`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
صلاح محمد عنانى

- وجد فى سينمائياته وصلاً جديداً بعالمه، حيث الصورة البصرية المشهدية فى السينما خلطاً ومزجاً بين الجد والهزل، الصرامة والكريكاترية، ولعل فى الطبقات السرية لاعماله تكمن بعض الشخصيات التى تلاعبت بألبابنا ومشاعرنا وسكنت مخيلتنا الجماعية كأسماعيل ياسين وزينات صدقى حيث العفوية والسخرية فى الابداع، واللؤم والسذاجة والطيبة والشقاوة كعلامة مؤثرة فى أبداعهما التمثيلى
- واذا كانت السينما فى بداياتها قد تأثرت بالفن التشكيلى حتى ابدعت مساراتها الابداعية البصرية الخاصة، ولغتها المتفردة الا ان العودة الى استدعاء السينما كموضوع للفن التشكيلى هو استدعاء خاص لدى صلاح عنانى كى ينهل من المشترك المعنوى بينه وبين الناس بين العادى واللاعادى بين الظاهر والباطن الجسدى واللاجسدى الحسى والشبقى .
- مجموعة اللوحات التى شكلت هذا المعرض هى وثيقة نفسية لحياة حافلة ليوميات اجيال من المصريين وكشف للجولوجيا النفسية اذا جاز التعبير ولم لا ؟ فى لوحة متعددة المداخل وربما مشهد مركب ينطوى على مشاهد ومتتاليات فرعية حيث الاحنكاء بالحكى اننا ازاء حكاء يمتع بلا ثرثرة فى شعب لعبته الأثيرة الحكى، ومن هنا يمكننا استخلاص مفهوم التتابع لدى صلاح عنانى من كادر لآخر حيث تكمن الحدوته، وحيث اللقطة مكثفة وموحية لعناصر المشهد وحيث الخط صانع ومنتج حالى بصرية وجدانية وجسدية .
- ومن هنا يشكل هذا المعرض وثيقة نفسية يقدمها عن هذا الفن الجميل وتاريخه وحياة اجيال من المصريين لأجيال جديدة لازالت تتهيأ للتلذذ بعمرها فى القرن القادم وربما نجد فى لوحات هذا المعرض وكما يقول `هيكوفون هوفمانشتال` عن الحداثة انها ( تحليل للأمزجة والاهات والشكوك وكذلك الرضوخ لسلطان الجمال والألوان والبلاغة والمجاز ) وهذه كلها امور حديثة .
- أذن فلتكن اعمال عنانى وسينمائياته هى استعادة لمخيلة جماعية سعت عبر السينما للألوان والبلاغة والمجاز والاهات والانكسارات المجهضة لحداثة مبتسرة
وربما ....وربما .....على وشك الانهزام فى حياتنا ... أو الصحوة ... لم ؟!

جاليرى دروب
ميكنة الجسد البشرى مقابل حيوية ذهنية حادة
فى معرض صلاح عنانى ` عودة الروح ` فى جاليرى المسار
صلاح عنانى فنان كبير يحكمه عقل وثقافة لها خصوصية احترام الإنسان البسيط ورصده لدلالة ممارستة الحياة فى الأحياء الشعبية التى عاش داخلها سنوات طويلة مديرا لقصر ثقافة الغورى ومن عشقه لسكان الأحياء الشعبية ذات التاريخ كمناطق ` الأزهر ` و ` الحسين` و ` الجمالية ` و ` الغورية ` اجتبته طريقتهم التعبيرية فى الحياة عالية الصوت فى أفراحهم وعشقهم وممارسة مباهج الحياة اليومية بكل تفاصيلها التى انعكست فى لوحات عنانى التعبيرية وبلغت حدودا بعيدة أبهرت مشاهدية وجعلت له جمهورا عريضا يعشق طريقته فى التعبير ولسنوات طويلة
وبعد سنوات قليلة من ثورة 2011 كان الفن لصلاح عنانى ملاذا آمنا وبعيدا عن ضغوط ما هو خارج المرسم وهى سنوات كانت امتداد لما قبل الثورة معتكفا يمارس فنه عازفا عن إقامة معارض للوحاته ..ثم ليفاجئنا فى معرضه الحالى بجاليرى ` المسار ` فى الزمالك بعنوان ` عودة الروح ` بلوحات أدهشتنا بنموها العضوى ذاتيا عن لوحاته الشاعرية شديدة التعبيرية قبلا لتبدو فى مظهر متشنج فى تفاصيل عمل الأعضاء من مفاصل الجسد الانسانى شكليا والتى بدت مظاهرها الأولى فى لوحته الوحيدة عن مشهد ` الثورة ` فى ميدان التحرير .. وكأنه استفاق - بعودة روح - بعد سنوات طويلة عن آخر معرض أقامة منذ حوالى خمسة عشر عاما ليجد شخوصه المقربين اليه أبطال لوحاته وشاركهم ممارسة الحياة فى رقة وطراوة الانسان الشعبى داخل الحارة بشاعرية فى نزهاتهم وأفراحهم وحالات الحب ومشاهد المحبين فى الحدائق وفى احتفالات زفاف الحنطور لعرسان الحارة لنراه فى عرضه الجديد وقد تحولت نفس شخوصه من بشر إلى ما يشبه الماكينات البشرية بتفاصيلها الدقيقة بما يشبه صواميل ومسامير ومفاصل الأعضاء المميكنة بملمح خافت لحالات حب قائمة بمشقة مصحوبة بصرير حركة الجسد ومفاصله وأيضا بصرير يسود اللوحة بأكملها وكأنها مجموعة من إرهاصات نفسية خفية أو هى فى مجموعها تنبعت كصرخات رفيعة متناثرة فى أرجاء اللوحة بالكامل فى ضوضاء بصرية ونفسية كأن لوحته مصنع بشرى ملىء ببقايا بشر آليين ولولا اللون الساخن الحيوى لبدت كآلات باردة فاقدة حيويتها ..وعدم فقد حرارتها حول تلك الحرارة إلى اتجاه آخر أقرب للعدوانية الجسدية مع نفسها .. لذلك عنوان المعرض ` عودة الروح ` أراه بعيدا عن دلالة شخوص المعرض وان كانت معبرة عن عودة الفنان بقوة بعرض وجهة نظر قوية لما طرأ على الإنسان المصرى خلال السنوات الأخيرة ..وقد بدت الآلية والعنف الظاهرى الشكلى وليس الموضوعى كأنهما صورة من شتات الروح المصرية إلا من بقايا من أمل ضعيف جعلهم مستمرين فى ممارسة حياتهم داخل رحم الحارة الشعبية التى تبدو كأنها الملاذ الآمن ولو جزئيا ..
فى لوحات الفنان عنانى عادة يهتم بتركيبته تمثيل الموضوع الذى يقدمه كاهتمامه بالمعالجة والشخوص ولكنه الآن يهتم أكثر بمفهوم الحركة الآلية المعقدة المتعثرة التواصل والآخر وبدت لوحاته عسرة الإدراك بصريا بذلك التأكيد من الفنان على ميكنة الإنسان وضمور وتمدد أجزائه وتزويده بما يعرقل تواصله مع الآخر لكنه كراصد للمشهد لم يغفل ان يرى شخوصه من منظور علوى وبزوايا صعبة للغاية لكنها ولدت عملا محكما مبدعا لكنه صعب التواصل البصرى والمشاهد الا من خلال الدخول القصرى إلى داخل العمل ومن عدة زوايا عله يدرك ما يحدث أمامه وقد وضع الفنان مشاهديه داخل جو ومناخ بصرى يحظى باللا مألوف كحقيقة فيها دلالة تتجاوز شخوصه كوسيلة تعبير عن ماهية انسان الحارة المصرية فى ظل أفكار مفاهيمية جديدة لتحولات الإنسان المصرى العنيفة من البشرية إلى الآلية ..
أعتقد أن عنانى جذبه تجريب التشعب المعقد للمشهد داخل كامل مساحة اللوحة لتكون هى اللوحة ذاتها وجعل ما تبقى من فضاء اللوحة ضحلا فيما بين تقاطع وتفاعل صوملة أعضاء الجسد الإنسانى فى نبضات تبدو حادة للغاية ولتصبح ميكنة الجسد والمكان بؤرة العمل التى تستقطب بشدة نظر المشاهد والتى يراها تتكرر بإصرار فى لوحات مرحلته هذه جميعها والتى لا يمكن أن ننكر فرادتها فى رحلة الفنان مجملة وجرأتها والتى اختلفت كثيرا عن منهج رؤيته السابقة للجسد الإنسانى عضويا على حيويته الفائقة ..ربما قلل من سهولة الحركة فى هذه المرحلة مقابل حيوية ذهنية حادة كأن شخوصه مشدودة الوثاق فى قلق إلى اعضائها نكاد نسمع فيها أصوات احتكاكات وصريرا وألقا ذهنيا واضحا..
لوحة المحكمة مفاهيميا وإنسانيا ..رائعة المعرض هذه التجربة جديرة بالاعتبار لفرداتها وخروجها من مرحلة عضوية سابقة فى بلاغة جسدية إلى ميكنة تركيبية كرؤية جديدة فى معالجة الجسد الإنسانى تكشف عن إسقاط غامض لتحولات أصابت إنسان الحارة المصرية فى سنواته الأخيرة ..كما أن اتساع مجالى الحركة رغم الانعدام التقريبى للفضائى مع اختبار الفنان لمنظور جديد يعتمد على أربعة مستويات فى بعض لوحاته بشكل مبهر كما فى لوحته ` المحكمة ` والتى تتوزع فيها مجالات الرؤية للمنظور الذاتى بين : نظرة الحاضرين الأفقية للمتهم .. ونظرة المتهم لأعلى إلى محاميه ..ونظرة المحامى لأعلى إلى القضاة ..ونظرة القضاة لأسفل إلى المحامى ..وكلها أدركها الفنان على خط رأسى ..ربما يستمد الفنان مغزى مهما لعلاقات البشر ودرجاتهم ورؤية بعضهم لبعض والتوقعات .. هذا العمل يدفع لبحث المشاهد عن مغزى دون أن يتعمد فلسفته ..إنه يبحث عنه ببساطة فى علاقة شبه تاريخية بين درجات البشر دون أن يعتمد الفنان اللجوء إلى مغزى لونى عنصرى بل فقط وفى بلاغة خلال منظور رؤية كل منا للآخر .. هذه اللوحة الرائعة ابدع فيها الفنان عنانى بتك الخلفية المبهرة المفاجئة على جو المشهد الداخلى المترقب داخل قاعة المحكمة بإضاءته للخلفية التى ذكرتنى بإضاءات سماوات الفنان ` الجريكو` .
أعتقد أن لوحة ` المحكمة ` ومشهد `مدرس الفصل ` ولوحات ` البلكونة ` والمطرب ` و ` عودة الروح` علامات مهمة لرؤية إنسانية معقدة ..أما لوحة ` الموظف ` فهى لوحة لا مكانية شديدة الوجودية أو شديدة التجريد الانسانى معنويا ولا تناظرها انسانيا لوحة أخرى بين مئات من الوحات التى عالجت البؤس الانسانى ، مقيما فى كل لوحاته جسرا بين التعبيرية الايمائية وروح التكعيبية .
فاطمة على
17-5-2016 القاهرة
!! ` صلاح عنانى بعد صمت طويل : أنا غاوى ` لعب
النحت بعث كيانى من جديد !
بكل تلك الروح وزخاتها الكثيفة رأيت لوحاته فى عودة الروح من جديد فى معرض هو ثورته الشخصية .. رأيت حماسه وإذكاء روح الفتوة فيها بطريقته المتجددة دوما .. ان تلك اللوحات جعلت أحد زملائه يقسم أنه بما رآه فى معرضه ` عودة الروح` يكاد يكون قد أضاف إلى أدوات التعبير الفنية تغييرات مدروسة فى النسب التشريحية .. انظر ..لوحتى عودة الروح والجار!
انظر إلى نسب الجسد المتفوقة الأداء من مفاصل وهيكل عظمى وروحى وكأنه استنطاق أجساد جديدة على الأجساد وكيمياء جديدة فى الروح على الكيمياء المعروفة لنا نحن من نسعى لرؤية الأعمال الفنية بتأملات مختلفة .. واننى اعتراف ان مارأيته فى هذا المعرض شىء لم أراه من قبل وقد شاركنى كثيرون فيما لاحظت !!
صلاح عنانى بجنونه الأقرب للعقل والحكمة يبدو كشاب فى العشرينات بما يمتلكه من جرأة واندفاع شاب يعد نفسه ويحضرها ليخوض معركة الحياة مرة أخرى ..وفى تلك الستين المتفجرة أصبح ` صلاح يؤدى تمريناته للعضلات فى الجيم` منذ عام تقريباً انتبه ما قاله لى ..` روحى عيلة ` فحتى تشريحه الشخصى كإنسان اراه منتبها له بقوة حيث يقول لى ` لو قاعد فى الدنيا شوية كمان لازم اخد بالى من روحى عشان الواحد يقدر يستمتع بحياته` .
تلك النقلة التى اسماها نوعية كان لكل من أجزاء جسده منها حظ .. فهاتان اليدان وهاتان العينان لديها الكثير الذى تفعله فى المستقبل لديها لوحات ستسحرها بالخطوط والألوان وتماثيل تجيد نحتها وتأملها وإبداعها ..
حتى اننى عاينته فى لحظات التجلى العميق يصرخ ليس بغرور ولا عنجهية ييجى منك يا ابو الصلح .. عبارته التى يصرخ فيها بأمل فى المستقبل الذى سيبدع فيه المزيد .. لاحظ اجادة المنحوتات المعتمدة على أنامله وامساكه بأدوات المبرد والأزميل ..ويقول لى ` خبير قديم محترف فى سبك البرنز صارحنى بأن أدواتى قد اكتملت فسعدت بشهادته ايما سعادة لانها شهادة خبير ومتخصص فهل أترك تلك الشهادة تذهب هباء ؟! بالطبع لا .. أمامى تماثيل كثيرة انحتها فى المستقبل يا سيدتى .. أمامى رسم وتلوين وتشكيل كثير` .
ألوانه الصارمة الصريحة سألته عنها فأجابنى مؤكدا ما قلته أيوه طبعا حد يقدر يحط أصفر وليمونى وبمبى حلاوسكا جنب بعض ..
أنه الفنان الذى يجيد كسر كل القواعد الممكنة فى التشريح والألوان بحرفته ويقول لى ` أننى أعبر اثناء عملى عن اللوع المصرى وخفة الدم ` قلت له أنت تجتهد ..فأجابنى :
` أنا مش بحزق فيه`
ما يشغله فعلا هو المزاج حيث يقول ` أنا مسئول عنه وعن التقاط لطائف الوجود من حولى لاعيش ` كواليتى ` أو جودة اللحظة بتحويل مسار العناصر المحيطة بى لتسير فى مسارى واعرف ان بيدى أن أسير الوجود كله فى صالحى وبما يخدمنى ` .
متعته الأولى فى الحياة أن يخرج ما بداخل الناس ويعيد تشكيله ..متعته ان يقوم بدور فى تغيير موقفهم فى الوجود فتأتى لوحاته متاخمة للشعبى اللصيق بالأرض وهائمة الفانتازيا المتجاوزة للمعانى والأفكار ..والخارقة التفاصيل ..ذلك هو انه صلاح عنانى المشتعل بالثورة والأفكار إلى الحد الذى جعلنى اراه الرجل والفنان المختلف دوما .. الرجل المفاجأة بالنسبة لى طوال ما يقرب من 14 عاما بتجدده واستمتاعى بالنقاش معه .. صاحب الفكرة المتقده والواعى بما خلف الأحداث .. والذى يحق له بأستاذيته - حيث يفخر بلقبه كمعلم مدرس بكلية التربية الفنية وله طلابه -يحق له أن يتنبأ بالبعث الجديد لتلك الأمة العظيمة كما يسميها
يحق له أن يتنبأ بـ ` عودة الروح ` بالألوان والخطوط والظلال ورسم النبوءة .
صلاح عنانى .. عبقرى تحويل العادى إلى ما هو غير عادى والدخول فى ` خناقة ` ضد نواميس الكون هو من رأى أن الكون هو المنطقة الأكثر اتساعا والتى تليق به وان الانسان مخلوق للانتصار كما أراد له الله الخالق العظيم ..
صلاح عنانى صديقى الفيلسوف الكبير وليس الفنان الكبير فحسب والذى يرى انه من العار على الإنسان الا يستقبل بـ الديش أو الريسيفر ` الذى صنعه الله داخله كل الانشطارات والاندمجات الكونية بحذق وذكاء ..
لأننا من وجهة نظره عندما نسير حسب النظام الكونى .. ستتحد لأجلنا كل الطاقات لتخدمنا بناء على نسق يسميه ` الموهبة المتجددة ` االتى مؤداها هو ما نسميه الالهام والوحى ..
هو الفنان الموقن بعمق ان اجزاء الوجع متناقضة وناقصة حيث تلك الفجوات والفقاقيع الممتلئة باللاشىء والتى يقول عنها بجلاء ` دى مناطق استقبالك حيث مرحلك ولعبك `.
ولقد سألته منذ زمن وقبل معرضه المقام مؤخرا بقاعة المسار للفن الحديث بالزمالك والذى يقام بعد 16 عاما من الانقطاع عن إقامة معارض .. والذى أعد له غضون فترة زمنية قصيرة نسبياً ..حيث فوجئت به يخبرنى انه سيقدم معرضا بعد شهر ..
سألته عن قيمة الاعجاب به كفنان .. كيف ينظر لها ؟!
فأجابنى بصراحة قلما وجدتها عند أحد : ` افترضى أن الشعب كله صفق لك نص ساعة بحالها وسكتوا .. مبرر وجودى ايه بعد كدة !؟
ان امتع ما عند صلاح عنانى هو اللعب ..نعم اللعب باجتهاد مع ديناميكية الحياة .
ونظرته لنفسه وللوجود .. حتى تقييمات الاخرين له يعبر عنها قائلا ` تلك التقييمات يا عزيزتى مصوغات تعيين لايه بالضبط ؟! الحقيقة انها لا تهمنى ` .
سألته ولماذا اذن ترسم وتنحت ؟
اجابنى :
` لأننى بالرسم والنحت ابعث كيانى من جديد
سألته : ومبالغاتك فى التعبير ماذا تقول عنها ؟!
ابتكاراتى فى التعبير والرسم وملامح وتشريح وصياغة ابطال لوحاتى كلها مستمدة من الواقع المصرى لكن بما يمكن ان اسميه ` الحد الأقصى للتعبير ` فالفنان التعبيرى ليس له إلا هدف واحد هو مغامرة استنفاذ حدود ما لديه من طاقات وقدرات واساليب تعبيرية .
قلت له بصيغة استفسار وانا اعرف اجابته مقدما : انت مغامر ؟!
فأجابنى بحماسة المتقد :
` أننى أخوض مغامراتى مع المتلقى الذى اضعه معى فى ذات التصور تاركا مسافة مشتركة بيننا لربط رؤيتينا ببعضهما البعض ..لان التعبير ما هو الا رغبة إنسانية فطرية يسعى بها الإنسان للاتصال بالآخر كبداية لتحقيق ما هو أسمى وهو التواصل الفكرى ..وقيمة التواصل الفكرى أن أتيح للمتلقى خوض تجربته الإبداعية الخاصة أثناء مشاهدته وتحليله لاعمالى.
ولعودة الروح اعود ثانية ..
انه البعث الذى يرى الفنان صلاح عنانى انه من أهم الأفكار التى ابتدعها المصرى القديم ..وجعلت لوجودة معنى ومبررا ..فيقول لى ..
لم يقصرها على العلاقة بين الجسد والروح انما هى وحسب تقديره لها معانيها ودلالاتها الاعمق والاكبر والأهم ولأجلها أبدع المصريون فى فن الرسم والنحت الملونين فكلما بهتت الألوان اعادوا رسمها ونحتها وتلوينها لتعود إليها الروح من جديد ..،
سألته : وما أهمية تلك الفكرة فى الحالة التى نعيشها الأن ؟
فأجابنى اجابته الذكية المرهفة :
` فى حالتنا الآنية من تشوش وارتباك نحتاج إلى عودة الروح أى بعث جديد نعيد به صياغة وجودنا المهدد بابتكارية وصياغة جديدة لم نعرفها من قبل على وجه الإطلاق `.
وأخيراً ..
ها هو صلاح عنانى فى الثانية والستين يصر على عناده وشقاوته مع الوجود .ويقسم لى سأظل اتطور واطور بأصابعى الثلاثة فى يدى اليمنى .. لقد تم بعثهم من جديد لمستقبلى الجديد القادم ..
اعدك أننى سأظل .
دينا فؤاد
القاهرة 16-5-2016
أعمال صلاح عنانى .. التعبيرية الهزلية .. وسحر الحارة المصرية
صلاح عنانى فنان تشكيلى حقق المعادلة الصعبة التى أسقطت الحاجز بين الإبداع والمتذوق العادى .. وذلك من خلال أسلوبه الخاص والذى امتزجت فيه صور الحياة اليومية بالجانب التعبيرى الأسطورى .. من مشاهد الحارة وملامح البيوت بالأحياء الشعبية لقاهرة المعز والتى تمثل خلاصة العبقرية الخاصة للشعب المصرى .
وأعماله تمتد فى عالم سحرى من الانسان فى المقهى وداخل الحوانيت ووسط حلبات الذكر والزار ومواكب الأفراح .. وأيضا ملامح التعبير التى تقتنص أحلام وهموم وآمال البشر البادية على وجوه الحمالين والساقين والمجاذيب والأسطوات وأعضاء الفرق من الموسيقار النحاسية والمشايخ والأفندية من صغار الموظفين مع ثنائيات الحب فى الحدائق العامة وداخل الشرفات وعلى قارعة الطريق .
السيدة نفيسة
فى يناير من عام 1955 ولد صلاح عنانى بحى السيدة النفسية .. وفتح عينيه على المباهج والأحزان والمساخر من الصور الشعبية .. وكانت المواسم تتوالى وتتابع من شهر رمضان إلى المولد النبوى الشريف .. فيطالع بإحساسه الغض موكب الخليفة محفوفا بالجموع من حاملى البيارق والاعلام وضاربى الدفوف .. وفى مولد (( نفيسة العلوم )) يزدحم الميدان بشتى الصور والشرائح والأنماط من خلق الله الذين يأتون من كل اتجاه من مصر المحروسة فيتأمل بعين الدهشة والفن مشاهد يتغير أبطالها فى كل لحظة من المنشدين الجوالين والدراويش والمداحين والحواة والباعة الجائلين والحرافيش .
وعلى الجانب الاخر .. وفى المقابل .. تطل المقابر صورة أخرى لهدأة الحياة وانطفائها فى تشكيلات معمارية من الشواهد والرموز والقباب والدرج الشاعرى المتآكل والأحواش المسكونة بالصمت الجليل .. وعلى الطريق تصطف باقات الزهور الصفراء الذابلة وجريد النخيل .
ومثل كل الاطفال .. كان عنانى ينقل بعضا من تلك الصور التى انطبعت فى خياله فى كراسة الرسم وكان يلقى التشجيع من مدرسى التربية الفنية .. وبعد حصولة على الثانوية العامة التحق بكلية التربية الفنية بالزمالك .
فى تلك الفترة بدأت مرحلة البناء والتكوين الأولى فى شخصية (( عنانى )) الفنية .. فقد التحق وهو طالب بمؤسسة (( روزاليوسف )) كرسام صحفى واستمر يرسم بمجلتى صباح الخير وروزاليوسف .. وفى نفس الوقت أقام معرضه الأول بالمركز الثقافى الفرنسى وهو لا يزال طالبا .
وبمجىء عام 1984 بدأ الميلاد الحقيقى له .. حين أقام معرضه الثانى بأتيليه القاهرة فهو يمثل بداية نضجه الفنى وانتماء أعماله للمدرسة التعبيرية .
لغة المشاعر
التعبيرى كلمة ذات مغزى ودلالة فى الفن الحديث وهى تعنى الإفصاح عن مشاعر وأحاسيس داخلية يريد الفنان أن ينقلها إلى الآخرين بلغة الأشكال والألوان والأحجام والأضواء والظلال .
ولقد كان فان جوخ يرسم زوجى حذائه كما لو كان يرسم زوجين يتهامسان ويتناجيان .. فكان يضفى على حذائه من عاطفته ملامح الحب .
وصلاح عنانى تمتزج فى تعبيريته الحس الساخر مع الكاريكاتير وروح الدعابة .. بالاضافة الى هذا الشجن والحزن الذى يولف شخوصه والتى تتعاطف معها ، فهى تمثل مساحة من النبض الحقيقى لروح الشعب المصرى .. تتجاوز التعبيرية النقدية إلى التعبيرية الهزلية .. والتى تتعانق فيها الملهاة مع المأساة او يمتزج فيها الجد بالهزل .. وتتوحد الدراما مع الكوميديا .
وتتنوع أعمال الفنان من تلك التى تصطخب بزحام الجموع فى الشارع والمقهى وبراح الميادين إلى الاعمال التى يصور فيها بورترية يعكس لحالة نفسية واجتماعية .
وربما أهم ما يميز أعماله أنها تموج بالحركة وفرط الانفعال .. وهو يدرس كل شخصية بعناية شديدة حتى تصبح عالما قائما بذاته داخل اللوحة وفى نفس الوقت جزءاً من حالة درامية على مسرح الحياة .
فى لوحة (( الشارع )) تطل على عشرات الشخوص .. فى المقدمة المبخراتى العجوز الذى يهتف من الأعماق يجاوره امرأة تحمل طفلها ورجل على عربة ((كارو)) وسيدة تسير وقرداتى وأسطى يمتطى دراجة ومن ورائه أسرته .. وشيخ ضرير يتحسس الطريق .. وبائع الخبز على دراجة أيضا ورجال على المقهى وسيدات تطل من الشرفات وتتنوع الملامح من الاستغراق فى الصمت إلى الصياح .. والتأمل وحتى (( السرحان )) .
وفى لوحة (( المقهى )) يصبغ الفنان اللوحة باللون الآزرق الذى يسود أرجاءها وكأننا فى المساء .. وهنا نطل على عالم أخر يضم الجموع من المهمومين المحزونين الذين يهجعون إلية هروبا من المشاكل التى لا تجد حلا .. وعلامات الاستفهام التى تحمل اسئلة بلا أجوبة .. واللوحة تذكرنا بلوحة ((أكلى البطاطس)) لفان جوخ بما يميزها من علامات الشحوب والضوء الشحيح الواهن والنظرات الغائمة .
أما لوحة ((ماسح الاحذية)) فتطالع فيها حالة تعبيرية مختلفة .. ماسح الأحذية ينكب على حذاء الزبون الذى يجلس متأملا بنظرة مع بؤسها فيها امتنان وتقدير .. وفى الخلفية رجل عاكف على ماكينة الخياطة .. وعنانى هنا لا يغفل التفاصيل من الحذاء المعلق على الحائط إلى آخر فوق المطرقة .
وفى اللوحة التى تشتمل على ثنائيات غالبا ما تكون رجلا وامرأة .. كل لوحة تعبير وكل تعبير يعكس حالة إنسانية .. تقتنص لحظة سعادة خاطفة وربما مساحة من التوحد بين زوج وزوجة .. مثلما نرى رجلا نائما على صدر امرأة فى حديقة عامة وهى لوحة تتعانق فيها الهموم والاحزان وتتلاقى الاشواق .. والمرأة هنا بمثابة الصدر الحنون .
وصلاح عنانى يحتفى بشخوص الحارة الشعبية ينشىء لكل شخص لوحة تخرج عن البورترية أو الصورة الشخصية الى لحظة إنسانية .. كما فى العازف الشعبى .. عازف الموسيقات النحاسية على المقهى وأمامه كوب الشاى على المنضدة بين الاسترخاء والتأمل بعد ضجيج الفصل الموسيقى .. وايضا لوحة (( الخياطة )) التى تصور امرأة بدينة شاحمة على كرسى صغير منكبة على ماكينة الخياطة .. وتحتشد كل عضلات الجسد وحركات الأيدى والنظرة البادية على الوجه الى حركة إبرة الخيط التى تروح وتجىء فى بحر الثوب .
يقول عنانى : (( لا أدرى بالضبط متى بدأ عشقى للقاهرة الشعبية .. وكل ما اعرفه أننى تعودت معايشة هؤلاء الناس وملازمتهم والاستماع إليهم .. واكتساب صداقتهم .. كما أننى أجد شخوص الحارة الشعبية أكثر صدقا فى التعبير عن آمالهم وآلامهم وأحلامهم من شخوص القاهرة الحديثة وقد يرجع الأمر إلى أن هؤلاء يمثلون القاهرة الأصلية .. القاهرة الحقيقية والمحافظة التى لم تزيفها أضواء المدينة .. والقاهرة الشعبية فى رأيى هى عالم متكامل ملىء بالأحداث والحكايات والنوادر والطرائف .. هناك معنى للحياة وضجيج وببساطة فى التعمل وعفوية فى التعبير )) .
ولقد كانت لوحة عنانى (( القاهرة ليل نهار )) تتويجا لهذا المفهوم .. فقد امتدت فى مسطح يبلغ ثلاثين مترا مربعا على شكل جدارية من شرائح الكرتون يتوسطها منظر مركب للقاهرة بحاراتها ومآذنها وأسواقها وشوارعها المزدحمة .. يطل منها صخب الواقع الشعبى وأحوال رجل الشارع .. حصل بها على جائزة التصوير الأولى فى بينالى القاهرة الدولى السابع عام 1998 .
هو وفن الملصق
فن (( البوستر )) او الملصق واحد من الفنون الجماهيرية التى تحمل رسالة واضحة ومحددة ولكن بأسلوب يرتفع بالذوق والتذوق .. لذا يمثل علامة حضارية ومؤشرا يعكس لمدى تطور المجتمع .
ولقد جاءت أعمال عنانى فى هذا الاتجاه علامة كبيرة أسهمت فى الارتقاء به وجعلت الفن متاحا لكل الناس .. كما ربطته بالأحداث الثقافية الكبرى .
ويعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 قدم ملصقا بخصوص وصورة وسط عالمه الشعبى وابطال رواياته من الحرافيش .. وأيضا فيلم المخرج يوسف شاهين (( اسكندرية كمان وكمان )) وملصق مهرجان السنمائى العشرين ولوحة (( مائة سنة سينما )) .. وهنا لوحة ((100 عام من التنوير )) التى رسمها عام 1990 وقد ضمت أعلام ومشاهير مصر فى الفكر والثقافة والفن على مدى سنوات القرن العشرين (( حوالى 30 شخصية مع تمثال نهضة مصر )) جلس فيها العقاد بجوار طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم مع سيد درويش وبيرم التونسى وصلاح جاهين ومحمود سعيد .. ونجيب الريحانى .. وفى الوسط وقفت أم كلثوم تشدو : (( وقف الخلق ينظرون جميعا .. كيف أبنى قواعد المجد وحدى )) وبجوارها عبد الوهاب وجلس شوقى يفكر فى (( سلو كؤوس الطلا )) ومختار بجوار تمثاله نهضة مصر .. ووقف محمد عبده مع الطهطاوى عند بوابة التنوير .. ومن أمامهما لطفى السيد وقاسم أمين وغيرهما .. وعبد الحليم يغنى (( باركى الولاد يا صبية )).
وبعد .. تلك كانت رحلة فى عالم صلاح عنانى .. ولكن للأسف أصبحنا لا نرى له حاليا أعمالا فنية جديدة بعد معرضه الذى أقيم بقاعة إخناتون بمجمع الفنون عام 2000 وإن كنا نراه كثيرا .. متحدثا بالتلفيزيون .. وعندما التقيت به منذ فترة بأحد مقاهى (( وسط البلد )) .. أشار إلى أن لدية أعمالاً فنية جديدة .. ولم يتوقف عن الإبداع .. وكل ما نرجوه أن نراها قريبا تفترش إحدى قاعات العرض .
تحية إلى فنان جسدت ريشته .. روح وعقل ونبض مصر .
صلاح بيصار
القاهرة : 17-8-2010
التشكيلى صلاح العنانى .. دخل العالمية .. من حارة
حصل الفنان التشكيلى صلاح العنانى على الجائزة الأولى فى بينالى القاهرة السابع والذى اشتركت فية 54 دولة وما يقرب من 180 فنانا تشكيليا من جميع أنحاء العالم .
والفنان المصرى العاشق لوطنه أدرك أن التعبير عن النفس وعن البيئة التى يقطن فيها الفنان هى التى توصل للعالمية وله رأى فى ذلك .. ويقول أن لا معنى لكلمة (( عالمية )) ولكن كلما عبر الإنسان عن نفسه بصدق وبشكل حقيقى أصبح عالميا .
ولذلك فازت لوحته فى الرسم الجدارى والتى عبرت عن شارع مصرى وحارة مصرية أصلية واختارتها لجنة التحكيم التى تتكون من 6 فنانين عالميين وفنان مصرى .. وفازت بالجائزة الاولى فى البينالى .
ويعيب صلاح العنانى على التشكيليين المصريين تأثرهم الزائد بالثقافة الغربية وتقليدهم لها فى أعمالهم وهذا يبعدهم عن التعبير عن مجتمعهم المصرى .. ويجب أن ينتبهو لذلك ويعبروا عن نفسهم ومجتمعهم .. وخاصة أن ذوق المصريين قد ارتفع بالنسبة للثقافة التشكيلية وهناك 20 كلية بمصر تخرج فنانين وتخرج جمهورا أيضا إذ لا نستطيع أن نتجاهل أن خريجى هذه الكليات أهم جمهور الفن التشكيلى . وهو من مواليد الخليفة .. وتأثر تأثيرا واضحا بالبيئة الشعبية التى نشأ فيها وظهر ذلك فى لوحاته واضحا .. حيث أنه انتقل من الخليفة الفاطمية إلى إمبابة والآن يسكن حى العجوزة ويعترف الفنان العاشق للحى الشعبى أنه يشعر بالاغتراب فى العجوزة لأنها تبعد عن البيئة الشعبية .
والعنانى من القلائل الذين وصلت أسعار لوحاتهم الى أرقام كبيرة حتى أن لوحتين له وصل سعر الواحدة منهما إلى 40 الف جنية اشترى احداهما مصرى وهى لوحة (( فتاة الليل )) واشترى الأخرى ممثل فرنسى وهى لوحة مائة سنة سينما .
ويرى العنانى أن الجمهور الذى يشترى اللوحات الآن أصبح يتذوقها ويفهمها على العكس من عشر سنوات مضت حيث كان البعض يشترونها للمنظرة والوجاهة فقط .
ويشكو الفنان الحائز على جائزة البينالى العالمية من التغطية الإعلامية الضعيفة التى لا تتناسب مع حجم جائزته الكبيرة التى تمثل مصر فى المقام الأول قبل أن تمثله شخصيا .
ويجب أن يكون هناك اهتمام إعلامى موسع للفائزين بمثل هذه الجوائز لتشجيع الآخرين أيضا .
ويحدثنا الفنان العالمى عن تصويره لتجميل القاهرة .. عن طريق الفنون ويقول :
أن هذا المشروع عرض على مجلس الشعب منذ سنوات لم يتحقق شىء حتى الآن .
وهذا المشروع يحتاج لميزانية ضخمة وتخطيط منظم من مؤسسة سيادية وليس الإعتماد على الفنانين التشكيلين فحسب .. ويجب أن تولى الدولة هذه الفكرة إهتماما لأنها تعود على السياحة أيضا وعندما تجمل مصر يرفع ذلك من شأن السياحة كثيرا والفنان صلاح العنانى حصل على العديد من الجوائز وله سمعة عالمية فى مجال الفن التشكيلى وعرض فيلم تسجيلى عنه فى 40 دولة من مختلف أنحاء العالم . وهو من التشكيليين المعروفين على مستوى الفنانين العالميين وله 600 عمل فنى .
تعلم حب الفنون من والده الذى كان يهوى الرسم وأصبحت كلية التربية الفنية إحد أهدافه إلى أن التحق بها وتخرج فيها سنة 1977 وحصل على الماجستير فى التصوير الجدرانى 1987 وعلى الدكتورة سنة 1995 عن التصوير الهزلى والشخصى ويعمل حاليا مدرسا فى كلية التربية الفنية بحلوان .
ورغم أن عمره لا يتعدى 44 عاما إلا أنه له ابن شاب فى الثانوية العامة وتربط الأب صداقة جميلة بإبنه الذى يهوى أيضا الفنون وأحيانا يستمع الأب لنصائح الابن ويأخذ برأيه فى أعماله الفنية وفى سلوكة الشخصى .. وليس بينهما ما يسمى بصراعات الأجيال أو إختلاف وجهات النظر .
أمنيات الفنان العالمى أن تتحسن أوضاع المجتمع وتتغير أساليب العنف التى ظهرت فى السلوك ليس فى مصر فقط بل ظهرت فى العالم كله .. حيث أن إصلاح المجتمع أفضل وسيلة لإصلاح الفرد .
سامية صادق
الجمهورية : 18-2-1999
الفنان التشكيلى المصرى صلاح عنانى : أرسم للأجيال التى لم تولد بعد
فى هذا اللقاء ، يتحدث الفنان التشكيلى المصرى د. صلاح عنانى عن تجربته مستعرضاً نظرته إلى الفن
الدهشة ، أو الصدمة ، هى بمثابة جواز المرور للعمل الفنى الذى يبدعه الفنان التشكيلى المصرى د. صلاح عنانى ، والذى يسعى إلى ترسيخ بصمة خاصة ، تدفع الملتقى إلى معرفتها حتى من دول أن يكون توقيعة عليها . اشتبك عنانى بفنه مع قضايا مجتمعه ، إيماناً منه بأن المبدع ضمير الأمة . اللوحة لديه هى بمثابة ثورة يقودها ، يسعى إلى الوصول بها إلى أقصى درجات النجاح ، كونه يستهدف جمهوراً جديداً لم يولد بعد ، أومازال فى مراحل التكوين الأولى . إذ يبدو وكأنه نشأ بذاكرة بصرية مغايرة ، إلا أن عنانى عمل وفق آليات وفلسفة تتناسب مع هذا الجيل ، فلوحته هى عبارة عن قصة تعبر عن حدث بدأ ومستمر وسوف يستكمل ، فى سلسلة من مشاهد حيايتة لا تنقطع .
(( زهرة الخليج )) التقت صلاح عنانى فى هذا الحوار الذى يدور فى فلك الفن التشكيلى والذى تطرق فيه إلى العديد من الهموم والقضايا المختلفة ، مؤكداً أنه يرسم (( للأجيال التى لم تولد بعد )) .
البداية
متى بدأت علاقتك بالفن التشكيلى ، وهل سعيت إلى ابتكار خط معين خاص بك ؟
أنا أرسم منذ كان عمرى ثلاث سنوات . رسمت بالطباشير على الحائط . ولقد خططت جداريات منذ الطفولة المبكرة عند مدخل البيت الذى نشأت فيه . وهكذا ، فإن ما أرسمه حاليا هو ما قدمته منذ البداية ، بنية اللوحة مازالت كما هى . والخط واحد لم يتغير ، ولكنه تطور . وكما أن تأثيرى بالحارة الشعبية نشأ معى منذ الطفولة ، ملخص الموضوع هو أنى أقدم قصة قصيرة ، وهو حدث بدأ ومستمر وسوف يستكمل .
لعبت الحارة المصرية دوراً كبيراً فى ممارستك الفنية ، فما سر ارتباطك بها ؟
أتحدث عن مجمل الحارة المصرية ، الحارة الزقاق ، العطفة وغيرها . ذلك أن هناك قدرة مصرية على إعادة إنتاج التاريخ ، أنا أحب التراث الفرعونى بالمعنى التاريخى . ولكن ، بالمعنى الحى ، أرى المواطن البسيط فى حياته اليومية مصدراً لإلهام فنى لا ينتهى .
لوحات وقصص مهمة
شاركت بلوحاتك فى موضوعات وقضايا عامة ومهمة ، ما ضرورة أن يتفاعل الفنان مع قضايا مجتمعه ؟
بالفعل ، هى لوحات ذات قصص ، قدمت فكرة أن اللوحات تشارك موضوعات عامة . فعندما فاز نجيب محفوظ بـ (( جائزة نوبل )) رسمته فى الحارة المصرية . وقد أحدثت هذه اللوحة صدى كبيراً وكتب عنها الكثير ، بل وزعت آلاف الصور لتلك اللوحة حول العالم ، فلا توجد جامعة تدرس اللغة العربية إلا وقامت بعرض لوحة نجيب محفوظ . كما أنها نشرت على الصفحة الأولى فى الصحف السويدية يوم تسليم (( جائزة نوبل )) إلى الراحل نجيب محفوظ .
حوار من نوع خاص
يبدوأن ثمة حواراً من نوع خاص تجربة مع اللوحة خلال العمل ، فماذا عنه ؟ وهل تعرف أين ستنتهى اللوحة منذ بداية العمل ؟
بالفعل ، هو حوار ذو خصوصية شديدة مع وسيط أعشقه . اللوحة تولد بهجة فى حياتى . فأنا أسعى الى تقديم عمل يفاجئنى . ولابد أن أشعر بدهشة كبيرة مما أقدمه ، لدرجة أن أسأل نفسى : هل أنا من رسم هذه اللوحة ؟ لابد أن تكون هناك صدمة من العمل الفنى . أنا أرسم بالقلم الرصاص (( أسكتشات )) عدة حتى أستقر على نموذج نهائى أضعه على الـ ((كانفاس )) وأقوم بنقله بطريقة جديدة ، ثم أقوم بنقله وتصويره للاستفادة منه فى حالة ضياع اللوحة خلال مرحلة التلوين فى بعض الأحيان . وأرسم حتى أصل إلى مرحلة الدهشة . بذلك أكون قد انتهيت من العمل وأستعد للوحة أخرى . وبالتأكيد إنه يوجد فرق بين كل لوحة وأخرى . وأنا أتمثل شخصياتى التى أقدمها . اللوحة بالنسبة إلى هى حالة مخاض وثورة جديدة . بقدر ما يسعد الفنان خلال عمله باللوحة بقدر ما يتعذب خلال الممارسة الفنية . ولكنى ، بصفة خاصة ، أسعى إلى ترك بصمة خاصة فى أعمالى كى يعرفها الملتقى فى أى مكان من دون توقيعى .
هل من عادات أو طقوس معينة تحرص عليها خلال الرسم ؟
عندما أرسم عملاً يتصل بالحارة ، أقوم بسماع أغان تتصل بالحالة ، منها أغنية (( يا رايحين الغورية )) الشىء نفسه عندما أرسم أعمالاً عاطفية ، حيث أستمع لنجاة وعبد الحليم أو لأى غناء شبيه بالعمل الذى أرسمه ، حيث أتعامل مع الأغانى كوسيط مهم خلال الممارسة الفنية . وأحيانا أدخل فى خناق وصراع مع اللوحة ، بل وتاريخ الفن نفسه ، حيث أعمل مع تاريخ الفن وليس لمن يقطنون القاهرة الكبرى فقط .
عقلية مغايرة
من جمهورك الذى تستهدفة ؟
أرسم للأجيال الجديدة أو الذين لم يولدوا بعد . الذين سيملكون عقلية مغايرة فى المستقبل بعد حدوث ثورة ثقافية كبيرة . أستهدف حفيدتى ذات السنوات الأربع وأقوم بمراقبتها وهى تشاهد اللوحة ، وإذا لم أتلمس الدهشة فى عينيها ، أعتبر لوحتى غير ناجحة ، لأن هذه الأجيال لديها ثقافة بصرية وبنية ذهنية مختلفة كونهم نشأوا فى ظل الوسائط المتعددة والتطور المتلاحق الذى لم يشاهده جيلنا .
لا أنتمى الى مدرسة
هل ترى أنك تنتمى إلى مدرسة فنية أو اتجاه تعبيرى معين ؟
أنا تعبيرى تشخيصى ، ولكن مسمى المدارس الفنية قد انتهى . لا أنتمى إلى مدرسة معينة ، ولكن لى أسلوبى الخاص . فالمدارس هى تقسيمات افتراضية ابتدعها الغرب ونحن غير ملزمين بها ، وعندما أدرس لطلبة الدراسات العليا أطلب منهم ألا يقسمو أنفسهم إلى مدرسة معينة ، قديماً كانت تدرس كتاريخ للفن . كما أن عدد الفنانين التشكيليين فى العالم يكاد يكون دولاً . لذلك فإن الفنان التشكيلى المتميز هو الذى يتصف بأسلوب خاص به يميزة من دون توقيع يعرف صاحب العمل ولأى أمة ينتمى .
لماذا لا تكون لدينا سوق عربية مشتركة للفن التشكيلى ؟
لا توجد وحده عربية . هناك أفراد يقاومون فكرة وجود مثل هذه الوحدة . فكيف نتوحد فى الفن ونحن غير متوحدين فى الحكم ؟
إلى أى مدى يعكس الفن ملامح وشخصية صاحبة ؟
الفن بكاملة يقوم بهذا الدور . وإذا كان الفنان موهوباً وصادقاً ، فسيكون هو أبطاله وشخصياته ومشاعره . وسوف يتلونون بألوانه ووجدانه وانفعالاته أنا أشعر بأن لوحاتى تمثلنى بضجيجها وصخبها .
ثورة ثقافية
يرى البعض أن الفن التشكيلى بات سلعة غير رائجة ، كما أنه بات (( للنخبة )) .. فكيف ترى هذا ؟
هذا ينطبق فقط على الفن الذى لا يعبر عن الناس . أما القول إنه غير مفهوم ، ففيه افتعال لأزمة الفن يقدم لأنه لغة اتصال بين الناس .
تلعب المرأة دوراً مهماً فى حياة المبدع ، فماذا تمثل لك الفنان ؟
المرأة هى أيقونة مهمة فى العمل الفنى . هى الأم والأخت والحبيبة ، هى الغرام نفسه ، لا يخلو أى معرض لى من سبع لوحات على الأقل تمثل الغرام حب المرأة يمنح الإنسان غراماً للحياة نفسها .
ثراء أكثر
عندما يتقدم العمر بالمبدع هل يعتمد على تجربته وخبراته أم يطور نفسه ؟
فى حالة المبدع الكبير ، يكون الثراء أكبر بسبب الخبرة الكبيرة التى أمتلكها . عندما يكبر الفنان يصبح أكثر جرأة ، عكس الفنان الشاب ، فقد صنع اسمه فى مرحلة سابقة ، ولكن يكون عليه مسؤولية مع نفسه بمعنى أنه يرسم لذاته .
سماح عبد السلام
زهرة الخليج : 17-12-2014
الفنان التشكيلى صلاح عنانى : نحن فى حاجة إلى عودة الروح
بعد غياب قارب على الستة عشر عاماً للفنان التشكيلى الكبير صلاح عنانى عن قاعات العرض . فاجأنا بافتتاح معرض فنى مهم بعنوان (( عودة الروح )) بجاليرى المسار للفنون ويضم المعرض ما يقرب من 37 عملا من التصوير الزيتى والنحت .
ورغم الغياب فإن الفنان الذى تخرج فى كلية التربية الفنية عام 1977 ، وعمل لمدة عشر سنوات رساما صحفيا فى مؤسسة روزاليوسف ومجلة صباح الخير ، كما عمل مديرا لقصر الغورى للتراث لعدة سنوات ، ويعمل حاليا دكتور بقسم التصوير بكلية التربية الفنية بالقاهرة ، قد استطاع أن تلامس أعماله الروح والشخصية المصرية وبالذات فى المناطق الشعبية ببراعة ، وبدا قادرا على تأكيد أسلوبه المعروف به منذ الثمانينات من خلال الأعمال المتفردة التى تنتمى للتعبيرية الساخرة التى يجيد من خلالها تصوير أعماق الإنسان المصرى وبالتحديد إنسان الحارة الشعبية وناس الشارع وحياتهم اليومية وصخب ليالى المولد ودوشة الزحام ومواقف الحب والغرام .. وتشعر فى اللوحات كأن الفنان يلامس همومهم وأحلامهم البسيطة وأوجاعم أيضا .
` ميلاد جديد
وتدور فكرة المعرض ــ الذى يستمر حتى أوائل يونيه المقبل ــ حول عودة الروح ، أى (( البعث )) وهى فكرة ابتدعها المصريون القدماء ، ثم باتت عقيدة اعتنقها الجميع ، فصنعت لوجودهم معنى ومبررا ، حيث يستلهم الفنان فكرة عودة الروح أى البعث من المصريين القدماء مؤكدا أن الامر لم يقتصر على علاقة الجسد بالروح وخروج الروح منه والعودة إليه ، بل فى تقديره أن الدلالة المعنوية لذلك هى أهم بكثير ، حيث يتعلق الأمر بطبيعة الحياة نفسها .
ويوضح رؤيته قائلاً : (( أرى أننا الآن فى حالة من الارتباك والتشويش كما لم يحدث لنا بتاريخنا أجمع .. ولذا نحن فى حاجة إلى عودة الروح )) والمعرض فى مجمله بمثابة دعوة إلى ميلاد جديد .
ويستلهم الفنان التشكيلى صلاح عنانى موضوعات أعماله من معايشته للبيئة الشعبية المصرية بحكم مولده عام 1955 فى حى السيدة نفسية ثم انتقال والده بالأسرة إلى حى إمبابة ، فنشأ فى تلك البيئات الشعبية بين الازدحام المرتبط بالعادات الدينية من مولد السيدة نفيسة ، والسيدة زينب وشهر رمضان والمولد النبوى وموكب الخليفة والدراويش والباعة . ويعترف عنانى فى حوارات سابقة معه : (( لا أدرى بالضبط متى بدأ عشقى للقاهرة الشعبية .. وكل ما أعرفه أننى تعودت معايشة هؤلاء الناس وملازمتهم والاستماع إليهم .. واكتساب صداقتهم .. كما أننى أجد شخوص الحارة الشعبية أكثر صدقا فى التعبير عن آمالهم وآلامهم وأحلامهم من شخوص القاهرة الحديثة ، وقد يرجع الأمر إلى أن هؤلاء يمثلون القاهرة الأصلية .. القاهرة الحقيقة والمحافظ التى لم تزيفها أضواء المدينة .. والقاهرة الشعبية فى رأيى هى عالم متكامل ملىء بالأحداث والحكايات والنوادر والطرائف .. هناك معنى للحياة وضجيج وبساطة فى التعامل وعفوية فى التعبير )) .
وأضاف الفنان عنانى أنه (( لا يمر شهر على الأكثر من دون أن يذهب إلى تلك المناطق التى يطلق عليها (( الشوارع الخلفية )) وانه دائما يرسم تلك الشوارع بمشاعرها ووجدانها الخلفى ، موضحا أن المصريين لديهم وجه ظاهرى وآخر خلفى ، والأخير هو الحقيقى الأكثر جمالا ويحتاج للتعامل معه إلى درجة كبيرة من الوجدان الأصيل أو الأصالة )) مضيفا (( أن ذلك هو سر تشبثه بالتعبير عن ذلك العالم بعد أن كان الحس والحدس يحركانه تجاهه، وأنه يشحن اللحظة بمدركه الوجدانى والفكرى التاريخى فى مزج بين الواقع الشعبى والشخصية المصرية بأسلوبه الخاص الذى يبتعد به عن التبعية الثقافية التى تشكل أزمة على جميع المستويات )) .
ويؤكد عنانى أن استخدام التعبير الفنى فى تصوير الأحياء الشعبية الفقيرة يدفع المشاهد إلى المزيد من التعمق والتأمل فى مضمون اللوحة وجوهرها كما أنه يعيش منشغلا بقراءة التاريخ عاجلا انغماسه بجماليات البيئة الشعبية والفنون الإسلامية وإعادة صياغتها مرجعا خصبا يستقى منه ابداعاته .
ويطرح الفنان صلاح عنانى سؤالا وجوديا لماذا أرسم وأنحت ثم أ؟عرض أعمالى الفنية ؟
ويجيب قائلا : لأننى أبعث كيانى من جديد .. فما قمت به من ابتكار طريقة فى التعبير والرسم ، والصياغة الخاصة بأبطال أعمالى كلها من الواقع المصرى ، وما صاحبها من مبالغات فى التكوين والألوان تهدف للوصول إلى أقصى حد ممكن مما أسميه (( الحد الأقصى فى التعبير )) التى أعتقد أن الفنان التعبيرى ليس له إلا هدف واحد ، وهو مغامرة استنفاد حدود ما لديه من طاقات وقدرات وأساليب تعبيرية .. وهى مغامرة يخوضها مع الملتقى الذى أضعه معى فى نفس التصور تاركا مسافة مشتركة بيننا لتربط رؤيتينا ببعضهما البعض ، وأقصد به التواصل الفكرى الذى يتيح للملتقى خوض تجربته الابداعية الخاصة أثناء مشاهدته وتحليله لأعمالى )) .
` عالم سحرى
ويرى الناقد الفنى الكبير صلاح بيصار أن صلاح عنانى فنان تشكيلى مهم نجح فى تحقيق المعادلة الصعبة التى أسقطت الحاجز بين الإبداع والمتذوق العادى .. وذلك من خلال أسلوبه الخاص الذى امتزجت فيه صور الحياة اليومية بالجانب التعبيرى الأسطورى .. من مشاهد الحارة وملامح البيوت بالأحياء الشعبية لقاهرة المعز التى تمثل خلاصة العبقرية الخاصة للشعب المصرى وأعماله تمتد فى عالم سحرى من الإنسان فى المقهى وداخل الحوانيت ووسط حلبات الذكر والزار ومواكب الأفراح .. وأيضا ملامح التعبير التى تقتنص أحلام وهموم وآمال البشر البادية على وجوه الحمالين والسقاين والمجاذيب والأسطوات وأعضاء الفرق من الموسيقات النحاسية والمشايخ والأفندية من صغار الموظفين مع ثنائيات الحب فى الحدائق العامة وداخل الشرفات وعلى قارعة الطريق .
وأضاف أن صلاح عنانى تمتزج فى تعبيريته الحس الساخر مع الكاريكاتير وروح الدعابة .. بالإضافة إلى هذا الشجن والحزن الذى يولف شخوصه التى تتعاطف معها ، فهى تمثل مساحة من النبض الحقيقى لروح الشعب المصرى .. تتجاوز التعبيرية النقدية إلى التعبيرية الهزلية .. التى تتعانق فيها الملهاة مع المأساة أو يمتزج فيها الجد بالهزل .. وتتوحد الدراما مع الكوميديا ، وربما أهم ما يميز أعماله أنها تموج بالحركة وفرط الانفعال .. وهو يدرس كل شخصية بعناية شديدة حتى تصبح عالما قائما بذاته داخل اللوحة وفى نفس الوقت جزءا من حالة درامية على مسرح الحياة .
ويرى بيصار أن الفارق بين أعمال صلاح عنانى السابقة ، وأعماله الحالية بالمعرض أن كثافة الشخوص قد خفت بعد أن اختزل الشحم واللحم وبقيت روحها الطليقة مع الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والمبالغات الكاريكاتيرية والتشريحية .. أما أعمال عنانى النحتية فقد بلغ من خلالها درجة من صفاء الشخصية كما نرى فى منحوتة المطرب .. ومنحوتة ابن الحتة الذى يقف بساقة المثنية فى اتجاه الأخرى وهى الوقفة الشهيرة لابن البلد الشهم الواثق منتظرا بنات الحارة قبل أن يأتى المساء ليزود عنهن من الاغراب .
فى الختام نؤكد أن رجوع عنانى إلى الساحة الفنية بمعرض مهم يجب أن نضعه فى مكانه الصحيح ، ونستمع إلى رؤيته الفكرية التى لا تقل بحال عن رؤيته الفنية التى تتمثل فى المطالبة بضرورة عودة روح المصريين فى لحظة مصيرية نعيشها خلال السنوات التى أعقبت الثورة .
زين إبراهيم
صباح الخير : 24-5-2016
حارة صلاح عنانى .. المنسية
العالم الشعبى بكل طقوسه ومنمنماته ، وأنماطه التى تتحرك على مساحة من البساطة والتلقائية ، هو العالم الأثير عند الفنان صلاح عنانى ، والذى يقدم لنا الحارة المصرية بمقاهيها ، وحواريها ، وتفاصيل حياتها اليومية المعلنة ، أو المختبأة وراء الجدران ، فهو يمتلك القدرة على إعادة الحياة إلى هذا العالم بشكل شديد الإنسانية ، فهذه الوجوه نعرفها جميعا ، وهذه الحوارى لعبنا بها وحلمنا فى لياليها . ويلتقط صلاح عنانى هذا العالم ، ويقدمه لنا من خلال المعرض الثانى عشر والذى افتتحه فاروق حسنى بمركز الهناجر ، ويستمر حتى نهاية الشهر ، ويتنوع عالم صلاح عنانى هنا ، بين اللوحات الزيتية ، وتقنيات بألوان الأكلريك ، ويعتبر هذا المعرض نقلة خاصة فى مراحله الفنية ، بالرغم من التزامه بخصائصه الفنية التى عرف بها ، فى خلط التعبير الهزلى الساخر بالمأساة ، وأسلوبه المصرى المتميز ، والفنان صلاح عنانى عرفناه من خلال لوحة عالم نجيب محفوظ ومائة عام من التنوير لأهم فنانى ومفكرى مصر ، وأفيش فيلم اسكندرية كمان وكمان ليوسف شاهين . وقد أقام عنانى العديد من المعارض بإيطاليا 85 ــ معهد العالم العربى بباريس 89 ــ قبرص 84 كذلك قام بتمثيل منطقة الشرق الأوسط ، من خلال منظمة عالم واحد التابعة لليونسكو ، بلوحة هنا القاهرة التى عرضت بألمانيا ، وتم تقديم برنامج عنها مدته 15 دقيقة فى 40 محطة تليفزيونية بالعالم ، كما قام بعمل وتصميم أغلفة كتب نجيب محفوظ لدار دنويل الفرنسية ويعمل حاليا مدرس مساعد بكلية التربية الفنية ، ومدير قصر ثقافة الغورى للتراث ، كما عمل رساما صحفيا بروزاليوسف لمدة عشر سنوات .
فوزى الهوارى
كل الناس : 19-5-1993
خواطر عن الفنان صلاح عنانى فكرة مصر مقبوضاً عليها من ضميرها الحى
فكرة مصر مقبوضاً عليها من ضميرها الحى
كلما كنت فى القاهرة ، رغبت فى التقاء الفنان التشكيلى صلاح عنانى . عرفته أول مرة سنة 1994 فى (( النادى اليونانى )) ، وهو مقصف يرتاده مثقفو القاهرة . كانت القاهرة أول عاصمة عربية أزورها بعد أنقطاع سنوات عديدة فى لندن . شخص بقامة مديدة ، وعينين حادتين ، وراء نظارة طبية ، حميم ، ساخر وله كف ضخمة تتصل بيد تساعد صاحبها فى كلامه . وكتف متوترة لا تهدأ ، وله نبرة صوت حاذقة وقدرة على افتراس خصمه بصفته صديقاً . ثم .. سلسلة من التعليقات التى تقطعها التفاته منه هنا . وأخرى هناك ، للاطمئنان على المكان تارة ، ولإصابة شخص بملاحظة ساخرة أو تعليق ظريف ، يستأنف بعدها السؤال : وماذا تفعلون الآن فى أوروبا ؟ .
وأتخيل أن السؤال نفسه سيكون فى اللقاء المقبل بصلاح ، ولكن فى ما يتعلق بجغرافيا أخرى هذه المرة .
شخصية مرحة ، محاججة ، سجالى النبرة ، ولديه باستمرار تصور ليس مطلوباً من فنان ، عما جرى ويجرى فى المنطقة العربية ، عبر تاريخ عشناه ، على الأقل .
***
صلاح عنانى من الفنانين المصريين الكبار المعروفين ، عمل مدرساً للفنون فى جامعة حلوان ، ومديراً لقصر الغورى للتراث لمدة 12 عاماً . بلغ عدد المعارض الخاصة ، التى أقامها فى القاهرة ، من 1979 وحتى 2004 حوالى ال20 معرضاً ، وأقيمت له معارض خاصة فى عواصم أوروبية ، منها روما ، باريس ، نيقوسيا .
من أشهر أعمال الفنان لوحة (( عالم محفوظ )) بمناسبة حصوله على جائزة نوبل 1988 ، ولوحة (( مئة عام من التنوير )) 1990 ، و (( لوحة مهرجان القاهرة السينامائى الدولى العشرين )) و (( لوحة مئة سنة سينما مصرية )) نال عنانى العديد من الجوائز الفنية ، منها (( جائزة جمعية الفيلم ومهرجان القاهرة السينمائى )) 1990 عن ملصق فيلم يوسف شاهين (( اسكندرية كمان وكمان )) اختير ضمن 40 فناناً فى العالم ، ممثلاً لمصر بلوحة (( هنا القاهرة )) . حصل على الجائزة الأولى ل (( بينالى القاهرة الدولى السابع )) 1998 .
***
اللوحات التى يرسمها صلاح عنانى ، تنقلنا بحرارة وقوة واقتدار إلى عوالم القاهرة وناسها ، قاهرة الربع الأخير من القرن العشرين . وهى قاهرة معاشة وقاهرة متخيلة . إنها الأحياء التى عاش فيها الفنان طفولته ويفاعته . وشهدت نضجه وتألقه كفنان استلهم عوالمها . وهى أيضاً القاهرة التى تبلورت فى مخيلته وذاكرته ، بفعل كتابات الكتاب المصريين ، وعلى رأسهم نجيب محفوظ .
هناك فى العوالم الجوانية للمدينة ، تفتح وعيه الفنى وإحساسه الجمالى بمرئياتها، بأزقتها وحواريها ، بالأضرحة والمراقد والمساجد والأسواق والمقاهى ، بأبنيتها المتميزة ، وبالإيقاعات والألوان التى للقاهرة القديمة ، الزاخرة أحياؤها بالصور والمشاهد والأحوال والحالات ، التى ستسهم لاحقاً فى تأليف لوحته . وقبل كل هذا وبعده ، فإن القاهرة لصلاح عنانى هى الناس .. هى أهلها فى كل وقت .
***
يمزج عنانى بين مدارس فنية عدة ، بينها الانطباعية والتأثيرية ، إلى جانب فن (( الكاريكاتير )) ليخرج بصيغة بالغة الخصوصية والجاذبية الفنية . ولعل ذلك التضخيم للأجساد البشرية ، أو لأجزاء وملامح ، منها الذى يتيحه فن (( الكاريكاتير )) هو من المميزات الجاذبة التى تركز حالات الشخوص فى لوحة الفنان ، وتجعلهم فى مرمى عين المشاهد ، وذلك فى بناء للمنظور ، يخدم فكرته ويتيح للكثرة من الأشخاص ، حضوراً فى اللوحة يتوزعها من مختلف الزوايا ، وفق هارمونى من الخطوط والألوان والتفاصيل والتكوينات ، يترك لدى المشاهد انطباعات طريفة ومحببة وموحية ، فهى هنا عامرة بالدلالات التى يريد . لكن هذا ليس كل شىء فى عمل عنانى ، فجزء مهم من لوحاته تحتشد فيه شخصيات الطبقة الوسطى المصرية ، وقد ضربتها رثاثة الأحوال ، فانحدرت بها الى درك من الفقر تفضحه الوجوه والملابس ، والتقشف البادى على هيئاتها وجلساتها . إنما من دون أن تسلبها تلك الطاقة الهائلة على المحاججة والمساجلة ، والتعبير عن الانشغال الفكرى المضاد للأحوال .
ثمة انشغال متميز يطبع حضور شخصيات عنانى المثقفة ، كأنى بها فى لوحته ، هى فكرة مصر مقبوضاً عليها من ضميرها الحى . وغالباً ما يعبر الفنان عن انشغالات أشخاصه بذلك النقاش الجانبى . فهناك باستمرار وسط حشد من الجلوس فى لوحته فى مقهى مثلاً ، اثنان يتناقشان فى قلب الصخب . واحد يتكلم والاخر يسمع ، يدهش أو يوافق ، أو يفكر فى ما يسمع . الكلام سيد اللوحة . الفم عند الأذن ، وعلى الأذن أن تتضخم فى حالات لتفوز بالكلمات .
إنها مرات عوالم قاهرة المثقفين ، حيث الرجال بموضوعاتهم التى لا تنتهى ، والنساء بقوة شكيمتهن فى استقبال الأفكار ورد صاع الفكرة صاعين ، والكلمة صاعت عديدة . هنا يولد عنانى طرافة فى مشاهد لوحاته ، ويبث تعابير وانتباهات شتى فى وجوه ناسه .
نورى الجراح
زهرة الخليج
صلاح العنانى والغوص فى أعماق الحارة المصرية
يتجاوز عمل صلاح عنانى (( القاهرة ليل ــ نهار )) مفهوم اللوحة إلى مفهوم الجدارية وعلى عكس ما نتوقع لن تذكرنا بجداريات الفراعنة ، بقدر ما ستاخذنا الى الجداريات الحديثة ساشير ــ هنا ــ إلى صلتها بجداريات الحج .
فى حيز كبير ، على جدران مدخل البيت يقوم الفنان الشعبى بتصوير رحلة الحج الى مكة ، والعودة منها ، مستخدما عناصر محددة : السفينة التى تمخر العباب ، أو الطائرة المحلقة ، يخرج منها خيط من الدخان ، حيث المشهد ــ كما فى كل جدارية ــ يسرد تاريخا ، ويؤكد انتماء البيت وصاحبة إلى الثقافة .
من البدء ، تبنى صلاح عنانى فى مشروعة الفنى آلية السرد ، وهنا يواصل تبنيها مرة أخرى ، لا لان اللوحة تسرد حكاية فقط ، حيث نرى فعل الزمن فى الوجوه والأجساد ، ولكن لأنها ــ أيضا ــ تفلت من الغنائية ، وتأخذنا الى فضاء أخر ، يتداخل فيه البواقعى والفنتازى ، المقدس والمدنس ، سيولة الحياة والرغبة فى تثبيت بهائها ، الذى يفلت من أيدينا ، ويتلاشى فى الزمن .
البهجة التى نجدها فى جداريات الحج تنتقل إلى هنا ، بهجة ناتجة عن (1) صراحة الألوان ودفئها وكثافتها و(2) عن رفض الخضوع للتناسق فى النسب التشريحية الواضح فى الولع باللحم البشرى ، لاعبر حدة الخطوط وعصبيتها أو نعومتها ، بل من خلال إغراق العين فى الكتل الثقيلة الراسخة المعادية للتسايل المائى ، ومن خلال التشوية واللعب على المفارقة . نحن مع ولع بالجسد المضحك المكون من نتوءات ونواشز ، الذى ــ كما يقول باختين ــ لا ينغلق ولا ينجز ، ولا يصبح جاهزا ، إنما يتجاوز ذاته ، ويتخطى حدوده . ليس تشويه النسب هنا ناتجا عن علاقة الجسد البشرى بالالة كأجساد العمال ، ولكنه نتاج ثقافة : نظام غذائى وبيلوجى وثقافى ، أجساد مضخمة ، تجردها الألوان من الرفاهية ، فهى ليس أجساد تالشبع ، بل نتاج الجوع ، أما الوجوه فتشهر فى عيوننا اللا مبالاة وتنغلق على مافى داخلها ، مع هذا ليس فى الجدارية أى شبهة لغناء نبل الهامشيين ولا بكاء مآسيهم الاحرى أننا مع شخوص مندرجة فى سيولة الحياة ، راضية بتقسم المواهب والأدوار ، ماضية فى اتجاه مصائرها .
تخلق جدارية القاهرة فضاء ممتدا متقطعا فى آن فضاء الحياة اليومية التى تنهض على التتابع المشهدى ، كما فى صندوق الدنيا المشاهد منفصلة ، لكن ثمة نهر غير مرئى ، يوحد مياهها ، ليس فقط لان كل جسد يسرد حكاية ، ولكن أيضا لأن قانون السعى والغبار وسيولة الحياة تربط بينها . وهى متقطعة لأن كل جسد فى علاقته بالاشياء : الجدران ، الموتوسيكل ، السيارة الأشجار .. الخ ، يخلق عزلته عزلة يؤكدها الداخل المغلق على هزائمة ورغباته وأو هامه ، حيث لا وجه يواجه الوجه ، ولا عيون تحدق فى عينى الآخر ، أجساد لا مرايا خارجية لها ، مراياها فى الداخل ، وتخص كل جسد على حدة ومن ثم برغم الزحام ، هناك انشداد الى الداخل ، وعجز عن المواجهة يؤكد العزلة .
الجدارية تتكون من انحناءات متعامدة أعنى من سطوح امتحنت الفنان فى الرسم على الزوايا القائمة ، فتذكر بالنمط المعمارى للمدينة الاسلامية التى يعمد بناؤوها الى تكثير الانحناءات والانعطافات لأسباب بيئية لكنها ، أيضا تذكر بكارت بوستال عملاق يتكون من طيات ، كل طية تكمل سابقتها وتبننى عليها .
نبدأ بالصباح حيث المشهد التقليدى المصرى : بائع الفول وعربته ، وزبائنه وسنلحظ على الفور أن البائع ليس فى مشهد بيع ، بل تواجهنا عيناه اللتان تحدقان فى الفراغ ، فيما اليد فى الجيب حيث النقود والزبائن منهمكين فى الطعام ، وجه البائع ليس وجه مدينى عتيق ، بل تشى ملامحة بريفيته ، فيما الزبائن ليسوا كذلك : وجوههم مدينية خارجة من البيوت ذات المداخل الرطبة لكن التوقف أمام السطح الاول يخلق التباسا ، حيث سنجد رجلا ، يواجهنا بجسد ضخم ، ولكى براه كعنصر فى المشهد ، لاسبيل سوى الحركة مع الزاوية القائمة ، لنعرف أنه البائع .
يلى هذا المشهد ، موتوسيكل عائلى يقوده . رب العائلة ، فيما الزوجة تحتضن الطفل الموتوسيكل كالة يتضاءل مع حضور الجسد الانسانى للرجل والمرأة والطفل أجساد لحيمة لا يمكن أن تكون لعائلة مقدسة ومع ذلك تعبر الفراغ ، مثقلة بهشاشة مسلم بها بدءا ، وتتناغم مع المرأة التى تضع على عينيها منظارا ، وتغطى شعرها وكتفيها . جسد المرأة المختبىء خلف الثياب ، يؤكد سمة الجسد ، الذى تتساند أعضاؤه ولا يواجهنا إنه هناك فقط ، يبدو هكذا من زمن ما وهو يقطع الطريق .
حين تتحرك عيوننا مع الزاوية القائمة يكتمل المشهد : السيدة ربة البيت أو الموظفة الصغيرة ، وبجوارها ركن صغير به معروضات رثة من الثياب والاحذية والحقائب . فنرى رجلا شابا ، واقفا ، مستندا على جدار فى حالة انتظار يمكن ان نقرأ فى الرجل بائعا . لكن يمكن أيضا أن نرى فيه شابا يقف على الناصية ليصطاد العابرات يؤكد ذلك ملامح الوجه الشاب والجسد الفتى ، والملابس الضيقة التى تصف الجسد ، والحذاء الثقيل الضخم ثم ينغلق المركز لنرى قوسا كبيرا يذكر بالمحراب ، ويمثل مركز الجدارية . فى المحراب نرى المدينة ، ببناياتها وسمواتها ، ونشعر أننا انتقلنا من مشاهد الحياة اليومية الى مشهد مغاير فعناصر المشهد تفقد النفحة التى تكاد تكون تسجيلية ، لان عين الطائر تلم بالعناصر جميعا ، لكنها تجعلها اقرب الى ديكور مسرحى ، أما الشخص فهو يتوزع بين أن يكون عنصرا عضويا فى المشهد ، ومنفصلا عنه فى آن . لقد تم استدخاله فى المشهد دون دمج ، أما الجسد فهو أكبر من العناصر الآخرى ، ويبدو كمن يجلس على أطلال ، تكوينه الجسدى مختلف تماما عن الاجساد الأخرى فى اللوحة . ثمة نحول وارهاق واضح فى العينين والاطراف ، ونظارة طبية توحى بالنحول : فنكتشف اننا أمام بورترية للفنان حيث تنضح السخرية من الجسد ، قدم فى النهر الهادىء المنساب ، كأنها تسقط من على ، لتجرح سكون الماء ، أو تحاول ان تتجذر فيه ، وبين الساقين مئذنه تكاد تلامس عضو الذكورة ، فإذا صعدنا البصر ، رأينا جيب سترة الفنان يتحول الى شرفة ، يقف فيها عاشقان غير متواجهين : وجه جانبى ووجه يحدق فى الافق . إنها العزلة التى لمسناها فى مشاهد السرد النهارى فى القسم الأول من اللوحة .
بورترية الفنان عن سخرية واضحة ، لاتتبدى فقط فى التشويه الجسدى وابتعاد اللون عن النعومة ، بل يؤكدها حصره بين الرجل الصائد فتى الجسد الذى ينتهى به النهار ، وبين العاهرة التقليدية المستندة الى عمود النور الشهير ، ليبرز وجهها ، متعبا مثقلا بالزواق الفاقع ، وبين شفتيها سيجارة تنفث .
بمشد العارة يبدأ الليل ، فيما بدأ النهار بالطعام ، فنحن مع كائنات مثقلة بمطالب العيش ، والسعى والغبار وبعدها نرى سيارة مكشوفة توازن مشهد الموتوسيكل ، صاحبها بالطبع يختلف عن سائق الموتوسيكل فى الملامح ، وقصة الشعر والملابس ويستدعى على الفور ملامح وجه الممثل عماد حمدى يتلو هذا مشهد الرجل الاعمىوواضح من ملابس (( الفقى )) التقليدية ، والعمى الذى تدل علية النظارة ، والغلام الذى يقوده ، أن عنانى يرسم الشاعر الضرير فى (( زقاق المدق )) أو بطل (( بيت من لحم )) ليوسف إدريس وهو يخرج من المسجد ، فيما تخفت الاضاءة فى العمق لنرى المصلين منكفئين فى السجود ، لتنتهى الجدارية ، بمشاهد يخفت فيها اللون ، لرجل يقرأ جريدة ، ومتسولة ، ورجل سائر فى الطريق ثم امرأة تستخدم الهاتف .
هكذا تلوح المدينة فضاء شاسعا ، يولد الشعور بالعزلة برغم الزحام ، ويؤكد الهشاشة برغم الاجساد اللحيمة ، والوجوه المتعبة ، التى تغرق فى همومها مشدودة الى الداخل ومن المؤكد ان الفنان يحرص على ربط علاماته بالمرجع الخارجى ، لكن هذا الانشداد الى الواقع اليومى فى سيولته وتدفقه ، سرعان ما يأخذنا الى واقع يوتوبى ، تستحضره الذاكرة حيث التجاور بين الازمنة ، وطرز الملابس ، وتعبيرات الوجوه المختلفة ، وحيث تداخل الواقع بالخيال وبخاصة فى مركز اللوحة الذى يمثله البرورترية الساخر .
قاهرة صلاح عنانى كما تتضح فى الجدارية ، وفى مجمل أعماله تتحرك بين الكرنفالية والتسجيلية المدرجة فى علاقات من تشويه الاجساد على نحو كاريكاتيرى ، مع التناص مع السينما والسرد الأدبى ، إنها ذاكرة تحاول القبض على حركة الحياة اليومية وتثبيت الزمن مع حنين الى زمن يوتوبى يفلت من بين أيدينا .
فاطمة على
اخر ساعة : 14-7-1993
عودة الروح صلاح عنانى : اذ لم اندهش بالعمل فلن أكمله
إذا كان اسم نجيب محفوظ قد اقترن بالحارة المصرية فى الأدب ، فإن الحارة والحياء الشعبية أيضا ارتبطب باسم الفنان صلاح عنانى فى الفن التشكيلى ، حيث أجاد التعبير عن عالم الشعبيين المدهش ببراعة . وأعمال عنانى هى عوالم ثرية وحقيقة تكاد تخطفك فى تفاصيلها بينما تقف أمام العمل لتستمع إلى أصوات وتلمس تفاصيل وتشم روائح المقهى والمولد والحضرة والحارة .
ولا عجب فى ذلك فصلاح عنانى يقول إنه شاهد تلك الحياة بنفسه نظرا لوجود بيت جدته بالسيدة نفيسة وهو يؤكد دائما أن أعظم ناس فى مصر هم الشعبيون بما لديهم من ثروات دفينة وكنوز ولكنهم لا يفتحون أبوابها إلا لمن هو منهم قائلا : وأنا منهم ..
ولوحات صلاح عنانى عالم مفتوح لا يغلق أبوابه ، فالفنان يجيد الدخول إلى اللوحة والخروج منها كواقعة ، حيث يضيف إليها شخصيات وحكايات ، ويعيد اكتشاف ذاته مع كل لمسة ، متفوقا على ذاته مع كل لوحة وكل مرحلة فنية .
ولذا اختار عنانى اسم ` عودة الروح ` عنوانا لمعرضه الأخير الذى استضافه مؤخرا جاليرى المسار بالزمالك ، هذا الاسم الذى يحمل أكثر من دلالة ، حيث يعود به الفنان للمشهد التشكيلى بعد غيابه ستة عشر عاماً لم يقم خلالها بأى عرض لأعماله ، ليقدم 37 عملاً من التصوير الزيتى إضافة إلى الأعمال النحتية التى فاجأ بها جمهوره مؤكدا أن معينه لا ينضب .
ولكنها ليست عودة تتجاوز مجرد فاصل زمنى يعود من خلالها فنان متحقق بقامة صلاح عنانى لجمهورة بمعرض استعادى ، وإنما عودة قوية للغاية كسر فيها عنانى اطره وتمرد على القوالب المعروفة فى فن التشكيلى ، مقدما رؤية جديدة فى معالجة شخوص أعماله مستخدما الحد الأقصى للتعبير ، وهو ما وصفته الناقدة فاطمة على قائلة : تجربة جديرة بالاعتبار لفرادتها وخروجها من مرحلة عضوية سابقة فى بلاغة جسدية إلى ميكنة تركيبة كرؤية جديدة فى معالجة الجسد الانسانى تكشف عن اسقاط غامض لتحولات أصابت الحارة المصرية فى سنواتها الأخيرة .
ولكنها ليست الأشخاص فحسب ، بل تبدو تفاصيل اللوحة وكأنها تتحرك بديناميكية مختلفة ، ليبدو الكرسى والمنضدة ككائنات حية لذا كان عنوان ` عودة الروح ` أو البعث لأن عنانى كما يقول : أبعث كيانى من جديد ` مضيفا : أن ما قمت به من ابتكار طريقة فى التعبير والرسم . وملامح وتشريح والصياغة الخاصة بأبطال أعمالى ، وكلها من الواقع المصرى ، أدت إلى مبالغات فى التكوين والألوان بهدف الوصول لأقصى حد ممكن مما اسميه الحد الأقصى فى التعبير ، أننى أعتقد أن الفنان التعبيرى ليس له إلا هدف واحد ، وهو مغامرة استنفاد حدود ما لديه من طاقات وقدرات وأساليب تعبيرية ومغامرة يخوضها مع الملتقى الذى أضعه معى فى نفس التصور، تاركا مسافة مشتركة بيننا لتربط رؤيتينا ببعضهما البعض ، لان التعبير فى جوهرة ما هو إلا رغبة إنسانية فطرية يسعى بها الإنسان من أجل الاتصال بأخيه الانسان كبداية لتحقيق ما هو أسمى ، وهو التواصل الإبداعى ..
إن صلاح عنانى لا يرتكن أبدا إلى ما حققه من انتاج ، ولا إلى شهرته وبصمته المميزة ، بل هو نموذج المبدع الحقيقى الذى يمسه الابداع فيفتح أمامه أبواب عوالم سحرية ، تدهشه هو ذاته حيث يقول : إذا لم أندهش أنا شخصيا من العمل فلن استكمله ، ويؤكد عنانى : إن هديتى من هذا المعرض هو ذلك المس السحرى الذى أصاب أصابعى ، التى تخرج من خلالها طاقة إبداعية تجعلنى أعمل لساعات طويلة بين النحت والتصوير .
ومع ما يمتلك روح محلقة وشخصية صلبة ، اختار عنانى خامات عنيدة ــ مثل البرونز ــ لينحت عليها نحتا مباشرا وهو ما يتطلب مجهودا عضليا كبيرا ، دفع به لإعادة نحت عضلاته هو شخصيا بممارسة التدريبات فى الجيم مقاوما مرور الزمن على جسده كما هو مقاوما التكرار فى روحه .
ولا يمكن المرور بمعرض عنانى التوقف عند لوحة الثورة التى تسجل قصة الثمانية عشر يوما التى سبقت التنحى فى لوحة واحدة كان عنانى يعود يوميا من الميدان ليرسم قبل أن يواصل نضاله فى الميدان مرة أخرى من على منصة الشعب تلك اللوحة التى أفرغت شحنته الداخلية على الورق ، قبل أن تحدث ثورة أخرى فى أعماله .. ويبدو أبطال اللوحة مفتوحى الأعين على عكس أبطال كثير من اللوحات الآخرى فى إشارة وجدانية خرجت من لاوعى الفنان عن فعل الأبصار والمقاومة .
وحين سألت عنانى عن اختيارة لاسم ` عودة الروح ، أو ` البعث ` أجاب قائلا ` : هى فكرة ابتدعها المصريون القدماء ثم باتت عقيدة أعتنقها الجميع ، فصنعت لوجودهم معنى ومبرر ولم يقتصر الأمر على علاقة الجسد بالروح وخروج الروح منه والعودة إليه بل فى تقديرى إن الدلالة المعنوية لذلك أهم بكثير ، حيث يتعلق الأمر بطبيعة الحياة .. ولذلك أبدع الفنانون المصريون القدماء فن الرسم والنحت الملونين ، وكانوا كلما بهتت الألوان والاشكال أعادوا رسمها ونحتها وتلوينها مرة أخرى لتعود إليها الروح من جديد . واضاف عنانى إن هذا الاسم يرتبط أيضا بحياتنا اليوم حيث أرى أننا نحن الآن فى حالة من الارتباك والتشويش كما لم يحدث لنا بتاريخنا أجمع .. ولذا نحن فى حاجة إلى عودة الروح ` أى بعث معنى جديد ` نعيد به صياغة أنفسنا وصياغة وجودنا المهدد ، ولكن بشكل جديد لم نعرفه من قبل على الاطلاق .
وقد ولد صلاح عنانى بالقاهرة 1955 ، وتخرج فى كلية التربية الفنية عام 1977 ، وعمل لمدة عشر سنوات رساما صحفيا فى مؤسسة روزاليوزسف ومجلة صباح الخير ، كما عمل مديراً لقصر الغورى للتراث لمدة ثمانية أعوام ، ويعمل حاليا أستاذاً للفن بقسم التصوير بكلية التربية الفنية بالقاهرة .
منى عبد الكريم
الأدب : 5-6-2016
كائنات السعى والغبار
يتجاوز عمل صلاح عنانى (( القاهرة ليل ــ نهار )) مفهوم اللوحة إلى مفهوم الجدارية وعلى عكس ما نتوقع لن تذكرنا بجداريات الفراعنة ، بقدر ما ستاخذنا الى الجداريات الحديثة ساشير ــ هنا ــ إلى صلتها بجداريات الحج .
فى حيز كبير ، على جدران مدخل البيت يقوم الفنان الشعبى بتصوير رحلة الحج الى مكة ، والعودة منها ، مستخدما عناصر محددة : السفينة التى تمخر العباب ، أو الطائرة المحلقة ، يخرج منها خيط من الدخان ، حيث المشهد ــ كما فى كل جدارية ــ يسرد تاريخا ، ويؤكد انتماء البيت وصاحبة إلى الثقافة .
من البدء ، تبنى صلاح عنانى فى مشروعة الفنى آلية السرد ، وهنا يواصل تبنيها مرة أخرى ، لا لان اللوحة تسرد حكاية فقط ، حيث نرى فعل الزمن فى الوجوه والأجساد ، ولكن لأنها ــ أيضا ــ تفلت من الغنائية ، وتأخذنا الى فضاء أخر ، يتداخل فيه البواقعى والفنتازى ، المقدس والمدنس ، سيولة الحياة والرغبة فى تثبيت بهائها ، الذى يفلت من أيدينا ، ويتلاشى فى الزمن .
البهجة التى نجدها فى جداريات الحج تنتقل إلى هنا ، بهجة ناتجة عن (1) صراحة الألوان ودفئها وكثافتها و(2) عن رفض الخضوع للتناسق فى النسب التشريحية الواضح فى الولع باللحم البشرى ، لاعبر حدة الخطوط وعصبيتها أو نعومتها ، بل من خلال إغراق العين فى الكتل الثقيلة الراسخة المعادية للتسايل المائى ، ومن خلال التشوية واللعب على المفارقة . نحن مع ولع بالجسد المضحك المكون من نتوءات ونواشز ، الذى ــ كما يقول باختين ــ لا ينغلق ولا ينجز ، ولا يصبح جاهزا ، إنما يتجاوز ذاته ، ويتخطى حدوده . ليس تشويه النسب هنا ناتجا عن علاقة الجسد البشرى بالالة كأجساد العمال ، ولكنه نتاج ثقافة : نظام غذائى وبيلوجى وثقافى ، أجساد مضخمة ، تجردها الألوان من الرفاهية ، فهى ليس أجساد تالشبع ، بل نتاج الجوع ، أما الوجوه فتشهر فى عيوننا اللا مبالاة وتنغلق على مافى داخلها ، مع هذا ليس فى الجدارية أى شبهة لغناء نبل الهامشيين ولا بكاء مآسيهم الاحرى أننا مع شخوص مندرجة فى سيولة الحياة ، راضية بتقسم المواهب والأدوار ، ماضية فى اتجاه مصائرها .
تخلق جدارية القاهرة فضاء ممتدا متقطعا فى آن فضاء الحياة اليومية التى تنهض على التتابع المشهدى ، كما فى صندوق الدنيا المشاهد منفصلة ، لكن ثمة نهر غير مرئى ، يوحد مياهها ، ليس فقط لان كل جسد يسرد حكاية ، ولكن أيضا لأن قانون السعى والغبار وسيولة الحياة تربط بينها . وهى متقطعة لأن كل جسد فى علاقته بالاشياء : الجدران ، الموتوسيكل ، السيارة الأشجار .. الخ ، يخلق عزلته عزلة يؤكدها الداخل المغلق على هزائمة ورغباته وأو هامه ، حيث لا وجه يواجه الوجه ، ولا عيون تحدق فى عينى الآخر ، أجساد لا مرايا خارجية لها ، مراياها فى الداخل ، وتخص كل جسد على حدة ومن ثم برغم الزحام ، هناك انشداد الى الداخل ، وعجز عن المواجهة يؤكد العزلة .
الجدارية تتكون من انحناءات متعامدة أعنى من سطوح امتحنت الفنان فى الرسم على الزوايا القائمة ، فتذكر بالنمط المعمارى للمدينة الاسلامية التى يعمد بناؤوها الى تكثير الانحناءات والانعطافات لأسباب بيئية لكنها ، أيضا تذكر بكارت بوستال عملاق يتكون من طيات ، كل طية تكمل سابقتها وتبننى عليها .
نبدأ بالصباح حيث المشهد التقليدى المصرى : بائع الفول وعربته ، وزبائنه وسنلحظ على الفور أن البائع ليس فى مشهد بيع ، بل تواجهنا عيناه اللتان تحدقان فى الفراغ ، فيما اليد فى الجيب حيث النقود والزبائن منهمكين فى الطعام ، وجه البائع ليس وجه مدينى عتيق ، بل تشى ملامحة بريفيته ، فيما الزبائن ليسوا كذلك : وجوههم مدينية خارجة من البيوت ذات المداخل الرطبة لكن التوقف أمام السطح الاول يخلق التباسا ، حيث سنجد رجلا ، يواجهنا بجسد ضخم ، ولكى براه كعنصر فى المشهد ، لاسبيل سوى الحركة مع الزاوية القائمة ، لنعرف أنه البائع .
يلى هذا المشهد ، موتوسيكل عائلى يقوده . رب العائلة ، فيما الزوجة تحتضن الطفل الموتوسيكل كالة يتضاءل مع حضور الجسد الانسانى للرجل والمرأة والطفل أجساد لحيمة لا يمكن أن تكون لعائلة مقدسة ومع ذلك تعبر الفراغ ، مثقلة بهشاشة مسلم بها بدءا ، وتتناغم مع المرأة التى تضع على عينيها منظارا ، وتغطى شعرها وكتفيها . جسد المرأة المختبىء خلف الثياب ، يؤكد سمة الجسد ، الذى تتساند أعضاؤه ولا يواجهنا إنه هناك فقط ، يبدو هكذا من زمن ما وهو يقطع الطريق .
حين تتحرك عيوننا مع الزاوية القائمة يكتمل المشهد : السيدة ربة البيت أو الموظفة الصغيرة ، وبجوارها ركن صغير به معروضات رثة من الثياب والاحذية والحقائب . فنرى رجلا شابا ، واقفا ، مستندا على جدار فى حالة انتظار يمكن ان نقرأ فى الرجل بائعا . لكن يمكن أيضا أن نرى فيه شابا يقف على الناصية ليصطاد العابرات يؤكد ذلك ملامح الوجه الشاب والجسد الفتى ، والملابس الضيقة التى تصف الجسد ، والحذاء الثقيل الضخم ثم ينغلق المركز لنرى قوسا كبيرا يذكر بالمحراب ، ويمثل مركز الجدارية . فى المحراب نرى المدينة ، ببناياتها وسمواتها ، ونشعر أننا انتقلنا من مشاهد الحياة اليومية الى مشهد مغاير فعناصر المشهد تفقد النفحة التى تكاد تكون تسجيلية ، لان عين الطائر تلم بالعناصر جميعا ، لكنها تجعلها اقرب الى ديكور مسرحى ، أما الشخص فهو يتوزع بين أن يكون عنصرا عضويا فى المشهد ، ومنفصلا عنه فى آن . لقد تم استدخاله فى المشهد دون دمج ، أما الجسد فهو أكبر من العناصر الآخرى ، ويبدو كمن يجلس على أطلال ، تكوينه الجسدى مختلف تماما عن الاجساد الأخرى فى اللوحة . ثمة نحول وارهاق واضح فى العينين والاطراف ، ونظارة طبية توحى بالنحول : فنكتشف اننا أمام بورترية للفنان حيث تنضح السخرية من الجسد ، قدم فى النهر الهادىء المنساب ، كأنها تسقط من على ، لتجرح سكون الماء ، أو تحاول ان تتجذر فيه ، وبين الساقين مئذنه تكاد تلامس عضو الذكورة ، فإذا صعدنا البصر ، رأينا جيب سترة الفنان يتحول الى شرفة ، يقف فيها عاشقان غير متواجهين : وجه جانبى ووجه يحدق فى الافق . إنها العزلة التى لمسناها فى مشاهد السرد النهارى فى القسم الأول من اللوحة .
بورترية الفنان عن سخرية واضحة ، لاتتبدى فقط فى التشويه الجسدى وابتعاد اللون عن النعومة ، بل يؤكدها حصره بين الرجل الصائد فتى الجسد الذى ينتهى به النهار ، وبين العاهرة التقليدية المستندة الى عمود النور الشهير ، ليبرز وجهها ، متعبا مثقلا بالزواق الفاقع ، وبين شفتيها سيجارة تنفث .
بمشد العارة يبدأ الليل ، فيما بدأ النهار بالطعام ، فنحن مع كائنات مثقلة بمطالب العيش ، والسعى والغبار وبعدها نرى سيارة مكشوفة توازن مشهد الموتوسيكل ، صاحبها بالطبع يختلف عن سائق الموتوسيكل فى الملامح ، وقصة الشعر والملابس ويستدعى على الفور ملامح وجه الممثل عماد حمدى يتلو هذا مشهد الرجل الاعمىوواضح من ملابس (( الفقى )) التقليدية ، والعمى الذى تدل علية النظارة ، والغلام الذى يقوده ، أن عنانى يرسم الشاعر الضرير فى (( زقاق المدق )) أو بطل (( بيت من لحم )) ليوسف إدريس وهو يخرج من المسجد ، فيما تخفت الاضاءة فى العمق لنرى المصلين منكفئين فى السجود ، لتنتهى الجدارية ، بمشاهد يخفت فيها اللون ، لرجل يقرأ جريدة ، ومتسولة ، ورجل سائر فى الطريق ثم امرأة تستخدم الهاتف .
هكذا تلوح المدينة فضاء شاسعا ، يولد الشعور بالعزلة برغم الزحام ، ويؤكد الهشاشة برغم الاجساد اللحيمة ، والوجوه المتعبة ، التى تغرق فى همومها مشدودة الى الداخل ومن المؤكد ان الفنان يحرص على ربط علاماته بالمرجع الخارجى ، لكن هذا الانشداد الى الواقع اليومى فى سيولته وتدفقه ، سرعان ما يأخذنا الى واقع يوتوبى ، تستحضره الذاكرة حيث التجاور بين الازمنة ، وطرز الملابس ، وتعبيرات الوجوه المختلفة ، وحيث تداخل الواقع بالخيال وبخاصة فى مركز اللوحة الذى يمثله البرورترية الساخر .
قاهرة صلاح عنانى كما تتضح فى الجدارية ، وفى مجمل أعماله تتحرك بين الكرنفالية والتسجيلية المدرجة فى علاقات من تشويه الاجساد على نحو كاريكاتيرى ، مع التناص مع السينما والسرد الأدبى ، إنها ذاكرة تحاول القبض على حركة الحياة اليومية وتثبيت الزمن مع حنين الى زمن يوتوبى يفلت من بين أيدينا .
محمد بدوى
أخبار الأدب : 16-1-1999
الفنان صلاح عنانى ( 1955 ) .. مشخصاتى المهمشين
- الفنان صلاح عنانى ظاهرة متفردة لها مسارها الخاص وسط الحركة التشكيلية المصرية الحديثة ومن خلال هذا التفرد يؤثر بقوة فى مشاهدى أعماله .. حيث يصعب الوقوف أمامها موقف الحياد ..
- موضوعات لوحاته تنبع من قاع الطبقات الشعبية، أبطاله من الهامشيين والمنبوذين والمستلبين ، وهم يتذبذبون صعودا أو هبوطا على درجات السلم الاجتماعى، لايبحث الفنان من خلالهم عن مظاهر البؤس أو الصراع، بل يبحث عن لحظات تجاوزهم لهذه المظاهر، وانغماسهم فى شتى أنواع المتعة.. التى قد تبدأ من متع الرقص واللهو، وتنتهى بالمتع الروحية مثل الموسيقى والطرب والحب البرىء .. وقد تقتصر المتعة لبعض النسوة فى الحارة على الجلوس على سلالم ومداخل البيوت وتبادل الثرثرة والنميمة.
- وكثيرا ما يجمع بين كل تلك الأنواع من المتعة فى اللوحة الواحدة، فكلها بالنسبة له تحمل نفس القدر من الاحترام، باعتبارها حاجات إنسانية مشروعة، ومنافذ ضرورية للتفريج عن النوازع البشرية، أو مهربا من الضغوط الاجتماعية، أو من المأساة الانسانية التى لاخلاص منها، بخلق عالم وهمى من البهجة والتحرر، وإطلاق الطاقة الكامنة داخل الإنسان بعفوية وتلقائية لا يقدم عليها غير الإنسان الشعبى، أو الإنسان عامة عندما ينجح فى التحرر من الكوابح الاجتماعية داخله أو خارجه .
- فى تعبير الفنان صلاح عنانى عن هذه النزعات الانسانية البسيطة والمشروعة، يبدو أقرب إلى المشخصاتى الشعبى الساخر وهو يمسرح أنماط الحياة اليومية من المهمشين بأسلوب ماجن باللهجة العامية المصرية، يفهمها رجل الشارع كما يفهمها سكان الفيلات والأبراج، ليس فقط لاتصالها بالحياة اليومية والرؤى الشعبية، أو لتعبيرها عن الحس الاحتفالى بالحياة وقطف ملذاتها، بل الأهم من ذلك : لمذاقها المصرى الحريف، المشبع بروح المرح والسخرية، وبالمبالغات التهكمية، التى يتميز بها الوعى الفطرى لابن البلد ...
- وكما تتصف الحياة فى المجتمعات الشعبية بالمشاركة والروح الجماعة، حيث يتقاسم الجميع السراء والضراء .. وحيث تشتعل العواطف سريعا .. وتخبو سريعا .. كذلك تحفل لوحات صلاح عنانى بهذه الروح .. هناك دائما جموع أو ثنائيات من البشر .. حوار أو ضجيج .. موسيقى أو صخب .. حب أو ثرثرة .. تتلاحم الوجوه والأجسام .. وترتفع درجة الحرارة .. ونعيش حالة من الاحتفال الموصول بتراث من العادات والتقاليد والطقوس .. مثل الموالد وحفلات الزار ..
- ويتميز الأسلوب الفنى بنفس الحيوية .. حيث ينتقل الصخب إلى مبالغات فى نسب الأجسام حتى تقارب فن الكاريكاتير، وإلى ملامح الوجوه فتبدو مفتوحة العيون متقدة النظرات مليئة بالنهم إلى متع الحياة، أو بالدهشة الطفولية، أو بالترقب الملىء بالإثارة وتمتلىء اللوحات بزحام البشر والدراجات والسيارات المتهالكة وزحام الأحبة على الكورنيش، ... كما تنتقل هذه الحيوية الأسلوبية إلى لمسات الفرشاة الماجنة على سطح القماش، حتى تصبح هديراً لا يعرف السكون أو السكينة .. إنها ضربات فرشاة خشنة متلوية تصنع هرجاً ومرجاً وترتراً، وخطوطاً لولبية تشكل التجاعيد والزحام، وألوان قوية متوهجة تجعل من سطح اللوحة ساحة سيرك شعبى !
- وإذا كان ` عنانى ` يتميز بهذا الأسلوب فى الساحة التشكيلية، فإنه يواصل به تجارب بعض رواد المدرسة السريالية المصرية، خاصة الفنانين الراحلين عبد الهادى الجزار، وسمير رافع، وحامد ندا .. وكان أستاذهم جميعا فى ذلك هو الفنان الرائد راغب عياد مع احتفاظ كل منهم بمذاقه ومقامه الخاص .. لكن بقدر ما أوغلوا فى العالم الباطنى للشخصية المصرية، واستخرجوا المخزون الجمعى لدى الشعب من السحر والخرافة والغرائز المكبوتة، فإن صلاح عنانى يؤثر عالم الاستعراض المهرجانى والنبرة العالية الجهيرة، فى التعبير عن حاجات إنسانية بسيطة .. إلى المتعة .. واللعب .. والحرية .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث