إعادة اكتشاف الفنان حسين محمد يوسف
- وحة جذبت انتباهى أثناء بحثى في رسالة الدكتوراه في منتصف التسعينيات من القرن الماضى، وأنا أقوم بتصوير الأعمال التي سأتناولها في الرسالة والتى تحمل عنوان: `الصورة الشخصية وأبعادها الاجتماعية والنفسية في التصوير المصرى القديم والحديث` كنت أصور في متحف الفن الحديث بأرض الأوبرا واستطعت أن أصل إلى قلب كنوز المتحف اللامرئية غير المعروضة بالقاعات والتي تكتظ بها مخازنه البعيدة عن أعين الزوار، والتى لم `تتسرب` خارج المتحف.. من تلك اللوحات كانت هذه اللوحة التى تنم عن أستاذية ريشة تضرب بقوة وتعرف طريقها ومكان كل لمسة على سطح اللوحة وحرفية معلم ووعى وثقافة فنان أبدعها ، تحمل اسم `بائع الزهور`..
توقفت أمامها طويلا ، وساعتها أحسست أننى اكتشفت الجديد لأضيفه ضمن ما اكتشفت بما يثرى البحث، كما انتابنى شعور بأننى سأعيد بعث فنان أهملته الأجيال التي علمها بتدريسه أو من خلال أعماله الخالدة، وأزيح التراب عن نجم توارى اسمه في ظلمات التاريخ.. اللوحة للفنان حسين محمد يوسف، وقد كانت الخيط الذي قادنى للبحث عنه.. لألتقى فى ذلك الوقت بنجليه المهندس حسن صبرى والمهندس المعمارى على،وفتحا لى أبواب الكنز الذي استطاعا أن يحتفظا بمفاتيحه قرابة الستين عاما منذ اعتزال والدهما الفن،لألتقى وجها لوجه بأعمال حسين محمد يوسف على جدران منزليهما المتقاربين بضاحية مصر الجديدة.. ثم تتفرق بنا السبل لنلتقى مرة أخرى بعد حوالى 20 عاما لنوثق سيرته الفنية في مرجع مهم بعنوان `عصر من الفن.. حسين محمد يوسف` الكتاب بالقطع الكبير(23.5×33 سم) ويقع في 264 صفحة طباعة فاخرة بالألوان ويشمل 96 عملا فنيا موثقا من إبداع الفنان و32 صورة فوتوغرافية. الناشر : الدار المصرية اللبنانية.
وفى أمسية ثقافية فنية أقيمت مساء السبت الماضى بقاعة `ضى` بالمهندسين احتفل الفنانون والمثقفون والإعلاميون مع هشام قنديل رئيس مجلس إدارة أتيليه العرب للفنون والثقافة بتدشين الكتاب وتضمنت الأمسية معرضا لأعمال الفنان حسين يوسف التى ضمها الكتاب ويستمر حتى 21 أكتوبر المقبل وكذلك حفل وندوة توقيع الكتاب.
ولد حسين محمد يوسف عام 1910 ونشأ فى مناخ دينى فى بيت يجتمع فيه رجال الدين والعلماء يناقشون القضايا وعلوم الإسلام،ويحتوى على مكتبة زاخرة بكتب التفسير وعلوم الدين ، وكان أبوه يعمل مدرسا للقضاء الشرعى وقد أثر هذا المناخ فى تكوين الفنان الذي لفت الأنظار لموهبته ونبوغه وتفوقه فى أوروبا خلال بعثتيه المتعاقبتين بعد تخرجه.
تسع سنوات هى عمره الفنى أبدع خلالها أعمالا تؤكد ريادته وعبقريته ونبوغه ، كما أنها أثرت الحياة الثقافية والفنية لكونها بصمات نادرة رغم قلتها بين أعمال الجيل الثانى واحتجابها فترة من الزمن، وقد توارى اسم حسين محمد يوسف فى الحركة التشكيلية المصرية بين أبناء جيله فى كل ما كتب في تاريخ الفن المصرى ولعل هذا الكتاب يعيد هذا الفنان إلى مكانه ومكانته.
افتتح الفاعلية الكاتب الكبير محمد سلماوى وأشاد بتميزها وتفردها وقال فى كلمته إنه تعرف على هذا الفنان لأول مرة من الكتابات النقدية التى كتبتها حينما أعدت اكتشافه على صفحات الأهرام ونصف الدنيا عام 2001 ، وزادت معرفته من خلال هذا الكتاب القيم الذى وثق لعصر من الفن من خلال حسين محمد يوسف كأحد رواده وأتاح الفرصة للتعريف به للفنانين والمثقفين والنقاد وكذلك الجمهور الذى يحتاج وبشدة للتعريف بالفن التشكيلى وفهمه وتذوقه ، كما أكد على أن الفنان محمد الناصر كرس جزءا كبيرا فى مهامه الإبداعية لخدمة الفن التشكيلى بالإضافة إلى أهمية المعرض المصاحب للأعمال المنشورة بالكتاب. وتحدثت عن هذه التجربة التى استغرقت ما يزيد على العامين فى البحث والتدقيق والتوثيق من خلال أرشيفى الخاص وأسرة الفنان الراحل.
جدير بالذكر أن الفنان المصرى حسين محمد يوسف ستعرض إحدى لوحاته «الحصاد ودراسة القمح فى مصر» فى معرض ومزاد «سوثبى» بدبى فى 16 أكتوبر الجارى مشيرا إلى الكتاب فى مرجعية اللوحة.
التحق بمدرسة الفنون والزخارف عام 1932 بعد أن أنهى الدراسة الأولية ليتخرج عام 1927 ويعين مدرسا للفنون بالمدرسة القربية بعابدين عام 1928، ويبتعث إلى إيطاليا فى نفس العام لإتمام دراسة التصوير ويحصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بروما 1932 أعقبها سفره فى بعثه أخرى إلى لندن لمدة ثلاث سنوات لدراسة فن الزخرفة ، وهذا هو سر تنوع أعماله بين التصوير والزخرفة .
لقد تعدت أعمال الفنان حسين محمد يوسف الأربعين عملا بين التصوير الزيتى والألوان المائية ولوحات مرسومة على الجص وأعمال زخرفية وأخرى منفذة بطريقة الحفر على المعادن ، بالإضافة إلى أكثر من 40 عملا من الرسوم التحضيرية (الاسكتش) باستخدام الفحم وأقلام الرصاص والأقلام الملونة،ومعظم هذه الأعمال أبدعها حسين محمد يوسف أثناء بعثته فى إيطاليا وبعضها أثناء بعثته فى لندن ، وقليل منها فى القاهرة بعد عودته بين عامى 35 –1937 حيث أبدع العملين الزخرفيين عن الحصاد وقاع البحر قبل أن يهجر الرسم والتصوير نهائيا.
بعد اعتزاله استخدم الفنان مجموعة من أعماله فى تزيين جدران منزله واحتفظ ببقية الأعمال فى «صندرة» المنزل الكائن بشارع سعد زغلول بحى المنيرة،لتظل فى حوزة أبنائه الذين استطاعوا أن يعيدوا إلى والدهم مكانته من خلال المعارض التى أقاموها لأعماله المتبقية بحوزتهم منذ التسعينيات من القرن الماضى ، والبحث الدؤوب فى حصرها وتوثيقها تخليدا لاسمه ، بالإضافة إلى ما تم حصره من مقتنيات وما عثر عليه من صور لبعضها لم يعرف أين تسكن أصولها حيث يعتقد أنه تم اقتناء العديد منها لدى مؤسسات ومتاحف الدول التى ابتعث فيها.
د. محمد الناصر
نصف الدنيا : 21-10-2016