`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
حامد الشيخ بكرى عطية

ـ إن من يتابع فن حامد الشيخ يلمح مواهبه منذ بدايته ويلاحظ استيعاب الفنان للحركات الحديثة وادراكه لأساليب الأداء وتجويده المستمر لها كما يلمس قدرته على الجمع بين تقنيات العمل الفنى وبين شاعرية هامسة تضفى نبضاً أخاذا على الملامح والأشكال .
ـ هو رسام ومصور معا يمتلك أسرار الخط وبلاغته التعبيرية فى تشكيلاته المرسومه ويعرف كيف يختار لونه الخاص المعبر عن رؤيته وكيف يحقق هذا التوافق والاتساق فى ألوانه وكيف يجمع بين سحر النور وهمس الظلال .
ـ ومع كل هذا براعته فى صياغة اللوحة وتصميم بنائها تجعل من العمل الفنى محتوى لقيم تشكيلية رفيعة فيها الصدق الفنى وبلاغة التعبير التى تتجنب الادبيات وتتحدث بلغة قوامها الخطوط والأشكال والألوان .
ـ إن هذا المعرض الخاص السابع للفنان الشاب هو حصاد رحلة بدأت قبل تخرجه فى كلية الفنون الجميلة وأمتدت خلال خمسة عشر عاما تطور فيها فنه ولكنه ظل حافظاً لملامحه الأساسية وخصائصه المميزة التى تجعله جديراً بالتقدير والإعجاب.

بدر الدين أبو غازى

(الفنان المصور حامد الشيخ ( 1943 - 1993
- معاناة الفنان هى معاناة الإنسان فى كل زمان ومكان بصفة عامة لكنها عند الفنان المبدع تبدو واضحة لأنه يمثل المشاعر والأحاسيس وطرائق التعبير لأنه النموذج لحيوية الإنسان والوجود البشرى وتناقضاته المتعددة والمثيرة للنفس والعقل والوجدان والفن الذى يخرجه الإنسان من عالم الخيال إلى عالم المحسوس ليحدث طربا أو إعجابا أو تأثرا بالحياة أو دراميتها الرامية إلى الجمال أو القبح أو البكاء والتعبير الغامض وإن ثروة الإنسان الفنان هى إحساسه بالعالم ومحنته هى العجز عن تغييره .
- وفى بعض الأحيان عن إصلاحه هذا التناقض يحل مؤقتا بالفن الذى هو الحل الوسط بين الظل والنور أوالداكن المعتم والمضئ وبين الحياة والموت وبين اليأس والأمل وبين الصدق والخيانة وبين الوهم والحقيقة .
- كان حامد الشيخ ( 1943 - 1993) ذلك الفنان المهندم الراقى الملبس منذ حوالى ثلاثين عاما تقريبا يعيش بالقاهرة ويسكن وهو فى مرحلة الدراسة بكلية الفنون الجميلة بالزمالك وما بعدها فى حى الكيت كات بشارع اليوزباشى فصيح فى الدور الأول بعد الأرضى مع زملائه من الفنانين التشكليين وبخاصة النحاتين وكنت وأنا صبى ومن شباك الشقة التى كانت تسكن بها عمتى ارمقه بعينى وأتابعه وأشاهده وهو ذاهب أوعائد يمشى فى خطى ثابتة منتظمة ينظر إلى أسفل يبحث فى الأرض وكأنه يتحادث معها وتناجيه وكان شهيرا فى هذا الحى باسم الفنان الرسام كنت أبحث فيه كثيرا ذلك الشهير فأجده مليئا بالهدوء والدماثة والتواضع وكنت أتذكر فنانى السينما المصرية فى الستينات وبداية السبعينات وكأنه أحد نجوم السماء المتلألئة التى تشع ضوءا فنيا تشكيليا ذات صفة وصبغة عبقرية رائعة .
- وبعد أن دارت الأيام وتحولت الدنيا والتحقت بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة رأيته هناك ضيفا يتحرك فى هواء ساكن وأشعر كأن وحيد غريب يعيش فى عالم ذاتى عميق بعيد عن هذا العالم أكاد أجزم حتى الضياع والذوبان وكأنه يحى حياة أبدية فى عالم خاص بعيد عن عالمنا له مفرداته الكلامية وحركاته وإيماءاته وأفكاره كلها نبتت وترعرت من إنسان فنان يشعر بالإغتراب والغربة وكثيرا من الحزن واليأس ممتلئا بالشعور بالظلم والإنكار وكلما كنت أنظر إليه وأتابعه وأرمقه بنظراتى الفاحصة أحاول أن أجده مثلما كنت أراه فى الماضى لم أجده وأسأل نفسى لماذا لم يأت بعد ؟ وكأنه يعيش قفى عالم سرمدى رحل إليه منذ زمن بعيد التلاشى والسراب والتلافيف والأربطة والأردية الممتدة المرتفعة بطوله وبإنحناءاته البسيطة والتى تعبر عن الإحساس العميق بالغبن والألم يقول الفنان حامد الشيخ عن نفسه وحياته لإحدى المجلات المصرية مسجلا ظروفه الشخصية وتقاليد مجتمعه الصارم خرجت من البدارى ( محافظة أسيوط ) بلدى من سجن التقاليد ذات القانون القبلى الذى يدق عظامى ثم رحلت إلى القاهرة ( هوليوود الشرق ) حاملا ميلادى الفنى حاولت أن أمسك الواقع الجديد كل الصخب والعناصر والأشياء تقتحم مرة روحى ومرة أخرى نفسى وضميرى استنجد بالفرشاة والألوان نزفت لونا أحمر فى بكاء صامت عميق هناك من العيب أن تبكى أمام الآخرين هكذا القانون القبلى العتيق رسم كوشم تم دقه فى نخاعى محفورة فى أغوار نفسى كل ذلك ثابت فى أعماق أعماقى قبل أن تلامس فرشاتى السطح العذرى الأبيض الناصع الذى يشدنى ويسحبنى يغرقنى بداخله فجأة تختفى الملامح ويطل ذلك الإحساس القبلى الجاثم الطابق بين ضلوعى تلك الكلمات مليئة بإحساس غريب متسائل عنيف يبحث عن أشياء بين السدى واللحم وأتسأل أنا - السيد القماش - كيف خرجت تلك الشعرة من ذلك العجين الملئ بكل تلك المحاذير والأعراف والأسوار والجدران العالية الحجرية ؟
-أما عن المجتمع الجامعى والخاص به حين ذاك ومدى أثره النفسى والمادى عليه فيقول على لسانه لذات المجلة وفى عدة أسئلة وإجابات تجمع ما بين الحقيقة والخيال فنراه يسأل هل تستطيع أن تفسر لى كيف يصير التدريس فى كلية الفنون عائليا هنا وهناك وأنا خارج هذا النسيج ؟هل تفسر لى كيف يصير تسويق الأعمال الفنية مقصورا على القادرين من الأصدقاء ؟ ثم يسأل سؤالا مهما أسئلة أنا أيضا عن اقتناع وأمانة ما الذى أفعله إذا كنت لا أجيد إلا العزوف والإمتلاء بالعزة والكرامة والبعد عن الشللية وأنصاف وأرباع وأخماس الذين يسمون أنفسهم فنانين وأنا أغمس ألوانى فى المداد الأسود كى أفضى ذلك الفراغ الأبيض الرهيب المرعب ؟ أسئلة كثيرة كانت تراوده وتراودنى الآن .
- وعندما نتناول ظروفه المعيشية وعلاقته بأعماله الفنية فنراه يتحدث بأسى بالغ ويسأل لماذا تتراكم الأعمال فى فراغ حجرتى بلا تصريف ؟ أحمل لوحاتى إلى كل مكان وفى كل مرة أعود لتتوارى فى الظلام وأقول له أيها الفنان المبدع حامد لست وحدك فى كل ذلك فكل المبدعيين الحقيقيين هم ذلك الفنان الذى يتوارى معتمدا على موهبته الحقيقية والبعد عن الإمتثال لكثير من الحماقات فلا تحزن ونم مسترحا فلست وحدك ذلك الإنسان الفنان .
- ويتحدث حامد الشيخ عن الفراغ اللانهائى المطلق فى حياته ولوحاته فيقول كنت أفكر وأنا أفسر لوحاتى وأشيائى أنى أكسب فى ذلك الوقت عالما من شعور خالد مستمر وإحساس لم أعرف طعمه ولم أتذوقه من قبل وهو الإقتراب من المطلق الذى هو الغاية المرجوة فى النهاية.
- وعندما نتناول أعماله الفنية بالدراسة والتحليل العميق نجد الإنعكاس الفنى والنفسى والإنسانى على لوحاته وأعماله المتعددة بالكثير من الخامات المختلفة التصويرية حيث تشع بضوء الإبداع من بين ثنايات أفكاره وعناصره وثنايات الأقمشة الموجودة داخلها وثنايات الألوان والخطوط والمساحات وضربات الفرشاه التى كانت مرة تضرب سطح اللوحة بقوة ومرة أخرى برقة ومرة أخرى بنعومة لها فعل السحر ويؤكد بها على تلك المعاناة حزين دفين على شئ قد ضاع أو تاه لا تعرف مداه فرشاة منسابة هادئة ساكنة ولكنه سكون خفى ساطع الألوان الزاهية الزرقاء القانية الداكنة والبنية والصفراء وتلك الفراغات الضوئية المنيرة التى تلعب دور الهواء والتنفس ودقات القلب داخل جسم اللوحة .
- إن أعمال حامد الشيخ تتسم بالتراكيب المنسقة والمتزنة هندسيا والمحكومة داخل فكر صارم قوى وله صرامة البنائية الشكلية والبنائية اللونية والبنائية الإجتماعية التى عاشها مليئة بالتفاصيل والإنحناءات واللمسات ذات الدرجات اللونية الدقيقة المتوالدة من بعضها البعض فى تآلف راق دقيق كما تتسم بالمساحات اللونية فى درجات متباينة متداخلة أحيانا أخرى أما الخلفيات فمليئة بالمساحات اللينة المبنية على هارمونية حية عالمية والأعمال جميعها طوال تاريخه الفنى تحمل حالات تعبيرية تقترب أحيانا من التعبيرية والمسحة الخيالية بعض الشئ مليئة بالحركة الخطية الرشيقة مثيرة للشجن والحزن تطير كثيرا من مساحاته اللونية فى فراغ اللوحة معبرة تائهة مثله خائفة خوفه فى حوار مثير متقابل متدابر ملئ بالعصبية الحركية واللونية تعبر عن أفكاره ومتسقة مع موضوعاته التى يريد التعبير نظرات وجوده أشكاله الإنسانية مليئة بالحيرة والشكوى مرسومة بدقة على درجة عالية من الكلاسيكية الدقيقة كما نرى هذه الموديلات منها ما تختفى تحت ملاءة أو تغرق فى درامات لونية ذات مسحة خائفة تنتظر فى لهفة الثابت الواثق الباحث عن الحق والحقيقة والحق المسلوب ألوانها ذات حس رقيق متماسكة مفعمة بالتعبير وهو يعرف سرها وقدرتها الفائقة كيف يداعبها بفرشاته المغموسة فى قلبها الزيتى وبحسابتها بين اللين والعصبى والمندفع والمتراجع والمسطح والمجسم يلون وكأنه اللون يخرج منه هو ذاته مخلوط بدمه ومشاعره الفياضة القانية وفراغات العمل محسوبة بدرجة تمكن عالية والغموض يملأ لوحاته والغربة تخرج مسيطرة مهيمنة ذات تأثير مثير للإنفعالات الذهنية والعقلية والحسية ونخلص من ذلك أن فى اسلوبه الفنى استيعابا للحركات الفنية الحديثة جامعا بين شاعرية الأداء وبنائية التكوين متفردة وإمكانية هائلة لخلق عالم يتماوج بين واقعه المتواتر والحلم الناعم الذى يتهاوى على سطح لوحاته بين المحسوس والمجرد وبين الهضاب والسموات العالية حتى ولو كان موضوع اللوحة هو باقة من الزهور فإنه يستطيع أن يشعرنا بقوة نبضها وتفتحها وفهمه العميق لتكوينها التسريحى وفلسفتها الألهية .
- أما عن مجموعة أعماله التى أبدعها بعد عام 1983فهى مجموعة غزيرة مليئة بالرؤية الإبداعية التى تقترب إلى الإحساس الصوفى المتسم بالإبتهال والتسبيح فقد استوحى خلالها حروف لفظ الجلالة وبعض الآيات القرآنية والتحويرات البنائية والتى تذكرنا بفنون الأرابيسك صانعا عن طريقها إيقاعا موسيقيا لا ينحو نحو الزخرفة والموتيف والأبهار اللونى أو نحو محاكاة الفن التجريدى بمفهومه الحاد بل تبدو شديدة التفرد والخصوصية كما لو كان يعزف لنفسه فحسب لكننا نسمع أصداء ابتهالاته وهمساته اللونية والخطية والروحانية الغويطة التى تنبع من أعماق النفس التى تبحث عن المرفأ والأمان .
- وفى اعمال أخرى نجده يستخدم الحروف العربية استخداما بنائيا رصينا يجعلها كالمعمار الهندسى الراسخ الشامخ معتمدا على الخطوط المستقيمة رأسيا وأفقيا ويقول فى ذلك الناقد عز الدين نجيب فى كتابه شهداء وفنانون ( كأنما يحاول أن يتماسك من الداخل وتأكيد هذا الرسوخ المعمارى فى الخارج والتشبث به ) وفى أعمال فنية أخرى نجده يحور فى شكل الحرف ويصل به إلى أشكال نباتية رشيقة ومنها إلى أقواس ومسطحات هندسية أقرب إلى العناصر المعمارية الإسلامية كالمحراب أو البناء المعمارى للمساجد وفى حين تبدو تلك اللوحات ميولها إلى التجريد إلا أن طريقة التصوير والألوان وحركة الفرشاة وفهمه الأكاديمى العميق يؤكد على أنها جميعها ذا أسى كلاسيكى متين وبنظرة فنية مبتكرة مستحدثة أعمق من حدود الشكل والفعل الجمالى .
- والغريب أنك عندما تشاهد تلك اللوحات لا تجد انعكاسا أو تأثيرا بالمعاناة أو التألم أو التمزق النفسى وكأنه بعيد عن العالم الروحانى الصوفى المسالم حيث نراه يتغنى بجمال عناصر الكون وحركاتها ورقصاتها فى حالة من التداعى النفسى الذى كان يبحث عنه هذا عكس ما كنت أراه فى طريقة كلامه وفى ملبسه حتى فى طريقة تدخين سجائره هل كان حامد الشيخ يعيش فى الحقيقة أم الوهم المشحون بالحقيقة أم باليأس والمعاناة الصحية والنفسية وتلك الأزمات التى لاحقته وهو فى الأربعين من عمره والأخرى وهو فى الخمسين إلى أن توفى وحيدا وتائها وغريبا متواضعا حتى التقشف زاهدا حتى التصوف وقد ابتلعه الظل والنسيان !! .
- حامد الشيخ من مواليد 8/ 6/ 1943 - 1993 ( البدارى أسيوط ) بكالويورس كلية الفنون الجميلة ( تصوير ) عام 1966ماجستير فى فنون التصوير 1977- عضو فى مجلس إدارة جمعية محبى الفنون الجميلة عضو مؤسس بنقابة الفنانين التشكليين عضو جماعة اتيليه القاهرة عمل فى العديد من الوظائف منها : القسم الفنى فى معهد علوم البحار والمصايد 1968معيد بقسم التصوير كلية الفنون الجميلة بالقاهرة أقام العديد من المعارض الخاصة وشارك فى العديد من المعارض المحلية والدولية لأكثر من ( 25 ) معرضا حصل على العديد من الجوائز المحلية والدولية منها : جائزة الدولة التشجيعية ووسام الفنون من الطبقة الأولى بينالى الإسكندرية الثامن له مقتنيات بمصر والخارج ولدى الأفراد .

نهضة مصر - 17/ 1/ 2013
حامد الشيخ ورسومه الأخيرة
- من مفارقات حركة الفنون الجميلة بمصر ظهور بعض المواهب الاستثنائية أحيانا. غير أنها لا تحظى بعد رحيلها الا بالاهمال شبه الكامل. وقد يخفف من شعور نقاد الفن ومؤرخيه بالذنب أن هؤلاء المبدعين قد أسهموا ـــ بدرجات متفاوتة فى مأساة موتهم الثانى ـــ الموت فى الذاكرة ــــ لأنهم لم يحفلوا فى حياتهم بالانتساب إلى صناع القرار ولم يتملقوا رجال النقد والاعلام. وظنوا أن الموهبة تكفى فى زمن غاب عنه الفنان النبى وبقى فى الساحة منفردا الفنان رجل الأعمال.
- وسادت البرجماتية فلسفة للحياة. كان أخر الموهبين الذين كنت أعرفهم شخصيا وأقدر موهبتهم الفنان حامد الشيخ الذى رحل سنه 1992وانشغلت عن الكتابة عنه إلى أن اكتشفت ـــ بالمصادفة البحته ــــ الأسبوع الماضى مظروفاً باسمى يضم آخر رسومه، كان قد أرسله إلى منذ ثمانى سنوات وبالتحديد فى
23-6-1990مصحوبا برسالة قصيرة نصها كالآتى : الأستاذ الفنان المصور (...) أرسل إليكم فى هذا المظروف مجموعة مصورة من أعمالى لمقتنياتكم الشخصية للاحتفاظ بها بالأرشيف الشخصى الخاص بكم، مع وافر التحية.
- لمحة من سيرته
- بعد تخرجة فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ( قسم التصوير ) سنة 1965 عين معيدا فى القسم نفسه. ثم وعد ببعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية يستكمل فيها دراسته الفنية غير أن البعثة قد ألغيت لسبب ما ولم يتقبل هو هذا الإلغاء وعده مؤامراة ضده شخصيا ولم يتقبل ـــ فى ذات الوقت ـــ فكرة الحصول على الدكتوراه من جامعة حلوان على أيدى صغار الأساتذة . وكان يرى أن رسائل الدكتوراة بالكليات الفنية لا تزيد على كونها لعبة ( قص ولصق ) ( كولاج ) ليس فيها من الابداع شئ، ولا ترقى لمستوى الدكتوراه فى الطب والقانون على سبيل المثال، وأن مهمة الفنان الحقيقى هى الإبداع فقط . ولو كان بيكاسو وبراك ودالى قد حاولوا الحصول على لقب ` دكتور ` الذى يتهافت عليه الآن خريجو الكليات الفنية لفقدتهم حركة الفنون العالمية وفقدنا نحن حلقة من حلقات تطورنا الثقافى.
- كنت أذهب ـــ لأسباب مختلفة ـــ إلى كلية الفنون الجميلة. وكنت فى كل مرة أسمع أخباراً حزينة عنه. وفى لقاء معه قلت له: ألم تقل لى مرة أن رسالة الدكتوراه مجرد لعبة ` كولاج` فلتلعبها واحصل بها على ما يريدون حتى لاتخرج من دائرة سلك التدريس إلى دائرة الإداريين. وعلى الرغم من وعده لى بممارسة لعبة الدكتوراه وحصل على اللقب الأكاديمى فقد انتابته حالة من الاكتئاب تزايدت مع الأيام وفى لحظة جنون انقض على لوحاته يحرقها، ولولا تدخل بعض جيرانه لتبددت عن آخرها .
- كانت الرسوم الخطية بالخامات البسيطة كالقلم الرصاص أو الجاف أو الفلوماستر تستخدم عادة فى الرسوم التمهيدية للوحات الزيتية. وكان لا ينظر إليها باعتبارها أعمالا فنية مكتملة بل باعتبارها مرحلة ممهدة للأعمال الكبرى، إلى أن بادر المجلس الأعلى للثقافة بتخصيص جائزة للدولة فى فن الرسم سنه 1987 وكان من نصيبى الحصول عليها. ولمعت أسماء فى ذلك السياق، وماتزال، نذكر منها ( دون ترتيب للأسماء والأجيال): أحمد نوار، مصطفى عبد المعطى، رباب نمر، جميل شفيق، حمدى عبدلله، صلاح المليجى، صلاح بيصار، محمد الناصر، عوض الشيمى، غالب خاطر، سيد سعد الدين، صبرى منصور.. وفناننا حامد الشيخ.
- لوحات الخطاب
- استلهم حامد الشيخ لوحاته جميعا من موضوع واحد هو: النبات وعلى الرغم من قدرة حامد الشيخ فى نقل الواقع فإنه لم يتجه فى موضوعه إلى النقل. اللوحات تكاد تكون وصفا دقيقا لحالة الفنان الوجدانية المضطربة والهادرة. ولا يكاد يظهر من النبات إلا اشارات سريعة تدل عليه، بغير تأكيد ـــ وما يؤكده الفنان هو التكاثر الفوضوى العنيف. ولو كان بمقدورنا أن نسمع ما تراه العين لسمعنا أصواتا نحاسية تصم الأذنين أو تمنينا لحظتها أن تصاب آذاننا بالصمم!.. وأذكر أننى كنت فى المرحلة الأخيرة من حياته اسمعه يتحدث بنفس الشكل. جمل لا رابط بينها، مختلطة. غير أن تلك الحالة لم تطفئ قدراته بل على العكس أشعلتها. ومن يتأمل تلك الرسوم يدرك كم هو بارع فى توليد العناصر وتفتيتها على الرغم من بساطة الأداة: أسفنجة الفلوماستر. يستخدمها بدقة الخطاط حيث لا تحيد عن طريقها المرسوم فى الذهن، يدرك الرسام والخطاط البارع أن الخطأ غير مسموح به وقد يكلف الخطأ الواحد الفنان المدقق الطامح إلى الكمال أن يعيد لوحته اعادة كاملة. مع لوحات حامد الشيخ الأخيرة التى أقدمها للقارئ المصرى والعربى لا معنى لسجنه فى إطار أسلوبى بعينة، فلا هى بالتجريد الخالص ولا هى بالتشخيص الخالص بل حالات تعبيرية محمومة. وبالطبع لا علاقة لها بفن المجانين أو فنانى الـ ` ART BRUTE ` بل هى حالات تعبيرية عنيفة تجمع بين البراعة اللافتة والنادرة بين رسامينا وبين صدق التعبير، وامتداداته إلى الواقع.. وتدعونا اللوحات ضمن ما تدعونا إليه أن نتأمل فى التكاثر الفوضوى للسكان فى مصر!..
- لهذا كان على الفنان أن يدمر كل أسس التصميم منذ عصر النهضة الموصوف لعالم ساكن/ محبوك شكليا / غير حقيقى فى ذات الوقت . لاحظ المفكر الكبير ` جارودى ` فى كتابة الجميل ` واقعية بلا ضفاف` أن رسوم بيكاسو أكثر بلاغة وعمقا من لوحاته الزيتية. وينطبق هذا أيضاً على رسوم حامد الشيخ التى أراها ليست أفضل من لوحاته الزيتية فقط بل من أفضل الرسوم المصرية على الإطلاق .
- لهذا أدعو وزارة الثقافة إلى أن تجمع ما تبقى من لوحاته وأن تحتفظ بها لأجيال قادمة بمتحف الفن الحديث بالقاهرة.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال ديسمبر 1998
الفنان حامد الشيخ فرشاته كتاب غربته
زار القاهرة لاول مرة فى حياته ، منذ عشرين عاما ، ليدرس فى كلية الفنون الجميلة . ورغم فوات الاعوام وسط صخب العاصمة ، ما زال يشعر بالاغتراب : احساس نراه بوضوح بين ثنايا الالوان ... معاناة .. حزن دفين لا تعرف مداه . ولكن الاكيد انه انسان مصرى من قلب الارض الطيبة ..
نشأ فى البدارى فى قلب الصعيد .. مدينة تختفى فيها عناصر الاثارة والابهار مجتمع مترابط متلاحم .. تقاليد قبلية تعيش وتستمر وتتوطد بين جبل الشرق ونهر النيل .. ذلك النهر الذى كان يزحف على بيت جده ليغرقه ، هنا فقط كان الفنان الصبى يخرج من صمته ليتأمل تلك الظاهرة غير العادية التى تكسر حاجز الملل . ولم يكن الاقبال على الالوان والورق يزعج أحدا ، فالاب من رجال التعليم ، والام لا تمنع شغف أبنائها الثمانية بأى شىء مفيد ، كان كل همها العطاء والمزيد من العطاء .. وعندما حصل حامد على الثانوية العامة اخذ القطار لاول مرة فى حياته الى القاهرة وكانت دهشة والساعة قبل السادسة من الصباح أن يرى حركة السيارات ودبيب الاقدام الساعية نحو الرزق وقد ظن أن أهل العاصمة لا يبكرون كأهل الصعيد ... كان همه فى الدرس وأداء الواجب .. كان يكتفى بالملاحظة ومشاهدة الظواهر ولم ينغمس فى اى منها .. لم يخالط الزملاء الا بحرص شديد وعندما صادق اختار زملاء الغربة .. واختلفت وتيرة الحياة .. راح الشاب الهادىء يصارع تيار السرعة ... اختلف النظام فى المأكل والمأوى والملبس هنا يعتمد على نفسه كل الاعتماد .. وألفة المغتربين خرجت به الى أنحاء القاهرة لاول مرة يدخل بيوت القاهريين .. يقارن طبيعة العلاقات علاقة الاب والام بالابناء .. استغلالية الافراد .. سرعة الحركة .. عرف فى البدارى غير موجود .. تتشتت الالباب اذا غاب الاخ عن البيت لمدة ساعات .. وطبيعة الدراسة كانت تمتص كل الاحاسيس عمل طول النهار .. خروج الى الطريق تجول بين الاحياء .. تسجيل انطباعات .. ونجح ابن الصعيد بدرجة جيد جدا وحصل على منحة التفوق .. اضافة من المال تساعد على الارتواء . ووسط زحام المناكب يصارع الشاب الفنان .. لم يهتم بمأكل أو ملبس أو مأوى ..
ويمر العام الثانى ويقدم الطالب النجيب اول معرض لاعماله وتمر اعوام ويتخرج بتقدير ممتاز وكان ترتيبه الاول على قسم التصوير . وكان من الطبيعى أن يصبح معيدا بالكلية ولكن الاقدار لم تشأ . وامضى حامد سبع سنوات بأقل القليل فى انتظار وظيفة وعمل فى معهد علوم البحار والمصايف بمدينة السويس .. مدينة غريبة على الغريب ، ألغها وتعاطف مع الصيادين فى الميناء وكانت سلسلة أعمال عن هؤلاء .. وحين آن الأوان دخل الفنان الجيش .. وهبط طائر الرومانسية على أرض الواقع الى حين ، ثم عاود التحليق ، وكان أكثر من معرض وأكثر من جائزة .. وانتهى من التجنيد والتحق بمكانه الطبيعى كمعيد بكلية الفنون .. بعد ان حصل على جائزة الطلائع وحصل على الجائزة الاولى للتصوير فى صالون القاهرة والجائزة الثانية لبينالى الاسكندرية والجائزة الاولى لمسابقة الأرض . وكان حامد يأخذ نفسه بصراحة واضحة .. لا يتركها لهواها وحصوله على ثمانية جوائز خلال سبعة عشر عاما يعنى الكثير . وكما دخل حامد الشيخ القاهرة لاول مرة فى حياته وحيدا تتكرر نفس المواجهة فى باريس غريب يتصدى لاى تيار ولا يخشى الانجراف ، فهو يدرك الى أين يخطو ، ولكن لمحة الحزن لا تغيب عنه ، تستشفها العين بين ثنايا الالوان ... تجريد لواقع محسوس ... الانسان فيه يذوب من المعانة .. هو والارض مزيج .. رافع الرأس مطاطا الهامة .. مأخوذ فى دوامة ... معلق الجسد .. أو مشدود الى صليب .. ثم ومضات التفاؤل السريعة فى لوحات سرعان ما يطفئها ذلك الاحساس بالغربة وأسأل الفنان عن السر وراء هذا الانطباع فيجيب شاخصا ببصره لدى كل فنان جوانب فى حياته مفرحة وأخرى مأساوية أو على الاقل تتسم بالحزن زادت عليها طبيعة الصرامة التى تميز الحياة فى صعيد مصر ، عالم يأخذ الحياة بمنطق السعى الشاق وراء لقمة العيش .. مشوار يستنزف الجهد البشرى من أجل اسعاد الاسرة .. عالم لا يصرف الترفيه الا فيما ندر . كل هذا يخلق نوعا من الرؤيا . وبالتالى اذا كانت هذه قاعدة نجد ان لمحات الفرح هى الشىء المستحدث .
واسال الفنان الشاب : ماهى مشكلتك كفنان شاب ؟ .. ويجيب على الفور : هى مشكلة اى فنان . انها الاحساس بالاغتراب فى الوطن . فمثلا نلاحظ عدم تنظيم قطاع الفنون بكل وحداته سواء الاكاديمية او هيئة الفنون او النقابة وكل جهاز له علاقة بالفن التشكيلى . النقابة مثلا فى رأيى مجموعة أفراد يبحثون عن أصوات انتخابية لدورة قادمة ، وفى سبيل ذلك ينسون عناصر تنظيم الحركة الفنية لان اعادة التقييم للتشكيليين فى مصر سوف تخلق الكثير من المتاعب .
ومثل آخر يتمثل فى الاهمال الذى نشعر به من هيئة الفنون ، رغم ما يقوم به الفنان من حرص على العرض فى القاعات الرسمية متجاوزا كل اغراءات قاعات المراكز الاجنبية المفتوحة على مصراعيها ولى فى هذا الشأن سابقة فقد نظمت ادارة المعارض معرضا لاعمالى وظل الالتزام من جانب الادارة فى اخراج المعرض بالصورة اللائقة حتى يوم الافتتاح فأفاجا بمرض السيد رئيس هيئة الفنون والاداب شفاه الله ولم يفكر أحد فى أن يحضره من يليه فى المركز مما جعلنى اضطر الى قص الشريط وليت الامر وقف عند هذا الحد فقط ولكن يظل كتالوج المعرض غير مطبوع والكتالوج يعتبر وثيقة تسجيلية للمعرض لابد أن يطبع حتى ولو تجاوز تاريخ الافتتاح ونفس الشئ حدث لزميل آخر . وكان الاعتذار انه ليس هناك اعتمادات حتى بداية العام الجديد فى الوقت الذى خرجت من الميزانية العامة للهيئة وادارة العلاقات الثقافية مئات الجنيهات لاعداد معرض لفنان أجنبى ..
وأسأل الفنان الشاب : لاحظت ان اعمال الفنانين التشكيليين تباع بأسعار ليست فى متناول المصريين فلماذا هى بهذا الغلاء !
فيجيب مؤكدا : ان الفنان هو الوحيد بين فئات الشعب الذى يعمل وينتج من جيبه الخاص .. يجرى تجارب لا تعد ولا تحصى وتتكلف من المال ما لا قبل له به ودون عائد قبل أن يكتمل نضجه الفنى . والفنان الكبير يستطيع أن ينتج مئات الاعمال ويقتنى منها فى النهاية عملا واحدا أو أثنين ، وهذه نسبة لابد وأن تحمل فى قيمتها المادية بعض ما تكبده من مال فى تجارب سابقة .
- الا تعتقد أن جيل الرواد قد شق طريقة رغم كل الصعوبات وضحى بالكتير من أجل اثبات الوجود فى مناخ لم يكن للفنان التشكيلى فية اى حقوق !
ويجيب بسرعة : رأيى أن هذا الاعتقاد فيه شئ من المبالغة أولا لأن أعدادهم كانت قليلة .. وقد عاشوا فى ظروف مهما كانت غير مستقرة أو غير مكتملة الملامح فى بداية الحركة الا أن التشجيع الذى ناله هذا الجيل أكبر بكثير من الاجيال اللاحقة ، اذا ما اخذنا فى الاعتبار المتزايد الضخم فى نسبة عدد الفنانين وعلاقتهم بمشاكل المجتمع الذى أصبح تعداده يفوق الاربعين مليونا . وربما نذكر قصة تعاون الفنانين الكبيرين راغب عياد والمرحوم يوسف كامل التى هزت البرلمان وقرر تجنيبهما مشقة التضحية بتحمل مصاريف دراستهما فى الخارج .
وقد كان ذلك مؤشرا واضحا على أن أى خطوة كان يخطوها الفنان كان يقابلها على الجانب الاخر من الاجهزة الرسمية رد فعل ايجابى . ويكفى ان نعلم ان السيدة هدى شعراوى كانت تساعد الفنانين باقامة معارض دورية .. وتحرص على اقتناء أعمالهم تشجيعا للفنان المصرى الذى كان أول من حمل لواء الحركة الفنية فى عصر سيطر فيه الفن الغربى ... وهذا الحديث أسوقه فى مقابل حجم الاقتناء وموازينه الذى يتسم بضعف الامكانيات فى يومنا هذا .
ورغم أحساس الغربة المتغلب على الفنان فهو مغموس فى مشاكل مجتمعه .. فى مشاكل مهنته .. هارب الى النفس التى تعكس صورتها الالوان ..

بثينة البيلى

النظرة الفيزيائية والحوار الغنائى فى معرض الفنان حامد الشيخ
لا أحسب أحدا يستطيع أن يبدى رأيا قاطعا فى عمل الفنان دون العيش مع تجربته ، ولا أحسب ، أن هناك نقدا واحدا تجاوز صاحبه سطح الموضوع الفنى وتخطى الشكل والذين أبدوا بسالة فى طرح أرائهم ونقدهم للفنان ، قلة كانت تعوزهم ، فى أحيان كثيرة ، كمال المعرفة والعيش فى التجربة الممدودة التى يعيشها الفنان . لان الفن ، وهذا واقعه ، عصارة تجارب شخصية ، هى نبض ، هذا الفنان ووجدانه ، والاتصال بها ، دون فهم لهذه الابعاد مخاطرة غير محمودة ان لم تكن على هدى المعرفة الودوده لمعنى التجربة الفنية فى اعمال صاحبها ونتاجه . وجل من كتبوا عن الفن ، فى هذه المرحلة من تفاعله ، او حاولوا الكتابة عنه ، لقد أخطأو فى وضع اصابعهم على الوريد النابض فى جسد التجربة الفنية نفسها ، لذلك انكمشت محاولاتهم عاجزة عن الوصول لى غاية مستهدفة ، وفشلت فى التخلص من المكان الموحشر الذى وصلت اليه :
فالكتابة عن الفن ، فى كل مرحلة من مراحلة ، تحتاج الى لون من المعرفة العميقة فكريا ونفسيا ، تمهد بدورها للكاتب الاتصال بتجربته والغوص فى اعماقها وادراك معاناته فى ممارستها ، لانه لا يكفى أبدا ، أن يعيش الناقد تجربة الفنان ، الذى يريد الحديث عنه ، فى قول أصم غايته ومداه مل فجوات هذه التجربة بالتبريرات الانشائية المطولة والصيغ الادبية التى تدور دوما حول هيئة العمل الفنى ولا تتخطاه .
ومثل هذه الصيغ تبقى ، فى معظم الحالات ، عاطفية محضة وهى ، فى ذلك على خط معاكس لصيغ الناقد التى تستهدف استقراء العمل الفنى ، وتحليل تجربة الفنان وترجمتها على صورة علمية صحيحة .
وأخطر ما يواجه حركة النقد الفنى ، فى هذه المرحلة كثرة المتطوعين وهواة الكتابة عن الفن ، وأخطر ما يواجه الفن نفسه ، فى هذه الايام فنانون يحملون بالاضواء ويسعون اليها .
وآفة كهذه يمكن تجاوزها اذا احسنا وضع اسس علمية لمنطق الفن ومنطلق الفنان على حد سواء وسعينا فى البحث عن نهج وقواعد مدروسة للاحكام النقدية على هذا الفنان أو ذاك الا أن أزمة الفنان والناقد الاردنى عاجزة عن المشاركة فى وضع هذا النقد وتحديد هذه القواعد ضمن اطار من الوعى والفهم السليم لمعنى التجربة الفنية الاصلية كمحصلة لمجموعة تجارب وقدرات الفنان .
ولسنا الان فى صدد الحديث عن موضوع النقد الاردنى وحركة الفن معه بقدر ما نحرص فى هذا الحديث على تناول معرض الفنان الضيف حامد الشيخ الذى اقامة فى المركز الثقافى الالمانى ومناقشته على هدى أعماله المعروضه وتجربته الفنية الزاخرة .
وتجربة الفنان حامد التى نحن فى صددها هى تجربه غنية وعامرة بمنطلقها الفكرى والتشكيلى والتقنى وهذا المنطلق ، فى تعدده واتجاهاته . واسلوبه ، لم يلغ شخصية الفنان التى أبرزها حواره الفنى وصياغته . من هنا تبدو اعمال الفنان حامد الشيخ ممدودة الرؤية بالنسبة للموضوع ، ومرهفة تجاه الشكل ، واللون اما البناء كوحدة لعناصر فنية تعامل معها واختارها فى حواره وتشكيلاته فقد استوحت جميعها على خط واحد مع القيم الفنية الأخرى التى خاض معها التجربة
ورغم تخطيه ربط الموضوع والعناية به فى بعض مراحل البناء الا ان ذلك لم يلغ مضمون الانجاز الفنى الذى استطاع تحقيقه وجسده لنا كثير من أعماله المعروضة .
واذا كان للفنان حامد الشيخ ، هذا التفوق المتطور فى بناءاته الفنية والتشكيلية فهو ، فى ذلك لم يخرج عما تعوده من عطاء فنى كمدرس فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة لانه بالضرورة ينطلق من خلفية ثقافية واسعة لمعنى التجربة الفنية كعملية مخاضية ملاى بالمعاناه يعيشها الفنان عادة قبل ان يجمع حصيلتها . ففى اعمال هذا الفنان استاذية تشير الى سلطان قوى على الالوان والتحكم بها وفهم منظم لموضوع اختيار عناصر بنائه . وتأثير واسع لبصيرته الفنية بالخيال .
وعلمية قادته ، فى الكثير من اعماله الى الرؤية الفيزيائية فى ممارسته تجربة والخوض فى موضوعه . من هنا تبدو لنا نزعته التعبيرية قائمة على محور عقلى وهذا ما يفسر لنا تلك التأثيرات التكعيبية والتجريدية والسيريالية التى عليها أعماله وخاصة (( تكوين من فلسطين )) وحوار تجريدى لاشجار و(( حياة امراة )) لقد حاول فى اللوحة الاولى أن يطرح موضوعا وطنيا ويعالج قضية الا أنه استرسل فى حوار غنائى مع عناصر اللوحة فطغى الشكل على الموضوع مما افقد المضمون قوته وتأثيره ولعل هذه من أكثر لوحات الفنان وضوحا على قوته وفنه .
وعلى النقيض منها نتحسس عمق التعبير الوطنىعن قضية فى لوحة (( فلسطينية )) التى تبدو لناظرها كهرم فى وجه التحدى رغم مسحة الحزن التى تنطوى علية الفلسطينية وفى لوحة (( قرويات )) و(( حديث )) يعبر لنا الفنان حامد عن قرويته وانتمائه القوى للريف المصرى وشفاهيته تجاه الحياة فيه وقد عبر عن محبته فى هذا الغناء الذى يستشعره رواد معرضه فى خلفيات لوحاته وخاصة فى (( قرويات )) و (( علاقة )) .
وقد تبدو لوحة (( حديث )) اكثر تعبيرا عن السكون والبساطة التى يتحلى بها الريف ، واكثر قربا للحوار الكتلى منه الى الزخرفى الغنائى ففى هذه اللوحة نحس أن الفنان حامد الشيخ كان ، أثناء تجربته متأثرا بأسلوب الفراعنه فى بنائه رغم ما نشاهده من الخطوط المنحيه وغياب حركتها المنتظمة التى عرفت بها تلك الفنون .
ان الفنان حامد الشيخ لم يقم معرضا هنا فحسب وانما طرح مفاهيم للصياغة وقوة الحبك ما تستحق الاعجاب والعناية وما قدمه من أعمال فى معرضه كان فنا عظيما والفن العظيم دائما يرينا شيئا نبصره بالعين ونعيش معه وشئ اخر ندركه بالبصيرة وبغير البصر والبصيرة لا يمكن أن نفهم الفن ونتذوقه ولا نستطيع ان نقدر الفنان .
محمود شاهين
مجلة الفنون : 22-3-1976
الحسابية والتلقائية فى أعمال الفنان العربى المصرى حامد الشيخ
مساء الثلاثاء ، افتتح فى صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق ، معرض التصوير والرسم للفنان العربى المصرى (( حامد الشيخ ))
فى سياق تقدمه للمعرض يقول الفنان حامد الشيخ : (( اذا كان ما أقدمه من أعمال فى فن الرسم والتصوير يحتاج الى دور العقل فان حسبى من هذه الاعمال انها تخضع الى التعبير المجرد وليس الى التجريد المطلق وانها نصف الطريق الى احساس الجمهور بشكل تلقائى وليس بشكل حسابى وان لها من الارتباطات الموضوعية وتحقيقا للقيمة التى تجعل الانسان امتداد ظروفه وبيئته حتى ولو قطع شوطا طويلا فى اكتساب لغته ومفهومه الخاص )) .
ويستدرك الفنان قائلا : (( وليس نصف الطريق ضمانا لانه ليس هناك تحييدا لقيم ما حتى لو اقتضى ذلك السلبية لدى الفنان ))! هكذا يحدد هذا الفنان الاطار العام لتجربته ، فهو يحاول اقامة حالة توفيقية يوازى عبرها بين القيمة الشكلية فى صيغها المختلفة وبين القيمة الاخرى التى لا يرى أى أو ضرورة فى الالحاح عليها وتأكيدها ما دامت علائقه البيئوية صحيحة ووثيقة ، ومثل هذه القيمة لا بد متواجدة حتى فى الصياغات المتطرفة فى خاصيتها وتفردها !!
ان احتواء الواقع لا يلغى بالضرورة قيم العمل التجريدية . كما ان تأكيد هذه القيم والالحاح عليها (( بالمقابل )) لا يعنى السفر بعيدا عن الواقع او تشويها له !!
لا بد هنا من عملية مزواجة بين الشكل والمضمون .. ولا بد ايضا من التأكيد على القيم الشكلية كمفردات أساسية فى هذا النوع من التعبير الفنى وكمجال ممتاز للبحث والتجريب والانتخاب لقد جاءت اعمال الفنان الشيخ شرائح ممتاز لمجمل هذه الاتجاهات والمقولات الفنية . وهو اذ بلح فيها على البناء الشكلى المعمارى وعدد من القيم التجريدية ..فانه يبقى أمينا للالتزامات الاخرى ومحترما لها ...
فى أعمال الزيت كما فى اعمال الرسم ، يبقى الفنان الشيخ مصورا ممتازا بخضع لسيطرته سطح لوحته كما تخضع أدواته الأخرى .. وهو فى تلخيصه للطبيعة تراه مهووسا ببناء اللوحة البناء المعمارى المتين والمعبر ، لذلك جاءت تكويناته قوية الحضور والسيطرة فى اللوحة يخدمها فى هذا توظيفه المدروس للون ، بدرجاته المختلفة واعتماده الخط الهندسى الصلب غير المتردد فى تحديد شخوصه وأشكاله على الهواء .
والتكوين عنده قد يعبر اللوحة على شكل تيار من الاعلى الى الاسفل او من اليمين الى اليسار ، وقد يمتد ليسيطر على القسم الاكبر من السطح . فى الحالة الاولى يوظف لخدمته فراغات مماثلة الاتجاه قد تكون فراغا مطلقا (( خلفية بيضاء )) وقد تكون فصائل من الالوان الهشة والضعيفة غير القادرة على التشويش او التأثير على حضور الكتلة الاساسية .. هذه التى يرى الفنان انه استفاد فيها من النحت ، مؤكدا ان مثل هذه الاستفادة تغنى التصوير ، وعلى العكس تأتى عملية استفادة النحت من التصوير الذى قد يمنحه هشاشة ويقلل من قيمته !!
وقد يلجأ الفنان الى زرع هذه الخلفيات ببعض الاشكال والرموز غير انها هى الاخرى تأتى لتؤكد الكتلة الاساسية وتخدمها .
اللون هو الاخر موظف لخدمة التكوين ، فنراه يخضع الى عملية انتخاب جميلة يبدو من خلالها منسجم العلائق ، مدروس التوزيع لكنه يبقى ضعيفا ، منكمشا ، وشبه خائف فى حضور الضوابط القوية المختلفة كالخط الاسود العريش ، والمساحة اللونية الثقيلة . من أجل هذا تراه يأوى الى ثنايا الكتلة وفراغاتها محتمياً .. وقد يسكن أطراف الخط ، مجتمعا على نفسه أو مفلوشا فوق مساحة حيادية الموقع وسيمته !! ويبقى الفنان الشيخ ، حتى فى قمة ثرائه الخطى ، مصورا يتقن جيدا .
محمود شاهين
الثورة
لقاء مع الفنان التشكيلى
فى استديو الخزاف الاردنى محمود طه التقيت بالفنان العربى التشكيلى حامد الشيخ وسط عدد من الفنانين
وقد علمت بأن قدومه كان نتيجة اتصالات جرت مع بعض الفنانين الاردنيين تم بعدها التنسيق مع دائرة الثقافة والفنون لرعاية المعرض الذى اقامة فى عمان مؤخرا .
سألت الفنان حامد الشيخ الذى يعمل مدرسا فى كلية الفنون الجميلة فى القاهرة .
ــ ماذا عن دراستك الفنية ونشاك الفنى داخل وخارج مصر ؟
تخرجت من قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1966 بامتياز وشاركت منذ ان كنت طالبا فى النشاط الفنى منذ عام 1963 . اشتركت فى معظم معارض جمعية محبى الفنون الجميلة من الطلائع الى صالون القاهرة . كما اشتركت فى معظم دورات المعرض العام الذى تنظمه إدارة الفنون الجميلة وكذلك معارض الربيع الذى تنظمها جمعية خريجى الفنون الجميلة وكذلك بينالى الاسكندرية الدورة لفنون البحر الابيض والذى حصلت على جائزتين به فى دورتين من دوراته اخرهما الجائزة الثانية للتصوير عام 1976 وهو البينالى الذى افتتح قبل حضورى الى هنا مباشرة كما اننى عضو بجمعيتى محبى الفنون الجميلة واتيلية القاهرة وعضو مجلس ادارة جمعية خريجى الفنون الجميلة . وبالخارج شاركت فى معارض عامة فى اسبانيا وفرنسا والمانيا الغربية واليابان . وكان معرضى الخاص الرابع فى المركز الثقافى المصرى بباريس ،
ـــ هل هناك أبحاث نظرية صاحبت تطور نشاطك الفنى ؟
اننى بالفعل بصدد الانتهاء من رسالة نظرية سأتقدم بها الى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وعنوانها (( رحلة الفن من الفكر التشخيصى الى التجريد عبر التكعيبية )) ومضمونها حول امتداد حركة التجريد الحالية .
ـــ ماهو رأيك فى الحرحة الفنية العربية اين تقف أمام الحركات الفنية العالمية ؟؟
ان هذا العنوان تعميم غير واقعى وفى رأيى ان كل حركة تشكيلية لكل دوله عربية لها خاصيتها المنفردة وان كان لها من الجوانب المشتركة التى تشغل الانسان العربى عموما .
ويتحدد تبعا لذلك الحركة النشيطة والاكثر نشاطا تبعا للرعاية المكفولة من قبل الدولة كجهاز والمواطنين فى درجة اقبالهم على تشجيع الفنون . هذا اذا استثينا بعض الفنانين بما لهم من قدرات مزوية .
وعرفت فى المنطقة الحربية عديدا من الاسماء لا تقل قدرة عن قدرات الغرب الاوروبى . وان كانت تنقصها الدعاية التى وجهت الى باقى فنانى العالم .
كما أن محاولة ايجاد تجميع عربى لحركة الفنون لم تثمر الا عن اتحاد التشكيليين العرب والذى فى راى ليس له قيمة محسوسة فى رعاية التبادل بالمعارض والمطبوعات بين كافة الدول العربية . ان الحركات الفنية فى الدول الاخرى تتميز بقدرة التنظيم وبرغم العدد الهائل من الفنانين اول دراسى الفنى . كما ان هذا التنظيم فتح افاقا لشبابهم للتمثيل فى المعارض الدولية بما يكفل استمرار التفريغ عن مواهب جديدة بما تحمله من قدرات فنية عالية مع الاحتفاظ بقيمة مشاهيرهم .
ــ ماهو رأيك بالنشاط الفنى فى الاردن ؟
ان كل حركة فنمية لها من التجمعات الفنية فى شكل جماعات بالاضافة الى المتاحف والتى يمكن ان تعطى معرفة . حقيقية عن مستوى فنانيها خصوصا اذا كان المتحف جامعا لكل القدرات . الا أن الاردن على حد علمى ليس به الا جماعة واحدة تضم بعض الفنانين وفى رأيى ان تعدد الجماعات يخلق المنافسة القادرة على ابراز النشاط التشكيلى . الا اننى شاهدت عددا من الفنانين الاردنيين ومنهم مستويات ممتازة تستطيع الحركة الاردنية عند اكتمال تشكيلها ان تعتمد عليهم .
ــ ماهى توجيهاتك التى يمكن ان تقدمها الى الفنان الاردنى او من لهم علاقة به ؟
اننى اقول ان الفنان بحسة سأبق ومتقدم ولا يجب ان يظل مبنيا على الخوف من الاتيان بكل ما يمكن ان يحققه . وهناك فرق بين مقدرة الرسام ومقدرة الفنان فأذا كان الرسام قادرا على الاتيان بعمل يظهر به براعته والتزامه فالفنان بطاقته الابداعية ورؤيته المتقدمة الحس فى ترجمته لكل امور معايشته تقتضى الصدق وليس المهارة التى ترضى بعض الناس .
اسعاف دويك
الشعب : 17آزار 1976
معرض مع الفنان حامد الشيخ
معرض حامد الشيخ
الفنان حامد الشيخ قد يكون اسما جديدا فى مجال الفن التشكيلى .. لكنه حقيقة اسم فى طريقة لاثبات وجوده فى عالمنا الفنى .. فبالرغم من ان هذا هومعرضه الخاص الاول .. وبالرغم من تعدد الاساليب المطروحة فى اعماله .. الا ان معظم الاعمال تنبئ عن فنان صادق.
حامد الشيخ يعرض حوالى 40 لوحة (( واكستش )) بالزيت وبالالوان المائية .. وبالفلوماستر وكل موضوعاته مستمدة من عال الواقع . وبالرغم من ذلك فأن معظم هذه الموضوعات تخلو من الصراع اليومى المعتاد . اذ ان اغلبها مستمد من المناظر الطبيعية .. التى تفرض عليها ريشته عند التناول نوعا من الاستسلام والهدوء الذى يؤدى بدوره الى انعدام الصراع الدرامى .
فعلى سبيل المثال .. الراكب تنساب على سطح منغم بتركيب من الالوان يعطى فى النهاية تأثير اللون الترابى .. وهو هنا يستخدم الظل والنور بطريقة اكاديمية بحته .. بحيث تبدو المركب وكأنها ستستمر منعمة بهذا المرفأ الترابى .. وان هذا الظل الذى يحيط بها سوف يكون فى الواقع جزءا من عالمها الايدى .. والواقع ان هذا هو اسلوب تناوله فى معظم موضوعاته . مثل تلك التى تصور البرارى .. والميناء .. والسيرك .. وحى الازهر .. والسويس . وقد تفرض بعض الموضوعات نوعا من الصراع الدرامى عند التناول مثل فرحته ( صديقان ) .
ومن الواضح عموما عند النظر للوهلة الاولى لهذه الاعمال تعدد الاساليب التى ينهجها الفنان .. وهذا امر لا يدعو للدهشة كثيرا .. فهذا هو معرضه الخاص الاول بعد ممارسة للفن استمرت على مدى خمس سنوات تقريبا . وهو فى معرضه الاول يريدان يقدم كل تجاربه فى الفن .. فلدينا مثلا الاسلوب الواقعى البحث .. الذى يظهر واضحا فى مجموعة لوحاته عن السيرك وفى بعض المناظر الطبيعية .. وفى مجموعة لوحاته عن السيرك .. يتناول الفنان قطاعا من السيرك كمبنى .. ويعالجه تماما كما رأه .. لكن عين الفنان الحساسة تخضع لانتقائه الخاص للالوان .. وفى الزاوية التى يلتقط فيها موضوعه .. هنا اذن تتضح رؤيا الجديدة وذلك حينما نرى تقاطع الخطوط تمازحها وتكسرها .. ونرى انحناءها . وهذا فى الواقع يخلق صراعا شكليا بين الخطوط المنحنية والمستقيمة .
روضه سليم

الفنان بين الـ ` آه ` و الـــ ` لا `
- هل كان مصادفة أن الأزمة النفسية التى عصفت بالفنان حامد الشيخ بكرى وجعلته يقدم على تمزيق لوحاته وينطوى على نفسه مخاصما الحياة قد جاءته وهو فى تمام الأربعين من عمره وأن الأزمة الأخيرة التى انتهت بوفاته فى يونيو 1993 ، وهو فى تمام الخمسين وهل لذلك معنى ؟
- إن حامد الشيخ كان أحد المشروعات الإبداعية الكبيرة المجهضة فى حياتنا الفنية .إمكانية هائلة لخلق عالم يتماوج بين الواقع والحلم بين المحسوس والمجرد بين الهضاب والسماوات ، قدرة نادرة على بناء لغة تشكيلية متفردة أهلته للبروز فى أى محك إبداعى محلى أو دولى شارك فيه وللفوز بجائزة الدولة التشجيعية فى التصوير عام 1980 . ولعله كان من أصغر الحاصلين عليها من الفنانين حيث لم تكن سنة تتعدى السابعة والثلاثين آنذاك ، طاقة من العمل بغير كلل ومن العطاء بغير حساب كاستاذ أكاديمى بكلية الفنون الجميلة وهو - إلى ذلك كله وبرغم ما كان ينتابه من أزمات واضطرابات نفسية - كان يملك وعيا فكريا جيدا بمكونات الخريطة الاجتماعية والسياسية وبفلسفة الفن ونظرياته وكان يمكن أن يحدثك فى ذلك بلا نهاية.
- ورغم هذا كله كان مشروعا مجهضا ، لأنه كان إنسانا وحيدا وغريبا حتى الضياع ، ممتلئا بالشعور بالظلم والإنكار وبأنه مستهدف للتآمر عليه ولسرقة حقوقه وفرصه العادلة فى التحقق والنجاح ومقتنعا بأن أوجه النفاق الزائفة التى تخفى الأنانية والفساد والخيانة تتواطأ عليه وعلى ما هو طيب وأصيل فى بلده ، وبمرور الوقت تمكنت منه تلك المشاعر والقناعات حتى أقامت جدارا عاليا بينه وبين المجتمع ، بل بينه وبين محيطه الفنى ، وصار عازفا عن إقامة المعارض الخاصة أو حتى عن المشاركة فى المعارض الجماعية ، وأوشك أن يبتلعه الظل والنسيان ، بعيداً عن ضجيج الحركة الفنية والنقدية ، بشللها وأغراضها وخوائها الروحى ، الذى لا يجعلها تحس أو تبالى بمن يتساقطون فى وسط الطريق ، والسباق يحمى وكل من يشارك فيه يجرى ويلهث كى يحظى بفرصة ما ، والفرص شحيحة ، والمجتمع لا يكترث بالسباق والمتسابقين ، والزحام يتزايد ، والنهازون من حملة الرايات والأقلام والمباخر قادرون دائما على السبق ، ومن يعجز عن المجاراة أو تلبية احتياجات ` التلميع ` ينزوى ليلعق جراحه، ومن يرفض السباق أصلاً - احتراما لنفسه - يغلق عليه أبوابه ليمارس فنه أو شكايته ، أو ليتشامخ بالكبرياء.
- وكان حامد من النوع الأخير ، لكن الألم كان أشد وطأة عليه من الآخرين وأكبر من طاقة بنيانه النفسى الرقيق على الاحتمال، خاصة أن الأسباب الموضوعية لشعوره بالظلم كانت متوفرة لدية بقوة منذ بداية مشواره الفنى ، حيث كان تفوقه عند تخرجه فى كلية الفنون الجميلة حقيقة لا يختلف عليها اثنان ، وكان المفترض أن يعين معيدا بها فى نفس العام ، والتعيين فى هيئة التدريس يعنى النسبة للفنان تحقيق حلمه فى السفر للخارج فى بعثه تستغرق أربع سنوات ينفتح خلالها على العالم ويدخل مضمار الحداثة والتقدم ويتعرف على أعمال العباقرة - الذين قرأ عنهم فى المتاحف - ثم يعود أستاذاً مرموقا بين زملائه وتلاميذه وأبناء مجتمعه ... انشرخ هذا الحلم حتى كاد يتحطم فى نفسه وهو يرى العقبات توضع أمامه للتعيين بالكلية سبع سنوات كاملة وهو يرى زملاءه يعينون دونه وحين انضم أخيرا إلى هيئة التدريس كان تلاميذه قد أصبحوا معيدين قبله ، لكن بقى له حلم السفر إلى الخارج لكنه لم يستطع تحقيقه فى الوقت الذى حصل غيرة غيره على البعثة ، كان يأخذ وظيفته بالكلية مأخذ الجد متطلعا إلى رسالة إصلاحية شاملة للمناهج وأساليب تأهيل الطلبة للفن ، لكن الواقع كان يدفعه فى اتجاه مضاد ليحكم عليه فى النهاية بالعزلة وسط محيطه الفنى والتعليمى وبأن يتحول ثانية إلى طالب يترك الإبداع ويتفرغ للبحث النظرى من أجل الحصول على شهادات دراسية لا يشعر كفنان بجدواها ، بينما يعتبرها المجتمع شرطا أساسيا للاعتراف به كأستاذ ، هذا فى الوقت الذى نجا زملاء دفعته والدفعات السابقة عليه من هذا الشرط ، بمجرد حصولهم على بعثات فى الخارج وكان عليه أن يمضى سنوات طويلة فى التحضير للماجستير والدكتوراه مضطرا خلالها إلى هجر مرسمه وألوانه التى يشعر من خلالها بإنسانيته ووجوده .
- وعندما داهمته الأزمة النفسية الأولى عام 1983 - تلك التى مزق فيها أغلب لوحاته - لم تفعل له الكليه شيئا وهى كل أسرته بالقاهرة ، اللهم إلا إبلاغ القومسيون الطبى لعمل اللازم !! ولم يجد من يرعاه وشرف على علاجه غير الدكتور يحيى الرخاوى بإحساسه به كفنان قبل أن يكون حالة مرضية .
- وها هو يتحدث عن حامد الشيخ خلال تحقيق صحفى نشر آنذاك عن مشكلته فى مجلة المصور اجراه الفنان الراحل محمد قنديل .
- ` .... معاناة الفنان هى معاناة الإنسان بصفة عامة لكنها عند الفنان تبدو واضحة لأنه يمثل النموذج لحيوية الوجود البشرى وتناقضاته : إن ثروة الفنان هى إحساسه بالعالم ومحنته هى العجز عن تغييره .. هذا التناقض يحل مؤقتا بالفن الذى هو حل وسط مجل ، كذلك فإن افنسان لا يستطيع أن يعيش كسرا من واحد صحيح مثلما نفعل نحن جميعاً ولذلك فهو يحافظ على داخله حتى لو خالف البشر جميعا وقد لا يستطيع فى نفس الوقت أن يكون هذا الواحد الصحي ، هنا تتجسد الأزمة ويزداد الألم فينسحب حفاظاً على نفسه من جهه ومن جهه أخرى يحقق حالة الكمون ربما تكون فرصته للعودة مرة أخرى ` ويضيف الدكتور الرخاوى عن أزمة حامد ..
- ` إن معاناته هى نتيجة لعدم ضبط الجرعة بين الإحساس والإنتاج ، بين الإبداع ورؤيته وتقديره حق قدره من الآخرين ، بين الطموح والتحدى الواقعى المفجر . إذا شعر الفنان بأن الناس لا يفهمونه - وأغلبهم لا يفهمون الفنان - وعند زيادة جرعة الإبداع أصالة زاد عدم الفهم ، وربما الرفض ، فماذا يفعل إلا أن يقول ` آة ` وأحيانا يقول ` لأ وهذه الـ ` ( آه ) أو الـ ( لا ) إذا زادت حدتها وهددته قبل أن تهدد الواقع الذى يريد تغييره يسمى مرضا ، هذه هى الحكاية ` .
- لكن ماذا يقول حامد الشيخ عن نفسه.
- أستعير هنا بعض كلماته لتلك الشهادة التاريخية ضمن تحقيق المصور خلال أزمته عام 1983:
- ` ... خرجت من البدارى - بلدى - من سجن التقاليد .. القانون القبلى يدق عظامى .. رحلت إلى القاهرة حاملا ميلادى .. حاولت أن أمسك الواقع الجديد ... الأشياء تقتحم روحى .. أستنجد بالفرشاة والألوان .. نزفت فى بكاء صامت . فمن العيب أن تبكى أمام الآخرين .. هكذا القانون القبلى المرسوم كوشم فى نخاعى .. عكفت على نفسى .. أغلقت بابى .. هجرت العالم بأسره .. أستحضرت كل أشيائى .. كل لوحاتى.. إنها محفورة فى أغوار نفسى ، قبل أن تلامس فرشاتى السطح العذرى .. فجأة .. تختفى الملامح .. ويطل الآخرون .. `
- آه .. هذه المكابد الذاتية .. والمجالدة مع مخاوفه النفسية وتقاليده الصارمة واغترابه فى المدينة ..توشك أن تنتهى بالنصر والفتح الإبداعى على سطوح لوحاته العذرية كما يقول ، لكنها سرعان ما تتحول إلى سطوح معتمة ، عندما يظل الآخرون .. فمن هم الآخرون ؟ يستكمل حامد حديثه : ` .. هل تستطيع أن تفسر لى كيف يصير التدريس بكلية الفنون عائليا .. وأنا خارج هذا النسيج الأسرى ؟ .. هل تستطيع أن تفسر لى كيف يمكن أن تغدو طريدا ومحروما من حقك الطبيعى فى بعثة هى لك وهى فى نفس الوقت ليست لك بفعل القانون السابق ( يقصد القانون العائلى ) .. هل تفسر لى كيف يصير تسويق الأعمال الفنية مقصورا على القادرين من الأصدقاء ؟ .. ما الذى أفعله إذا كنت لا أجيد إلا العزوف والامتلاء بالعزة .. وأنا أغمس فرشاتى فى صفحة ألوانى ؟ ...
- ` .. لماذا تتراكم الأعمال فى فراغ حجرتى بلا تصريف ؟.. إننى لا أترك فرصة للعرض حتى أقتنصها ، أحمل لوحاتى إلى كل مكان ، وفى كل مرة أعود لتتوارى فى الظلام ` ..
- ` .. لماذا أكدس أنا ولوحاتى فى حجرة صغيرة ، وهناك مراسم أعطتها الدولة لبعض الفنانين .. صحيح أن البعض يستفيد منها ويفيد ، لكن البعض الآخر أغلقها من سنين طويلة وربما سافر إلى الخارج وآخرون لا علاقة لهم بالفن التشكيلى ..
- لماذا ؟ .. ولماذا ؟ .. ولماذا ؟؟ . `
- كل هذا الحرمان من أبسط حقوقه كفنان وإنسان ، كان يشكل قوة ضغط ساحقة على نفسه ..ومع ذلك كان قادرا على التماسك واستعادة التوازن والتشبث بالأمل ، حتى بعد أن أقدم على تحطيم لوحاته.
- ` .. كنت أفكر وأنا أخسر أشيائى ولوحاتى ، أنى أكسب فى ذات الوقت عالما من شعور خالد وإحساس لم أعرف طعمه ، ومستقبل ينضج بالأمانى ، بالاقتراب من المطلق ، الذى هو الغاية فى النهاية .. `
- فكأنه بتحطيمه للوحاته كان يحطم عجزه ويفتح أمام إرادته الطريق للتجاوز والانطلاق نحو تحقيق أمانيه المنشودة .. وبالرغم من أن ذلك لم يكن غير نوع من تفريغ الغضب والانتقام المدمر لنفسه لكن فى غير موضعه ، حيث تظل الظروف الموضوعية التى أدت إلى حرمانه ومحاصرته وعزلته قائمة فى الواقع... أقول بالرغم من ذلك فإن تلك الصحوة النفسية المبهرة أمدته بقبس عبقرى من النور ، جعله يقترب فعلا من المطلق ، الذى يصفه بأنه الغاية فى النهاية.
- لقد دخل بإنتاجه الفنى الغزير بعد تلك الأزمة فى رؤية إبداعية أقرب إلى إشراقات الصوفية ، استوحى خلالها حروف لفظ الجلالة وبعض ايات والتحويرات النباتية ، وثنايا قطع القماش الهفهافة المتماوجة فى تكوينات جمالية محلقة كالأطاف ، صانعاً عن طريقها إيقاعا موسيقيا لا ينحو نحو التطريب والزخرفة والإبهار اللونى ، أو نحو محاكاة اتجاهات التجريد الزاحفة إلينا من الغرب تمحكا فى الحداثة والمعاصرة ، بل يبدو شديد التفرد والخصوصية ، كما لو كان عازفا يعزف لنفسه فحسب ، لكننا نشعر بأعماله وكأنها أصداء لابتهالات وهمسات روحانية غامضة تنبع من أعماق النفس وتتصاعد نحو المطلق ، وهى تندفع مجنحة بظلال نورانية إلى العلا أو تتداخل فى تركيب ` بلفونى ` كالموسيقى السيمفونية ، وفى لوحات أخرى يستخدم الحروف استخداما بنائيا رصينا يجعلها كالمعمار الهندسى الراسخ ، معتمدا فيها على الخطوط المستفيمة رأسيا وأفقيا ، كأنما يحاول أن يتماسك من الداخل من خلال تأكيد هذا الرسوخ المعمارى فى الخارج والتشبث به ، وفى أعمال غيرها يحور الحرف إلى أشكال نباتية رشيقة ، وإلى اقواس ومسطحات هندسية أقرب إلى المحراب أو بنيان المسجد ، وقد استفاد فى ذلك كله بمعطيات التراث الجمالى العربى والأوربى القديم والحديث على السواء ، حيث يبدو - برغم ميله إلى التجريد - ذا أساس كلاسيكى متين ، ونظرة أعمق من حدود الشكل الجمالى البحت .
- ولا يدهشنا ذلك إذا طلعنا على أعماله السابقة على مرحلته التجريدية الأخيرة ، حيث نرى مشخصاته الإنسانية تنم عن فرشاة أستاذ متمكن ، بليغة بإيجازها ودسامة ألوانها ورشاقة خطوطها واندفاع حركتها ، وحتى لو كان موضوع اللوحة هو باقة من الزهور ، فإنه يستطيع أن يشعرنا بقوة نبضها وتفتحها .
- إن ما يحيرنى فى جميع هذه الأعمال أنك لا تجد فيها ظلا لمعاناة أو تمزق نفسى ..بل تجدها مليئة بالسلام والتغنى بجمال الحياة ، وهو الذى لم تعرف روحه السلام وحيل بينه وبين أبسط حقوقه الإنسانية .تلك هى المعجزة الحقيقية واللغز الكامن فى أعماق الفنان .. هل كان ذلك هو `الحل الوسط المؤجل` الذى أشار إليه الدكتور يحيى الرخوى فى تحليله لأزمة ` حامد ` عام 1983 والذى استطاع من خلاله أن يثبت أنه واحد صحيح ، إلى أن استطاع الواقع بغلظته وقسوته أن يحطم هذا الواحد ويحيله إلى كسور؟ .. وهل يفسر لنا الدكتور الرخاوى ما بدأت به مقالى عن هذا التوافق الغريب بين أزماته وبين عيد ميلاده فى سن الأربعين وسن الخمسين؟ .. أيعنى ذلك أنه كان فى الأزمة الأولى يملك القدرة على المقاومة والتمرد فاستطاع أن يعيش عشر سنوات بقوة الإرادة والإيمان ، وأنه فى الأزمة الأخيرة استنفد إرادته ، وإيمانه بالحياة واشتهى الموت فناله ؟ ..
- واليوم .. بعد أن عاد ابن البدارى إلى ثراها .. أين ذهبت لوحاته الغزيرة التى أنتجها بعد مذبحة 1983 ؟.. إن هذا التائه الغريب الذى رحل بلا زوجة ولا ولد ، محروما من الحب والرعاية والأمان ، متواضعا حتى التقشف زاهدا ، دون ناقد يرثيه أو جماعة تحيى ذكراه أو نقابة تعرض أعماله وتوثقها ..هكذا يبدو مصير الفنان الحقيقى فى بلدنا عبثا بلا معنى ، ويصبح نسيا منسيا قبل أن تمر على رحيله بضعة أسابيع !
- ما أقسى مصير أبنائه من اللوحات ( التى لم ينجب غيرها ) لقد نجت من مذبحة صراع النفس مع اليأس منذ سبعة عشر عاماً ، لتنتهى إلى مقبرة التجاهل والإهمال ، وتلحق بمصير العشرات أمثاله من الشهداء.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( فنانون وشهداء )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث