنكبر معاً`، ويرد الآخر: `سنأكل بلحاً طازجاً مسكراً وسنستظل بفىء تلك الشجرة،` وهى الشجرة الحية التى نبتت فوق رأس الأم كالجنينين النابتين بالحياة فى جوفها..
بقلم: فاطمة على
مجلة: آخرساعة ( 20- 1- 2021)
الفنانة إيفلين عشم الله ( 1948) وعالم الجن الطيبين
- تمثل المؤثرات الشعبية والبدائية رافداً متدفقاً ومتجدداً فى الحركة الفنية فى مصر منذ نشأتها فى بدايات القرن الماضى حتى الآن تراوح تأثيرها بين استلهام الفنانين لأشكال ومظاهر الحياة الشعبية والتراث الفنى القديم دون جوهره ، وبين استلهام الروح الفطرية الساذجة أو الطابع الطقسى والبدائى، بغير تعمد لمحاكاة هذه المنابع . وقد بلغ هذا التيار ذروته فى الجيل الأوسط من الحركة الفنية منذ أواخر الأربعينيات، وتركز فى استلهام الروح الشعبية بموروثها الميثولوجى خاصة على أيدى جماعة (الفن المعاصر) وعلى رأسها الفنانان عبد الهادى الجزار وحامد ندا . كما بلغ هذا التيار ذروته فى الجيلين الثالث والرابع منذ الستينيات حتى الثمانينيات ، وتركز الاهتمام به فى استلهام الفنانين للأشكال والعناصر الخارجية للموروث الشعبى ، دون الأهتمام بالدلالات الرمزية أو الأجتماعية أو الأسطورية ، مما أدى إلى تحول نسبة كبيرة من هذا الإنتاج إلى أن تنقطع الصلة الحقيقية بينه وبين المنابع الشعبية الأصيلة ليصبح مجرد عنصر غرائبى .
- وهنا أقدم نموذجا لفنانة لمعت فى الثمانينيات، تمثل نمطا مختلفا فى استلهام التراث الشعبى .. ورؤية فكرية متميزة لمحاولة المزج بين التراث الشعبى والحياة المعاصرة .
- الفنانة إيفلين عشم الله ( مواليد 1952) تخرجت فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ولها حضورها اللافت فى الحركة الفنية بمعارضها المستمرة منذ الثمانينيات بشخصيتها الفنية المميزة بأسلوب خاص فى الإطار السريالى القائم على عالم خرافى تنبع جذوره من موروثات الأسطورة والخرافة الشعبية فى مصر والعالم ، مؤكدة من خلال استمرارية عطائها فى نفس الاتجاه أصالتها النابعة من قناعة ثابتة لديها وليس نزوة عابرة تبحث عن الإثارة ... فى لوحات ` إيفلين` الزيتية والمائية نجد تأثرا واضحاً بكل من الحكايات والأساطير الشعبية ومنظورها إلى هذا العالم ليس من خلال العناصر الظاهرية بل من خلال الرؤية الخرافية والرمزية، مما يجعله أقرب إلى العالم السحرى والخيالى لكائنات ألف ليلة وليلة المثيرة للدهشة، وفى تحريكها لمشخصاتها الغريبة نجد ميلاً إلى ` الفرجة الشعبية ` أو عالم السيرك والمهرجين الجوالين فى الأسواق ... عالم ملىء باللهو والتهكم والمبالغات الساذجة والتعايش بين الإنسان والحيوان ، بل والإندماج العضوى بينهما .. ونجد هذا الكائن المهجن يتحلى بالثعابين والحشرات، وكثيرا ماتتداخل ملامح الطيور والنباتات والانسان والحيوان فى وحدة عضوية ، مستخدمة أسلوب رسوم الكرتون التى تحكى حكايات الشعوب البدائية والكل فى حركة دائمة .. حركة لاتخضع للعقل أو المنطق.
- وسرعان ما تقفز إلى أذهاننا - ونحن نشاهد هذه اللوحات - حكايات جداتنا عن العفاريت والجن، لكنهم من نوع الجن الطيبين وليسوا من الأشرار، ومن ثم لانشعر بانزعاج وفزع ونحن نرى هذه الكائنات الغريبة، لأنها لا تتصارع لكنها ` تتشاقى` وتلعب فى مرح وخفة ظل .
- تقول الفنانة فى مقدمة دليل أحد معارضها :` إن جنتها الطيبة بها مسحة من الشر !` .. وهو تشبيه يعبر بذكاء عما فى أعمالها من جمع بين التناقضات ، فيمكننا أن نسمى عالمها ` الجنة الشريرة ` أو ` الشر الطيب` لأن مخلوقاتها الغريبة تبدو ظاهريا كائنات دميمة ليست من عالمنا، وتثير بعض الخوف فى نفوسنا، لكننا بعد قليل من التعايش معها نشعر بأن الجهامة تتبدد من هذه المخلوقات كما يتبدد الخوف من نفوسنا ونبدأ فى ` اللعب ` معها مثلما يلهو الأطفال بلعب مطاطية على شكل حبوانات أسطورية مفترسة ، دون أن يصابوا بأدنى خوف ، بل يشعرون بصداقتها لهم !.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث