`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
على محمد دسوقى
(( ألوان دسوقى ومفرداته بين الهمس والوضوح ))
- لوحاته الزيتية تأتى إليك من بعيد، عبر الزمان والمكان معا .. كأنما تتطلع الى مشهد يجتذبك من وراء غلالة شفافة فى زرقة سماء ضبابية وعبر طبقات من الفراغ المتد الى مرمى البصر ..
- هذا هو الحس الملموس الذى تراه العين فى تلك اللوحات للوهلة الاولى أما الشعور الهامس المتجه الى الوجدان، فهو ذلك الحلم الشاعرى الذى يخرج بملامح (الصورة) وسائر مفرداتها عن نطاق الواقع، ويرتبط بالمخيلة ونسيج الذكريات ومخزونها فى أعماق الفنان، وحتى طفولته المبكرة ..
- ومن هنا تطفو فوق سطح اللوحة تلك الرؤا الشعبية العذبة، يستحضر بها شخوصا عرائسية تتراقص فوق نسيج متناغم شفاف ..
- فى لوحات (الفنان على دسوقى) الزيتية ملامح متفردة تحمل شاعرية (الموال) و(صوت الارغول) بهمس من يغنى لنفسه .. ليعلو فوق الاحزان بقلب يعشق الحياة والبساطة الكامنة فى الانسان ..
- أما لوحات (الباتيك) فترتفع نبرات الالوان وتزهو خلالها.. تعكس خبرة تكنيكية عالية.. الهارمونية والتناغم فيها يرتفع صوتهما ويقترب من السمع والبصر، بمذاق آخر جمالى رائق ومختلف عن مذاق لوحاته الزيتية البحرة فى الهمس والآتية من أفق بعيد ..
- لونان من التعبير لفنان واحد، تجمعهما عناصر تشكيلية واحد، وتفرق بينهما طبيعة الخامة ومنعطف الرؤية والرؤا .. كعازف يؤدى مقطوعة موسيقية واحدة على آلتين مختلفتين تماما.. وفى الحالتين نلمس خبرة الفنان المتنامية ..
الناقد / كمال الجويلى

لوحات على دسوقى احتفالية خاصة للترحيب برمضان
- تمثل أحياء القاهرة القديمة المصدر الرئيسى لأعمال الفنان التشكيلى على دسوقى، حيث ولد فى حى الأزهر عام 1937، وعاش الأجواء والشعائر الدينية، ومظاهر العادات والتقاليد الشعبية.
- ويقول إن الحارة المصرية تعيش فى وجدانه فقد عاش الطفولة الأولى فى أحد أقدم الأحياء الشعبية فى القاهرة وهو حى الأزهر فى أجواء العمارة الإسلامية وكان يتوسط ميدان سيدنا الحسين نافورة كبيرة يحيط بها سور عريض له زخارف إسلامية مميزة يجلس حوله زواره ومريدوه من أهل المنطقة فى الصيف للاستمتاع بالنسمات الباردة، ويطوف عليهم بائعو مشروب العرقسوس المثلج وحاملو المياه المعطرة فى أكواب فضية لها زخارف بالغة الدقة.
- وأضاف أنه عاش روح الأسطورة والحواديت حيث كان حى الأزهر يزدحم بالذين يعيشون معاً فى ارتباط شديد وفى الأحياء الشعبية كان الأطفال أكثر تحرراً، وتربطهم الألعاب الجماعية، وكانت رسوم الفنان الشعبى على الجدارن فى مواسم الحج تجذبه، وأيضاً تلك الزخارف التى يزين بها الباعة عربات الكشرى والبطاطا والفول، ويلونونها برسوم شعبية جميلة تزخر بأشكال من المربعات والمثلثات والأحجبة بألوان متألقة من الأحمر والأصفر والأزرق، وتحمل الكثير من الموتيفات الشعبية مثل العين والنجمة والهلال والسمكة والكف، وهى ذاتها الموتيفات التى أصبحت علامات مضافة لأعماله فيما بعد.
- وقال إنه تأثر كثيراً بالفن المصرى القديم والرسوم الجدارية للمعابد الفرعونية وكذلك الأيقونات القبطية، إلا أن استفادته الأولى كانت من الحلول التجريدية للفن الإسلامى .
- وعن شهر رمضان الفضيل قال: رمضان هو (حى الأزهر) حيث يتأكد فيه وفى محيط منطقته ذلك الشهر الكريم بكل طقوسه الشعبية خاصة فى أحياء السيدة زينب والحسين، ومنطقة تحت الربع التى تحتوى على العديد من محال بيع وصناعة الفوانيس، ومازال يتذكر تلك الطقوس التى كانوا يستقبلون بها قدوم رمضان فى الأزهر والحسين، حيث تبدأ حلقات الذكر التى ينتشر فيها المنشدون، وقارئو القرآن الكريم، وترتفع أصواتهم بالابتهالات والمدائح النبوية.
*الحى الشعبى :
- وأكد أن أحياء القاهرة الشعبية العريقة،الحسين والأزهر والغورية والسيدة زينب كانت تقيم السرادقات للاحتفال بالشهر الكريم، حيث يمتلىء كل حى بالأضواء الساطعة وتعلق الأعلام الملونة والفوانيس الكبيرة على أبواب البيوت وشرفاتها، وعلى حوائط الأزقة والحارات، وأمام المحلات، فتشيع جو البهجة.
وأوضح أنه عاش تلك الفترة من أيام طفولته، حيث لم يكن قد بدأ البث التلفزيونى، فكان يستمع مع أطفال الحى إلى حكايات ألف ليلة وليلة فى الراديو، ثم يتجمعون للسهر فى حوش البيت، ويلعبون بعمل خيال الظل وصندوق الدنيا ويستمعون إلى الحكايات والقصص، ومازال يتذكر مقابلته فى مرحلة الشباب مع المعمارى حسن فتحى فى منزل فتحى الذى قال له (البيت الذى ليس فيه حوش ليس بيتاً ) مؤكداً أن الحوش هو النادى الذى يستمتع الأطفال بداخله، وهذا التصميم لاتجده إلا فى بيوت القاهرة القديمة المستمدة من التصميم الإسلامى.
- ويرى على دسوقى أنه شاهد الحياة الشعبية برؤية خاصة جداً، حيث استطاع أن يكون ملخصاً للحالة العامة للحياة الشعبية كاصطلاحات مصورة هى بالأساس تعبير عن وجدان البشر فى تلك المناطق مثل الرسوم التى تجدها على العربات الخشبية وكتابات (الله أكبر والحمد لله) فهى ليست مجرد جمل، وإنما هى رواسب حية فى عقول الأفراد كترديدهم الدائم ( الله أكبر ما شاء الله ).
* تأثير البيئة :
-عن لوحاته الخطية، أشار إلى أنه على غير عادة الفنانين الذين استمدوا الأشكال والقواعد المتوارثة من فنون الخط العربى فى الكتابات القديمة، واستفاد فى تلك الأعمال من مثير مختلف تماماً، ومرتبط أيضاً بطفولته ونشأته فى حى الأزهر، حيث كانت تنتشر الطرق الصوفية التى تكون دائماً مصاحبة بعلامات وأعلام خاصة بها ومكتوب عليها أسم كل طريقة، فأخذ تلك النوعية من الخطوط الحرة وشكلها فى آيات كاملة أو البسملة وبعض أسماء الله الحسنى.
- وأوضح أنها تجربة تستمر معه ثم تنقطع إلى أن يأتى مثير ما، ويبعثها مرة أخرى مثل لوحته (يارحمن) حيث كان قد شاهد تلك الكلمة معلقة خلف فنان أميركى، أقام فى المغرب بعد إسلامه، فأعجبته وأعطته رغبة على تنفيذها على قطعة نسيج بشكل تلقائى، وكذلك لوحاته عن رمضان مثل ( أهلاً رمضان ورمضان جانا ) .
- أما عن اشتغال بتقنية فن الباتيك كأحد روادها، قال إنه فى فترة السبعينيات من القرن الماضى سافر مع الفنان الراحل حسنين على، والفنانتين آمال وعفاف حمدى إلى فينسيا، وأخذ معه عدداً من أعماله، بعد أن قام بلصقها على ألواح من الخشب الصناعى، واحتاجت إلى حقيبة حفظ خشبية ثقيلة الوزن، فقرر أن تكون أعماله القادمة أسهل فى الحركة والحمل، وتصادف أن عقدت الفنانة نازك حمدى دورة فى تعليم تقنية الباتيك فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فتقدم لها، حتى أقام معرضاً لأعماله فى الجامعة نفسها وحصل على الجائزة الأولى .
- وأكد أن فن الباتيك له سحر خاص، حتى أنك بعد أن تنتهى من اللوحة تحس بأنك تراها لأول مرة، حيث يعتمد (الباتيك) على التكنيك والحرفة مع الصدفة التى يحولها فيما بعد إلى منطق عملى .
مجدى عثمان
جريدة الاتحاد 26/ 8/ 2010
على دسوقى .. والفـــن البـــرئ
- ما إن يومض فى الذاكرة ، اسم الفنان على دسوقى إلا وتلمع صور تشكل في مجملها حالة ليست فريدة في واقعنا التشكيلى ، ولكنها تحمل من الأصالة ما يدعو إلى الإعجاب فسيرة الفنان الذاتية ، وإنتاجه الفني يشكلان زاداً للأمل ، وطاقة للتحمل وقدرة على تجاوز الحصار للموهوبين الفقراء .
- لم ينل من التعليم الرسمي إلا القليل ومع ذلك حقق من الانتشار فى مصر ، والعالم ما لم يقدر عليه (دكاترة) الفن ، المهيمنين الآن عل الحركة التشكيلية فى مصر ، وهو فى كل مراحله يطالعك بوجه برئ ، باسم وكتلة ضخمة من الشعر الليفى الذى صار رمادياً بحكم السن .
- التقيت به للمرة الأولى عام 1959 ، بمتحف الفن الحديث ، ذلك المبني الإسلامى الجميل ، الذى هدم بعد ذلك لسبب ما ، وصار موقفاً للسيارات ثم تحول الآن إلى مشروع من مشاريع الانفتاح ، كان المتحف فى ذلك الوقت شعلة من النشاط الثقافى والفنى ، وكان (على دسوقى ) دائم التردد على مكتبة المتحف يتأمل إبداعات الفنانين وعرفت منه وقتها أنه طالب بالقسم الحر ، بكلية الفنون الجميلة وهو قسم لا يشترط أي شروط على الملتحق ، إلا أن تلك الدراسة التى تلقاها ، لا نلمس لها أثراً . أى أثر على أي مرحلة من مراحل إنتاجه الغزير .
- إن المتأمل لإنتاج الفنان منذ الستينات حتى اليوم ، يكتشف أن أستاذه الأول ، وربما الوحيد هو الحارة الشعبية المصرية ويدهش لهذا التناقض الحاد ، بين براءة العالم الذي تتجسد بلوحاته ، وخشونة الظروف الأقتصادية والاجتماعية التى تحاصره لفترة ليست قصيرة من عمره إلى ان اجتاز المحنة بالصبر والعمل إلى ذلك الانتشار الذي لا يخفي على أحد ، وإلي ذلك الاحتفال الإعلامى الذى أرفض بعضه خاصة ما يتسم منه ، بالمبالغة الضارة ، ليس على الفنان ، بل على الحركة التشكيلية فالوقوع في مطب المجاملات من شأنه أن يعتم المساحة بين العمل الفني والمتلقي ، ويؤجل ميلاد حركة نقدية حقيقية .
- الميـــــلاد
- إن الدعوة إلي اكتشاف ملامح فن قومي كانت تتراوح بين الاشتعال والكمون منذ الرائد الأول ( محمود مختار) إلي اليوم إلا أنها لم تتلاش رغم التبعية التى تصل كثيراً إلى حد الصراخ للنموذج الأوروبى .
- موجات تتابع وتتداخل من توفيق بين الموروث والمعاصر إلي إيمان كل بكل ما ينتجه الفكر الأوروبي إلى رفض كامل لكل شئ .
- ولد فناناً من التيار القومى للفن ، الذى نلمح قسماته في الفنانين : محمود مختار ، راغب عياد ، آدم حنين ، الجزار ، عبد الوهاب مرسى ، سيد عبد الرسول ، كمال خليفة ، حسن سليمان ..... وغيرهم كثيرون .
- حاول كل منهم أن يلتقط الموروث ويهجنه بما يتسق واختياراته من أساليب الفن المعاصر التشخيصية ، فنرى (مختار) قد خلع قداسة المنحوتات الفرعونية على الفلاحة المصرية ، كما خلعها ( محمود سعيد ) على فتيات بحرى فامتلأت صحة وعافية أسطورية : بينما قفزت وجوه الأيقونات إلى حوارى وأزقة القاهرة الفقيرة ، ممثلة في أطفال ممصوصين في لوحات البهجورى ولست أحاول هنا رصد الإنجازات التى أنجزها كل الذين ذكرت أسماءهم ، والذين لم أذكرهم بغير قصد ، إنما ما أحب التقاطه هو ذلك السحر المقدس ، للموروث باعتباره وثيقة لبشر اختفوا بغير عودة ، وقد فقد قداسته على مر الأجيال ، فبدلاً من ارتفاع فلاحات مختار إلي الشموخ الفرعوني ، نرى وجوه الأيقونات والملامح الفرعونية تنزل إلى أحياء الفقراء تتقمصهم كما قفز بعض الفنانين إلي الحارة المصرية من منطلقات أخرى ، فقد غرق ( الجزار) و( ندا) في مرحلة من مراحل ، في المعتقدات الشعبية حيث الخرافة والشعوذة كما دخل إلي الحارة عدد من الفنانين الآخرين من زوايا تزيينية أو تلبية لموجة ما . إعلامية أو سياحية . إلا أن هؤلاء وأولئك شكلوا في النهاية مناخاً عاماً ، أو ذاكرة جمالية عامة ، سمحت بتقبل زوايا نظر مختلفة في إطار ثابت . ومن هنا ولدت تجارب علي دسوقي إلا أن الفارق هو أن (على) لا يشغله عادة التخطيط والتنظير وأغلب الظن أنه اختار وحدات لوحاته وسجل بها معالم الحارة تسجيلاً فطرياً وقد سمح هذا المناخ بمولد (كلمة السر) التى كانت بالنسبة له الحارة المصرية منظوراً إليها بعينى طفل برئ .
- قد نلمس في لوحاته بعض الملامح القبطية فى العيون ، وبعض الملامح الأسلامية في التراكيب المعمارية والفرعونية فى وضوح العنصر الخطي وطلاء المساحات ، أو في بعض التصميمات إلا أن المنتج النهائي يتميز بخصوصية تنفذ إلى القلوب ييسر ، وتؤكد قدرته على اختيار ما يناسب طبيعته من الموروث القومى الفنى .
- المعرض الأول عام 1963 والمرحلة الرمادية
- شكل هذا المعرض معالم الطريق الذي التزم به كانت (الحارة) هي البطل وما تزال . إلا أن حارته ليست مرعبة كحارة (عبد الهادى الجزار) التى سيطرت عليها المعتقدات الموحشة ، والتى امتلات بالمسوخ البشرية والمسابح والمباخر والحشرات والحيوانات الأليفة وغير الألفية والأحجبة والأقراط والأطراف الغليظة الخشنة ، والتحوير الصادم للمشخصات والعجائن السميكة ، واللمسات الثقيلة الوطأة . تلك العناصر التى تنظم فيما بينها جواً كابوسياً ، منفراً ليس من اللوحات ، بالطبع ولكن من العالم الذي يحاول الفنان إدانته ، على النقيض من هذا ، تماماً نلتقي بحارة (على دسوقي ) الوديعة المسالمة ، المرأة والطفل هما تاج الحارة ، رغم ملامح الفقر البادية على الأطفال الذين لا يجدون من وسائل اللهو غير (أطواق العجل ) يندفعون بها عبر اللوحات ! أما (المرأة) فهى الجمال الأنثوى العفيف والبرئ.
- إن لوحات معرضه تخلو من التوتر كما تقريباً من التوابل التكنيكية والتحريفات الصادمة ، والموترة كما هي الحال عند ( الجزار ) و ( ندا ) أو التحريفات الاستعراضية عند (عبد الوهاب مرسي ) أو ( رفعت أحمد ) . فتحريفاته تتسم بالبساطة والسلاسة التى تقترب من رسوم الأطفال ، واختار لهذا المعرض موضوعاً مشتركاً هو ( السيرك ) ، سيرك الحارة طبعاً الفقير الذي يأتي لمشاهدين فقراء ، في المناسبات العامة كالموالد والأعياد وركز على عنصر الأطفال ، الذين وضعهم في أوضاع بهلوانية ، إلا أن صغاره قد ظهروا لأول ، وآخر مرة يخيم عليهم الحزن وأسهمت ألوانه الرمادية ، المتقشفة في تأكيد هذا التعبير .
- وشاركه في هذا المعرض الفنان ، والناقد الراحل ( محمد شفيق ) ، وكان وقتها طالباً بمعهد السينما وكان اللسان الناطق باسم الثنائي . كان يتسم بدمائه الخلق والدأب ، إلا أنه فجأة اختفي بسبب المرض النفسي وانقطعت أو كادت أخباره ، إلي أن فوجئنا بحادث وفاته ، في ملابسات مفجعة في مستشفي الأمراض العقلية منذ بضع سنوات واندثرت لوحات ` شفيق` بسبب الإهمال أما لوحات ( على دسوقي ) فقد اندثرت لا ضطراره للرسم عليها رسوماً جديدة استعداداً لمعرض آخر .
- كان يعمل في وظيفة رمزية وهي العمل كمساعد في الماكياج وقد أوحي له هذا العمل ، ببعض الحلول التكنيكية لمعضلة الألوان ، فعلى الرغم من أن الأجر الرمزي الذي كان يتقاضاه من التليفزيون لم يكن يسعفه ، غير أن المساحيق الملونة التى كان يطلي بها وجوه الممثلين والممثلات ، قد أوحت له باكتشاف ألوان خاصة به من مساحيق الألوان الشعبية فأجرى عليها بعض التجارب إلي أن اكتشف العجائن المناسبة ، وظل يعمل بها . أنجز بها معرضه الأول عام 1963 ومعرضه الثاني عام 1964 الذي وضع له عنواناً هو : ( حياة الفلاحين ) ، وغلب على اللوحات الدرجات الرمادية وتعبير الحزن ومن أبرز لوحات تلك المرحلة لوحة ظلت تترد عبر مراحله المختلفة بأسماء مختلفة عن سيدات في المقابر لابسات السواد ، ملتصقات كما لو كن حبات مسبحة وقد اندثرت للأسف . معظم لوحات المعرض الثاني غالباً بنفس الطريقة .
- من اللوحات التى أفلت من التبديد لوحة استلهمها من أغنية لسيد درويش مطلعها : ( الحلوة قامت تعجن ) وهي مقاس 120×70سم ، وتمشي فتاة جميلة تنحني على وعاء عجين وفي أعلى اللوحة يظهر ديك يهم بالصياح ، وتسيطر الدرجات الرمادية الضاربة إلي الزرقة على اللوحة ، بينما ظهرت بشرة الفتاة فى لون ( الأوكر) ، واتجه إلي تنظيم عناصره في مساحة ذات بعدين ، وإن لم يلغ نهائياً الإيهام بالعمق ، واعتمد على الخطوط الخارجية الصريحة لتأطير الأشكال وتنظيم علاقاتها مع الفراغ ولقد أقام حواراً ، ناعماً بين الفتاة ومعجنها من ناحيته ، والديك الصارخ من ناحية أخرى فحاصر الفتاة والمعجنة ، وبخط وهمي يشكل شبه مربع مقفل بينما ترك الطريق مفتوحاً أمام الديك ، الذي أوحى لنا بوضعه هذا إلي الإنصات والترقب للمجهول خارج السر ، إن ملامح الفتاة تشبه العروسة الحلاوة ، وقد ظلت تتردد عبر لوحاته ، في نمط محفوظ ، لا يكاد يبدله تبدو دائماً ذات أطراف دقيقة بلا مفاصل .
- الثابت ، والمتحول !
- حفلت مراحل (على دسوقي) بالانتقالات المفاجئة لعنصر اللون ، فمن الرماديات الضاربة إلي الزرقة إلي البرتقاليات ، ومن الغلالات البيضاء والدرجات الضبابية إلي الأحمرات ، والبنيات الصارخة !
انتقال يوحي بالمزاج العصبي .
- إلا أنك عندما تتأمل بقية عناصر اللوحات ، تجد أن كل شئ على ما كان عليه : الشخوص الحيوانات الطيور الأليفة بل التكونيات .. ثابتة ، وكأن كل ما يصنعه الفنان هو الارتحال بعالمه السكوني عبر فصول على النقيض - والقياس مع الفارق - من ( بيكاسو ) في مراحله اللونية ، فاللون عنده ليس مجرد غطاء خارجي بل يشارك مشاركة فاعلة فى بناء العالم الدرامي الذي يسعى إلي تجسيده ، فالانتقال من مرحلة لونية لمرحلة أخرى ، لا يستهدف مفردة اللون ، بل يستهدف مجمل العناصر التى تشكل رؤية الفنان ، ولعل هذا هو ما أغرى بعض النقاد بتحجيم التجربة الفنية لعلى دسوقي ووضعه في إطار الفنانين المنشغلين بالعادات ، والتقاليد الشعبية صحيح أنه يعبر عن الأليف من الموضوعات ، إلا أنه يخلع عليها مسحة أخلاقية ذاتية .. وصفاء ` تصويرياً` ممتعاً للعين فالمرأة عنده (أم) أو (معشوقة ) والرجل مجرد عنصر مكمل للمرأة ، أما الحمام طائرة المفضل - فقد اعتقله بالامتلاء - والكسل والإلتصاق بالأرض إلي جوار أقدام العشاق ، وكأنه يحرسها والنخيل المنفتح الأذرع والنباتات المزهرة ، تشارك الإنسان حالة الحب ، ويختفي من اللوحات بصورة تكاد تكون نهائية الرقم الفردي الذي يغري بموضوعات (الغربة) و (المغتربين) ، ومن يدرى أيضاً من موضوعات التبعية للنمذوج الأوروبي ، وربما كان تعلق الفنان بكل هذا ، قد حجم لديه الرغبة في مغامرة اكتشاف مثيرة ، غير مأمونة العواقب .
- سألت الفنان مستوضحاً : هل كان هناك ضرورة تعبيرية لمراحلك اللونية ؟ قال ببساطة:( إنها الصدفة ففى المرحلة البيضاء - مثلاً - كنت مشغولاً بتحضير اللوحات بالمصيص الأبيض ، والجص على ألواح من السيلوتيكس ورسمت عليها بالأصباغ ، والألوان المائية الخاصة بالأقمشة ، وكنت وقتها أحاول أن أنفذ رسوماً جدارية كتلك التى يضعها الرسام الشعبي على منازل العائدين من الحج ، وقد راقني المذاق اللوني الذي تحقق ، وبعد أن اقتنت وزارة الخارجية بعض اللوحات تشجعت ، واستمررت بعض الوقت . ثم توقفت وتساءلت : لماذا لا أنفذ العديد من اللوحات ، تحتفظ بهذا المذاق .. ومن هنا بدأت مرحلة لونية جديدة ) .
- معرض عام 1965 بأتيليه القاهرة
- جاء هذا المعرض نتاجاً لرحلة إلي مناطق الأقصر وأسوان عام 1964 ، أتاحتها له مصلحة الاستعلامات ، وكانت أولي رحلاته الفنية إلي أى مكان وكان السفر ، وبالنسبة له حلماً بعيد المنال إذ كان ما يزال في دائرة الفقر المدقع ، ففي الوقت الذي يمارس فيه بعض أثرياء الفنانين أسفاراً متعددة بنفس اليسر الذين يشعلون به لفافات التبغ ، يكون عند غيرهم من الفنانين الفقراء عسيراً بل مستحيلاً . إلا أن الحلم قد تحقق عند على دسوقي وتبعت هذه الرحلة رحلات . ليس فقط داخل مصر ، بل خارجها إلي أوروبا وإلي بعض البلدان العربية.
- ورغم ذلك ، فإن شخوص (الحارة) تظل متسلطة على ذاكرته ثابتة ، لا تتبدل ولم تحرك فيه الرحلات وزيارة المتاحف في أوروبا ، نوازع الخلق بقدر ما حركت داخله الاعتصام أكثر فأكثر بصورة الحارة المتخيلة ، التى تنضح براءة وصفاء وطفولة ! حتي العواصف العامة ، وما يمس منها مصير العالم العربي لم تنجح في إخراجه من الحارة .
- وعندما ذهب إلي أسوان 1964 ، كانت الاستعدادات الضخمة على أشدها ، وصاحب المشروع غطاء إعلامي وإعلاني مثير ، ومع ذلك لم يهتز ( على دسوقي ) وانجذب إلي المناظر الطبيعية الساحرة واستغرق في رسم نفس الوجوه العرائسية الجميلة ، بل استعاد من الذاكرة بعض اللوحات القديمة ، وأعاد صياغتها بعد أن أطلق عليها عناوين تنتمي إلي مواقع زارها في الرحلة ولعل الجديد الذي أضافة من تلك الرحلة ، هو ( رسوم الماعز ) التى ظهرت في لوحاته ، في تكوينات تذكر ، من حيث التكوين باللوحة الجدارية المشهورة : ( أوزميدوم ) ، فظهرت الماعز في صفوف أفقية وقد صاغ منها العديد من اللوحات وقد انتقل إلي مرحلة لونية جديدة ، هي الألوان البرتقالية ، التى تتسم بالدفء والصراحة ، إلا أنه لم يستقر عندها ، فانتقل انتقالاً معكوساً . إلي الغلالات البيضاء ثم الغلالات الضبابية . الوردية حيث صارت كائناته أطيافاً هائمة خافتة الصوت ، لدرجة أصبح من الصعب تسجيلها بالفوتوغرافيا ، فضلاًعن إمكان طبعهاً في مجلة أو جريدة ، لكن قبل أن تتلاشي عناصره في الغيب ، اندفع إلي الألوان الصارخة الأحمرات ، والبنيات ، وغيرها من الألوان المقتحمة ، بل زهد في ألوانه الزيتية ، واتجه كلياً إلي فن ( الباتيك ) فضرب عصفورين بحجر .. كما يقال ، انفلت من محنته الاقتصادية واحتل ذيوعاً لا يقل كثيراً عما يتمتع به نجوم كرة القدم .
- من أبرز لوحات تلك المرحلة لوحة بعنوان ( السبوع ) ولست أدري إلي أي مدى يمكن طبعها باللون أو بغير لون ، فدرجاتها شديدة الشحوب ، تتساوى من حيث درجة السطوع في كل مقاطع اللوحة ، على الرغم من الحسابات الذكية في التصميم فقد استخدم ( وحدة ) السلم كركيزة محورية ورمزية ، فهو يضم كل شخوص الاحتفال الطقسي ، صعوداً وهبوطاً ، وفي وسط السلم تماماً حيث تكون بؤرة اللوحة ، تظهر دائرة ( الغربال ) محتوياً بطل اللوحة ( الرضيع ) وتستقر حركة الجموع عند نقطة انتهاء في شكل امرأة تحمل قلة ، تقف عند إطار اللوحة - من ناحية اليسار.
- كنت أتمنى لو لم يجمد الحركة الذكية والتصميم المحسوب بالدرجات الحيادية المسيطرة على العناصر ، التى لم تشفع لها الشرائح اللونية التى ملأ بها فراغات اللوحة ، كما تمنيت أن تنقل اللوحة من وسيط الألوان الزيتية إلي وسيط النسجيات المرسمة على كل ، فقد فازت اللوحة بالجائزة الثانية لصالون جمعية محبي الفنون الجميلة لذلك العام أعني عام 1972.
- معرض لن الباتيك عام 1978 بقاعة جوته
- إن فن الباتيك فن قديم وجد في الشرق الأقصي وانتشرالآن بين الفنانين في العالم وهو فن الرسم على القماش باستعمال عازل الشمع في المناطق التى لا يراد تلوينها ، وقد مارسه عدد قليل من الفنانين المصريين أبرزهم : صبري السيد ، سعد كامل ، نازك حمدي ، خميس شحاته ، كما مارسه بصورة تلقائية ، أبناء الحرانية تحت إشراف الفنان الراحل ( رمسيس ويصا واصف ) وقد أدت صعوبة الوسيط إالي أحجام عدد كبير من الفنانين عن ممارسته ، فهو يحتاج إلي صبر شديد ودأب ودقة في التنفيذ ، إذ أن أي خطأ يعني ضرورة إعادة تنفيذ اللوحة ، ولهذا استخدم الفنانون عناصر بسيطة في التكوين ، وألوان محدودة ، وقد ابتدأ ( على دسوقي ) تجربته مع ( الباتيك ) بنقل بعض لوحاته الزيتية إلي هذا الوسيط الجديد ، وقد ووجه بملاحظات انتقادية في البداية على أساس أنه لا ينبغي الإكثار من التفاصيل أو درجات اللون شأن اللوحة الزيتية ، إلا أنه لم يأبه لتلك الملاحظات واستغرق في العمل الشاق ، لدرجة أنه لم يعد يعرض منذ ذلك التاريخ حتي لحظة كتابة هذه السطور غير لوحات من فن الباتيك ، وازدحمت لوحاته بالتفاصيل التي تربك أي فنان آخر ، كما ترددت بعض المتكررات من اللوحات ، إلا أنه انتقل بفن الباتيك من الدرجات الضبابية إلى البنيات ، والأحمرات الصارخة فألوان الباتيك تتميز بالشفافية ، والنصاعة ، والتشققات التى تقتحم مساحات اللون ، وتعطيها مذاقاً مختلفاً عن التصوير الزيتي .
- قال عنه الفنان بيكار في جريدة الأخبار بتاريخ 18/3/1978 : ( إن الفنان بهذه الخامة الجديدة بدأ يصيح بأعالى صوته بعد أن كان صوته خافتاً لدرجة الهمس ، فقد بدأت البنيات الصارخة ، والأحمرارات الساخنة ، والأصفرات المتوهجة ، والأسودات القاتلة والأبيضات تنشر تألقها ووهجها في لوحاته فينبعث منها دفء صيفي أكثر مصرية وحرارة وحيوية ، من الأجواء الضبابية الناعسة التى كانت تغمر لوحاته السابقة ) .
- ويقول على دسوقي :
- ( إن التصوير الزيتي بالنسبة لي هو الأساس ، أما الباتيك فهو حرفة ) .
- من أجمل لوحات معرضه لوحة بعنوان ( فتيات جيل النرجس ) ، وأسماء الأماكن كما أشرت من قبل لا تعني أكثر من التذكرة بأماكن زارها الفنان ، وفي اللوحة تظهر ثلاث فتيات يشبهن إلي حد كبير هيئة المرأة فى الرسوم المصرية القديمة ، خاصة في شكل الملابس والجلوس ، فعلى الرغم من أنهن يجلسن على ظهور ثلاثة حمير ، إلا أنهن يبدون كما لو كن جلسات على عروش متوجة ممتشقات ، تلامس أجسادهن الحيوانات لمساً خفيفاً رشيقاً . تظهر الفتاة الوسطى بردائها البني الفاقع فى بؤرة اللوحة ، وفي الجانبين ، تظهر الفتاتان فوق حماريهما الأسودين المتواجهين ، وهما يشكلان بوابة وهمية للفتاة الوسطى ، ويتخلل الفراغات الفاصلة والواصلة بين الفتيات ، كورال من النخيل المتنوع ، والناهض في صفوف ، حيث يرتفع وينخفض بارتفاعات التلال ، وانخفاضها الممتدة في خطوط أفقية متوازية ، لقد أعطى التنظيم الهندسي للعناصر الأساسية ، والعناصر الخلفية مذاقاً أرابيسكياً .
- شهدت معارض التالية اتحساراً في الصراخ اللوني واتجاهاً إلي تهدئة اللون البني ، والأحمر كما عاد للألوان الباردة التى تذكر بمراحل الزيت السابقة ، إلا أنها هذه المرة لم تفقد حيويتها ، كما ظهر اهتمام بالتراكيب المعمارية التى كانت تظهر من قبل كتقاسيم فى الخلفية ، وأعطاها البطولة في بعض اللوحات كما في لوحة مقهي شعبي ، التى أنجزها عام 1979 ، ففيها نلتقي بالتداعيات الهندسية : المربعات ، والمثلثات ، والأقواس التى تذكر بالعقود الإسلامية ، في النوافذ ، والمداخل وتقسيمات الأرضية ، ويتراجع العنصر الإنساني ليصبح مجرد اكسسوار!.
- الخلاصــة
- إن الفنان ( على دسوقي ) بتعامل مع مفردات عالمه بحنان مثير للدهشة وهو يقدم لنا عالماً خيالياً يتسم بالمساواة يحتضن الصغار ، والكبار ، والأنسان والحيوان والطير ، ويمنح الأمان الدائم للجميع .
- أما في مجال ( الشكل ) فإننا لا نلمح تمرد عنصر على آخر ، بل تآلفاً ، وتناغماً جميعاً .
- إن تأمل هذا العالم يغرينا بالأمنيات ، التي تبدو في هذا العصر العاصف مستحيلة ، فتصدمنا البراءة الجميلة لأنها تمثل رفاهية تشترط الاستقرار غير الممكن الآن . ولكنها رغم ذلك تخترق تحفظاتنا لتستقر في القلب !
بقلم: محمود بقشيش
مجلة :إبداع العدد (5) مـايــو 1984
باتيك .. باتيك .. باتيك
- نسمع ونقرأ كثيرا فى وسائل الاعلام عن ` فن الباتيك ` فى حين أن ` الباتيك ` ليس فنا على الاطلاق بل أسلوب حرفى وتكنولوجيا فى صياغة المنسوجات والقول بأنه فن يدخل فى باب نقص المعرفة وعدم الدراية أو من باب التجاوز كما نقول` فن قيادة السيارة ` أو` فن التطعيم بالصدف` وإذا كان الفن يتضمن الحرفة - وهذا صحيح تماما - فالعكس غير صحيح و`الباتيك ` حرفة وصنعة لكن الفنانين عندنا وفى العالم الثالث لايقيمون وزنا للتعريفات الدقيقة وغمرتهم فوضى فكرية فخلطوا الفنون الجميلة بالتطبيقية والأهداف بالوسائل بدعوى الحداثة ولكن الناقد والمؤرخ ` كليمنت جرينبرج ` ينادى بأن الحداثة تتناول تحديد االفوارق بين مختلف أنواع الفنون الجميلة من صور وتماثيل ذكر هذا الرأى فى مقدمة كتاب` مودرن أرت آند مودرنزم` الذى أصدرته الجامعة المفتوحة فى الولايات المتحدة سنة 1982 .
- سنتناول فى هذه العجالة فن الرسم الملون بطريقة الباتيك عند على دسوقى وهو من أشهر فنانينا فى العقدين الأخيرين عرف بلوحاته الملونة بطريقة الباتيك منذ كان قبلها يصور بالألوان الزيتية وإن كان مقلا فى عروضه فلأن ` الباتيك` يتطلب دقة ومهارة أداء وخطوات تكنولوجية متعددة وفترات راحة بين كل عملية وأخرى .
- فضلا عن أن فناننا ملتزم وعلى حظ من الثقافة والأنتماء لايسمح له بالعبث التجريدى رغم أنه لم يكمل مراحل تعليمه العام فهو رسام تشخيصى يستقى عناصره وخياله وأحلامه من البيئة المحلية التى إنغرست فى ضميره منذ الطفولة .
- ولد `على دسوقى` فى شهر مارس سنة 1937 فى حى الأزهر، فى قلب العاصمة العتيقة ذات الألف مئذنة وشب فى أجواء رمضان والأعياد الإسلامية والمواسم الشعبية والموالد والتقاليد الفلكلورية التى لم تستطع دراسته الأكاديمية التى عكف عليها فيما بعد أن تنال منها فقد التحق طوال أربع سنوات بالقسم الحر بالفنون الجميلة بالقاهرة، حيث درس على أئمة فن الرسم الملون يتصدرهم رسام المناظر الأشهر` حسن البنانى` لكن على لم يتخل عن طابعه الفطرى الذى نبت فى صدره منذ نعومة أظفاره فمضى يرسم كل مايراه بما تقع عليه يداه من أوراق وأقلام وألوان .
- وقبل أن نستطرد فى حديثنا ىينبغى أن نذكر شيئا عن أصل `الباتيك` وماهيته . ففى مرجع بعنوان ` الفن الاندونيسى` جاء أنه نشأ فى جزيرة ` بالى` فى القرن السادس عشر، حين أمر ملكها الشاب فنانى القصر بأعداد نسيج لعروسه الجميلة، لم يشهد له الناس مثيلا من قبل فاكتشفوا طريقة ` الباتيك ` وهى كلمة أندونيسية كانوا يضعون شمع العسل فى أعواد الغاب الرفيع ويرسمون به تصميمات زخرفية على القماش ثم يصبغونه، فتبقى الأجزاء المغطاة بالشمع على حالها يغسل القماش بعد ذلك بالماء الساخن فيزول الشمع وتبقى الزخارف الملونة وتكرر العملية بعدد الألوان التى يحتاج إليها التصميم .
- أما كتاب ` الباتيك وأشكاله` فيذكر أنه حرفة قديمة لاتعرف لها بداية، لكنه وجد فى مصر منذ 3500 سنة ويؤكد البعض أنه ظهر فى القرن الثامن فى الهند والصين واليابان وتختلف الأقوال ثم يستقر الرأى على أن ` حرفة الباتيك ` ازدهرت فى ` جاواو` و`أندونيسيا ` فى القرن الثالث عشر .. ومازالت حتى وقتنا هذا بدأت كهواية لسيدات القصور اللاتى كن يزخرفن ويصممن ثم يقوم الرجال بصباغة القماش وإنجاز باقى العمل .
- لو راجعنا تصميمات ` الباتيك ` القديم فى جنوب شرق آسيا، والحديث فى أوربا وأمريكا، نلاحظنا أنه مقصور على الزخرفة التى كانت كلاسيكية هندسية ثم أصبحت متحررة الخطوط والالوان والتشكيلات تستهدف - فى كل الأحوال - تزيين المنسوجات للإستخدام أما الرسم والتلوين بطريقة ` الباتيك ` على نسق اللوحات الزيتية كأعمال فنية مستقلة فظاهرة حديثة عند` على دسوقى ` لاقت نجاحا مرموقا فى أوربا كان أول معارضه هناك سنة 1981 فى عاصمة ألمانيا الغربية لوحات تتغنى بجمال الريف وبساطة الأحياء الشعبية وأطفال الشارع والمقاهى البلدية .
- الطابع الخاص الذى يتسم به أسلوب الباتيك كان مناسبا لتلك الموضوعات وعاملا مساعداً على بلورة الروح الشعبية الأمر الذى أضفى على التكوينات مزيدا من الحيوية والطاقة الكامنة فالمساحات البيضاء تتكسر بخيوط لونية نتيجة لتكسر الشمع أثناء الصباغة وتظهر لمسات عفوية مستحبة نتيجة تسرب الألوان من حافة الشمع وتتخذ الألوان مساحات صماء غير متدرجة تكسب اللوحة صفة التسطيح .
- يفرض أسلوب الباتيك على فناننا أن يتحلى بالصبر الجميل وأن يحتفظ بحالة ` الأغتراب` الإبداعى لفترة طويلة فقد ينفذ لوحاته بستة ألوان أو أكثر وتتوزع موضوعاته الزخارف التفصيلية التى نشأ أسلوب الباتيك من أجلها فيبذل جهدا مضنيا فى الإنجاز ولولا عشقه لفنه وأسلوبه لما شعر المتلقى بكل هذه الشاعرية والرقة والدفء خاصة وأنه رسام تشخيصى لايعبث بالألوان ويلقيها على عواهنها.
- كثيرون من المتحدثين عن الفنون الجميلة والتشكيلية ينساقون خلف تحليلات شكلية مجردة وقيم فنية مطلقة ضاربين عرض الأفق بالموضوع والمضمون الأنسانى بل أن بعض هؤلاء يرى أن توفر الموضوع والمضمون أمر ينتقص من قيمة الإبداع ربما شجع على هذه الأفكار شيوع التجريد العشوائى والعبث الحركى واللاشكل وما إلى ذلك من بدع إلا أننا نستطيع أن نتبين فى تصوير `على دسوقى` كلا من القيم الفنية المجردة والمضامين الإنسانية جنبا إلى جنب فقد جمع بين قوة البناء الشكلى وإنسانية المضمون فى ثوب شاعرى رومانسى، وعناصر واقعية تشخيصية تمهد طريق التواصل مع المتلقى وبلاغ الرسالة وتميزت لوحاته الباتيكية - بما تميزت به الزيتية من قبل - من إثارة وجاذبية وطاقة شبيهة بالتى نجدها فى الأساطير و` حكايات جدتى`.
- فى لوحة ` الراعى` تسبح العناصر جميعا فى بحر من درجات الأحمر يجلس الفتى الراعى على الأرض، حوله الاغنام وبين شفتيه الناى ومن خلفه تسحق صفوف النخيل كأنها أعمدة معبد عظيم . تشكل إيقاعا رشيقا حاداً يتصاعد كالدعاء نحو السماء حتى يلتقى برءوس النخيل وسعفه كأنه يطل بها على الماشية ترعى فى سلام، وتتوزع الساحة وحدات الماشية تشكل إيقاعا وسطا بين سوق النخيل وتيجانها وقرص الشمس يطل من بينها كبيرا يكمل اتزان التصميم هذا التنوع الإيقاعى يؤلف نغما أوركستراليا، يتخلله كورال الماشية والنخيل، ونكاد نسمع فى طياته أنغام الناى كما أن اللون البرتقالى الغامر يسدل غلالة أسطورية على الموضوع برمته ولو أننا جردنا اللوحة من معالم التكوين التشخيصية، أمكننا أن نكتشف البناء الفنى الجميل الذى شيد عليه ` على` لوحته المثيرة التى لايخطىء هويتها الشرقية أحد فى أى عرض دولى .
- هذا الطابع الفطرى المثير والجو الأسطورى، تنفرد بهما لوحات ` دسوقى` كأنها واحة ظليلة رطبة فى صحراء العبث التجريدى واللاهوية واللانتماء واللافن واللاموضوع واللامضمون .
- لم يكن الباتيك معروفا على هذا النطاق فى الوسط الفنى عندنا قبل الستينيات كان الرسم بالشمع على القماش والصباغة مجرد ممارسات تجريبية فى معاهد التربية بقصد إكساب تلاميذ المدارس خبرات جديدة وتعريفهم على الخامات ثم عادت الرسامة الملونة ` نازك حمدى` من الهند فى ينار 1960 وأقامت أول معرض للوحاتها المنفذة بهذا الأسلوب فى قاعة متحف الفن الحديث بالقاهرة فقد تعلمت `الباتيك` فى الهند التى يقال إنها موطنه الأصلى وخلال السنوات العشرين التالية أقامت تسعة معارض كان آخرها سنة 1979 قبل إعارتها للتدريس فى الجامعة السعودية تنوعت لوحاتها الباتيكية بين مايصلح للإستخدام كستائر ومفارش، وبين مايجرى على نسق الرسوم الزيتية أو المائية .
- لكن ` على دسوقى` يختلف فى أسلوبه وموضوعاته ومعالجته عن ` نازك ` وعن أى فنان أخر يمارس الإبداع بطريقة الباتيك فكل فنان له خصائصه النفسية والفلسفية والتقنية والثقافية التى تميز إبداعه عن إبداع الآخرين لكنه فى نفس الوقت يتعلم من تجارب السابقين والمعاصرين، وإلا تحول إلى الجمود والتصلب والتخلف وكما تعلم` على` من الآخرين تعلم منه الكثيرون ولايخفى علينا ماتميزت به لوحاته من صدق التعبير ونضج الأسلوب ومهارة الأداء وأحكام التشكيل وتنوع الموضوع .
- إلتحق بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة فى الثانية والعشرين من عمره ( 1955 / 1959) وكانت السنوات الأربع هى سنوات النضج النفسى والتبلور الذهنى .. وإذا صدق المثل الإنجليزى القائل ` كن عظيما وعش مع العظماء ` فقد أمضى سنواته التالية مع أصحاب الفكر الطليعى آنذاك ومن بينهم : صلاح حافظ، حسن فؤاد، فؤاد حداد ومحمد شفيق وغيرهم عاش مع طليعة الأدباء والشعراء والفنانين قرأ قصصهم ودواوينهم ومقالاتهم وكتبهم ورسم لها الصور الإيضاحية عمل معهم فى الصحف وقضى الأمسيات فى رفقتهم ثم خلا إلى نفسه آخر الليل يعب من الكتب يستدرك بها مافات حتى مطلع الفجر .
- عمل رسامنا فى صحف الشعب والمساء والأهرام الأقتصادى وأعد لمجلة صباح الخير تحقيقات مرسومة عن وكالة الغورى بحس الأزهر وعن صناعة القباقيب فى شارع تحت الربع .
- أما باكورة معارضه فكان سنة 1963 فى ` أتيليه القاهرة ` مناصفة مع الرسام ` محمد شفيق ` الذى كان ناقداً مرموقاً فى جريدة الأهرام ثم رحل عن عالمنا دون احتفال بزغ نجم ` على دسوقى ` فى أفق الحركة الفنية مع اللوحات الخمس عشرة التى التى عرضها لوحات زيتية ومائية وبالقلم الرصاص صور فيها ` أطفال البلياتشو ` اللذين يكتسبون الكفاف من عرض حركاتهم وألعابهم على رواد المقاهى فى حى الازهر واقتنى متحف الفن الحديث لوحتين انتقتهما لجنة فيعة المستوى منزهة عن الهوى، من بين أعضائها فيلسوف الفن ` حامد سعيد` وعملاق العمارة المهندس حسن فتحى، ورائد التعبيرية الحديثة فى مصر` راغب عياد`
ثم رحب بأعماله على الشاشة الصغيرة الفنان الكبير ` عبد السلام الشريف`.
- الأصالة والأنتماء والهوية ،التى نشعر بها فى بقائنا بلوحات ` على دسوقى` لم تأت من فراغ إنها بذور مشاعر دفينة نمت فى صدر الفنان، وترعرت فى حى الأزهر قبل أن يخرج إلى عالم القاهرة الفسيح ويطوف بوادينا الأخضر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب .. ثم يعبر البحر إلى بلدان أوروبا كل كل ما أكتسبه بعد ذلك كان تدعيما لخبراته الأنسانية خلال سنوات الطفولة واليفاعة والفتوة سافر سنة 1962 بدعوة من وزارة الثقافة إلى بلاد النوبة قبل أن تغمرها مياه السد فاحتك عن قرب بطليعة الرسامين عبد الهادى الجزار وتحية حليم وغيرهما هناك تعمقت تجربته الفنية والإجتماعية ومازلنا نلمح فى إبداعه بصمات الجداريات النوبية وصورر البيوت والنخيل والحيوانات والطيور والأشخاص أنفسهم .
- مارس الرسم والتلوين قبل أن يتلقى دروسه الأكاديمية فى القسم الحر طرق باب الفن والحياة مبكرا مما أضفى على إبداعه طابعا فطريا فريداً سائد مكانته التى اكتسبها بجدارة على مسرح الحركة الفنية فى أواخر الستينيات حين إعترفت إدارة الفنون الجميلة فى عصرها الذهبى بموهبته ومنحته التفرغ للإٍبداع الفنى سنة 1966 لكنه لم يتمكن من إنتزاع هذه المنحة من أنياب البيروقراطية إلا سنة 1971 تفرغ لثلاثة أعوام كانت غاية فى الخصوبة وغزارة الإنتاج نهل خلالها من ينبوع الخبرات والتجارب الجديدة الذى لاينضب كان موضوع التفرغ هو` العادات الشعبية والتقاليد فى مصر` وشفعت الإدارة منحتها بمرسم فى ` وكالة الغورى` فركن إليه من الصباح الباكر إلى المساء المتأخر فى كل يوم لكنه سرعان ماشد الرحال عبر الوادى الذى لم يكن قد شاهد أرجاءه بعد إلا فى رحلته اليتيمة إلى النوبة منذ بضع سنين .
- لم يترك ثقبا فى أنحاء البلاد يستطيع أن يدلف إليه إلا وفعل ، عسى أن يرى مايطفىء ظمأ حبه لبلاده وشغفه بالحياة أراد أن يزداد دفئا بمشاهد لم يكن يدرى بها وهو فى حى الأزهر ووكالة الغورى هذا هو سر العمق الذى يشعر به المتلقى فى لوحات ` على دسوقى `.
- زار مرسى مطروح والواحات والإسكندرية ودمنهور ومضى فى طريقه عبر بلدان الوجهين البحرى والقبلى فزار سوهاج وأخميم والأديرة فى الصحراء ونجع حمادى إلخ كان يلقى المحاضرات فى قصور الثقافة ويعرض الشرائح الملونة ويشرف على أعضائها هواة الفنون، فى مقابل جنيهات تساعده على مواصلة الرحلة وتحقيق الغاية .
- من هنا نرى أن ` الأصالة والهوية ` ليست كلمات تكتب وتقال، إنما هى تجارب تعاش على أرض الواقع والبيئة هذا مافعله فناننا فى صدر حياته وهذا مايفسر لنا رنة الصدق التى تنبعث موسيقاه اللونية .. ومضامينه الإنسانية وموضوعاته الشعبية فقد أوحت له مشاهداته بلوحات عديدة فريدة، مازال ينبوعها يفيض ويتفجر حتى اليوم، لم تنتقصمنها رحلاته المتكررة إلى أكثر بلاد أوربا حضارة سويسرا السويد ألمانيا فرنسا إيطاليا وغيرها زار تلك البلاد وعاش على أرضها شهوراً لكنه لم يلون رسما ًواحدا عنها.
- لعل لوحة ` القرية ` التى رسمها ولونها بالباتيك تحمل الكثير من مخزون تلك الرحلات التى مازالت تثرى وجدانه عرض متكامل لجمال` الباتيك` ومناسبته للملحمة البانورامية الريفية التى أبدعها فى السبعينيات نادرا مانلتقى بمثل هذه المساحة الأفقية المستطيلة فى أعمال الرسامين نظرا لصعوبة التكوين وتوزيع العناصر لكن` على دسوقى` أستطاع أن يحكم التصميم الصعب وأضفى عليه روحا شاعرية ومسحة مسرحية فالبيوت الريفية بلونها الطينى الزيتونى وخطوطها الصفراء، كأنها ديكور خلفى تلعب أمامه الشخصيات أدوارها وفى المقدمة يتوزع الناس والحيوانات والأشياء فى إيقاع هادىء وينعكس اللون الأصفر الذى يفرش الأرض والسماء على البيوت فيخفف من عتامتها ويكسوها بالبهجة ثم لمسات بسيطة هنا وهناك تكمل الإحساس الإنسانى العام والألوان عنده ليست واقعية بالرغم من واقعية العناصر وتشخيصها وليست تعبيراً عن مشاعر وإنفعالات ولكنها موضوعة على أسس جمالية فنية تؤكد صورة القرية الحلم، والحياة التى لايعكر صفوها شىء يساعد التسطيح الباتيكى على إضفاء جو خيالى أسطورى والإيحاء بصلة القربى الحميمة الإسلامية .
- مازال `على دسوقى` يستخرج من عباءة الذكريات أحدث لوحاته تتنوع بين سوق البرسيم والترع تسعى على ضفافها أسراب البط والأوز والدجاج والقرى والنيل والمقهى البلدى والأطفال فى` نجع حمادى` يحملون أعواد قصب السكر وينتظرون على الطريق كأنهم فى ` أحد السعف ` وغير ذلك مما يجرى فى الريف.
- حين يتطلع أهل القرية إلى لوحات فناننا، يستعيدون فجأة جمال بلادهم الذى افتقدوه من زمن بعيد بعد أن غرقوا فى ميكانيكة حياة العاصمة ومادياتها وسرعة إيقاعها، وغفلوا عن أجمل ما فى البيئة من مظاهر البساطة والهدوء وموسيقى الطبيعة لقد أعاد إليهم كل هذا وأكثر منه عبر لوحاته الباتيكية كثيرا مارسم الصور الإيضاحية لأشعار` عبد الوهاب البياتى` و ` نازك الملائكة ` وموضوعات ودراسات ` مجلة الفنون الشعبية` كان يقرؤها ويتمثلها ويحولها إلى خطوط ومساحات وملامس نستطيع أن نلمح بصمات تلك الأشعار وهذه الدراسات فى ثنايا ألوانه الباتيكية وتكويناته الفنية، وعناصره التشخيصية التى تتخذ مظهرا بسيطا، لكنها تنطوى على قدرة فطرية على التشكيل الفنى قدرة متفردة أصيلة لم تحرفها عن طريقها الرحلات الخارجية والعلاقات الإجتماعية والثقافية والقراءات المتنوعة.
- وقد يرسم العجالات (الاسكتشات ) أثناء غدوه ورواحه فى الداخل والخارج ، لكنه يعتمد على ذاكرته الفوتوغرافية فى أغلب الأحيان ، ويستعين بكليهما حين يركن إلى مرسمه بوكالة الغورى مضيفا العالم الخاص الذىى يتضح فى لوحاته الزيتية المتشحة بغلالة ضبابية تسبح فى طياتها العناصر والكائنات يغترف موضوعاته وأشكاله من أعماق الحياة المصرية التى لايراها ساكنوا المدينة من بين الزحام والضجيج ولايحس بها فنانو التجريد العابث من فوق أبراجهم العاجية بل أنه يتخذ بيته على بضعة كيلومترات جنوب العاصمة فى حضن جبال المقطم .. وبين بقايا الحقول التى لم تزحف عليها العمائر بعد .
بقلم: د./ مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى )
الفنان على دسوقى ( 1937 ).. ذاكرة فنون الشعب
- تؤكد أعمال التصوير الزيتى وفن الباتيك للفنان على دسوقى عمق ارتباطه بخصائص البيئة الشعبية المصرية العتيقة ، حتى يمكننا أن نسميه فنان الحارة المصرية ..
- إنه يستقطر من حياة الناس اليومية وشخصياتها الهامشية وسلوكياتها التقليدية، روحها الفطرية النقية والساذجة، التى لاتخلو من حس لاذع ، واضعا تلك الشخصيات على خلفية من البيوت الشعبية المليئة بالوحدات الزخرفية المكررة ، الأشبه بالقافية فى قصيدة الزجل ، أو فوق خلفية من المساحات اللونية الصريحة التى تعكس قوة التباين بين الضوء والظل ، وبين الساخن والبارد.
- هذه السمات الأسلوبية تتجلى بشكل خاص فى لوحات ` الباتيك` أكثر مما تتجلى فى لوحاته الزيتية. ذلك أنه يعيد رسم اللوحة الواحدة وصباغتها عدة مرات متتالية بعدد الألوان المستخدمة فيها، عن طريق استخدام الشمع الأبيض السائل الذى يحذف به اللون الذى يريد تأجيل وضعه على القماش مؤقتا، ثم يغمر قطعة القماش بأكملها فى وعاء الصبغة بأحد الالوان ، ثم ينتشلها، ويعيد رسم اللون الثانى الذى يريد تأجيله على قطعة القماش بواسطة الفرشاة المغموسة بالشمع ، ويعاود غمرها فى الأصباغ الملونة ، وهكذا تتوالى عمليات الرسم والصباغة لونا بعد لون ، وفى كل مرة تحدث عملية النشع والرشح والتداخل من لون إلى آخر، بين الكرمشات الناتجة عن تكسير مساحات الشمع قبل إذابتها ، محدثة درجة عالية من الثراء الملمسى واللونى ، مذكرة إيانا بفنون جنوب شرق آشيا وصولا إلى الهند، حيث كانت المنبع الأصيل لفن الباتيك ، الذى انتقل إلينا فى الفترة المملوكية، وها هو الفنان على دسوقى يجعل منه مايقابل آلة موسيقية شعبية صميمة ، يتغنى من خلالها بحياة الطبقات الكادحة، ويحيى بها تقاليدنا الاجتماعية الأصيلة، وقيم الحب والترابط والتراحم، ويبعث فينا من خلاله الإحساس ببهجة الحية ونوازع الطفولة المطمورة فى أعماق نفوسنا .
- ويتخذ أسلوب الرسم لدى على دسوقى طابعا أقرب إلى أسلوب الفنان الفطرى على الجدران فى القرى والأحياء الشعبية ، بما فيه من اختزال للخطوط والتفاصيل ، ومن نزعة زخرفيه بتكرار الوحدات الهندسية ، ومن مبالغات تهدف إلى تأكيد الحس التعبيرى أكثر مما تهدف إلى محاكاة الطبيعة وكذلك من خلو اللوحة من تدرجات الظل والنور فى اللوحة الغربية ، مقتربا بذلك من جماليات فن المخطوطات الإسلامية القديمة ، مثل مقامات الحريرى وغيره من كتاب العصر الوسيط ، على أيدى فنانبن مثل الواسطى بالعراق أو بهرر بإيران .
- فى عالم على دسوقى نبدو وكأننا ندخل متحفا للحفاظ على ذاكرة الشعب بعاداته وتقاليده ، تلك الذاكرة التى توشك أن تنمحى أمام زحف المدنية والمتغيرات المتوالية فى سرعة كاسحة .. نستعيد فى هذا العالم تقاليد السبوع للمولود وفرحة الأسرة والحى به فى احتفال طقسى يوضع الطفل خلاله فى الغربال ويُدق له الهون ويلتف حوله الأطفال فرحين بالحلوى .
- ونستعيد أيضا مناسبات كعك العيد والنسوة يتجمعن للخبيز والأطفال يلهون بملابسهم المقلمة الزاهية - ونرى الباعة الجائلين بكل أنواع الحاجات، من فول مدمس وترمس وحلوى وغزل البنات .. بل نرى الحيوانات الأليفة تشارك الإنسان كفاحه وصبره فى تناغم ومودة .
- ويصاحب هذا التناغم وتلك المودة بين كائنات على دسوقى، تناغم بين عناصره الفنية ، يشكله إيقاع خطى ولونى بحس غنائى عالى النغمات، مستغلا أقصى ماتمنحه تقنية الباتيك من تداخلات وتشققات عفوية .
- أما فى لوحاته الزيتية فإنه يتخلى عن هذا الايقاع الزخرفى الملىء بالألوان الصاخبة والتشكيلات الهندسية ، ليستعيض عنه بمستويات متقاربة من الدرجات اللونية الأثيرية الغامضة تجعلها أشبه بالحلم ، فلا تكاد تبين ملامحها وسط الضباب ، لكنها تشف عن نفس الملامح الشعبية التى تآلفنا معها فى لوحات الباتيك ...
- وإذا كانت لوحاته المصبوغة بألوان الباتيك تذكرنا - بحيويتها وبهجتها وفطريتها - بالأغانى الفلكلورية الراقصة ، فإن لوحاته الزيتية تعيد صياغة الألحان الأساسية لهذه الأغنيات على إيقاع الموال الرقيق الذى تصاحبه آلة الربابة، ونحن نسرح معها بحواسنا المرهفة على ضفاف الترع ووسط النخيل أو الكثبان الرملية المراوغة.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث