`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد إسماعيل على
عودة الفنان الجوال
عودة الفنان الجوال
- إذا كنت رساماً ملوناً دارساً ، موهوباً ومثقفاً فى الوقت نفسه. ورحلت إلى عدة دول وتعرفت على فنون شعبها وتراثها وتقاليدها وزرت متاحفها وآثارها. وعايشت رساميها ومثاليها ولم تكن الفلوس هدفك الأول والأخير لاكتشفت فى نهاية المطاف إرتقاء إبداعك إلى المستوى العالمى . فريدا فى بابه لايشبه أعمال أحد من الفنانين الذين عاينتهم ، بالرغم من أن انتاجك يضم شيئا من كل شيء، إلا أن هذا الـ` الكل شيء `، لا ينفى الهوية المحلية وتراث التربة التي ترعرعت فيها .. فلا وجود لفن من فراغ إلا إذا كان هو نفسه فارغاً من الشكل الاستطيقى والمضمون الإنسانى .
- تلك هى حال رسامنا الملون : محمد إسماعيل (...)، الذى غاب عنا 18 عاما ضاربا فى بلاد الله الواسعة : ما آب من سفر إلا إلى سفر، موكل بفضاء الأرض يذرعه . على رأى الشاعر العربى ` إبن ذريق `. مرتحلا من أوربا إلى شمال أفريقيا إلى بلدان الخليج وإيران، إلى الشرق الأقصى فى الهند واليابان . بدأ رحلته إلى فينيسيا إيطاليا سنة 1969 ليعود إلى حضن مصر الدافىء سنة 1987، ليفاجىء حركتنا الثقافية بلوحات ملونة وبالأبيض والأسود، ترقى إلى مستويات استطيقية رفيعة ومضامين إنسانية، تنطوى على قدر عال من المهارة وبراعة الأداء، وتنضح بثقافته العريضة، التى استقاها من المراجع ومن دراسته التخصصية فى القاهرة وروما ومن خبراته المتنوعة وتذوقه لفنون الشعوب التى زارها، وما تحفل به متاحفها وآثارها من روائع. ولنبدأ القصة من أولها :
- .. ولد محمد إسماعيل فى مدينة الزقازيق شرقية فى أواخر شهر نوفمبر سنة 1936، وكأنما كتب عليه القدر أن يصبح رساما ! كل ماصادفه فى حياته من أحداث، كان يدفعه دفعا إلى طريق الفن الجميل . وكان إذا ما تخلت عنه المصادفة، اتخذ المبادرة وألقى بنفسه إلى المغامرات، لتمضى به إلى الطريق المرسوم . كان والده يهوى طيور الزينة والحيوانات، ويضمر لولده إسماعيل ـ أحد الأبناء التسعة ـ أن يتخرج طبيبا بيطريا وبالرغم من أنه نجح فى تحقيق هدفه، إلا أنه لم يستطع أن يلوى ذراع القدر. وكسبت حركتنا الثقافية فنانا جادا مثقفا، بعد غيبة امتدت إلى ثمانية عشر عاما كما أسلفنا القول . إلا أنه مازال ينتحى عنا ركناً منعزلا .. لأنه ليس أستاذاً فى كلية فنية، أو موظفا مرموقا تفتح له أجهزة الإعلام أبوابها وتسلط عليه الأضواء .. وقبل أن نسترسل فى الحديث عن الطريق الصعب الذى اجتازه فناننا، دعنا نتأمل معا بعض لوحاته التى لفت بها الأنظار بالرغم من أن معظمها بألوان الزيت البيضاء والسوداء .
- يعرض محمد إسماعيل أعماله بعد أن يمنحها أسماء . هدى للمثقفين . تأخذ بأيديهم إلى أعماق التكوين وتطوف بعيونهم بين عناصرها ورموزها ومساحات الداكن والناصع، عارفا أن اللوحة بلا عنوان كالطفل الضائع بلا هوية، فالاسم يوحى بالمضمون الذى يبنيه الرسام فى ثناياها . وتشع به خطوطها وألوانها، وإذا كان الشكل حصيلة الموهبة والصنعة، فالمضمون عطاء ثقافى لا يقدر عليه إلا كبار الفنانين، ولا يعفى الرسام لوحته من المعنى إلا إذا نضبت قريحته واقفر خياله . وانخرط فى عبث الخطوط والألوان والملامس والمستغرب من الخامات وحيل الصنعة .
- نلتقى بين لوحات محمد إسماعيل بعناوين مثل: ` من وحى أفريقيا` .` من وحى الفن الإسلامى`.. ` تكنولوجيا ` .. `إيزيس وأوزوريس ` .. ` ابن الحتة ` ..` لقاء الثقافات `. قد يخطر على البال باستقراء هذه الأسماء أن رسامنا تجريدى النزعة غير تشخيصى. إلا أنه لا يعنى بأن يكون إلا نفسه. يجسد خياله ويقول كلمته أما الصياغة الاستطيقية والجمالية، فهى إفراز طبيعى لايشغل بال الفنان المبدع المطبوع . فقد أنهى دراسته الأكاديمية فى معهد ليوناردو دافنشى` بالقاهرة سنة 1962، ثم استكملها وزادها فى فلورنسا بعد سبع سنوات، حيث نال درجة الأستاذية فى فن الرسم والتلوين. هناك درس تاريخ الفن، ونقل إحدى روائع الرسام الفرنسى: بول سيزان (1839 - 1906) الملقب بأبى الفن الحديث، ووضع بحثا فى فلسفته ونظرته الفنية. ` لقاء الثقافات ` لوحة زيتية ملونة، تتسع إلى 150 × 200 سنتيمتر صورها سنة 1990 . تتسم بالتسطيح وليس التحجيم والتظليل . كمعظم إبداعه بعد غيبته الطويلة، تبدو كأنها مرسومة على جدار، تحفل بزحام من عناصر تتراوح بين الصغيرة والكبيرة فى نسب متوافقة وعلاقات مسرحية .. توحى بالحركة والحياة .. بالإضافة إلى أشياء ورموز وإشارات، وتحريف واختصار يدخل فى باب البلاغة .. أما التكوين فيختلط فيه الوعى بالإسقاط. والمنظومات اللونية المعبرة بلا إبهار أو تغليب المظهر على الجوهر . وأما غرابة الكائنات المرسومة وما يعتريها من تحويرات، فنحس نحوها بالألفة بالرغم من الغموض الذى يحوطها، كائنات شائهة لكنها تشيع المرح وهى تطير فى أنحاء اللوحة كالبهلوانات، إلا أنها جادة فى الوقت نفسه، وهى تسبح فى الجو الدرامى الذى يسود العمل. تحدثنا بما لايقال بالكلمات أو الأنغام . فهى توازى قصيدة الشعر أو المعزوفة الموسيقية، تكوين تجريدى وتشخيصى معا . تتوزعه عناصر يقوم كل منها بدور متكامل مع أدوار بقية العناصر . لتسفر فى النهاية عن الهدف والمضمون الذى يودعه الرسام لوحته، ليعلق بذاكرة المتلقى ككل الأعمال الفنية ذات القيمة .
- ولد فناننا بالزقازيق لكنه شب وترعرع فى القاهرة بعد عامه الثانى. ومنذ التحاقه بالمدرسة الإبتدائية، لم يشغل فكره سوى الرسم والتلوين. أمضى سنواتها الأربع مع الرسم بالقلم الرصاص وألوان الماء والطباشير الزيتى .. وحفاوة المدرسين وعنايتهم به وبرسومه، التى زينوا بها جدران المبنى . ثم انتظم فى المرحلة الثانوية سنة 1952 مع قيام الثورة، بدأها برسم القادة الأثنى عشر بالأبيض والأسود . قضى خمس سنوات حصل بعدها على الشهادة التوجيهية قسم علمى، وكانت فترة شديدة الثراء فى حياته كان فى السادسة عشرة من عمره، لا يعرف كيف يشبع نهمه للرسم والتلوين .
- ... يقول المتصوفة :` علامة الأذن التيسير `. أى أن الله إذا كتب التوفيق يسر له السبيل . وقد صادف محمد إسماعيل فى تلك المرحلة إثنين من المدرسين، أحدهما متخصص فى الرسم والتلوين، والثانى فى الزخرفة، كلاهما متخرج فى كلية الفنون الجميلة، أيام أن كانت تقتفى خطى` البوزار` فى باريس . قاما على رعايته كما يرعى البستانى أندر أزهاره، تعهده بالتوجيه والتدريب على مهارات الممارسة الفنية - هو وزملاؤه فى جماعة الرسم ـ وكأنه طالب فى الفنون الجميلة، تعرف على جميع خامات التلوين والرسم بالأبيض والأسود ـ كما ظفرت حصص الرسم بعناية خاصة من المدرسين .
- كانت الدروس تتنوع بين المناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة ـ وهى تكوينات منظورة من الفاكهة والخضراوات والأوانى على خلفية من القماش والنماذج الحية ـ أى وجوه الموديلات . كان العبء الأكبر يقع على عاتق الطالب محمد إسماعيل، فى تنفيذ اللوحات الجدارية وإحياء أعياد الثورة والمناسبات القومية، بلوحات عملاقة ملونة بالأبيض والأسود بألوان الزيت.
- إننا لانبتعد عن حديث الفن حين نتكلم عن تاريخ الفنان بل نتناول صلب الموضوع . وإلا كانت القواميس ودوائر المعارف لاقيمة لها لأنها تغص بتفاصيل حياة الفنانين، بل وخطاباتهم الشخصية التى كانوا يرسلونها لذويهم مثل رسائل: المثال محمود مختار( 1891 - 1934 ) إلى صديقته الفرنسية . كما شرح سيزان رسالته وأهدافه الفنية فى خطاباته إلى والدته .. وغيرهم . إن التعرف على بيئة الفنان وظروفه والخبرات التى اجتازها والدراسات التى حصلها ـ سواء فى التخصص أو غيره ـ إنما تلقى ضوءاً على إبداعه والمضامين التى يحملها. فالفنان الذى لم يتعلم تقنيات الفنون الجميلة . كخريجى كليتى التربية الفنية والفنون التطبيقية، لايدهشنا حين يرسم بالقلم آنية أو تمثالا ويكلف عاملا صناعيا بتنفيذه، كما نعتبر من لم يدرس شيئا له علاقة بالفنون الجميلة . فنانا فطريا، وهو غالبا ما ينتج لوحات تشبه رسوم الأطفال. لكن الأمر يختلف كثيرا حين تصدر هذه الأعمال عن فنان كبير وعالم مثل الفرنسى جان دى بوفيه (1901 -1985 ). من هذا المنطلق نتناول التفاصيل ذات الدلالة فى تفسير أعمال الفنانين الذين نتابع مسيرتهم الإبداعية، خاصة إذا كانوا بعيدين عن الأضواء وحتى نؤرخ لحياتهم التى لم تتسع لها السجلات الرسمية . وقديما قالوا : هل أنت ناقد ؟ إذا فأنت مؤرخ .
- لو أننا لاحظنا على سبيل المثال، أن لوحات محمد اسماعيل مرسومة بدقة وملونة بالأبيض والأسود، على غير المألوف بالنسبة للصور الزيتية . وأنها على خشب أو قماش يمتد عرضا إلى أكثر من مترين، لوجدنا تفسيرا شاقيا فى المسيرة التعليمية للفنان . فقد قضى السنوات الأولى فى معهد ليوناردو دافنشى لايؤدى تدريباته إلا بالقلم الرصاص وأصابع الفحم ولايرسم الموضوعات إلا باللونين الأبيض والأسود، غير مسموح له باستخدام الألوان الزيتية. كذلك طوال سنوات التعليم الثانوى، كان أساتذته يحفزونه مع زملائه أعضاء جمعية الرسم، على استخدام الأبيض والأسود سواء كان الموضوع تمثالًا أو منظراً طبيعيا من الذاكرة، أو طبيعة صامتة من الزهور والخضراوات، ليس رفضا للألوان ومنظوماتها والتعرف على لغتها، وإنما استهداف لاتقان الرسم وإحكام التصميم وإتزان التكوين وإتخاذ درجات الأبيض والأسود مدخلا شرعيا وضروريا لإدراك لغة الألوان ومنظوماتها .
- إذا لاحظنا وشائج حميمة بين لوحات محمد إسماعيل، والصور التى رسمها إنسان ما قبل التاريخ على جدران كهوف ` لاسكو` فى جنوب فرنسا، و` كتاكومب ` فى شمال غرب أسبانيا، فقد قام ببحوث ودراسات فى هذا المجال إبان إقامته فى الخارج . وإذا بدا لنا وكأنه استلهم عناصر وأسلوب رسامنا الملون الراحل : حامد ندا
( 1925 - 1990 )، فمرجع هذا التقارب إلى أنهما نهلا من نبع واحد، وضع معاييره الإنسان الصياد منذ أربعين ألف سنة، وهو مصدر حلال لكل من استلهم التراث الإنسانى . نلاحظ تأثيراته فى كثير من الأعمال الفنية العالمية المعاصرة خاصة فكرة التسطيح ـ أي إلغاء البعد الثالث الذى ابتكره العبقرى الإيطالى : ليوناردو دافنشى ( 1452 - 1519) وهو التظليل أو الرسم بالدخان ( سفوماتو) كما كان يسميه، وفكرة البلاغة الشكلية التى تعتمد على الاختصار الشديد، الذى يصل إلى حد الرمز. المجرد أو الإشارة وهو ضرب من التحريف يطلق عليه المعاصرون ` دستورشن ` بمعنى ` تشويه ` نراه فى لوحات محمد إسماعيل فى العناصر الإنسانية وقد أغفل رسم بعض أطرافها وربما الرءوس أيضا. كما نشاهدها طائرة أحيانا فى أوضاع غير منطقية.
- وهو أسلوب يمد جذوره إلى المذهب ` السيريالى ـ أو الميتافيزيقى ` الذى يمكننا أن نقتفى آثاره كذلك حتى نصل إلى جداريات الكهوف التى أشرنا إليها . بل نلتقى بمثل تلك العناصر فى رسوم المقابر والمعابد المصرية القديمة، ذات الطابع السيريالى والتكوينات اللا منطقية، فلوحات محمد اسماعيل ليست تقليدا لأعمال أخرى، ولكنها ` تعبيرات استطيقية جمالية ذات مضامين إنسانية، ترتدى ثوبا محليا، لكنها تخاطب العلم بلغة الفن الجميل، وتلبى احتياجاته الثقافية المعاصرة، وتحمل فى ثناياها عوامل البقاء والصمود للزمن`.
- .. إن حياة شاب مثقف موهوب يتقن أكثر من لغة، طوال 18 عاماً متصلة، بين عدة شعوب بعضها وصل إلى درجات عالية من الثقافة، كاليابان التى أقام بعاصمتها خمس سنوات فى نهاية المطاف، حرى به أن يدرك مفهوم ` العالمية ` وأن يصبح إبداعه الفنى وكأنه ` سبرانتو ` الفنون الجميلة .
- لم يلتزم فناننا بمذهب فنى أو صياغة جامدة يلتصق بها حتى تصبح علامة عليه، فهو يعرف أن الشكل ليس مقدسا، وأنه وعاء التعبير عن المضمون، كما أن درجة الدكتوراه التى أنهى بها دراسته لتاريخ الفن فى فلورنسا بإيطاليا، علمته أن الفنانين الكبار مثل : الأسبانى بابلوبيكاسو (1888 ـ 1973) أحرار الفكر والأسلوب. ساعده على هذا التنوع أنه لم يركن إلى بلد واحد خلال فترة اغترابه، حتى أطلقوا عليه لقب` الفنان المصرى المتجول `. وبالرغم من أنه كان يعيش من تسويق لوحاته، لم يمكث بين شعب واحد سوى بضعة أشهر، قد تطول إلى سنوات قليلة، لم تكن هناك فرصة لكى يتأثر إبداعه بإقبال المقتنين على أسلوب بعينه فللشعوب كما ندرى، أمزجة كما للأفراد تماما تختلف باختلاف البيئة والتراث والمناخ، لكنها جميعا ليست سوى فصائل من الجنس البشرى، تتفق فى مفهوم للتذوق العام يتصف بالثبات. له معايير نعرفها باسم القيم الاستطيقية، هى التى تضفى الحيوية والجاذبية على صورة الثور الجريح المحتضر، الذى رسمه ` الشامان ` على كهف الإنسان الصياد منذ عشرات الألوف من السنين، كما أنها تنفخ الروح فى لوحة ` الخلق ` فى سقف كنيسة سستين بروما ـ تلك التحفة التى رسمها ولونها عبقرى عصر النهضة : الإيطالى ميكل انجلو بوناروتى ( 1475 ـ 1564) .
- ... من هذا المنطلق الثقافى الواعى . أبدع محمد اسماعيل لوحاته المثيرة المشحونة بالطاقة والجاذبية، تارة يلونها بالأبيض والأسود، كما أسلفنا الإشارة وتارة بالألوان ومنظوماتها المعبرة المتوافقة، يستلهمها أحيانا من جداريات كهوف ما قبل التاريخ، ويستوحيها أحيانا أخرى من التراث الإنسانى قديما وحديثا . إلى جانب إبتكاراته الشخصية وإضافاته الإبداعية، هكذا رسم لوحة ` إبن الحتة` ولونها سنة 1991 أثناء مسلسل رسومه الصرحية بالأبيض والأسود .. استطاع فيها أن يعبر بالخط والمنظومات اللونية والوحدات الزخرفية الإسلامية التى تذكرنا بقوة بالخيام التقليدية والسرادقات، عن الجو الشعبى المصرى العريق، الذى يشيع فى حى الأزهر والحسين والموسكى والغورية يؤكد هذا المناخ المحلى، الشكل الإنسانى المتمثل فى هذا الفتى ذى الطاقية والجلباب، يقف شامخا فى اعتزاز بين البيوت التى يناهزها طولا، والتى تعيد إلى خيالنا صور العمارة الإسلامية، كما تذكرنا هيئة الفتى الشعبى الشهم بالتمثال الرائع، الذى أبدعه مثالنا الفلتة ` محمود مختار ` سنة 1911 لخادمه الصغير وسماه ` إبن البلد `. عبر به عن الروح الشعبية المصرية وماتتسم به من مرح وفكاهة واستهانة بالعقبات .
- .. فى لوحة ` طائر الخليج ` وهى مربعة المساحة لاتتسع إلى أكثر من ستين سنتيمترا، كاد يصل فى صياغتها إلى أسلوب تقريري، يصور ماحدث لهذا الطائر المسكين الذى شاهده العالم على شاشات التليفزيون، وصمة عار فى جبين ديكتاتور العراق، رسم محمد إسماعيل الطائر المجلل بسواد البترول الخام الذى يغطى صفحة الماء، وهو يقف فى وسط اللوحة يقطر بترولا، تحوطه تشكيلات كأنها الأبراج، تتوزع جوانب التكوين الأربعة، لتشكل مايشبه القفص الحديدى الذى لايترك ثمة فرصة للطائر كى يفلت من المصير المحتوم. بالرغم من بساطة التكوين ووضوح الرؤية والمضمون، تدخل هذه اللوحة فى باب السهل الممتنع نظرا لقوة التعبير وبساطة التكوين واقتصار الألوان على الأسود والأصفر ولمسات من الأخضر والأزرق، كما تقيم هذه اللوحة التى صورها أثناء حرب الخليج دليلا جديدا على أن المضمون الإنسانى هو العطاء الأول للفنان الكبير وأن أسلوب الصياغة يتغير بتغير الموضوع والتعبير، مع الاحتفاظ بالمعايير الاستطيقية والجمالية فى جميع الأحوال. تخرج محمد إسماعيل فى معهد دافنشى بالقاهرة سنة 1962، وفى كلية الطب البيطري سنة1965، وكان يحتسب بين الفنانين طبيبا وبين الأطباء فنانا، فرفض العمل بغير الرسم والتلوين طوال أربع سنوات. ثم ألقى بحياته كلها فى مهب الريح، حين أبحر على ظهر أول باخرة إلى إيطاليا، وليس فى جيبه سوى 11دولارا مقابل الجنيهات الخمسة التى كان مسموحا بها آنذاك لكل من يغادر البلاد. إلا أن الدولارات الأحد عشر تحولت إلى أربعين على سطح السفينة، حين تكاثر من حولة المسافرون ليرسم وجوههم بأقلام الفحم مقابل دولارين،. وبعد أن وصل إلى ميناء ` بيريه` اليونانية وغادر ` أثينا ` إلى
` فينيسيا ` بإيطاليا كان فى حوزته مائة وخمسون دولارا .. وفى ` فينيسيا ` وجد رسامين وملونين من أنحاء العالم . يفترشون الأرصفة فى ميدان سان ماركو . يرسمون المبانى والكنائس والرائح والغادى . شاركهم جلستهم وحياتهم وأوى إلى بيوت الشباب مقابل دولار واحد فى اليوم .
- كم صدق الحكيم العربى الذى قال: ` وفاز باللذة الجسور` . لقد مضى فناننا غير هياب ولا وجل فى حياته الجديدة، لا يغريه الاطمئنان بالاستقرار، ولا كثرة المال والإقبال، استهدف الإبداع الفنى منذ البداية ومشاهدة فنون الشعوب ومتاحفها وآثارها، تمركز فى مدينة روما ينطلق منها إلى بقية مدن إيطاليا، وإلى يوغسلافيا وتركيا وفرنسا وأسبانيا، ثم يعود ليستكمل دراساته وبحوثه، فالبرامج تبدأ كل ثلاثة أشهر من جديد . كان قد عقد العزم على التعرف عن قرب على حضارة حوض البحر المتوسط : أم الحضارات . وبدأ المشوار .. درس فى فلورنسا موضوعات فنية مختلفة، تضمنت بحثا عن الرسام الملون الفرنسى : هنرى ماتيس ( 1869 ـ 1954 ) وتأثره بالشرق والفن الإسلامى . فشد الرحال بسيارته إلى شمال أفريقيا عبر بلدان أوربا ومضيق جبل طارق، لم يترك متحفا فى الطريق إلا وتفقد مقتنياته ولوحات ماتيس بنوع خاص. والتقط مئات الصور الفوتوغرافية فى المغرب وشمال أفريقيا، للآثار المعمارية ذات الكسورات الخزفية وما ينتظمها من تصميمات إسلامية . هناك .. باع سيارته وطار إلى أزمير فى تركيا ومنها إلى فلورنسا بعد أشهر ثلاثة.
- إن حياة الرسام الملون محمد إسماعيل ملحمة مصرية نادرة لا تكفيها عجالة كهذه . لكن ربما نكون قد نجحنا فى إلقاء بعض الضوء ـ وليس كل الضوء- على إبداع رسامنا الذى أصبح ركنا صلبا فى حركتنا الفنية الركيكة المتداعية .
بقلم : د./مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى)
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث