`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
رمسيس يونان
لأول مرة معرض لرمسيس يونان بمتحف الفن المصرى الحديث
- بقاعة `أبعاد` بمتحف الفن المصرى الحديث بأرض الجزيرة بالأوبرا، أقيم معرض الفنان الراحل رمسيس يونان (1913-1966 ) والذى يتضمن أعمالا فنية نادرة تعرض لأول مرة بخامة الجواش .
- ويعتبر رمسيس يونان من رواد التجديد فى الفن المصرى وداعية التحرر فى الفكر والفن، وقد فتح أبواب الاجتهاد بالرمز، وهو مؤسس السيريالية فى مصر، ومن بعد ذلك التجريد، وله جهود فى نقل الثقافة الغربية المعاصرة إلى العربية بالترجمة والرسم، كانت حياته سلسلة من الاحتجاج فى مواجهة المنعقدات الجامدة، وهو من مقدمى ثقافة الغرب الطليعة حيث ترجم (كاليجولا) لألبير كامى، (الجحيم) لرامبو، وقدم الكثير كمحلل وناقد للفن وداع للفن الأوروبى الحديث، وأصدر عنه د. صبحى الشارونى كتابا بعنوان `المثقف المتمرد رمسيس يونان` فى سلسلة دراسات فى نقد الفنون الجميلة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب .
- لقد أوقد رمسيس يونان الشمعة الأولى فى مسيرة التنوير، وكان أيضا بحكم طبيعته المتمردة على السكون الرافضة للخضوع لمنظومات القداسة الفكرية والموهومة أحد مؤسسى جماعة الفن والحرية التى لعبت دورا رائدا فى فتح آفاق الفكر التشكيلى على عوامل ورؤى جديدة، وأوقدت جذوة الجدل والحوار وأحالت صمت الأكاديمية الرهيب إلى دوى صاروخ بحرية الفنان وفرديته، وأيضا مسئوليته الثقافية تجاه وطنه وعصره فكان له الفضل الاكبر فى تفجير الطاقات الإبداعية فى اتجاهات شتى وظهور جيل تخطى بالعطاء التشكيلى التعلق بأذيال القرن التاسع عشر وتأثيراته الباهته إلى قلب القرن العشرين بتياراته المتدفقة بالحيوية الغنية بالتنوع. ومن بيت اثرى فى `درب اللبانة ` بالقاهرة القديمة والعام 1938 م خرجت دعوة ` جماعة الفن والحرية ` يقودها ` رمسيس يونان ` وكامل التلمسانى وجورج حنين والاخوان انور وفؤاد حسن كامل ، وصيحة ثورية فى الفكر والفن ، دقـات طبـول `النازية الألمانية والفاشية الايطالية ` تكاد تصم الاذان، ولكن ` الجماعة `تعلن ` الحرب ضد الحرب ` وتقف إلى جانب `الديمقراطية ` كان المد الماركسي يتصاعد ولكن ` رمسيس يونان ` ورفاقه اعلنوا ضرورة اسقاط هيبة ` جوزيف ستالين ` وموالاة ` تروتسكى ` الذى طرده ستالين من الاتحاد السوفيتى ثم ارسل وراءه من يغتاله ان رمسيس يونان 1913- 1966 هو أحد العلامات الثقافية البارزة فى مصر ، فهو قد قاد حركة تمرد على كل ما هو تقليدى هذا ما يؤكده الناقد صبحى الشارونى فى كتابه المثقف المتمرد رمسيس يونان الذى صدر اخيرا ، والذى يؤكد ان يونان قد عبرت حياته الابداعية من خلال مراحل اعتنق فى كل منها مذهبا من مذاهب الفن التشكيلى خلال القرن العشرين ، ففى بداية نشاطه الفنى والفكرى من عام 1938 حتى 1946 كان يبنى السريالية .. وقد كانت رحلة من التمرد منذ البداية ، وإن كانت قد تبلورت فى كتابه غاية الرسام العصرى ، ويدعونه إلى التمرد على الرواد أملا فى فتح أبواب التجديد على مصراعيها ، وهو أول كتاب عربى يتعرض للاتجاهات التى ظهرت فى الفن الغربى بعد المذهب التأثيرى وهى التكعيبة والوحشية والتعبيرية ، فالسريالية التى تحمى لها الفنان واختار من بين الاتجاهات السريالية التى تعمل على التعبير عن خيالات العقل الباطن ونزواته .
- وقد وصل التمرد إلى حد توقيع بيان من 37 فنانا منهم جورج حنين وكامل التلمسانى وفؤاد كامل بعنوان ` يحيا الفن المنحط ` ردا على الحركة التى اتخذت لها شعارا هو ` تعاون الفن المنحط ` وكان البيان الذى يدعو له رمسيس يونان يمثل دعوة التجمع لإقامة جماعة الفن والحرية وكانت أعمال رمسيس يونان الفنية فى تلك الفترة تعبر عن فكر فرويد ودور الحبس فى العقل الباطن ويتابع الكتاب رحلة الفنان من خلال نشاطه السياسى والثقافى والفنى واستعرض ملامح بعض المقالات التى نشرها ، وينتهى الكتاب بفصل عن رمسيس يونان كناقد ومترجم للأفكار والمذاهب الفنية فى الغرب ، وكان دوره فى الترجمة والنقد هو اكثر جوانب نشاطه تأثيرا وفعالية فى مجتمعه ، ويكفى ما قاله عنه الفنان محمود سعيد أنه الناقد التشكيلى الوحيد الذى يعرف مادته .
- وقد اتصلت مجهوداته فى النقد والترجمة فى اتجاه تبرير ودعم اتجاهه الفنى وتقديم الفنانين الاوروبيين المجددين وعرض احدث الآراء النقدية والنظريات الفكرية .
بقلم : نجوى العشرى - حنان النادى
الأهرام - 2009

ـ إذا كانت الحركة الفنية فى مصر الحديثة قد ولدت على يد جيل من الرواد الأوائل فإنها قد بلغت رشدها واستكملت مقومات نضجها الثقافى على يد جيل ثان إستشعر مسئولية أن يضع هذه الحركة الفنية الوليدة فى مكانها من المنظومة الحضارية المصرية متوخياً كل أبعاد ذلك الوضع التراثية والاجتماعية وأيضاً بعدها الإنسانى الذى لا يفصلها عن تجارب العالم المعاصر من حولها ، ويعد رمسيس يونان فى طليعة هذا الجيل من رواد الحركة الثقافية التشكيلية التى بدأتها جماعة ( الدعاية الفنية ) بزعامة رائد التربية الفنية ` حبيب جورجى ` والباحث وراء فلسفة الجماعة ومجال نشاطها يدرك أن المقصود بالدعاية الفنية حقيقة . هى الثقافة الفنية ونشر الفن ملاحقاً للتطور الثقافى وكان رمسيس يونان واضع أول كتاب فى هذه المسيرة الثقافية وهو كتاب ( غاية الرسام العصرى ) سنة 1938 وكأنه أوقد الشمعة الأولى فى مسيرة التنوير وكان أيضاً بحكم طبيعته المتمردة على السكون الرافضة للخضوع لمنظومات القداسة الفكرية والموهومة أحد مؤسسى جماعة الفن والحرية التى لعبت دوراً رائداً فى فتح آفاق الفكر التشكيلى على عوالم ورؤى جديدة وأوقدت جذوة الجدل والحوار وأحالت صمت الأكاديمية الرهيب إلى دوى صارخ بحرية الفنان وفرديته وأيضاً مسئوليتة الثقافية تجاه وطنه وعصره فكان له الفضل الأكبر فى تفجير الطاقات الإبداعية فى إتجاهات شتى وظهور جيل تخطى بالعطاء التشكيلى التعلق بأذيال القرن التاسع عشر وتأثيراته الباهتة إلى قلب القرن العشرين بتياراته المتدفقة بالحيوية الغنية بالتنوع ، وكما كان رمسيس يونان فارس الفكر والثقافة فى لحظات التحول التاريخى الحاسمة كان أيضاً فارس الطليعة فى كشف عوالم الإبداع التشكيلى بجسارة الإقدام الفدائى الذى تقبل أن يصد بصدره وريشته تيارات الجمود وسهام التخلف التى تصيب التقدميين عادة فتحمل عذاب السجن وعذاب المقاطعة والرفض وعذاب الغربة وفراق الوطن فقد سجنه صدقى باشا رئيس وزراء مصر عام 1946 بتهمة قلب نظام الحكم وخرج من السجن مرفوضاً من الأصحاب الذين ضاقوا بتمرده على تبعيتهم العمياء لقوالب الفكر وحتى فى المهجر ومعاناته القاتلة انتهى بالرفض والطرد من فرنسا لوقوفه مع حرية بلاده وعندما عاد إلى الوطن خالى الوفاض بلا مال ولا عمل إلا فنه
ولملمت شتات روحه المتمزقة منحة التفرغ التى منحتها له الدولة ولاقى أيضاً فيها عذاب الرفض حيث لم يستوعب بعض أعضاء اللجنة تقدميته الفنية وعاش بقية أيام حياته مهدداً برفض تفرغة
فارس مغوار ولد منذ ثمانين عاماً ورحل منذ سبعة وعشرين عاماً
ولكنى أراه لازال ممتطياً صهوة جواده يتوسط الساحة شاهراً ريشته وقلمه صارخاً فى البرية التشكيلية . بفنى وفكرى أنا هنا فهل من منازل … مازلت يا فارس الثقافة والفن موجوداً بيننا وسنظل دائماً نستلهم العزيمة والجرأة من فكرك وفنك .
على نبيل وهبه

رمسيس يونان ..نبوءة الزوال
- رمسيس يونان ذلك الفيلسوف المعلم، ذلك التشكيلي البناء، كان يرى الفن ودوره البارز في المجتمع ويرى الفنان وواجبه في مسيرته كمثل النبي المرسل لكنه لا يوحى إليه بل هو الموحي، هو المعلم، هو القائد، هو الثائر الذي جاء مع أولئك الثوار الذين يناضلون ويعزفون الحياة من جديد، يحيون جمالها المعشوق ويصلحون الكون، لإيمانهم أنهم أنبياء ذلك الزمان المنوط بهم تطهير الكون وكشف جماله العميق، ففي لوحة الأرض الخراب التي نفذها عام 1939 نرى ذلك المدى المقفر الجدب يمتد في لانهائية عدمية.. يطالعنا في اللوحة بناء محكم وتوزيع متدرج لثلاث كتل في الصدارة وكتلة في الخلفية الغائمة،في مقدمة اللوحة كيان أنثوي ممسوخ أبتر كسيح في مهب الرياح التي نراها في حركة شعرها الضعيف، واتجاه الضوء على عظام قفصها الصدري البارزة في نحول، نرى رمسيس يونان يحيلنا لمعنى الأرض الخراب ويجسدها أنثى شائهة ليسقط كل ما يسمها ويصمها به: على معنى الوطن المشلول الواقع تحت ضغط المستعمر ونظام الحكم الفاسد وطبقة الإقطاع، نراه وقد قطع الرأس وأبقى على شعر مريض جاف كالأشواك خلف ظهرها وبتر ذراعيها ؛ فلم يعد لديها القدرة على الفعل أو الفهم أو الرؤية، و لم يصبح لديها عطاء بل مقطوع فيها رجاء الخير والنماء بانقطاع ثدييها المتهدلين في ذبول ، نصفها السفلي متكور ومتكتل في تشوه قضى على أمل الخصوبة أو انتظار الميلاد أو الرضاع بعد أن اجتثت حلمات ثدييها بعنف، وقد ترك أثر البتر وتداعى تكوينها المريض إلى أسفل فيما يشبه الذوبان والانسحاق ، وتلي تلك الكتلة : كتلة وسطى هي كف اليد مبتور الأصابع كأنها انصهرت أو تحللت وهي تصد الرؤية وتواجه فضاء النظر، وخلفها تقع كتلة ثالثة هي رأس مقطوع وملقى في الرمال، لكن رمسيس يونان يتعمد أن يغرس الأعضاء المبتورة المشوهة في الأرض الخراب، تطل علينا بنذير الشؤم والبوار، نرى الرأس وقد طاله ما طال الأجزاء الأخرى من تشوه وانقسام وعوار إلا أنه بدا فاغراً فمه كمن يحاول أن يقول شيئاً أو يطلق صيحة ألم.
- يردد رمسيس يونان إيقاع الكتل ذات الرأس المثلث في كف اليد وكتلة الصخرة المجاورة لها في حجم أقل، ثم بعيداً في خلفية باهتة نرى ترديداً لنفس النغمة في خفوت بليغ يحافظ على البنائية والاتزان المدروس للصورة، حتى وهو يرسم مسوخه مبتورة الأطراف والرؤوس كما كتب جورج حنين عن أعماله.. `يرسم رمسيس يونان أعصاباً متوترة لدرجة الحاجة إلى القطع ..رسمه لا يعرف الراحة و لا التوقف و لا التراخي.. إنه سيريالي مثل تلك البيوت التي صدعها غضب داخلي أو خربها تمرد الأرض . عندما تصل شخصياته إلى درجة التقلص الذي لا يمكن أن يستمر وقتاً أطول ؛ فإنه لا يتردد في بترها ..يحمل إثبات طاقة خلاقة في أوج تدفقها ` .. ومع صرامة ودقة التكوين بين الكتلة والفراغ والبحث في تضاعيف الجسد البشري والدراسة التشريحية المكتملة والتحريف وتفكيك المكونات بوعي مذهل بأصولها البنائية فلا يشغلنه شاغل عن تحقيق فكرته وإطلاق صيحة الاعتراض في وجه الوطن ناعتاً إياه بالأرض الخراب .
- نرى تلك الوسيلة لدى رمسيس يونان لإطلاق صرخات العقل الباطن وتثوير أنماط الأداء التشكيلي التي تتجلى في أسلوبه التهجيني : وذلك عن طريق المزج بين الإنسان وكائنات أخرى كالحيوانات والطيور والزواحف وما شابه ذلك ، أو المسخ : عن طريق تغيير ملامح الإنسان وإكسابها مظاهر البلاهة أو الشر أو الحقارة أو الملمح الشيطاني أو تحول الإنسان ذاته إلى طائر أو حيوان أو سمكة أو حتى ضفدعة . عبر التركيز على المحيط الخارجي أو البيئة التي يوجد فيها الإنسان : والإيحاء بأجواء غريبة شبحية باردة شبيهة بالقبور مع التركيز على عامل عزلة الإنسان وانفصاله عن الواقع كما في أعمال فنانين مثل إنسور وهوبر وما بعد التعبيرية الألمانية .
- وفي لوحة (العشق المفترس ) المنفذة عام 1940والتي يتنبأ رمسيس يونان بزوال ذلك الكيان الملكى المريض الذي يحتوي بذور فنائه وتتفرع منه إليه تلافيف ثعبانية مقبضة تلتوي لتلتهمه وتلتف لتأكله وتقضي عليه وعلى نفسها، ذلك الكائن الأسطوري الذي يضفي عليه شكل الديناصور مع التنين مع إعطائه بروزاً شوكياً عظمياً يزدوج في لحظة وينتج قاتله وينفلت من فتحات صنعها رمسيس يونان بحكمة الرسام الذي يحافظ على بنائية المعزوفة واتزان كتلها بين الكتلة الفاتحة العظمية التنينية وبين الفراغ الأسود العميق الذي يمتص أي إضاءة ويطلق الكتلة الوحشية الساعية نحو الفناء، ويطرحها في مقدمة اللوحة في حلزون سلمي متناغم يتخذ تدرجاته الإيقاعية من توزيع الثقل على جانبي المحور الرأسي للوحة ، أثناء حركة التلوي الثعبانية المنفلتة، والتي تجذب مركز الثقل ذات اليمين وذات اليسار حتى ترتقي بالأبصار مع أسنان تلك الشوكات الحادة، وإيقاع صاعد متنامي إلى أعلى حيث الفكين الشرسين ووجود فم واسع ممتد، وأسنان حادة. وفي لوحته تكوين نرى صندوقاً مقفلاً مظلماً يصطرع فيه كيان عنكبوتي أخطبوطي عظمي، مبني كهيئة كرسي العرش ومجلل في محوره الرأسي بتاج عظمي أيضاً يرتكز على أرض الصندوق أو الغرفة المقبضة كجوف القبر عن طريق كرة عظمية يتمفصل منها أربعة أرجل متوحشة الأطراف، هذا التكوين الهجين له ذراعان تنتهيان بمخالب ومفتوحة بنهم تتأهب لتأكل رأس ذلك الكائن الشائه ذي التاج، يستمسك رمسيس يونان بعروته وبنائه المتماسك ومعماره المتزن كتلياً وضوئياً ويردد تلك الأيقونة التي تومض في آفاق أعماله التشكيلية كالنبوءة الساطعة بنهاية الكيان الملكي الإقطاعي الفاسد المتحلل كالعظام في القبور .
- في تلك اللوحة نرى تلك الأنثى القابعة على أرضية سوداء تستند إلى حائط أفقي خلفها وتنثني رجلاها في حركة مائلة وتختفي ذراعيها وتنضم داخلها كأنها تعاني من البرد، نحيفة بائسة عاجزة تلوي رأسها، فنرى وجهها أفقياً مغمضة العينين وهو سماها `قيلولة` : أي أنها سوف تخرج من ثباتها وتستيقظ بعد قليل، يلقي إلى جوار رأسها شعرها القصير ويمتد كيانها العليل النحيل أفقياً في عجز وثبات ممض ، ليس في استرخاء أو راحة فهي في منطقة البين، بين الحركة والثبات، بين الجلوس و الاستلقاء، بين انثناء الساقين وامتدادهما، هي إذن في حال مؤقتة، سوف تصحو .
- وكلما قرأنا ذلك التكوين وسبحنا معه بامتداده الأفقي نرى رمسيس يونان وهو يعزف إيقاع الحركة النابضة : نقطة نقطة وكأنه يقول لنا أن هذه القابعة تسكنها آلاف النبضات والاعتمالات وأنها سوف تهب في أية لحظة ، يصنع إيقاعه ويعزف بنغمة مثلثة الشكل، ربما نحصي تسعة أو عشرة مثلثات قد تكونت فيما بين ساقيها وجزعها وصدرها وانعقاد ذراعيها ثم شكل وجهها وعظام كتفيها، كل هذه مثلثات متتالية متنوعة المساحات والأوضاع بين معتدل رأسه إلى أعلى، أو مقلوب رأسه إلى أسفل وآخر مائل المحور أو مستعرض كمحور مثلث وجهها الحزين، هذا التتابع والتنوع يملأ اللوحة بأصوات وصخب وإيقاعات نشطة، على الرغم من قيلولتها الصامتة المؤقتة وهو هنا يزاوج الكثافة الدلالية ويضاعفها في ثراء ومفارقة شجية تصنع تفرده وتصدح بفيض من الآفاق والإشارات .
- رمسيس يونان يصنع هنا مزيج فريد مزدوج بل متعدد الهوية بين تكوين التاج وهيئة العرش وتمفصل العظام البشرية أو الحيوانية التي يوظفها بتدقيق وبراعة وجدة، فهو قد درس العظام واتصالاتها وعلاقاتها التشريحية حتى تحولت إلى مفردات وأدوات يخلق بها تلك الكائنات الهجينة المحملة بالدلالات والعلامات الكثيفة، هو يصنع هنا بؤرة لإشعاع المعنى التشكيلي والاجتماعي، ويبدع نصاً كونياً يبث العديد من الاحتمالات والممكنات في أعماق التأويل في تلك الوحوش والمسوخ التي خلع عليها هيئة العظام النخرة إيذان باقتراب موعد الضوء وبزوغ الوعي بعد تفجير الواقع المشوه الملوث وتفتيته وإعادة ترتيب ذراته المبعثرة.
- ونحن نتابع ذلك المخلوق الجديد يصارع كل قوى العماء والظلام والموات نسمع رمسيس يونان وهو يحث الشباب ليستفيق ويضطلع بدوره ويقول :`وعلى شبابنا المثقف أن يغذي قلبه وعقله بهذه التيارات الجديدة وعليه أن يمزق هذه النسائج الحريرية التي ما زالت تكسو أقلامه وعليه أن يخرج بأدبه إلى الشوارع والميادين العامة ولا بأس عليه إن هبط بمعاوله إلى الأزقة والأكواخ والمتهدم من الأحياء والمنازل ومع ذلك فرمسيس يونان حريص أساسا على الإبداع لذلك فهو يحذر الشباب المثقف في نفس الوقت :` لكن عليه إذ يفعل ذلك أن يشحذ ذهنه كما يشحذ قلبه، فالغباوة والانقياد الأعمى والتحمس الأهوج - في هذا العالم العاصف بأدق الأزمات - كل هذا يجب أن يعد من أشنع الجرائم`، وكما رأينا هو يكتب ويرسم ويتخذ مواقفه ويتبوأ مكانته ودوره في المجتمع كثائر ومبدع ومعلم بنفس الوعي الساطع والرؤيا القاطعة فلوحته تكوين ذات الكائن العصفوري الهجين تكاد تكون مطابقة في القيمة الدلالية والتصويرية لتلك المقولة التي وردت بمقال له بمجلة المجلة الجديدة . حيث يؤطر رمسيس يونان ذلك المخلوق بمجسم قماشي كالذي كتب عنه في المقال ، وهو محكم الغلق حوله ولكنه مفتوح في آن ، تعتمل فيه طاقات الحركة اللمقاومة للقيد والموات وتزلزل أركان اللوحة وتصدع مسارب الوجود، ليجد ذلك المولود تواً فرصته للنجاة والميلاد والتحقق. ضغط وبروز وطاقة حركية هائلة تطأ مواقع النبض في أركان اللوحة فتعيد أبصارنا لتدورمعها حول الكتلة الغاضبة المتفتحة ، ومع انتقال البروز تحت تأثير ضغط المنقار المفتوح لفم الطائر والأطراف الثلاثة التي خلعها عليه يونان وذلك الرأس المدبب الذي لا يفتأ يستمر في عمليات الوخز والخروج ليقطع رحم الكفن ويفجر ماء الولادة والطهر الجديد، لا تحتوي اللوحة على عناصر لونية متدرجة بل هو الأبيض والظلال ولكنها كون كثيف الحركة والمحاولات الدائبة الدوارة، وها هو يتنبأ ثانية بأن الخلاص سوف يخرج من بطن الأرض شاباً عفياً مغرداً صائحاً صيحة الحرية والخلق الطاهر .
د.هبة الهوارى

رمسيس يونان .. وميلاد الثورة
** رمسيس يونان ذلك الفيلسوف المعلم، ذلك التشكيل البناء ، كان يرى الفن ودوره البارز فى المجتمع ويرى الفنان وواجبه فى مسيرته كمن يرى النبى المرسل لكنه لا يوحى إليه بل هو الموحى، هو المعلم، هو القائد، هو الثائر الذى جاء مع أولئك الثوار الذين يناضلون ويعزفون الحياة من جديد.
- يحيون جمالها المعشوق ويصلحون الكون، لإيمانهم أنهم أنبياء ذلك الزمان المنوط بهم تطهير الكون وكشف جماله العميق، ففى لوحة الأرض الخراب التى نفذها عام 1939 نرى ذلك المدى المقفر الجدب يمتد فى لا نهائية عدمية يطالعنا فى اللوحة بناء محكم وتوزيع متدرج لثلاث كتل فى الصدارة وكتلة فى الخلفية الغائمة،فى مقدمة اللوحة كيان أنثوى ممسوخ أبتر كسيح فى مهب الرياح، تلك التى نراها فى حركة شعرها الضعيف، واتجاه الضوء على عظام قفصان الصدرى البارزة فى نحول، نرى رمسيس يونان يحيلنا لمعنى الأرض الخراب ويجسدها أنثى شائهة لنسقط كل ما يسمها ويصمها به : على معنى الوطن المشلول الواقع تحت ضغط المستعمر ونظام الحكم الفاسد وطبقة الإقطاع، نراه وقد قطع الرأس وأبقى على شعر مريض جاف كالأشواك خلف ظهرها وبتر ذراعيها،فليس لديها القدرة على الفعل أو الفهم أو الرؤية، وليس لديها عطاء بل مقطوع فيها رجاء الخير والنماء بانقطاع ثدييها المتهدلين فى ذبول، نصفها السفلى متكور ومتكتل فى تشوه قضى على أمل الخصب أو انتظار الميلاد أو الرضاع بعد أن اجتث حلمات ثدييها المتهدلين فى ذبول، نصفها السفلى متكور ومتكتل فى تشوه قضى على أمل الخصب أو انتظار الميلاد أو الرضاع بعد أن اجتث حلمات ثدييها بعنف، ترك أثر البتر وتداعى تكوينها المريض إلى أسفل فيما يشبه الانصهار والانسحاق، تلى تلك الكتلة : كتلة وسطى هى كف اليد المبتور الأصابع المشوه كأنها انصهرت أو تحللت وهى تصد الرؤية وتواجه فضاء النظر . خلفها تقع كتلة ثالثة هى رأس مقطوع وملقى فى الرمال لكن رمسيس يونان يتعمد أن ينصب الأعضاء المبتورة المشوهة ويزرعها فى الأرض الخراب، تشخص إلينا بنذير الشؤم والبوار نرى الرأس وقد طاله ما طال الأجزاء الأخرى من تشوه وانقسام وعور إلا أنه فاغر فمه كمن يحاول أن يقول شئ أو يطلق صيحة ألم .
- يردد رمسيس يونان إيقاع الكتل ذات الرأس المثلثة فى كف اليد وكتلة الصخرة المجاورة لها فى حجم أقل، ثم بعيدا فى خلفية باهتة نرى ترديدا لنفس النغمة فى خفوت بليغ يحافظ على بنائية واتزان مدروس حتى وهو يرسم مسوخه مبتورة الأطراف والرؤوس كما كتب جورج حنين عن أعماله: ` يرسم رمسيس يونان أعصاباً متوترة لدرجة الحاجة إلى القطع. رسمه لا يعرف الراحة، ولا التوقف ولا التراخى. إنه سيريالى مثل تلك البيوت التى صدعها غضب داخلى أو خربها تمرد الأرض.عندما تصل شخصياته إلى درجة التقلص الذى لا يمكن أن يستمر وقتاً أطول، فإنه لا يتردد عن بترها.. يحمل إثبات طاقة خلاقة فى أوج تدفقها `... ومع صرامة ودقة التكوين بين الكتلة والفراغ والبحث فى تضاعيف الجسد البشرى والدراسة التشريحية المكتملة والتحريف وتفكيك المكونات بوعى مذهل بأصولها البنائية فلا يشغلنه شاغل عن تحقيق فكرته وإطلاق صيحة الاعتراض فى وجه الوطن ناعتاً إياه بالأرض الخراب.
- نرى تلك الوسيلة لدى رمسيس يونان لإطلاق صرخات العقل الباطن وتثوير أنماط الأداء التشكيلى تتجلى فى أسلوب التهجين وذلك عن طريق المزج بين الإنسان وكائنات أخرى كالحيوانات والطيور والزواحف وما شابه ذلك، أو المسخ : عن طريق تغيير ملامح الإنسان وإكسابها مظاهر البلاهة أو الشر أو الحقارة أو الشيطانية، أو النسخ: عن طريق تحول الإنسان ذاته إلى طائر أو حيوان أو سمكة أو حتى ضفدعة . عن طريق التركيز على المحيط الخارجى أو البيئة التى يوجد فيها الإنسان : والإيحاء بأجواء غريبة شبحيه باردة شبيهة بالقبور والموت مع التركيز على عامل العزلة الإنسان وانفصاله عن الواقع كما فى أعمال فنانين مثل إنسور وهوبر وما بعد التعبيرية الألمانية .
- وفى لوحة العشق المفترس 1940 يتنبأ رمسيس يونان بزوال ذلك الكيان الملكى المريض الذى يحتوى بذور فنائه وتتفرغ منه إليه تلافيف ثعبانية مقبضة تلتوى لتلتهمه وتلتف لتأكله وتقضى عليه وعلى نفسها ذلك الكائن الأسطورى الذى يضفى عليه شكل الديناصور مع التنين مع إعطائه بروزاً شوكياً عظمياً يزدوج فى لحظة وينتج قاتله وينفلت من فتحات صنعها رمسيس يونان بحكمة الرسام الذى يحافظ على بنائية المعزوفة واتزان كتلها بين الكتلة الفاتحة العظمية التنينية وبين الفراغ الأسود العميق الذى يمتص أى إضاءة ويطلق الكتلة الوحشية الساعية نحو الفناء ، ويطرحها فى مقدمة اللوحة فى حلزون سلمى متناغم يتخذ تدرجاته الإيقاعية من توزيع الثقل على جانبى المحور الرأسى للوحة، أثناء حركة التلوى الثعبانية المنفلتة، والتى تجذب مركز الثقل ذات اليمين وذات اليسار حتى ترتقى بالأبصار مع سنون تلك الشوكات الحادة، وإيقاع صاعد متنامى إلى أعلى حيث الفكين الشرسين ووجود فم واسع ممتد، وأسنان حادة. وفى لوحته تكوين نرى صندوقاً مقفلاً مظلماً يصطرع فيه كيان عنكبوتى أخطبوطى عظمى، مبنى كهيئة كرسى العرش ومجلل فى محوره الرأسى بالتاج العظمى أيضاً يرتكز على أرض الصندوق أو الغرفة المقبضة كجوف القبر عن طريق كرة عظيمة يتم فصل منها أربعة أرجل متوحشة الأطراف، هذا التكوين الهجين له ذراعان تنتهيان بمخالب ومفتوحة بنهم تتأهب لتأكل رأس ذلك الكائن الشأنه ذى التاج، يستمسك رمسيس يونان بعروته وبنائه المتماسك ومعماره المتزن كتلياً وضوئياً ويردد تلك الأيقونة التى تمض فى آفاق أعماله التشكيلية كالنبوءة الساطعة بنهاية الكيان الملكى الإقطاعى الفاسد المتحلل كالعظام فى القبور .
- رمسيس يونان يصنع هنا مزيج فريد مزدوج بل متعدد الهوية بين تكوين التاج - وهيئة العرش وتمفصل العظام البشرية أو الحيوانية التى يوظفها بتدقيق وبراعة وجدة فهو قد درس العظام واتصالاتها وعلاقاتها التشريحية حتى تحولت إلى مفردات وأدوات يخلق بها تلك الكائنات الهجينة المحملة بالدلالات والعلامات الكثيفة، هو يصنع هنا بؤرة لإشعاع المعنى التشكيلى والاجتماعى، ويبدع نصاً كونياً يبث العديد من الاحتمالات والممكنات فى أعماق التأويل فى تلك الوحوش والمسوخ التى خلع عليها هيئة العظام النخرة إيذان باقتراب موعد الضوء وبزوغ الوعى بعد تفجير الواقع المشوه الملوث وتفتيته وإعادة ترتيب ذراته المبعثرة .
- ونحن نتابع ذلك المخلوق الجديد يصارع كل قوى الإعماء والظلام والموات نسمع رمسيس يونان وهو يحث الشباب ليستفيق ويضطلع بدوره ويقول : ` وعلى شبابنا المثقف أن يغذى قلبه وعقله بهذه التيارات الجديدة وعليه أن يمزق هذه التيارات الجديدة وعليه أن يمزق هذه النسائج الحريرية التى ما زالت تكسو أقلامه وعليه أن يخرج بأدبه إلى الشوارع والميادين العامة ولا بأس عليه إن هبط بمعاوله إلى الأزقة والأكواخ والمتهدم من الأحياء والمنازل ومع ذلك فرمسيس يونان حريص أساسا على الإبداع لذلك فهو يحذر الشباب المثقف فى نفس الوقت: ` لكن عليه إذ يفعل ذلك أن يشحذ ذهنه كما يشحذ قلبه، فالغباوة والانقياد الأعمى والتحمس الأهوج - فى هذا العالم العاصف بأدق الأزمات - كل هذا يجب أن يعد من أشنع الجرائم `، وكما رأينا هو يكتب ويرسم ويتخذ مواقفه ويتبوأ مكانته ودوره فى المجتمع كثائر ومبدع ومعلم بنفس الوعى الساطع والرؤيا القاطعة فلوحته تكوين ذات الكائن العصفورى الهجين تكاد تكون مطابقة فى القيمة الدلالية والتصويرية لتلك المقولة التى وردت بمقال له بمجلة المجلة الجديدة. حيث يؤطر رمسيس يونان ذلك المخلوق بمجسم قماشى كالذى كتب عنه فى المقال، وهو محكم الغلق حوله ولكنه مفتوح فى آن، تعتمل فيه طاقات الحركة المقاومة للقيد والموات وتزلزل أركان اللوحة وتصدع مسارب الوجود ، ليجد ذلك المولود تواً فرصته للنجاة والميلاد والتحقق ضغط وبروز وطاقة حركية هائلة تطأ مواقع النبض فى أركان اللوحة فتعيد أبصارنا لتدور معها حول الكتلة الغاضبة المتفتحة، ومع انتقال البروز تحت تأثير ضغط المنقار المفتوح لفم الطائر والأطراف الثلاثة التى خلعها عليه يونان وذلك الرأس المدبب الذى لا يفتأ يستمر فى عمليات الوخز والخروج ليقطع رحم الكفن ويفجر ماء الولادة والطهر الجديد، لا تحتوى اللوحة على عناصر لونية متدرجة بل هو الأبيض والظلال ولكنها كون كثيف الحركة والمحاولات الدائبة الدوارة، وها هو يتنبأ ثانية بأن الخلاص سوف يخرج من بطن الأرض شابا عفياً مغرداً صائحاً صيحة الحرية والخلق الطاهر .
د/هبه الهوارى
نهضة مصر - 23 /2 /2012

- ولد رمسيس يونان فى المنيا عام 1913 وتخرج فى مدرسة الفنون الجميلة العليا والمعهد العالى للتربية الفنية ، وأشتغل بتدريس الرسم فى مدارس طنطا وبور سعيد والزقازيق، وهاجر إلى باريس، ثم طرد منها لرفضه إذاعة بيان يسئ إلى مصر إبان العدوان الثلاثى عام 1956، حيث كان يعمل سكرتيراً لتحرير القسم العربى بالإذاعة الفرنسية ـ وحصل على منحة تفرغ من وزارة الثقافة من عام 1960 -1966 وشارك فى تأسيس جماعات فنية ثورية مثل جماعة الفن والحرية، وجماعة جانح الرمال، وكان عضوا فى جماعة الدعاية الفنية مع المربى حبيب جورجى، له مؤلفات وكتابات وترجمات فى الفن والأداب والثقافة والنقد، توفى فى القاهرة فى 25 ديسمبر 1966 .
- مثله مثل فؤاد كامل وكامل التلمسانى اعتصم رمسيس يونان بالسيريالية، ودافع عن اللاوعى وعن الوجودية وعن العدمية باعتبارهما ملاذ الخلاص من التنميق والتقانه والحزلقة والابتذال، وجمع بين اتساع الأفق الثقافى وعمق الفكر التأملى، وبين الموقف الإيجابى من الدفاع عن الحرية وعن الإبداع أمام المحافظة والرجعية والخوف.
- وأعماله المبكرة سريالية الإسلوب ميتفيزيقية المزاج لا تخلو من دراما حزينة وإحساس بالإنكسار والهزيمة والقلق.
- فى هذه الأعمال تخطى يونان معايير المنظور البصرى والمنطق التكوينى، وتحدى مبداً التجانس الزمانى والمكانى فى التصميم، فأصبحت لوحاته كالكوابيس، تتيبس، الكائنات فى حين تدب فى الجمادات حيوية غامضة، ثم تحول إلى منهج مواز مع تجربة الفنان ` إيفز تانجى` من حيث إعتماده على عناصر متشيئة متحولة فى هيئات العظام والصخور الزلطية فى تراكيب مسرحية الطابع على خلفيات من مناظر خلوية شاسعة لتصبح عناصره البشرية المتخشبة كالمنحوتات التى يصورها `دى كيريكو` فى لوحاته تمتد من تحتها ظلال طويلة موحية بجمود العنصر ومصيره المحتوم.
- وفى نهاية الخمسينيات وفى الفترة التى سجن فيها لميوله السياسية الشيوعية أصبحت اعماله أكثر رمزية تعبر عن الطاقة المقيدة بذاتها المضفورة بحيث تقيد قدراتها عن الحراك فى معاناه من فقدان الحرية وتوثق القيود وفقدان الانسانية والتحول إلى كائنات مسخية تلتف حول ذاتها فى طاقة تدميرية يائسة ـ وبعد انغماسة فى بحور القلق السريالى تحول إلى تجريدية تأملية تليق بعقليته وبحساسيته المفرطة فأطاح بالتشخيصيات السيريالية، والرموز الباطنية للضياع والتمحور حول الذات المنسحبة، لصالح البناء الذى يتحد فيه ما هو عقلى وما هو عاطفى وشاعرى فى قالب تجريدى خالص، تمويهات لونية وشراذم يلملمها لتفتح أمام المشاهد مغاليق اكتشاف عوالم يسقط عليها عواطفة ومشاعره، إنها بلورات كريستالية يرى المشاهد فيها نفسه ويقراً حلمه.
- إذا ما اقتربت من لوحات المرحلة التجريدية-الأخيرة- فى أعمال رمسيس يونان فإنك لا تملك إلا محاولة كبح علامات الحيرة ، وأنت تتأمل ركام اللمسات الونية التى تشبه الصخور المتصدعة ، أو قشور الراتينج المتطايرة ، أو شرائح لملمتها بؤر مغناطيسية، ثم ذرتها الرياح العاتية.
- عالم ترابى ركامى صخرى مغلق بتراب الحديد البنى إضاءته وعتمته من داخله.غياهب كهوف ومناظير عين الطائر لمناطق شديدة الوعورة تسطع من داخله شموسا تضئ مواقع مختارة، وتلقى غلالات الضباب على مناطق أخرى ، أشكالا زائغة تتبدل أمام ناظرينا فى هيئات متجددة ، أو كما يقول فؤاد كامل: ` إنه يتسامى على حقائق الوجود دونما أن يضل طريقة، .. ويستبصر فى ثناياها أسرار السماء والأرض ليصنع من السراب حقيقة واقعة.` وبذلك فإن غيبة رمسيس يونان عن مصر لما يزيد عن عشر سنوات أجج شوقه وعاطفته لطبيعتها المخصوصة، وصورها فى هيئات أثيرية تخطت التفاصيل والملامح، لتقبض على الجوهر الصافى الخالد .
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
سندباد تشكيلى
- بصمات الفنان الجاد ، ونبضات قلبه التى يطبعها على الورق والحجر ليست أصداء جوفاء يبتلعها الهواء أو تذروها الرياح ، إنها حوار غائر فى ضمير الوجود ، يخاطب الأجيال جيلاً بعد جيل ، حوار متجدد رغم ثبوته ، حاضر رغم غياب صاحبه ، وهو أيضاً حوار نابض يقبل الجدل والمناقشة ، والأخذ والرد ، والرفض والقبول .
- ويأبى الفنان الراحل ` رمسيس يونان ` إلا أن يخاطبنا من مقره الغيبى ، وأن يواصل ما انقطع من حديثه من وراء حجاب الأبدية .. ويعيد على مسامعنا كلامه الذى طالما ردده فى حياته ، ولم نفهمه ، يعيده كلمة كلمة ، وحرفاً حرفاً ، لعلنا فى هذه المرة نعى ما خفى علينا فى المرة الأولى ، أو لعلنا ننصفه ميتاً بعد أن ظلمناه حياً .
- وفى المركز الثقافى الفرنسى تعرض له زوجته الوفية عدداً من لوحاته التى أنجزها فى الستينيات ، تمثل المرحلة التى كان غارقاً فى متاهاتها قبل رحيله ، والتى تحكى عن ذلك الصراع الضارى الذى كان دائراً بينه وبين الشكل ، يراوغه فى إصرار عنيد ، وهو يدرك أنه خصم صعب المراس ، ومنافس لا يلين .
- كان ` رمسيس ` صفحة ناصعة من جهاد وفكر وقلق وإيمان وإصرار وثورية وجدية وسعة أفق .. كان بؤرة إشعاع فكرى فى تاريخ حركتنا الفنية الشابة .. لم يأخذ حقه كاملاً فى حياته ، لأنه كان يبتعد عن الأضواء ، ويرفض الصخب ، ويؤثر الصمت والإنطواء فى شرنقته الحريرية لينسج أكفانه فى هدوء .
- وكانت الحركة الفنية فى الثلاثينيات والأربعينيات تحبو فى طفولتها الساذجة ، وكانت تتقبل كل ما تجود به النوايا الطيبة من إنتاج لم يكتمل نضجه . وكان الفكر خامدا ينتظر من يوقظه ، والإبداع هامداً يترقب من ينتشله من ضحالته ويودع فيه شرارة تدفعه إلى ساحة الحركة والحياة والهواء المتجدد .. وكانت الأرض بورا ، والخيال عقيماً، وكان الرضا بالواقع محبطاً لكل تطلعات الطموح .. وكأنما أريد بالفنان المصرى أن يظل فى مكانه يتحرك واقفا، يستنزف طاقاته بلا عطاء ، ويغمس دلوه فى بئر نفسه فيخرج خاوياً بغير ماء .. وكان لابد من يد جريئة تحرك سطح الماء الراكد .
- ومن منطق الشعور بالمسئولية ، كان ` رمسيس يونان ` واحدا من أولئك الذين فتحوا النوافذ ليتدفق النور والهواء ، كان يذهب بعيدا يتسوق الفكر الجديد من منابعه ، ويلتقط ثمار الثقافة الرفيعة ، ويعود إلى وطنه محملا بقراءاته ومشاهداته من مرصده الشاهق ، ويطرح آخر تطورات الفكر الغربى الذى يصنع حضارة القرن العشرين .
- كانت السريالية والتجريدية فى أوربا تطرقان الأبواب بعنف ، وكان بيكاسو . ودالى . وموندريان . وميرد . وبواوك وغيرهم يملؤون الدنيا بشطحاتهم ويغيرون وجه الأرض بلمسات فراجينهم الشابة الثائرة وكان ` رمسيس ` الفنان الرحالة يركب قلمه وريشته ويبحر بعيدا كما كان يفعل أجداده فى رحلاتهم إلى بلاد ` البنط ` ليعودوا محملين بالتوابل والعطور والأحجار الكريمة . وكانت الدفعة القوية التى قام بها ` رمسيس ` بقلمه كاتباً ومفكراً وبريشته مصوراً ومبدعاً من أهم الوسائل التى بعثت فى الحركة الفنية النبض من جديد وتكونت جمعية ` الفن والحرية` التى كان أحد منشئيها ، وبدأ المثقفون يدركون أن الفن أيضاً يتحرك ويتطور ويخلع فى كل يوم ثوباً ليستبدله بثوب جديد ، وأن لكل زمان لفتة ، ولكل عصر أذاناً .
- كان ` رمسيس يونان` رغم ضألة حجمه عملاقا فى حسه ، وعملاقا فى فكره ، كان يجمع بين إرهاف الحس الشديد ، وبين العقلانية المنظمة والفكر البناء .. كان يؤمن بالعلم كضرورة تقديمه ، وبرومانسية المشاعر كضرورة لإفراز الأحلام وفتح مغاليق المستقبل ، وبضرورة تحالف العلم والفن لإيجاد فن متكامل .. لم تمنعه عقلانيته من المخاطرة بالخوض فى مجاهل الشكل مستمتعاً بمتعة الكشف ، فبدأ رحلته بالغوص فى مجاهل النفس البشرية متخذاً مركبته ` الفرويدية ` وسيلة لتنقلاته فى السراديب الجوانية ، مقتحماً أسرار العقل الباطن وغوامض اللاشعور . فكان أحد رواد السريالية فى مصر ولكنه سرعان ما لفظ السريالية الإنسانية لينتقل إلى سيريالية الطبيعة نفسها ، فللطبيعة أيضاً جوف وباطن وأعماق وللطبيعة نفس ونبض وخلجات ، وللطبيعة أسرار وطلاسم ورموز تفصح بها عن نفسها .
- وبعد أن أجاد أبجديات الطبيعة بدأ الحوار معها .. ولكن القدر لم يشأ لهذا الحوار أن يتصل فقطعه الموت وهو فى أوج حدته وعنفوان حيويته ..
- وفيما يمكن أن نطلق عليه ` التجريدية الجيولوجية ` بدأ ` رمسيس ` رحلته فى هذه
` الجوانيات ` التى لا تنتمى إلى ما ألفته العين فوق السطح .. إنها تجريدية تأملية بنائية بناء سيمفونياً له إيقاع ولحن وأوزان . كان زاده وعتاده فى رحلة الكشف خبراته التقنية التى يملك ناصيتها بأستاذية . كانت كل لمسة محسوبة حساباً شعورياً لا رياضياً ، كانت بصيرته تقوده فى خبايا الشكل فيقف هنا وهناك منبهرا بمشاهداته مثل` سندريللا ` فى رحلتها فى ` دنيا العجائب ` .. وإنك لتلمس أبعاد هذه المتعة فى لمسة كل فرشاة ، وفى نبض كل لون .. فى النيات المحترقة التى لفحتها المعاناه ، والتى تتوالى أناتها فى فيض من الألوان ` النوبية ` لاينقطع .. ثراء عجيب تكتشفه فى خزائن هذا اللون الرهبانى الزاهد المتواضع .. وومضمة ضوء هنا ، ولمعة هناك .. وفرجة تنفتح أمامك فجأة فتملأ رئتيك بلفحة هواء أزرق بارد . ووقفة هنا مليئة بالتساؤلات .. كل شئ جدير بأن نقف عنده ثم تتابع المسيرة . تحفر تارة ، وتتسلق تارة ، وتخترق تارة أخرى .. تقفز، تدهس ، تطأ ، تهبط ، تنزلق ، تتشبث ، تصعد ، تلهث ، وتنتشر الرقعة أمامك انتشاراً رأسيا ، فأنت تصعد فى عمق .. تعمقا استمراريا تتوالى فيه المشاهد منظوريا يذيب رؤيتك فى بؤرة العدمية ، أو نقطة التلاشى ، وإنما تعمق استمرارى تتوالى فيه المشاهد .. مثل الأبدية .. بلا نهاية ..
- لأن ` رمسيس ` لم يكن يؤمن بالنهايات .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى

1- فى سبيل رؤية أصيلة من إملاء ضمير حى :
- لم تتح حياة القلق والتنقل التى عاشها رمسيس يونان أن يجمع أعماله ويحفظها فقد بدأ حياته العملية فى الفن عام 1934 بسبع سنوات متنقلاً خلالها فى أقاليم مصر من طنطا إلى بور سعيد إلى الزقازيق مشتغلا بالتدريس فى مدارسها . ثم تلت تلك السنوات السبع التى انتهت باستقالته من التدريس فترة لاتقل قلقاً وتخبطاً عن سابقتها ، وإذا كان قد قضاها فى القاهرة فإنها كانت مبعثرة بين اهتماماته الأدبية وانشغالاته الفكرية ، فضلاً عن إنتاجه الفنى . فقد كان رمسيس يونان نموذجاً فريداً للفنان الذى يؤمن بأن عطاء الفنان أن لم يروَه التحام بمسارات الحياة الاجتماعية يدب فيه الجدب والخواء ، فالفن على حد إيمانه لايجدر أن يكون معزولاً عن الحياة . ثم أعقب هذه المرحلة مرحلة امتدت عشر سنوات أخرى فى باريس قضى أغلبها فى التأمل ومتابعة تيارات الفن الحديثة .
- يقول الدكتور مجدى وهبه فى مقدمته لترجمة رمسيس يونان لديوان الشاعر الفرنسى آرتر رامبو بعنوان ` فصل فى الجحيم ` ( دار التنوير للطباعة والنشر عام 1983 ) : ` عرفت رمسيس يونان فناناً ثورياً يأبى المحاكاة الواقعية والانطباعية وغيرهما من المدارس الفنية السائدة فى مصر حينذاك . كما عرفته كاتباً ثورياً يرفض أساليب الأدب المألوفة عربية كانت أو تقليداً للغرب ، ومفكراً سياسياً ثورياً لايقبل الشعارات السياسية فى الأحزاب المشروعة ، ثائراً على الثورية نفسها ، باحثاً باستمرار عن موقف فى الفن والأدب والسياسة يجد نفسه فيه غير منافق ولامفتر ولامنقاد . هذا هو رمسيس يونان كما أذكره .. إنسان مخلص أمين لما يراه حقاً وواجباً ، إنسان غير مكترث بأهواء ` البدع ` الثقافية ، قانع بالفقر والوحش فى سبيل رؤيا ذاتية أصيلة من إملاء ضميره الحى . لوحاته سجل لمغامرة فنية فى أدغال الغيب وكهوف النفس الدفينة ، ومع ذلك فإن اهتماماته الواعية بالعمل السياسى وبالكتابة كانت دائماً متصلة بواقع بلاده وبقضايا بناء مجتمع عادل . لقد عرف قدر الثروة الكائنة فى أصالة وطنه فى نفس الوقت الذى استطاع فيه أن يزن مايمكن أن يثريها من مؤثرات الغرب المتدفق عليه والتى ذهبت بعقول بعض مثقفيه وأفعمتهم حتى نضبت ينابيع الأصيل فى نفوسهم . كان رمسيس يونان كغيره من أبناء جيله يحاول أن يحافظ على التوازن الدقيق الصعب بين الأصالة والتجديد ... `.
- وكانت الثورة الأولى التى فجرها رمسيس يونان فى التصوير المصرى الحديث هى ` السريالية ` .وإذا كانت السريالية قد ظهرت فى أوربا كمذهب من مذاهب الفن عام 1916 فإن نيرانها سرت فى أنحاء العالم كله بعد ذلك ولم يكن بالإمكان أن تظل مصر بمنأى عنها . وقد صارت الأوضاع فى الثلاثينات مهيأة لتلقى هذه المدرسة ، ويصبح رمسيس يونان أكبر دعاتها ، ولكن يجب أن نتبين شيئاً هاماً فى مقام سريالية رمسيس يونان ،فهو يصرف النظر عن اتجاهاتها اللا بناءة مثل ` الأوتوماتية ` وفى هذا الصدد يقول الناقد جاك لاسينى المدير السابق لمتحف الفن الحديث بباريس بمناسبة معرضه الذى أقيم هناك عام 1948 ` إن الإرادة تتدخل لدى هذا الرسام البارع حاملة إياه على ابتداع عالم خيالى يتميز بشدة دقته الشاعرية ومضى متمسكاً بأن تأتى لوحاته محكمة التصميم وطيدة البنيان مرواة بقسط من ` العقلانية ` ، فليس ` العقل الباطن ` الذى اهتدى إليه السرياليون على أثر تعاليم سيجموند فرويد إلا عقلاً على أية حال وإن كان عقلاً من نوع خاص . وإنما الذى رغب رمسيس يونان فى السريالية هو أنها تعلى من شأن الرؤى مهما كانت جامحة شاطحة ، على مجرد الصنعة ، وتعطى الفرصة للتعبير القوى المزلزل . وقد أيقن رمسيس يونان أن مصر فى الثلاثينات بحاجة فكراً عملاً إلى مثل هذا ` الفن - الصدمة `.
- وقد رفض رمسيس يونان ` الأكاديمية ` وتحاشى أن يتردى فى أصفادها ، فيضحى مثل غالبية أقرانه من تلامذة مدرسة الفنون الجميلة العليا من ` صناع الفن الكسالى ` ومجرد واحد من ` ناقلى الصور القديمة والطبيعة المملة ` يروجون ` لجمال بشع ` هو ` نوع من الكذب الاجتماعى ` يتجلى على سبيل المثال فى تصوير الفلاحات وقد اكتسبن ` نضارة الغوانى ` ورحن يتقصعن ` بقوام يدانى غصن البان ` لدانة ونعومة .
- ومن كل الجيل الذى سبقه لم يشعر رمسيس يونان بالارتياح لغير محمود سعيد ؟ لأن فن محمود سعيد يمثل شعر الليل الليل حيث تذوب الأشياء لتولد جديدة فى الصباح . ( حامد سعيد - الفن المعاصر فى مصر - طبعة 1964 - ص7 ) وكما قال رمسيس يونان نفسه فى مقاله ` نحو فن حر ` مجلة التطور - يناير 1940 إنه وجماعته ، جماعة ` الفن والحرية ` وجدوا أنفسهم فى تلك الشهوات البسيطة التى لمحت بها ريشته ، ولأنه استطاع أن يعبر عن دخيلة نفسه بطريقة بها الكثير من الإحساس الصادق العميق . فى هذا العصر الذى هو - على حد قول الدكتور لويس عوض ( فى مقدمته لكتاب رمسيس يونان - دراسات فى الفن )
عصر مريض.
- حقيقة عامة من خلال حقيقة خاصة :
- وقد كان رمسيس يونان على ما أفصح عنه فى كتابه ` غاية الرسام العصرى ` (عام 1938) قد رفض سلبية الفنان إزاء مشكلات مجتمعه وعصره ، فموقف الفنان من الحياة لايجدر أن يكون ابتعاداً وتجرداً ، وإذا كان الفنان يواجه اليوم عالماً عصرياً شديد التعقيد كثير الالتواءات ، فإنه مالم يزح من ركنه المنعزل ، وينزل من برجه العاجى ليواجه هذا العالم ويختبر مشكلاته ويعانى معه أزماته ، لن يستطيع أن ينتج فناً معنوياً قوياً .
- رأينا إذن أن رمسيس يونان كان من الأصالة أن نبذ منذ أواخر الثلاثينات ` الأكاديمية ` ورفض ` السلبية` `وعندما راح يتلمس فى السريالية الوليدة لغة تشكيلية جديدة يعبر بها عما يجيش فى أعماقه الدفينة من تشوقات وتطلعات ورؤى وإن انبهمت بسبب كمونها فى ` العقل الباطن ` ، كان مدركاً أن العقل الباطن إنما يستقى خاماته ومواده من الواقع ، ففى العقل الباطن ينطبع الواقع من جديد . ولذلك لم يكن ثمة مايمنع من أن تعود ` مصر ` فتبرز من خلال استنباط فنان واع مثل رمسيس يونان لمحتويات عقله الباطن من صور ورؤى ورموز مختزنة ، مهما بدت موغلة فى الذاتية . وبخاصة إذا راعينا أن رمسيس يونان وإن اعتنق السريالية لغة للتعبير الفنى ظل يرفض كل محاولات تتخذ من السريالية وسيلة تحايل لاصطناع فن متكلف تحت شعارات زائفة ، فالإيغال فى الإغراب لذاته - فى نظره - فيه براعة العقل الواعى وحذلقاته وليس ذلك من السريالية فى شىء ، وقد كانت السريالية فى المقام الأول بالنسبة لرمسيس يونان إمكانات تشكيلية مبتكرة لإيجاد حلول لمشكلات العصر ، فالسريالية فى صميمها قبل أن تكون مجرد شكل فنى جديد فهى دعوة مخلصة لثورة فكرية تأتى بتغييرات أخلاقية واجتماعية .
- وإذا كانت أعمال رمسيس يونان ذات مظهر يمكن أن يؤول تأويلات مغرقة فى الذاتية شأن كثير من الأعمال . السريالية المثيلة ، فإن أعمال هذا الفنان يجدر أن تفسر أيضاً من زاوية أخرى تماماً ، فهذه الأعمال بما احتوته من أشكال موغلة فى الغرابة ومثيرة للرفض والتمرد لاتكتسب قيمتها الحق .، ومقامها الأسمى إلا بتفسيرها تفسيرا اجتماعياً وقومياً . فرمسيس يونان قد استخدم السريالية بشحناتها التعبيرية المزلزلة كأداة احتجاج اجتماعى ، باعتبار أن السريالية فى صميمها - كما قلنا - دعوة لثورة تزلزل الدعائم الاجتماعية والأخلاقية للنظام والجمال والمنطق . وهذا ماقصده رمسيس يونان حقاً . فهو وإن كان على حد قول الناقد جاك لاسينى فى كلمته التى أشرنا إليها ` يسعى للكشف عن معان سرية من وراء الألوان والخطوط ` إنما يعبر من خلال حقيقته الخاصة عن حقيقة عامة ، يفصح من خلال نفسه عن وطنه ومن خلال مخزونات عقله الباطن عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية فيه . وهكذا يجب أن ننظر إلى إبداعات رمسيس يونان فى الأربعينات مهما بدت خاصة به تماماً على أنها فن قومى أصيل ومتفرد ، فتلك البقايا البشرية والأجساد المتخثرة التى بدت مثل أشجار جوفاء ذات أثداء وأياد معروفة تمتصها الرمال فى بيداء خاوية ، كما فى لوحته ` على سطح الرمال ` التى صورها عام 1939 ، وهى من مقتنيات متحف الفن الحديث ، إنما تعبر عن تدهور الأوضاع الإنسانية فى المجتمع المحيط بالفنان آنذاك ، وكأنها تقول إن الأرض الخراب إن أنبتت فلا تنبت إلا بشراً جوفا ، ومهما طاولت هامات بعض البشر هناك أديم السماء ، فهم يظلون جذوعا منخوبة، مادام لاجذور لها ترسخ فى الأرض المجدبة ، فالجدب يولد جدبا مهما بدت بعض القسمات المتعطنة أيضا، أمارات نبل كان بالإمكان أن يكون جديرا بالاعتبار .. فهذه اللوحة إذن ليست لوحة عدمية ، بل هى لوحة رمزية فيها من التحذير والدعوة إلى التغيير مايرقى بها إلى مصاف الفن الاجتماعى مهما بدت أيضا للبعض على أنها غير ذات مضمون اجتماعى .
- وبالمثل لوحته ` العشق المفترس ` التى صورها عام 1940 ، فهذا الجسد الذى تمتزج فيه الأنوثة بالرجولة ، وتختلط القسوة بتشنج حيوانى وتتلوى الذراعان كأفعيين ضاريتين وتبرز حلمتا الثديين كمخالب مشرعة أو مسامير مسنونة ، يمكن أن يرمز إلى كيان اجتماعى يتآكل مفترساً نفسه بنفسه .
- وذلك المركب ذو الصوارى والحبال فى لوحة` الطبيعة تنادى الخواء ` التى صدرت عام 1945 يبدو على نحو لايمكن أن يتصور معه أن يؤدى وظيفته بينما البحر الذى ينتظر أن يمخر عبابه فى رحلة غامضة ينبسط أمامه متربصاً به ، بأمواجه الهوج وسمائه المكفهرة . وقد زاد الطين بلة أن شراع ذلك المركب قد تكور قماشه بأعلى الصارية الرئيسية ، وهيكل المركب انعدم ، فأضحينا أمام مشهد لاهو بالمركب ولاهو بأى شىء آخر . والآن ألا يمكن أن ترمز الصورة المنبثقة من أعماق عقل الفنان الباطن إلى أخطار المستقبل الذى ينتظر الوطن وتبعاته الجسام ، بينما المركب الذى يعد لاجتياز بحر المستقبل اللجب هو كما نرى مركب أجوف ، بغير أشرعة أو هيكل ، لايصلح للقيام على الإطلاق بأية رحلة ؟
- ولنتمهل أيضاً عند لوحة رمسيس يونان تلك التى يحتضن فيها الحجر جسد امرأة ، وقد تكون هى تلك المرأة التى سوف نراها فى `القيلولة` وسوف نستنتج إذا ما استخدمنا المفهوم الذى نقترحه لتذوق أعمال رمسيس يونان أن تلك المرأة المغلولة اليدين ، المحصورة فى تابوتها الحجرى إنما هى مصر . وإذا كان الملاحظ فى هذه اللوحة - على حد قول بدر الدين
أبوغازى - استقرار الإحساس الدرامى فى أشكال محجرة ثابتة تذكر بأسلوب هنرى مور فإن انشغال رمسيس يونان الأول فى هذا العمل ، سواء قصد ذلك أو لم يقصد ، كان انشغالا قومياً ، كى يعبر عن مبلغ القوى المحاصرة للوطن الضاغطة عليه كما يضغط التابوت على الكيان الذى أودع فيه ، فما بالك لو كان ذلك الجثمان لإنسان حى ؟ ألا نتبين إلى أى حد تعد هذه اللوحة اذن تحية إلى الحرية ، وتوقا لها ، ودعوة إليها ؟ وليست هذه شواغل فردية أفرغها الفنان بادواته التشكيلية فى رمز حى .
- وتلك اللوحة التى نحب أن نسميها `العين ` نقف أمامها متسائلين باحترام وإعجاب وتقدير للفنان الذى وصلت بلاغته فى التعبير إلى درجة قصوى من الاقتصاد فى الجهد ، والعمق فى الرؤية ، ترى عين من تلك ؟ وفى غمرة الإجابات الكثيرة التى تفد إلى خاطرنا ، تبرز إجابة قومية على لوحة ذات مسحة سريالية . أنها ` عين مصر ` تتابع ساهرة أبناءها . فى صرام وتسامح وحب ووعيد . تتابعهم فيما ينجحون فيه ومايخفقون ، مايحسنونه وما يسيئون والعين كما قالت شهرزاد مرآة القلب فنظراتها تصفح وتعاقب ، تغضب وترق وتحب ، والعين تراقب وتدين ولنظراتها أحياناً وخزات تقض المضجع وتبعث القلق يسرى فى الكيان كله . هذه العين التى صورها رمسيس يونان تومىء إلى معانِ كثيرة، وترمز إلى رموز كثيرة ، ولكن إحدى هذه المعانى والرموز بل فى مقدمتها المعنى أو الرمز القوى ، أنها كما قلنا عين مصر الساهرة ، التى لاتطرف، تجوس عبر الآف السنين، وتطل على العالم عبر التجاويف والشقوق، تدين أحياناً وتمنح العزاء والتشجيع أحيانا أخرى وفى نظراتها على الدوام خلاص النفوس أو هلاكها ..
- على هذا المنوال من إعادة استكشاف ` رمسيس يونان ` يمكننا أن نرفض قول القائلين كالناقد محمد شفيق ( مقالته بمجلة ` الفنون ` - المجلد الأول ( العدد الثانى ) ربيع 1971 - بعنوان ` رمسيس يونان وجيل التمرد ` ( ص 86 ) من أن رمسيس يونان `لم يشأ سوى أن يكون فنه مرآة حياته ، بكل أبعادها المتنوعة ، وبكل صراعاتها وتمرداتها ، بكل طموحها وارتداداتها ، بكل أحلامها المنطلقة وواقعها المرير ` . فهذا القول يتصف بالقصور والنقص .
- وأمضى من جديد فأقف أمام لوحة لرمسيس يونان تبدو للمتفرج العابر والمتأمل غير العميق ذاتية للغاية ، وهى لوحته التى صورها عام 1957 بعنوان ` ضمير الأرض ` وهى تصور كائنا من ابتداع خيال رمسيس يونان تماماً . وفى هذا تكمن إحدى نقاط القوة والامتياز عند هذا الفنان ، فالقدرة الابتكارية لديه تفوق الوصف ، وهو ماجعل الكثيرين يتردونه فى خطأ الاعتقاد باستغراقه فى ذاتيته واعتصامه ببرج عاجى ، ولكن متى مضينا فى تأمل هذا الكائن الذى احتوى مايريد رمسيس يونان أن يعبر عنه من معنى ، لوجدنا أن اللوحة ينزاح عنها ستار سوء الفهم الأول ، وتتحول إلى لوحة ذات مضمون اجتماعى قومى فى المقام الأول . فإذا تأملنا تلافيف هذا الكائن الذى قد يكون مصنوعا من البلاستيك خام العصر ، أو من عظام ضحايا ذلك الكائن الأسطورى الذى افترسهم فى سالف الزمن ومازال يتغذى بهم ، سوف نلمح أنه يفتح فمه ليقضم عشبا أو زرعا أو شجرة من نبت الأرض ، بينما هو يقعى على ذراع بسطت كفها فى ضراعة وتوسل ، دون أن تصل الضراعات والتوسلات التى هى ضراعات الأرض وتوسلاتها إلى ضميرذلك الوحش الذ لاأذن له ، ولاقلب ، وأين يوجد ذلك القلب فى الكيان الذى قدُمن العظام أو البلاستيك ، رغم هشاشته وقابليته السريعة للتكسر ربما بأول ضربة فأس أو معول ؟ بلى وقد راح ذنب ذلك الوحش التشكيل يعتصر الذراع ويحاول أن يخنق الضراعات والشكوى ، ولكن مامن شىء يكف ، لاالتهام الزرع الأخضر ولاالضراعات الموجهة لذلك الوحش الذى فى انتظار الفارس المصرى - حورس أومارى جرجس - كى يقضى عليه ويخلص من برائته الأميرة التى هى مصر ولاشك منذ الرمز الممتد الأول.
ماذا تعنى هذه اللوحة إذن ؟ إنها ترمز رمزاً أدبياً مبتكراً إلى ` الإقطاع ` الرابض على الأرض يمتص رحيقها الأخضر بلا رى أو شبع ، وبلا اكتراث إلى أى ضراعات أو أنات أو زفرات أو شكوى من أصحاب السواعد التى تحرث الأرض وترويها بعرق الجبين والدموع كى ينضج الثمر ويستوى الزرع والشجر ، ليلتهمه فى النهاية إقطاع أشبه هو بقطعان أفراس النهر التى كانت تخرج من النيل أيام الفراعنة لتلتهم فى لحظة ما تعب الفلاح شهوراً فى زرعه .
2- مصر التى فى خاطرى :
كان رمسيس يونان كياناً مركباً من نقيضين ، كان ضئيل الحجم ، عملاق الفكر . كان يجمع بين رهافة الحس وتنظيمية العقل . يؤمن بالعلم كخلاص للإنسان . وأيضاً بالحلم كنبع للرؤى . بدأ رحلته التشكيلية بالغوص فى غوامض الشعور . فكان فى طليعة رواد السريالية فى مصر ، ولكنه لم ينس قط انشغالاته الفكرية والاجتماعية ، وإلا ما كتب عام 1939 مؤلفه الرائد ` غاية الرسام العصرى ` من أجل التدليل عليه وتأكيده .
- فى تلك الآونة سيطرت الأكاديمية ، وأضحت شكلاً خاوياً بلامضمون موحد ، وراحت كثير من الأنظمة الاجتماعية تحت رياح التغيير تنفصل بدورها عن المجتمع ، ويسود نوع من الاغتراب ، يستتبعه نوع من العداوة بين المجتمع الذى دب فى أوصاله همود وعقم وإحباط فى صور الابتكار الفنى . ويصبح على الفنان الأصيل الواعى لدوره فى مسار الحركة الاجتماعية أن يستخدم أدواته الفنية وفى أشق الظروف وأكثرها عدوانية له لتحقيق ` ارتجاج ` يزلزل ركامات الجمود والقهر والتخلف ، موقنا أن ثمة رابطة بين الأوضاع الاجتماعية وماوصلت إليه من انحدار وبين ماآل إليه الفن من قوالب لها مواضيع ولكن ليس لها مضامين .
- وإذا كانت الإنسانية قد عرفت أداة جديدة للاهتداء إلى كنه الحقائق الإنسانية ، بما فيها الحقيقة الاجتماعية ، فما الذى يحول دون الاستعانة بها لاستكشاف مايحتويه ذلك المخزن الزاخر بالمادة الحية التى تنعكس عليها صور الحياة الاجتماعية وانحرافاتها ، فالأزمات النفسية إن هى إلا أصداء لأزمات اجتماعية ، فليطرق الرسام العصرى إذن ذلك العقل الباطن . ولماذا لايبحث عن العقل الباطن للمجتمع المصرى ، ومن ثناياه المتغلغلة ينتزع صورا تنبىء عما يعانى منه ويقاسى ، ولئن جاء الحديث هنا عن المشكلات الاجتماعية حديثا غير مباشر ، فلا ضرر فى ذلك ولاغضاضة ، فأبلغ حديث للفن هو الحديث غير المباشر . وليطلق الفنان العنان لفرشاته وقلمه ليعبر عن رؤاه دون التزام بأشكال مسبقة ، ولينقب فى الأرض البكر ، الأرض المصرية البكر ، العقل الباطن المصرى ، ولير مالذى ستخرجه فرشاته وقلمه من كنوز غير مسبوقة .
- وحتى عندما كان رمسيس يونان يقرأ رامبو وبريتون وأيلوار وغيرهم من شعراء الغرب وأدبائه ، كانت ` مصر ` فى خاطره ، أغلى قصيدة ، وأعز كلمة .
- ولئن كنا قد دللنا على صدق مانقول بالوقوف أمام الكثير من لوحاته ومحاولة تفسيرها ؛ فإننا نستبيح لأنفسنا أن نعود للوقوف أمام لوحة أخيرة هى لوحة ` قيلولة ` التى صورها عام 1945 فى أوج مرحلته ` السريالية ` . إنها والحق يقال ليست سوى ` مصر ` راقدة ملمومة على نفسها ، وإذا نظرنا إلى وجه تلك النائمة وتعمقنا فى استجلاء قسماته ، فسوف نخمن أى أحلام تراود تلك النائمة ، وهى ولاشك أحلام مصر فى الحرية والتحرر . سوف ندرك أيضا أن هذه المرأة حتى فى قيلولتها لم تستسلم لسلطان الكرى وتضيع ، بل هى تتأهب للتحفز عندما يحين وقت النهوض . وهذا النهوض - كما توحى إلينا اللوحة التى خلت من كل تفاصيل أخرى غير تلك المرأة الوسيمة رغم معالجتها ` التعبيرية ` - ليس ببعيد . أفلا تذكرنا هذه اللوحة بتمثال محمود مختار ( 1891 - 1934 )رائد المصرية فى نحتنا الحديث بذات الاسم ` القيلولة ` أفلا تذكرنا ` قيلولة ` رمسيس يونان أيضا حيث المرأة على أهبه النهوض من سباتها، بتمثال ` نهضة مصر للمثال الرائد مختار ؟ إن ماكان بأعماق رمسيس يونان عندما صور لوحته ` القيلولة ` هو إحساس وطنى جسمه فى عمل تشكيلى تمثل فيما يتطلع إليه كل منشغل بأمور الوطن ألا وهو نهضة مصر ، وهنا فى لوحة ` قليولة ` كأن رمسيس يونان ، يقول لنا : سوف تنهض هذه المرأة المنكمشة على نفسها ، وسوف تحقق آنذاك تلك الأحلام التى تراودها فى نومها . وبذلك أيضا نعثر فى هذا الوضع السكونى عوامل حركة مضمرة تتمثل فى الحلم الذى هو عامل حركى ، يطرد عن النوم فكرة السبات والسكون . كل مافى الأمر أن عامل الحركة فى هذه المرأة النائمة أو المضجعة ، قد انتقل من السطح الظاهرى إلى الأعماق المستترة وفى مثل هذه ` الحركة المضمرة ` تجلت عظمة النحت الفرعونى الموحى بالحركة رغم سكونيته الظاهرية والقالبية . ولكنها مجرد ` قيلولة ` وسرعان ماتهب النائمة من رقادها وتنهض . مصر ، كما نهضت من قبل فى تمثال محمود مختار .
- هذا نموذج صغير للمعانى القومية فى أعمال الرائد رمسيس يونان الذى تحدث عن ` مصر ` ولكن بلغة جديدة عصرية ، وأى عيب فى أن يكون الرسام المصرى عصرياً ؟
- وهل كان الذى رفض أن يذيع بيانات ضد مصر من محطة إذاعة باريس حين وقع العدوان الثلاثى على مصر إلا مصرياً ؟ هل تتجلى معادن البشر إلا فى لحظات مصيرية مثل هذه ؟ أما كان يستطيع رمسيس يونان - وماأكثر من جبنوا فاستطاعوا - أن يحتمى وراء وظيفته كمحرر بالقسم العربى بتلك الإذاعة مدة عشر سنوات ، ويذيع ماصدر الأمر إليه من رياسته هناك بإذاعته ، فيحتفظ لنفسه بوظيفته الآمنة ، وكان قد تزوج عام 1948 وأنجب ابنتين وصار له قبل أسرته دين فى عنقه يجب أن يؤديه ؟ وكيف يتأتى له ذلك بعد أن ينقطع مورد رزقه الوحيد ؟ وكيف يمكنه آنذاك أيضاً أن يدفع أقساط ثمن البيت الصغير الذى اشتراه لإقامته المتواضعة بباريس إلى حيث رحل عام 1947 واعتزم أن يستقر ؟ فى تلك اللحظة احتدم الصراع التراجيدى فى أعماقه ، بين الوظيفة والوطن ، بين العرض رغم إلحاحه والأيدى رغم إمكان تجاهله . ولكن الصراع لم يدم طويلاً فى كيان رمسيس يونان ؛ فقد قرر أن يكون مصرياً قبل كل شىء وليحدث مايحدث بعد ذلك . فقد وظيفته وباع بيته بخسارة ، وتبددت مدخراته القليلة ، وطرد من الديار الفرنسية .
- وعاد رمسيس يونان إلى مصر عام 1956 . ورغم كل المشاق التى كابدها بعد عودته مضى ينتج فناً جديداً مبتكراً ، وكما أصبح الآن من رواد ` التجريدية ` التى كانت بدورها جديدة على الذهن المصرى . وشأن كل المجددين باعثى الدماء الفتية فى الشرايين الهرمة يتعرض لعدم الفهم وسوء المعاملة والتهديد فى أمنه وسكينته وعيشه ، وعلى سبيل المثال يؤبى عليه عام 1961 التفرغ كمصور بعد أن كان قد منحه عام 1960 وبينما ستبقى أعماله التى أودعها خلجات نفسه ومن خلال خلجات وطنه أيضاً سيطمر النسيان أغلب أولئك المعارضين الذين سيبدو للتاريخ قصر نظرهم وخواؤهم الروحى ، والفكرى ، ومدى الإجحاف الذى أوقعوه برائد ومجدد .
- وفى ديسمبر 1966 يسلم الروح ويكتب الشاعر كمال عمار قصيدته التى يقول فيها :
` ديسمبر فى اليوم الرابع والعشرين
العام السادس بعد الستين فى منتصف القرن
كنا نحتال لنحتفل وماكان الظن
أن شهيد الحفلة أنت
. . . . . . .
عودنا لايطرق باب الدار
لاليطوف على أعيننا بالقهر
يتسلل من ثقب الباب الخلفى المغلق
ريحاً باردة تلوى أعناق الزهر
تحمله للمطلق
فى ليلِ مجهول الأسرار
الريشة ماعادت تدمى صدر الكون
والأسود صار أمير اللون
الضوء يموت
من يديه يستجدى العون
لكن مِن أين ؟
يونسُ لن يخرج من بطن الحوت !
3- أذكر رمسيس يونان . نحيل للغاية ، أسمر ، عينان تلمعان بين الفينة والفينة من وراء نظارة كبيرة ، مثل جمرتين تتقدان تحت رماد متكاثر ، وسحب رمادية من دخان سيجارته التى لاتكاد تفارق أصابعه وشفتيه . روح تجاوزت أطرها المادية ، أكلت تلك الأطر كما تأكل ملوحة البحر كتل الصخر وتحفر فى أديمه ، فبدت روحه أكبر بكثير من وعائها المحدود العرضى .وصمت ،صمت يخيف ويربك . صمت يقلق أعماقك ، نظرات تخترق ثيابك وعظامك ، وتمضى تنبش فى قرارة نفسك، تسبر أغوارك ، وتزنك ، تعريك ، وتهمس لك آمرة من أنت ؟ فإذا لم تلق إجابة ، تعود لتهمس آمرة وماذا بعد ؟ العزلة ، النفى الاختيارى ، العزوف عن كل ماليس جوهريا ً ، والمضى بعيدا ، بعيداً ، إلى الصحارى والمغارات والشطآن والأديرة والسحب ، إلى الدورب التائهة ولو كانت سبلا بلا عودة ، من ينكر ذاته بكسبها . يسألك رمسيس يونان فى صمت ` وماذا لو ربحت العالم كله وخسرت نفسك ؟ ` ويجيبك بعد نفس طويل من سيجارته التى تكاد تحرق أصابعه ` من يعرض عن بهارج الدنيا يربح الدنيا هذه فلسفة مصر ، الزهد . ولكن بلا قناعة ، فالقناعة كنز لايفنى .
- ويعود الفنان النحيل بالصمت يلوذ ويتسريل . وتمضى أنت فى تخبطاتك تبحث عن الصخب كى يحول دونك والاستماع إلى صوتك الداخلى ، الصوت الداخلى المعذب . ويغوص الفنان فى الليل . الليل؟ الليل مظلم ؟ كلا ، إنه الليل المصرى الحافل بالهمسات ، المرصع بالنجوم ، الذى يطلق الأحلام من عقالها ، ويدفع إلى فرشاة الفنان بشتى الرؤى ، الليل حيث بصيص من النور يتسلل فتكتسى العتمة أشكالاً تومىء ولاتفصح ، تهمس ولاتجأر وتصخب .
-هكذا كان رمسيس يونان ، صوتا ، عزوفا عن الثرثرة ، وعن الصوت العالى يرى ويسمع ولايتكلم ، يختزن العالم فى اللاوعى ، بعد أن يلفظ كل مالايصمد لشكوكه وعدم إيمانه . وفى تلك البوتقة الداخلية تنصهر الرؤى وتنبهم المعالم وتتداخل الأجرام ، وتتراكب الموجودات وتتجه الحركة إلى شتى الاتجاهات ، وبعبارة ربما أدق : يصعد العالم المرئى إلى عالم آخر ، لايدرك بالحواس وإن كان فيه من بصمات الحواس ، ولايستحوذ عليه بالفكر رغم أن فيه من الفكر الكثير ، وتتحول الوقائع إلى أطياف ، ويستحيل النشاز إلى تآلف ، رغم بقاء النشاز فى هذا التآلف منقلبا إلى نقيضه ، ويضحى الكل فى واحد ، ويستوى للأضداد منطقها وصوابها ، وتشعر أمام لوحات ذلك الوديع الذى كان يحمل فى أعماقه بركانا مكتوما ، إن يحرق فلا يحرق سوى صاحبه ، أنك مدعو إلى عالم غير العالم الذى يمسك كل يوم بخناقك ، يطمس ويغرقك فى لجة من زيفه وخداعه ، إنه الآن أصبح موسيقى مرسومة ، وشعراً ملونا ، منسكبا من بوتقة انصهرت فيها ذات فوهبت للتأمل والثقافة فى مجتمع أثقل كاهلها لحاجة المشاغل اليومية المتكالبة على وأد القدرة الإبداعية .
- ولنستمع إلى الأستاذ الكبير حامد سعيد يقول عن عطاء السنوات السبع الأخيرة من حياة رمسيس يونان :` سيمثل إنتاج هذا الفنان فى هذه السنوات السبع القلائل فصلاً فى الحركة التشكيلية المعاصرة عندنا من أقيم الفصول وربما كان من أنقى وأخلص الفصول التى سجلتها للآن هذه الحركة ` ( ص84 من كتابه ` الفن وإعادة بناء الشخصية المصرية - وزارةالثقافة -الهيئة العامة للفنون - مركز الفن والحياة .. أكتوبر 1974)
- ولئن كانت لوحات رمسيس يونان فى هذه المرحلة الأخيرة تنضم إلى أعمال المذهب التجريدى كما قلنا ، إلا أن انتماء رمسيس يونان لهذا المذهب لم يكن انتماء مفتعلاً ، أو تقليداً لموجة جديدة ، بل كان انتماء عن إيمان ويقين . ولهذا فلم تكن تجريدية رمسيس يونان تجريدية سطحية مظهرية لمجرد لفت الأنظار ، بل كانت تجريدية داخلية ، نابعة من أعماق بعيدة فى وجدان الفنان ، منبثقة من ينابيع تدفقت عبر أزمان وأزمان من الأغوار المصرية السحيقة ، فتكاد تسمع للوحات هذه الحقبة الأخيرة نبضاً حياً ، وتشم من ثنايا البنيات والرماديات والبنفسجيات التى تخلفها على القماش لمسات الفرشاة وضرباتها ، عبق الماضى ، وتكاد تنغرس نظراتك فى طمى مصر ورمال صحاريها وتصطك بصخور جبالها وجرانيتها . وبعبارة موجزة ، أضحى لنا بأعمال رمسيس يونان تجريدية مصرية خالصة وصميمة .
- وإذا ازددت اقترابا من أعمال هذه المرحلة الأخيرة ، فسوف نلاحظ أنك تكاد تقول لنفسك إنك تعرف هذا المكان أو ذاك الذى يصوره الفنان ولكنك لاتتبين على وجه التحديد أين هو ، إنه مكان على أى حال يقوم على حوار لاينتهى بين الماء والصخر ، بين النور والظلمة ، بين الشجر وبلطة الحطاب ، بين المغارات والصحارى الممتدة خارجها ، بين السلالم الصاعدة والآبار المحفورة إلى أسفل ، بين الشرق بمشربياته وسراديبه والغرب بناطحات سحابه وكباريه وأنفاقه . إنك أمام لوحات رمسيس يونان تكاد تلمح ماانطوى عليه قلبه من مشاهد ، فمشاهده فى الغالب الأعم رؤى داخلية ، وكأنه يفتح لنا صدره ويخرج لوحاته من بين أضلعه يضعها فى أطرها ويقدمها لنا نابضة بنجاوى روحه ؛أغانى الصخور والماء والسماء ودسامة النور والظلمة والخيرالممتد بلا حدود ، ثم هو على الرغم من كل امتداده لايحقق اكتمالا ، ويظل جزءاً من كل لايدرك كنهه ولاتقوى الأطر على احتجازه ، وتتمثل حواذية المشهد فى العجر عن الاستحواذ عليه . فهو دائم الإفلات من إطار اللوحة ابتداء وانتهاء . ولهذا جاءت بعض هذه المشاهد كما لو كانت ملتقطة من حالق ، بعينى نسر أسطورى بطل ، ربما فى الليل ، على الأرض من عليائه ، فيمتد تحته شرقا وغربا وجنوبا الحيز الذى انبهمت على أى حال مفرداته ، رغم تكدسها ووفرتها . ولم يبرز منها بالأخص إلا ظلمة يتسلل إليها بصيص نور من قنديل ربما كان فى أغوار الحلم كامنا ينفث فى أرجاء الكون نبضاته وهمساته ، وأحيانا يتفجر وميضا يخطف الأبصار برهة لتعود العتمة من جديد . فتنضم إلى السكون فى احتضانها للكائنات . يخيل إليك أن الفنان يجوس بين ركامات الأشكال وبقاياها كما يجوس السقا حوارى الأحياء الشعبية ، فإن سألته عما يبحث أجابك مؤرقا ` عن الإنسان أبحث ` وتجوس بناظريك بدورك فى أرجاء اللوحات ، وتكتشف أنها من كل هيئة إنسانية خلت . أين الإنسان إذن ؟ إنه فى كل لمسة ، وكل خط وكل ومضة ، لكنك بالفعل لن تضع عليه يدك أبدا .
- كيف كان يرسم زوجك هذه اللوحات ؟ تجيبك: كان يبسط لوحته على الحامل ، ويجلس على كرسيه أمامها . هناك . وتشير إلى كرسى بنى قديم . . ويتأمل فضاء اللوحة ، وقد يظل على هذا الحال طويلاً دون أن ينبس بكلمة ، ثم يضع لمسة من الفرشاة ، يتبعها بأخرى وبأخرى فى شتى الاتجاهات ولكن بأناة من يسير على حبل رفيع والهاوية من تحته ، ويمضى محتفظاً بتوازنه . ويتوقف كثيراً ويتطلع أمامه ساهم النظرات سارحا ثم يعود فيضع اللمسة التى فكر فيها طويلا . ثم فى لحظة ، وقد تكون لنا مباغته ، ودون انتظار ، إذ لم يكن يحدد لنفسه مخططا مسبقا للوحاته ، يتوقف نهائيا . يتنهد ويقول بصوت أقرب إلى الهمس : أعتقد أنها اكتملت هكذا
وتكون العتمة قد سادت ، وأطل الليل من الشرفة التى كان يتركها على الدوام مفتوحة وهو يرسم . وربما أيضاً يكون الفجر قد أوشك على الانبلاج .
- كانت كلها مشاهد داخلية .
- ومن خلال مشاهده الداخلية هذه استطاع رمسيس يونان أن يدلى بتصوراته للوجود والحياة والإنسان الذى لاتبدو له فى مشاهده الأخيرة أدنى بادرة . وهى تصورات لاتتضمن مافى الإجابات الحاسمة والقرارات المتخذة من استقرار وراحة بقدر ماتتضمن من انفعالات الشك ، ومعاناة البحث بلا هوادة عن حقيقة غائبة أبدا فقد كان رمسيس يونان رغم هدوء مظهره ، يطوى بين جوانحه جحيما مستعراً ، ويخوض فى ظلمة صمته ` معركة طوفانية ` فى سبيل البحث عن يقين ، عن معنى : ويكتسح فى هذا المضمار الرؤى اليومية ، يدمرها ويعيد تركيبها بوازع من عدم رضاء دفين بالأوضاع والمقادير ، لايقنع مثل غيره بإيمان غافل ، يعوزه الوعى وينقصه العمق . ويوغل بعيدا إلى أعماق الطبيعة وهى ليس بلازم أن تكون على الإنسان حنونا وقد لاتكترث به أيضا أو تعبيره التفاتا ، ويتلمس إجابات جديدة طلية بكراً يستنطق بها محاوراته مع الصخر والماء والغسق . وقد جلب رمسيس يونان بحق إلى تصويرنا المعاصر وعلى الأخص فى سنواته السبع الأخيرة ، رؤى لم يسبقه إليها أحد ، والفضل فى ذلك يرجع إلى أنه كان تواقا إلى الثقافة والمعرفة ، وبحدس الشاعر وشكوك الفيلسوف ، استطاع أن يقود تصويرنا المعاصر إلى آفاق جديدة وأتى بحلول مفعمة بروحانية الشرق وصوفيته . تتجلى على سبيل المثال فى ` بنياته ` النوبية المحترقة وبنفسجياته الغسقية المرواة بنورانية الأسلاف القدامى .
بقلم : د/ نعيم عطية
مجلة: إبداع ( العدد 7) يوليو 1986
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث